دعوات متلاحقة تظهر بين وقت وآخر في أوروبا تطالب بالاستقلال عن واشنطن، بخاصة بعد انطلاق الحرب الروسية-الأوكرانية وما كشفته من ضعف أوروبي يحتاج إلى تدخل أمريكي لتوفير الحماية لأوروبا.

الغريب أن مثل هذه الدعوات لبلوغ أوروبا حدّ الاستقلال الأمني والاعتماد على نفسها بعيداً عن الحاضنة الأمريكية، يكون منبعها فرنسا، تماماً مثل تلك الدعوة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي طالب فيها بمزيد من الاستقلالية والحدّ من الاعتماد على واشنطن أمنياً، بما في ذلك إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو).

ماكرون قال إن أوروبا يجب أن تدافع عن نفسها، وأن تحصل على استقلالية تكنولوجية عن الولايات المتحدة، وكذلك أن تكون "مستقلة عسكرياً"، وأن "تخلق دعامة أوروبية حقيقية في الناتو".. لافتاً إلى أن الصراع في أوكرانيا كشف ضعف القارة أمام روسيا واعتمادها الكبير على الولايات المتحدة.

محاولات زعزعة العرش الأمريكي

تُعتبر فكرتا "التبعية" و"الاستقلال" من أسس الأدبيات السياسية والثقافية التي اقترنت بالحقبة الاستعمارية، واستعلاء أوروبا على العالم ونهبها ثروات الشعوب الأقل تقدماً على المستوى التكنولوجي والعسكري، وذلك حسبما يقول الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث، مضيفاً أن الخلافات بين المستعمرين القدامى استحال بعد عقود إلى صراع أوروبي-أوروبي على مستوى الاقتصاد والتقنيات، إلى أن وصلنا إلى سباق المستعمرات، الذي انتهى إلى حربين عالميتين دمَّرتا قوة أوروبا لصالح قوتين أخريين تخرجان إلى عالم الهيمنة، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، فيما انتهت الحرب الباردة بين هاتين القوتين في تسعينيات القرن العشرين بهيمنة أمريكية مطلقة.

لكن الصراع على أرض أوروبا يبدو أنه يأبى أن ينتهي، بدليل تفجر الأزمة الأوكرانية، التي فتحت تأويلات كثيرة لتحول العالم مرة أخرى إلى أقطاب متعددة، حسبما جاء على لسان الرئيس الروسي أكثر من مرة.

هذا الأمر نقرؤه بوضوح في تصريحات الرئيس الفرنسي، مرة بدعوته إلى إنشاء جيش أوروبي، وأخرى مؤخراً بمطالبته بعدم الاعتماد على قوة أمريكا، بل على "الذات الأوروبية".

تجارب فرنسا مع الناتو

فرنسا كانت لها تجربة سابقة عام 1958 بالخروج من حلف شمال الأطلسي "ناتو"، بسبب عدم شعورها وقتها بوجود نية حقيقية لدى الأمريكان لحماية أوروبا أمنياً ضدّ أي هجوم روسي محتمَل. هكذا قال محمد حسين، أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة، مشيراً إلى أن خروج فرنسا وقتها كان احتجاجاً على اتباع أمريكا ما يُسمَّى "استراتيجية الردّ المرن"، التي تهدف إلى ردّ العدوان بالمثل، فيما كان الاتحاد السوفييتي حينها يتبنى استراتيجية "الرد العنيف"، ربما بالسلاح النووي.

وأوضح حسين أن مطالبة ماكرون الحالية بالاستقلال تأتي لشعور فرنسا بـ"تجاهل أمريكا للحرب الروسية-الأوكرانية"، فهى حتى اللحظة لم تتحرك عسكرياً للدفاع عن أوكرانيا، بل لا تزال تتوجس من رد الفعل الروسي، بالإضافة إلى أن أمريكا تترك الدول الأوروبية خاضعة للضغوط الروسية.

مَن المستفيد؟

أمريكا بالطبع هي المستفيد الأول من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، إذ إنها تصدر الغاز إلى أوروبا بأضعاف الثمن الروسي، مما خلق أزمة طاقة لأوروبا، خرجت على أثرها احتجاجات شعبية، بالإضافة إلى أن أمريكا تنظر إلى الحرب في أوكرانيا على أنها استنزاف لروسيا وأوروبا عسكرياً واقتصادياً، للدفع نحو مزيد من الهيمنة لها والاعتمادية عليها، حسبما أشار محمد حسين أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة، لافتاً من جهة أخرى إلى استفادة روسيا من مثل هذه الدعوات الرامية إلأى تحجيم القطبية الأمريكية، وقال إن العرش الأحادي لأمريكا على عالم اليوم مهدَّد بالفعل، ليس فقط باقتصاد الصين الجامح، ولا بروسيا كقوة عسكرية كبرى، لكن بامتلاك دول أوروبية سلاحاً نووياً، فضلاً عن توجُّه بعض القوى الكبرى كألمانيا، لاستعادة مجدها العسكري بمحاولة استعادة جيش ألمانيا وزيادة الإنفاق العسكري.

كل هذا حسب حسين، يمكن أن يشكّل حلفاً خاصّاً، مع نمو اقتصادي تخشاه الولايات المتحدة بالتأكيد، لذا بدأت التحرك مبكّراً وضربت أكثر من عصفور بحجر واحد تَمثَّل في الحرب الروسية-الأوكرانية.

درس التاريخ

التاريخ يقول إن أمريكا خرجت من الحرب العالمية الثانية قائدة للعالم، فيما تراجعت دول الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا.

استمرّ تأثير التقدم الأمريكي التاريخي هذا لعقود طويلة، ويمكن رصد ذلك إذا علمنا أن بريطانيا سدّدَت في 29 سبتمبر/أيلول 2006 آخر دفعة قروض حصلت عليها من الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في عام 1939.

وبلغت قيمة هذه الدفعة، التي سددتها وزارة الخزانة البريطانية، 42.4 مليون جنيه إسترليني، وكان ترتيبها الخمسين بين القروض التي احتاجت إليها المملكة المتحدة قبل 7 عقود لتجنُّب الانهيار الاقتصادي بسبب التكلفة الباهظة لحربها مع ألمانيا التي استمرت ست سنوات.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور محمد حسين يقول: "ماكرون يحاول أن يعيد ماضي فرنسا من خلال دعوته إلى استقلال أوروبا عن أمريكا أمنيّاً، وأيضاً للتحرك بعيداً عن قوة الناتو لتكوين جبهة أوروبية أخرى مستقلّة عن أمريكا، وهو ما ينتج عنه عدة أقطاب عالمية".

وعن ظهور أقطاب دولية جديدة أشار أستاذ العلوم السياسية إلى أن الأمر صعب جدّاً، وحال ظهور قطب أوروبي لن يكون بقوة القطب الأمريكي مطلقاً، لكن حتى هذا لن تقبل به واشنطن لأنه سيكون بداية النهاية لهيمنتها وبمثابة إشارة ورمز لآخرين بأن العصر الأمريكي قد انتهى، وأن "الغريم الروسي" حقّق ما أراد من حربه في أوكرانيا"، مستدركاً: "لن تخرج بريطانيا مطلقاً عن تبعية أمريكا، إذ تجمعهما ثوابت سياسية وثقافية، تجعل الدعوة الفرنسية لا تحظى بدعم بريطانيا، الدولة المؤثّرة في الميزان الأوروبي".

TRT عربي