تتويجاً للحراك الدبلوماسي النشط الذي انتهجته أنقرة في السنوات الأخيرة على الصعيد الإقليمي والعالمي، كان عام 2022 حافلاً بالإنجازات الدبلوماسية المثيرة للانتباه التي حققتها تركيا، لا سيما وأنها باتت الدولة الأكثر حضوراً على الصعيد الدولي، والأكثر موثوقية لتحقيق اختراق دبلوماسي ينهي الحرب الأوكرانية المشتعلة منذ أواخر فبراير/شباط الماضي.

وبفضل الاختراقات الدبلوماسية التي حقّقتها تركيا في الملف الأوكراني، فضلاً عن جهود الوساطة الحاسمة لحل الأزمات الإقليمية والعالمية في عام 2022، عزّزت تركيا من حضورها على مسرح الأحداث السياسية على الصعيد العالمي وجعلت من عاصمتها مركزاً محورياً في مجال الوساطة الدولية.

ولاقت المساعي التركية التي تخللتها استضافة اجتماع ثلاثي بين وزراء خارجية تركيا وروسيا وأوكرانيا في الأيام الأولى من عمر الحرب، والمفاوضات التي انتهت بتوقيع اتفاقية نقل الحبوب عبر البحر الأسود، وصولاً إلى محادثات تبادل الأسرى الأوكرانية ومؤتمر اسطنبول للوساطة، بدعم وإشادة من دول عدة أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب منظمات دولية بارزة مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والاتحاد الأوروبي.

انتصارات دبلوماسية

في أعقاب تحول الأزمة الأوكرانية إلى صراع مسلح أواخر فبراير/شباط، وبينما كان الغرب منشغلاً بتأجيج نيران الصراع بين موسكو وكييف، حافظ الرئيس رجب طيب أردوغان على قنوات الحوار مفتوحة مع الكرملين رغم تأكيده المستمر لدعمه وحدة أراضي أوكرانيا بما فيها شبه جزيرة القرم، وباشرت أنقرة على الفور التوسُّط بين طرفي النزاع لإنهاء الحرب على طاولة المفاوضات.

وفي الأيام الأولى من عمر الحرب، تمخض عن الحراك الدبلوماسي النشط اختراق كبير تمثل في الجمع بين وزراء خارجية البلدَين على هامش مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي في مارس/آذار الماضي. ورغم أن المساعي التركية لم تُسفِر حتى اللحظة عن الجمع بين الرئيسَين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول، كما كان يرغب أردوغان، إلا أنها نجحت بالمقابل من عقد اجتماعات على مستوى الوفود، ما أسفر عن اتفاقيات مختلفة تتعلق بتبادل الأسرى وفتح ممرّات إنسانية، وصولاً إلى اتفاقية شحن الحبوب التي أنقذت العديد من دول العالم من مجاعة شبه حتمية، وتوّجت الدبلوماسية التركية على صعيد عالمي.

ومع تصاعد الحرب في أوكرانيا وخوف فنلندا والسويد من امتداد الحرب إلى أراضيهما، قرر البلدان الانضمام إلى حلف الناتو، وهنا تحديداً توجهت الأنظار نحو تركيا مجدداً. فبعد الرفض التركي؛ نظراً لاحتضان البلدان فعاليات لتنظيمي "كولن" و"PKK" الإرهابيين، إلى جانب فرضهما بعض العقوبات التجارية والاقتصادية على تركيا، تعهدت فنلندا والسويد، عبر اتفاق مكتوب، بتنفيذ المطالب المُحقة لتركيا. في المقابل، أعلنت تركيا أنها لن ترفض انضمام فنلندا والسويد إلى "الناتو"، في حال تطبيقهما للاتفاق المبرم في مدريد.

ووفقاً للأناضول، فإن مواقف تركيا خلال قمة "الناتو" في مدريد، ونيلها دعم دول بارزة في صفوف الحلف، دفع اليونان إلى انتهاج ليونة في مواقفها العدائية المتواصلة منذ سنوات تجاه أنقرة. وظهر هذا الأمر جلياً في طلب رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، موعداً للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على هامش قمة مدريد، لإجراء مباحثات حول المسألة القبرصية، إلا أن أنقرة ردت على ذلك بالإشارة إلى أن قبرص هو المكان المناسب للحديث حول هذا الموضوع، الأمر الذي سُجل كنجاح دبلوماسي في خانة تركيا.

