معجزة الغرفة «أ».. «الدستور» تكشف كواليس أول عملية جراحية لزراعة الرئة فى مصر

فى الثانية عشرة مساء الإثنين الماضى، استيقظت «سحر»، ذات الـ٢٨ عامًا، القادمة من أرياف محافظة الفيوم، لتجد نفسها على سرير بغرفة العناية المركزة «أ» محاطة بفريق من الأطباء والممرضين، الذين تعلو وجوههم ابتسامة الانتصار، بعد نحو ستة أيام من خضوع الفتاة لأول عملية جراحية لزراعة الرئة فى مصر.

تلك الجراحة قال عنها أطباء إنها استغرقت أكثر من ١٠ ساعات، داخل ٣ غرف عمليات، وأجراها فريق جراحى مكون من ٣٠ شخصًا بمستشفى جامعة عين شمس التخصصى، ووصفوا العملية بأنها كانت تشبه «ساحة حرب لمسابقة الزمن بهدف إنقاذ حياة الفتاة».

«الحمد لله».. كانت أولى كلمات تخرج من شفتيها، لتعلو الابتسامات وجوه الجراحين، ثم باغتتهم بأول سؤال وكأنها عادت من الموت: «كيف حال شقيقىّ؟»، فى إشارة إلى أخيها الأكبر «كامل» ذى الثلاثين عامًا، والأصغر «جمعة» ذى الـ٢٦ ربيعًا، بعد أن تبرع لها كل منهما بفص من الرئة، لإنقاذها من الموت.

الجراحون طمأنوا الفتاة على استقرار حالتى الشقيقين، وتماثلهما للشفاء التام، وأنهما سيحضران لرؤيتها قريبًا.

كانت «سحر» قد أتت لمستشفى عين شمس التخصصى، فى ديسمبر من العام الماضى، رفقة شقيقيها، تشكو من عدم قدرتها على التنفس، لدرجة أنها لا تستطيع النوم إلا باستخدام جهاز تنفس اصطناعى.

فى البداية كانت تحتاج إلى ٣ لترات من الأكسجين، ثم تدهورت حالتها وأصبحت تحتاج إلى ٨ لترات، وقبل العملية كانت لا تستطيع أن تعيش دون ١٥ لترًا من الأكسجين يوميًا، حسبما قال مدير وحدة زراعة الرئة بجامعة عين شمس، الدكتور محمد حسين، أحد قادة فريق زراعة الرئة للحالة، خلال حديثه لـ«الدستور».

وأضاف «حسين»: «الشقيقان كانا يحاولان بكل السبل الممكنة استعجال الجراحة لإنقاذ أختهما، وهذه الحالة من المحبة والتضحية كانت ملهمة للأطباء»، مؤكدًا أن الطاقم الطبى تعامل بشفافية تامة مع حالة سحر والشقيقين المتبرعين، وتحدثوا مع الشقيقين عن كل المخاطر المحتملة.

كمال وجمعة.. شقيقان متبرعان قررا المجازفة بكل شىء من أجل إنقاذ حياة أختهما

كمال ربيع، الشقيق الأكبر لـ«سحر»، قال، لـ«الدستور»، إن شقيقته عانت كثيرًا فى حياتها، وإنه وشقيقه الآخر قررا ألا يتركا الشقيقة تموت.

وأوضح «ربيع»: «صحيح أن الأعمار بيد الله، لكننا أخذنا بالأسباب لإنقاذ أختنا، التى تعيش حياة قاسية منذ ١٠ سنوات، بسبب الفشل الرئوى، فذلك المرض تسبب فى إنهاء حياتها الزوجية وحرمانها من الأمومة، فقد كان أى حمل يفشل بسبب الأدوية».

وأضاف: «أردنا أن نجعل حياتها أفضل، وقررنا إهداءها جزءًا منا لتشعر بالونس، وقررنا أن نعيش معًا أو نموت معًا».وتابع: «إحنا أسرة فقيرة من الفيوم، نعمل أنا وأخى الأصغر فى الزراعة باليومية، وأحيانًا نعمل فى المعمار، وكل أحلامنا هى أن نعيش مستورين، ورغم ظروفنا الصعبة لم نترك أختنا».

