أبيض وأسود

بينَ أبيض وأسود تمضى أيامُه اللزجةُ مُضى الحلازين، لا يثقُ فى النورِ؛ يرتدى نظارتَه السوداءَ. على ضفةِ النهر قابعٌ، يجبنُ أن يعبرَ للضفةِ الأخرى، يهوى ركوبَ الترامِ إلى جوارِ النافذةِ حتى آخرِ الخطِ والعودة بها، يحلقُ فى الفضاءِ الأزرقِ متخفيًا، فيه يبوحُ بكلِ جرأةٍ؛ فلا أحد يعرفُه، تأسرُه عذوبةُ الأصواتِ. يغتالُه تشحجُ البغالِ، فى المقهى يكتفى بالإشارةِ للنادلِ فيأتيه بفنجانِ القهوةِ، يستنشقُ أبخرتَها المتراقصةَ؛ تروى روحَه فيستوعبَ ما يدورُ حولَه، تفتر شفتاه أحيانًا عن ابتسامةٍ مستحيةٍ لحديثِ نفسِه الثرثارةِ، وبينَما انداحت دائرةُ صمتِه لتحيطَ به فإذا بعينين نجلاوين لمليحةٍ فى خمارٍ أسودَ تسفران عن أنوثةٍ طاغيةٍ تفجُ بهاءً فى الفضاءِ الأزرقِ، وهو الباحثُ عن الماءِ فى صحراءِ أيامِه، تشتهى روحُه جميلةً تروى ظمأه، وبيدٍ مرتعشةٍ يضغطُ على طلبِ الصداقةِ، تدهشُه موافقتُها السريعةُ على قبولِ الطلبِ، يعتريه إحساسٌ يدغدغُ مشاعرَه، تحدثُه نفسُه أن يكتبَ لها على الخاصِ وإن رفضت فهذا أفضلُ من الندمِ على ضياعِ الفرصةِ، تتملكُه روحُ المقامرِ فلو كان على صوابٍ صارت لديه فرصةُ الفوزِ بجميلةٍ تروى أرضَه القاحلةَ، ولو كان على خطأ فلن يخسرَ شيئًا مقارنةً بما سيخسرُه لو لم يحاولْ؛ لذا عليه اقتناصُ الفرصةِ، ورُغمِ كونِه خمسينيًا فقد أخفى ذلك بمبالغاتٍ لفظيةٍ فيها توددُ المراهقين الفجُ لجذبِ الانتباهَ، محاولًا من حديثِه رفعِ الكلفةِ، فوجد صدى جيدًا منها؛ فهى الأخرى سجينةُ وحدةٍ موحشةٍ، وقد وجدت فى حديثِه ما يشعرُها بأنوثتِها بعد أن تخطت الأربعين، وحياةً لما بدأ يذبلُ من نضرتِها. هى الأخرى تستيقظُ مبكرًا دونَ مبررٍ تثملُها الوحدةِ، تحبُ ركوبَ الترامِ حتى آخرِ الخطِ والعودةَ بها؛ إن احتياجاتِ كلٍ منهما العاطفيةِ والحسيةِ قد ترفضُها العاداتُ والتقاليدُ المتشددةُ؛ فتحولُ دونَ اللقاءِ الفعلى، ولكن فى حديثِهما على الخاصِ ريًا لمشاعرهما؛ تزدهرُ العلاقةُ العاطفيةُ بينهما عبرَ الفضاءِ الأزرقِ، وقد أخفى كل عن الآخرِ حقيقتَه، وفى الترامِ بينما تجلسُ أمامَه امرأةٌ أربعينيةٌ تسبحُ عيناها فى شاشةِ هاتفِها يتذكرُ أنَّه فى الواقعِ خمسينى أعزبُ لن ترضى به تلك الفتاةُ العشرينيةُ التى يكتبُ لها على الخاصِ، وتتأكدُ هى فى لحظتِها أنّ عدمَ مكاشفتِها له بأنّها أربعينيةٌ عزباءُ سيعصفُ بالعلاقةِ برُمتِها ولن يقبلَ بها الشابُ العشرينى الذى تكتبُ له على الخاصِ، وسرعانَ ما تحوّل لقاؤهما على الخاصِ إلى سببٍ للهمِ والكدرِ، يسألُ كلٌ منهما نفسَه فى ذاتِ اللحظةِ عما ورطَ نفسَه فيه، وإذ فجأةً يقررُ حظرَها فإذا بها تحظرُه لنفسِ الدوافعِ وفى ذات اللحظة، يغلقُ الهاتفِ يستعدُ لمغادرةِ الترامَ، تنهضُ تلك الأربعينيةُ التى تجلسُ أمامَه فى الترامِ بعدَ أن أغلقت هاتفَها هى أيضًا، يغادران الترامَ وعلى رصيفِ المحطةِ، يمتزجُ الظلان ظلاً واحدًا، بينما شمسُ الغروبِ تلملمُ أشعتَها الحمراءَ، وإذا بكلٍ منهما يسيرُ فى اتجاهٍ عكس الآخرِ فيتمزقُ الظلّان.

 

 

تاريخ الخبر: 2022-12-24 21:21:48
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 45%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

محمود الليثى ورضا البحراوى يتألقان فى حفل زفاف ابنة مصطفى كامل

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-12 06:22:22
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 42%

الترجي يتحدى النجم الساحلي فى البروفة الأخيرة قبل مواجهة الأهلي

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-12 06:22:21
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 44%

الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول الأمطار على عدد من المناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-12 06:24:06
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 66%

دون وجود إصابات.. إسقاط 3 طائرات مسيرة على البحر الأحمر

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-12 06:22:31
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية