مجدى عبد القيوم (كنب)
في سياق المقاربة هذه لابد من مدخل حول أوجه الشبه بين ظاهرتي الشعراء الصعاليك والهمباتة في السودان.
ما بين الهمباتة كظاهرة في السودان والشعراء الصعاليك في الجزيرة العربية علاقة تشابه في العديد من الجوانب فالظاهرتان تتشابها في استنادهما على منظومة قيمية تشكل محددات ممارستهما حتى في عملية السلب والنهب والإغارة التي يمكن أن تستخدم مصطلح الاختطاف مرادفا لها.
الشعراء الصعاليك في جزيرة العرب واشهرهم عروة بن الورد الذي كني بعروة الصعاليك لانه كان يهتم باحوالهم والاعتناء بهم وهو الذي اشتهر بالكرم حتى قالت العرب إن من قال ان الطائي أكرم العرب فقد ظلم عروة ولعل في رده على المفحم على من سخر من نحول جسمه صورة بالغة الدلالة على الكرم والايثار:
إنى أمرؤ عافي إنائي شركة
وإنت أمرؤ عافي إنائك واحد.
أتهزأ مني أن سمنت
وأن ترى بوجهي شحوب
الحق والحق
جاهد.
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
واحسو قراح الماء والماء
بارد..
وكذلك كان انداده الشنفري وتابط شرا الذي قيل إن أمه اطلقت عليه ذلك اللقب لانه كان يضع سيفه تحت ابطه وهو ثابت بن جابر والسليك بن السلكة الذي وصف بأنه أدل من قطاء لانه يحفظ الماء في بيض النعام ويدفنه في رمال الصحراء لاستخدامه في صيف بيداء جزيرة العرب قائظ الحرارة ويتعرف على أماكنه بكل سهولة أو كما تقول الروايات لذاك يقال أنه كان الوحيد الذي يمارس الاغارة في الصيف.
الارتباط في مجموعة القيم بين الشعراء الصعاليك والهمباتة في السودان والذين يقف على راسهم طه الضرير والطيب ود ضحوية مثلت أهم ملامح التشابه.
هذه الظاهرة المجتمعية على الرغم من أنها منبوذة اجتماعيا لانها تعتمد على ظاهرة النهب والسلب والاغارة إلا أن مجموعة القيم التي لازمتها كالنهب من الاغنياء دون الفقراء عند الشعراء الصعاليك أو عدم الاعتداء على الشيوخ أو النساء عند الهمباتة أحد أهم ملامح التشابه بين الظاهرتين والفروسية والشجاعة التي تميزت بها الظاهرتان وشكلت إحدى أهم المشتركات ربما قللت من غلواء النظرة الدونية التي يتعامل بها المجتمع مع هذه الفئة الخارجة عن التقاليد هذه القيم هي في النهاية سلوك
فالطيب ود ضحوية انتهر مامور السجن حين هدده قائلا:
يوما في بسط
عند المزند عاجا
ويوم غربتبن من جبرة شايل
كاجا
بيش نرضيها
غير البل جدية
الباجا
لا تهاددني يا قبطي
السجن مو حاجة
هذه الشجاعة لم تفارق ود ضحوية حتى وهو على فراش الموت فلم يجزع بل يقول مخاطا نفسه:
يوم بنداور البكرة
ونمصرو ثديها
ويوم بنشق عتاميرا بعيدة
وتيها
يا نفس الرماد المتعة كملتيها
ابقى لزومة
وكت القرعة وقعت فيها
يا لذياك الزهو حتى على فراش الموت ويالها من فروسية فهو حتى لم يتمثل المتصوفة ويدعو:
يا عالم الغيوبا
دعاي لا يكون محجوبا
نفسي الصايعة
ولعوبا
اقبلا واعفى عيوبا
لعل المقاربة بين ظاهرة الهمبتة في شكلها المجتمعي في السودان وظاهرة الهمبتة السياسية التي انتشرت كسلوك سياسي حتى داخل التنظيمات تشىء بجلاء إلى الاختلاف الكبير بين الظاهرتين فحين اتصفت الاولى بمنظومة قيمية حتى على حال كونها خروج على المجتمع، افتقرت ظاهرة الهمبتة السياسية لاي محددات قيمية أو اخلاقية إلا أن اعتبرنا الجبن والكذب البواح والاستهبال والتدليس والتلبيس والاختطاف والتآمر وعدم الحياء وبيع المواقف منظومة قيمية تشكل محددات سلوك الكثير من الساسة على مسرح العبث السياسي الذى نشاهده.