وحكى: «الأطباء فى الفيوم قالوا لنا إن مستشفى عين شمس التخصصى يمكن أن يساعدنا، فذهبنا إلى هناك على أمل أن نجد من ينقذنا، وبعد فحوصات استمرت شهورًا، قال الأطباء إنه لا بديل عن زراعة الرئة»، ويضيف: «حينها بكت أمنا بشدة، لكنها بعد ذلك تقبلت الأمر بعد أن أقنعناها بأن التبرع لن يضر وأن هذا هو السبيل الوحيد».

وقال: «شعرنا بأن الله معنا، واتخذنا قرار التبرع أنا وأخى، وبالتأكيد كانت هناك معارضة شديدة من سحر وأمى، فأنا متزوج ولدى ثلاثة أطفال، آخر طفلة ولدت بعد العملية بيوم واحد، فقد كانت العملية يوم الأربعاء ووضعت زوجتى يوم الخميس، واتفقنا على أن نسميها (فرح) تفاؤلًا بعملية زراعة الرئة، ولكى يمن الله علينا بالفرح ونجاح العملية وإنقاذ سحر».

وأضاف: «أما شقيقى الثانى، فهو متزوج أيضًا ولديه طفل، وطلب منا الأطباء اصطحاب زوجتينا للمستشفى، وكذلك الأم، لإطلاعهن على ما هن مقبلات عليه، وسرد المخاطر المتوقعة، واتفقنا على إتمام عملية التبرع، لأن حالة شقيقتى كانت قد وصلت للنهاية ولا تستطيع التنفس على الإطلاق إلا عبر جهازى تنفس، الأول يضخ ١٠ لترات، والآخر يضخ ٥ لترات أكسجين».

وأكد أن والدته عاشت لحظات صعبة جدًا خلال العملية، فقد كان من الممكن أن تفقد جميع أولادها، مشيرًا إلى أن العائلة جلست فى المستشفيات أكثر من الجلوس فى البيوت. ووجه الشكر لجميع أطباء المستشفى، قائلًا: «قدموا لنا الدعم والمساندة، وتعاملوا معنا باحترام شديد».

مدير وحدة الزراعة بعين شمس التخصصى: تدربت لمدة 18 عامًا لإجراء الجراحة 

يصف مدير وحدة زراعة الرئة بمستشفى عين شمس التخصصى، استشارى جراحة القلب والصدر، الدكتور محمد حسين، ما جرى، بأنه حلم حققه فريق الجراحين، لافتًا إلى أنه ظل يتدرب ويجرى جراحات فى الخارج لمدة ١٨ عامًا ليستعد لإجراء هذه العملية على أرض مصر.

وأوضح «حسين»: «قضيت ٣ سنوات كطبيب مقيم فى جامعة عين شمس، ثم سافرت إلى ليون فى فرنسا عام ٢٠٠٤، وهناك أكملت تدريبى على زراعة القلب، ثم بدأت فى المشاركة فى عمليات زراعة الرئة».

وأضاف: «لم يكن هناك أى مركز طبى فى الشرق الأوسط كله نفذ عملية زراعة الأعضاء من قبل»، مؤكدًا أن تعلم زراعة الرئة استغرق ١٨ عامًا.

وتابع: «بعد ذلك انتقلت من جامعة بوردو إلى جامعة ليون، ثم عملت استشارى جراحة صدر وزراعة رئة فى مستشفى الملك فيصل، وتلك كانت لحظة فارقة فى حياتى، لأن مستشفى الملك فيصل، وهو أكبر مركز على مستوى الشرق الأوسط فى زراعة الأعضاء، كان الوحيد الذى ينفذ ٣٠ عملية زراعة رئة فى العام الواحد، ثم أصبحت مدير برنامج زراعة الرئة فى مستشفى الملك فيصل بين عامى ٢٠١٩ و٢٠٢١».