وإلى جانب التطورات في أوكرانيا والعالم الغربي، أعادت تركيا ترتيب أوراقها السياسية والاقتصادية على المستوى الإقليمي أيضاً. وفي هذا الإطار، قامت بإجراء العديد من اللقاءات والاتصالات لتعزيز العلاقات الثنائية وتطبيعها مع كلّ من أرمينيا الإمارات العربية المتحدة والسعودية وإسرائيل، بالإضافة إلى مصر.

"قُطب دولي في مجال الوساطة"

منذ أن بدأت روسيا قرع طبول الحرب بالقرب من الحدود الأوكرانية قبل أشهر من اندلاع الحرب، فعّلت تركيا دبلوماسيتها النشطة مستغلةً علاقتها الوطيدة مع طرفَي الصراع للعب دور الوساطة من أجل وضع حدٍ للأزمة التي كانت آخذة بالتصاعد والمتجهة بسرعة نحو صراع مسلّح، وذلك ضمن مساعيها الحثيثة للحفاظ على البحر الأسود كمنطقة للسلام والاستقرار.

كما تدرك تركيا جيداً موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي الذي يتوسط منطقة جغرافية نشطة سياسياً مليئة بالنزاعات، وهو ما يتيح لها لعب أدوار محورية على نطاق عالمي في مجال الوساطة الدولية، لاسيما وأن تركيا تحظى بشراكات استراتيجية مع جميع الأطراف، بدءاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مروراً بالصين والبلقان ودول الشرق الأوسط، ووصولاً إلى روسيا وأوكرانيا ودول شرق أوروبا. وكذلك تربط بين وزعماء العالم علاقات صداقة قوية، ما يتيح له ولطاقم حكومته العمل بشكل فعال ونشط لعرض خدماتهم والتوسط من أجل حل المشاكل والأزمات. ولهذا، تمتلك أنقرة مفاتيح الحل للعديد من الملفات الحساسة في منطقتها، والعالم أجمع.

وإلى جانب لاعبها دور محوري ووحيد لوقف الحرب في أوكرانيا وإنهاء الأزمة على طاولة المفاوضات، بذلت تركيا منذ تأسيسها جهوداً فعالة لحل النزاعات القائمة في إطار الأهمية التي توليها للدبلوماسية الوقائية والوساطة الدولية، وكانت رائدة في العديد من المبادرات فوق منطقة جغرافية واسعة بدءاً من رعاية المصالحة الداخلية في العراق ولبنان وقيرغيزستان، ومروراً بالعمل على بناء تعاون ثلاثي منفصل بمشاركة البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا من أجل إحلال السلام والاستقرار الدائمين في البلقان، وصولاً إلى ضمان السلام والأمن في أفغانستان.

إشادات دولية واسعة

على الرغم من أن اللقاءات التي رعتها تركيا بين موسكو وكييف لم تتوصل إلى وقف لإطلاق النار، إلا أن مجرد عقد مثل هذه الاجتماعات يعد إنجازاً للدبلوماسية التركية المنفتحة على جميع الأطراف. فيما حظيت مساعي تركيا المستمرة لحل الأزمة بين موسكو وكييف عبر طاولة الحوار، ووضع حد لأزمتي الطاقة والغذاء حول العالم، بإشادة واسعة من دول عدة أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب منظمات دولية بارزة مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

وبعد أن هنأت الأمم المتحدة والعديد من الدول تركيا على دورها الفعال للوصول إلى مبادرة شحن الحبوب، التي جرى من خلالها نقل أكثر من 14 مليون طن من الحبوب بواسطة 556 سفينة عبر ممر الحبوب في البحر الأسود حتى الآن، توجهت أنظار دول الاتحاد الأوروبي، التي دخلت في أزمة طاقة حادة، إلى تركيا مجدداً لمساعدتها في الوصول إلى مصادر الطاقة في القوقاز ووسط آسيا والشرق الأوسط.

وإلى جانب كونها ممراً آمناً يربط كل خطوط الطاقة الواصلة إلى أوروبا، عرض بوتين على أردوغان تحويل تركيا إلى مركز طاقة حيوي يربط روسيا بمشتري الغاز الطبيعي الروسي في وسط وغرب أوروبا، وهو المشروع الذي يجري العمل عليه حاليًاً وينتظر أن يكتمل بغضون عام، وفقاً لتصريحات وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز.

TRT عربي