لعلك وانت تراقب هذا العبث تتذكر واحدة من أروع أعمال وليم شكبير التي لا تزال عالقة بالذاكرة رغما عن تقادم الأيام وهي دراما الأخطاء أو مهزلة الأخطاء وهي ملهاة تدور احداثها في العهد الروماني وتتولد تلك الأحداث من مجرد مصادفات محصة تعيشها شخصيات الرواية في تسلل عجيب ولا أدري إن كان للملهاة التي نعيشها علاقة بالمقولة المعروفة بالضرورة والصدفة في الثقافة أو الفلسفة الماركسية.
في قراءة مشهد الهمبتة السياسية منزوعة الأخلاق تبدو بشكل جلي سيطرة ذهنية العقل الرعوي التي تحدث عنها الدكتور النور حمد في اطروحته المشهورة.
شكلت هذه الذهنية المشهد السياسي وطبعته بوسمها الارتاد والانكفاء على منصة العقل الباطن والمختزن من السلوك البدائي بكافة تصنيفات، وربما دلل على زعمنا هذا ما آل الحال من انسداد اعاق التطور الطبيعي للمشهد أو هذه المرحلة التي تعيشها البلاد.
الطريف انه حتى سلوك التعاطي مع الغنيمة سواء عند الهمباتة أو الشعراء الصعاليك مختلف عنه فى سلوك الهمباتة السياسيين، فدائرة المنفعة هنا ضيقة لاقصى حدود الشخصى ولا تنداح لتصل حتى لحدود التنظيمات.
هذا ملمح إختلاف هام بين الهمباتة والهمباتة السياسيين، هذا السلوك عند الهمباتة السياسيين اضر بشكل بليغ بالانتقال في البلاد ورهن القرار أو حتى الموقف الشخصي لمنهج المصلحة وليس هناك مجال لهم عام فالحيز هنا لا يتجاوز سلة الحلم الخاص ولعل هذه الذهنية احدى ثمرات سىء الذكر المشروع الحضاري في جزئيته المتصلة بالتمكين الاقتصادي سيما لشريحة الشباب إنها فلسفة “العبور” عند سواقط المجتمع.
مؤكد هي ذات ارتباط وثيق بالفرادنية كسلوك يكرس لها رأس المال في جذر فلسفته.
الهمباتة كانوا يحرمون نهب الصبي والمرأة والهمباتة السياسيين لا يتورعون عن رزيلة فلا يأبهون للدماء الزكية التي نزفها ليس شباب فحسب بل حتى من هم في مرحلة الصبا من الشهداء الذين ارتقت ارواحهم في سبيل الغايات الوطنية النبيلة، ولا يتحرجون من نظرات زهرات يانعات كن يملأن بيوت اسرهن القا وبهاء وعطر انوثة فواح قبل أن ياتين محمولات على محفة خرجت من المشرحة.
لك الله يا وطنى..
“من اين أتى هؤلاء”
هذا التغيير الكبير الذي تشهده البلاد على كل المستويات لن يفضي إلى تحقيق الأهداف النبيلة التي فداها الشهداء بحياتهم إلا بالتخلص من هؤلاء الهمباتة السياسيين وحوارييهم من المنتفعين.
مسرح العبث هذا حفي بك أن تغادر صالة العرض به قبل اسدال الستار فعلى الرغم من احترافية كاتب السيناريو وكذلك المخرج في الابهار واستخدام التقنيات العالية في التنفيذ سيما في اللوحات التي يسيطر فيها الاظلام على الخشبة إلا أن ضعف قدرات الممثلين في التقمص اهدر كل الجهود بعض الآثام عن الفقهاء تتطلب غسل الجنابة وحري بالمرء أن يفعل ذلك بعد أن يغادر صالة العرض هذه.