وأكمل: «ثم عملت استشارى جراحة صدر وزراعة رئة زائر فى مستشفى جامعة مونتريال فى كندا، وتلك كانت نقطة تحول مهمة فى حياتى، لأن جامعة مونتريال كانت تجرى نحو ١٠٠ عملية زراعة رئة سنويًا، وهذا الاحتكاك ساعدنى فى تطوير إمكاناتى وزيادة خبراتى».

 

وأشار مدير وحدة زراعة الرئة بمستشفى عين شمس التخصصى، إلى أنه خلال فترة عودته إلى مصر، كان الدكتور أحمد مصطفى، قد بدأ فى تشكيل فريق لزراعة الرئة، تحت قيادة الدكتور محمود المتينى، رئيس جامعة عين شمس، منذ عام ٢٠١٨، لتنفيذ أول عملية زراعة رئة من الأحياء فى مصر، خاصة أنه لم تحدث فى مصر من قبل زراعة الرئة من متبرع حديث الوفاة، لأن القانون لا يزال غير مفعل.

وأوضح أن وحدة زراعة الرئة التى يديرها تتكون من ١٢ قسمًا، منها القسطرة والصيدلة ومعمل الأنسجة وبنك الدم والصيدلة الإكلينيكية والجراحة، لافتًا إلى أنه فى إطار الاستعداد لإجراء العملية لـ«سحر»، تم تدريب ٢٠ طبيبًا، ضمن فريقين، كل فريق ضم ١٠ أطباء.

وقال: «الفريق الأول سافر إلى اليابان للتدريب، لمدة ٣ أشهر، وحضر أعضاؤه أكثر من ١٠ عمليات زراعة رئة، والفريق الثانى سافر إلى السعودية، وحضر ١٢ جراحة زراعة رئة فى مستشفى الملك فيصل التخصصى»، مشيرًا إلى أنه كان يشرف على عملية تدريبهم بالوحدة فى جامعة عين شمس.

وبسؤاله عن سبب تأخر إجراء العملية الأولى حتى ٢٠٢٢، رغم أن البرنامج بدأ فى عام ٢٠١٨، قال: «انتشار فيروس كورونا كان السبب الرئيسى وراء تأخير تنفيذ أول عملية، خاصة لأنه كان من الصعب الحصول على متبرعين مناسبين، فلم يكن سهلًا التبرع من شخص حى، فهذا الأمر كان نادرًا، وبالتالى كانت ثقة الناس فى نجاح الأمر مهزوزة».

ولفت مدير وحدة زراعة الرئة بمستشفى عين شمس التخصصى إلى أن الفريق فكر فى تنفيذ أول جراحة لزراعة الرئة من المتوفين حديثًا، لكن القانون لم يكن مفعلًا، مؤكدًا أن ٩٧٪ من عمليات زراعة الرئة تتم من المتوفين حديثًا، وهناك ٣ مراكز فقط فى العالم نقلت الرئة من أحياء، ومصر الآن تضم المركز الرابع عالميًا «بدأنا بالأصعب.. وهو أن نعمل بالطريقة اليابانية بنقل الرئة من الأحياء».

التكلفة تجاوزت مليونى جنيه تحملها المستشفى

حول ما حدث خلال جراحة زراعة الرئة لـ«سحر» وكواليس التحضير والتنفيذ والمتابعة، قال الدكتور محمد حسين، إن إجراء العملية يتم عن طريق استئصال الفص السفلى من الرئة اليسرى من أحد المتبرعين، والفص السفلى من الرئة اليمنى للمتبرع الآخر، وزرع الفصين داخل المريض، ويتم الأخذ فى الاعتبار ضرورة أن يخرج المتبرع من العملية بشكل سليم حتى يستطيع أن يستكمل حياته، مشيرًا إلى أن تكلفة عملية زراعة الرئة للشابة «سحر» وصلت لنحو مليونى جنيه، وتحمل المستشفى النفقات بقرار من الدكتور محمود المتينى، رئيس الجامعة.

ولفت إلى أن الدكتور المتينى قرر أن مستشفى عين شمس التخصصى سيتكفل بعلاج أول حالتين مجانًا، ويتمنى أن تساعد الدولة، ممثلة فى وزارتى الصحة والسكان، والتضامن الاجتماعى، والجمعيات ومنظمات العمل الأهلى، فى دعم المرضى الذين يحتاجون إلى زراعة الرئة فى مصر، موضحًا أن هناك نحو ٣٠٠ حالة تحتاج إلى زراعة الرئة فى مصر سنويًا.

وكشف الدكتور محمد حسين عن أن الفريق الجراحى الذى أجرى العملية لحالة «سحر»، نفذ ٥ عمليات محاكاة قبل تنفيذ العملية الأصلية، وجرى عقد أكثر من ٢٠ اجتماعًا حتى يتم الاتفاق على كل خطوة بالتفصيل، مشيرًا إلى أن العملية نفسها تمت بشكل أكثر من رائع، رغم ما كان يحيط بها من خطورة. 

وتابع: «هناك ثلاث حالات يجرى تأهيلها وفحصها لاختيار الحالة التالية التى سيتم إجراء الجراحة لها»، وقال إن جراحة «سحر» تطلبت عقد مئات الاجتماعات للتحضير للبرنامج، ثم عقد اجتماع أسبوعى على مدار آخر أربعة أشهر، ثم جرى عقد اجتماع ثلاث مرات أسبوعيًا خلال الشهر الأخير للتحضير الجراحى للحالة. 

وحول الشروط الواجب توافرها فى المتبرع بالرئة، قال الدكتور محمد حسين: «يجب أن تتراوح سنه بين ٢٠ و٥٥ سنة، وأن يكون غير مدخن أو توقف عن التدخين منذ ٦ أشهر على الأقل، ويشترط أن يكون غير مصاب بأى أورام سرطانية، ومن اللازم أن تكون باقى أجهزة جسده تعمل بشكل جيد».

المتوفى حديثًا يمكنه إنقاذ 8 مرضى بأعضائه

شدد مدير وحدة زراعة الرئة بمستشفى عين شمس التخصصى على ضرورة تفعيل قانون استئصال وزرع الأعضاء، مشيرًا إلى أن المتوفى حديثًا يستطيع إنقاذ ٨ مرضى عبر التبرع بالأعضاء لهم.

وطالب الحكومة بتوفير الدعم الكامل للبدء فى عملية زراعة الأعضاء من المتوفين حديثًا، لأنه لدينا ما يقرب من ٣ إلى ٥ حالات لكل مليون نسمة تحتاج إلى زراعة رئة، ومن ٥ إلى ٧ حالات لكل مليون نسمة تحتاج لزراعة قلب، وهذه الحالات تتوفى بسبب عدم وجود متبرعين.

وأشار إلى أن هناك عقبات تواجه تطبيق قانون التبرع بالأعضاء، موضحًا: القانون موجود منذ ٢٠١٠، وظهرت اللائحة التنفيذية الخاصة بالقانون فى ٢٠١١، ثم قامت ثورة ٢٥ يناير، ومرت السنوات حتى تمت الموافقة على الموضوع شرعيًا، بواسطة الأزهر الشريف ودار الافتاء المصرية.

وقال إن المملكة العربية السعودية أقرت استئصال وزراعة الأعضاء دينيًا منذ عام ١٩٨٦، وبدأ التبرع بالأعضاء منذ ١٩٨٩ من المتوفين حديثًا، لذلك يجب البدء سريعًا فى تطبيق قانون زراعة الأعضاء لإنقاذ المرضى. 

وبينما لا تزال سحر فى العناية المركزة وسط توقعات بخروجها لغرفة عادية بعد ١٥ يومًا، يستعد فريق جراحة الرئة فى جامعة عين شمس، وعلى رأسهم الدكتور محمد حسين، مدير برنامج زراعة الرئة، للبدء فى تجهيز الحالة الثانية قبل شهر مارس المقبل فى ٢٠٢٣، التى من الممكن أن تكون لذكر، لا سيما وسط الإقبال الشديد على عيادات الصدر والرئة بمستشفى جامعة عين شمس بعد الإعلان عن نجاح عملية «سحر».

تاريخ الخبر: 2022-12-21 21:21:23
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 00:26:34
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 00:26:27
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية