هل تتجه "ولاية الفقيه" إلى متاحف التاريخ السياسي؟


في يناير/كانون الثاني 1989، وقبيل وفاته بنحو 5 أشهر، كتب زعيم الثورة الإسلامية في إيران روح الله الخميني، رسالة بعثها إلى الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف، نقلها إليه وفد ضم الشيخ عبد الله جوادي آملي، والسيدة مرضية دباغ، وسفير إيران حينها في الاتحاد السوفيتي ناصر نوبري، إضافة لمساعد شؤون أوربا وأميركا في وزارة الخارجية جواد لاريجاني، حيث استقبلهم غورباتشوف الذي استمع للرسالة بكل هدوء ودون انفعال.

وقال الخميني في رسالته بلغة جازمة، إنه "اتضح للجميع أن البحث عن الشيوعية يجب أن يتوجه من الآن فصاعداً إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي"، مستطرداً "أما لماذا؟ فلأن الماركسية لا تلبي شيئاً من احتياجات الإنسان الحقيقية" بحسب وجهة نظره، فهو مؤمن بأن "النظام الإسلامي" وحده القادر على تلبية احتياجات البشر المادية والمعنوية، ولا شيء سواه!

النبوءة المعاكسة!

بعد نحو 33 عاماً على الرسالة التي شكلت حدثاً سياسياً حينها، هل يمكن أن تحصل "النبوءة" في الاتجاه المعاكس، ما يعني أن "البحث عن ولاية الفقيه، يجب أن يتوجه من الآن فصاعداً، إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي"، خصوصاً مع حركة الاعتراض الكبيرة المتنامية في الشارع الإيراني، والذي تنادي قطاعات واسعة فيه بضرورة إنهاء حكم رجال الدين.

لقد عَابَ الخميني على "الشيوعية" الكثير من النواقص، التي جعلتها غير قادرة على أن تكون المحرك الفكري والفلسفي وحتى السياسي العملاني لدولة كبيرة في العصر الحديث كالاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي أدى تالياً إلى تفككها إلى عدة جمهوريات، العام 1991.

الرئيس السوفيتي الراحل ميخائيل غورباتشوف أثناء استقباله الوفد الإيراني برئاسة الشيخ عبد الله جوادي آملي

هذا الخلل الداخلي في "النظام"، يجده كثيرٌ من المراقبين واقعاً في بنية "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، التي سعت لـ"تثوير الإسلام" من أجل أن يكون المحرك الأساسي لـ"الدولة"، غافلين عن أن "الدولة الوطنية الحديثة" هي كيان "مدني" وليست كياناً دينياً، وأن تلبية احتياجات الناس يجب أن تتم في الحياة الدنيا لا في الدار الآخرة.

مركزية "الولاية"

كما كانت "الشيوعية" هي العصب الفكري لـ"الاتحاد السوفيتي"، فقد شكلت "ولاية الفقيه" لُب "الخمينية السياسية"، التي قاد فكرها الدولة في إيران بعيد الإطاحة بحكم الشاه الراحل محمد رضا بهلوي، العام 1979.

في الفصل الأول من الدستور الإيراني، وضمن "الأصول العامة"، وردت المادة الخامسة، والتي تنص على أن "في زمن غيبة الإمام المهدي.. تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقاً للمادة 107".

هذه "الولاية العامة" في الأمور الحكومية والسياسية، والتي يختلف حولها الفقهاء المسلمون الشيعة – حيث يعترض عليها جمهور من العلماء - رُسخت في "الدستور" الجديد، بل هي ركنٌ أساسُ فيه، لأنه "عندما كان النظام الطاغي فـي قمة جبروته وسيطرته على الشعب، قدم الإمام الخميني فكرة الحكومة الإسلامية على أساس (ولاية الفقيه)، مما أوجد فـي الشعب المسلم دافعاً جديداً متميزاً ومنسجماً ورسم له الطريق الأصيل نحو الجهاد العقائدي الإسلامي، وازداد التلاحم الثوري بين صفوف المجاهدين المسلمين والملتزمين، فـي داخل البلاد وخارجها"، وفق نصِ ما جاء في مقدمة "الدستور الإيراني"، والذي اختزل بذلك جميع الحراك "النضالي" المناوئ للشاه محمد رضا بهلوي، والذي شاركت فيها مجاميع وطنية وشيوعية ويسارية؛ اختزل كل ذلك التنوع الاجتماعي والثقافي والسياسي، لتكون "ولاية الفقيه" هي رأس الحرب، وهي المبتدأ والمنتهى.

وبدلاً من أن يكون "الولي الفقيه" بمثابة الخادم للشعب، والمستمع لمتطلباته، والعامل على تحقيق طموحه، جاءت مقدمة "الدستور"، لتشير إلى أنه و"اعتماداً على استمرار ولاية الأمر والإمامة، يقوم الدستور بإعداد الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط والذي يعترف به الناس باعتباره قائداً لهم (مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)، وبذلك يضمن الدستور صيانة الأجهزة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة". وبذلك، يكون "الولي الفقيه" في مرتبة أعلى من الشعب، بحيث يكون الأخير مجرد مطيع له، وعاملٍ على تهيئة الظروف المناسبة لتطبيق قراراته، وكأن الإيرانين عندما اعترضوا على سياسات الشاه، وجاء الموسوي الخميني نتيجة تضحياتهم، قاموا باستبدال "التاج" بـ"العمامة" وحسب! فيما الغاية التي كانوا يسعون لها هي العدالة والحرية.


التغيير الممتنع

بالعودة إلى رسالة آية الله الخميني إلى السيد ميخائيل غورباتشوف، فقد ورد فيها قوله "عسى أن تكون جرأتكم وشجاعتكم في التعامل مع حقائق الواقع العالمي منبعاً لإحداث تغييرات"، وهذه التغيرات عليها أن تتم وفق الرسالة بـ"شجاعة". إلا أنه وبعد 3 عقود خلت، يمكن أن يتساءل المحللون السياسيون عن وجود هذه "الشجاعة" من عدمها ليس لدى القادة "الروس"، وإنما لدى القادة السياسيون في إيران، خصوصاً في التعامل مع التظاهرات الأخيرة التي حدثت بُعيد مقتل الشابة مهسا أميني، 16 سبتمبر 2022؛ والتي دفع موتها العديد من الإيرانيين إلى الاحتجاج على أسلوب تعاطي الحكومة مع "الحريات المدنية" وإدارتها لملف الحقوق العامة للشعب!

وبالرغم من اعتراف مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، بأن هنالك "أزمة" حين قال "بالطبع هناك بلا شك أزمة اقتصادية ومعيشية"، أثناء لقائه بعدد من أهالي مدينة "قم"، فإنه ألقى بالمسؤولية الكبرى على "الخارج"، معتقداً أن "يد العدو الأجنبي في هذه الأحداث كانت واضحة تماماً، وعلى الرغم من وضوح تورط العدو الأجنبي، فإن بعض الناس ينكرون ذلك ويقولون إن هذه الحوادث سببها خطأ النظام".

هذا "الإنكار الإيراني" اليوم، تجاه مسؤولية النظام عن التردي المعيشي والاقتصادي، وتزايد السخط الشعبي، مشابه للإنكار الذي مارسه القادة الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي، قبل انهياره؛ وهو ذات ما حذر الخميني، غورباتشوف منه، إلا أن الثورة اليوم "تأكل أبناءها"، عوض أن تبدأ في التغيير والإصلاح الداخلي بشجاعة، وكأنها تقدم الترياق لغيرها، فيما الداء فيها يستفحلُ.

العقلية الغيبية

ما يجعل التغيير أكثر صعوبة في إيران، هو ارتباط تفكير مجموعة من النخبة الحاكمة المتشددة بـ"الغيب"، والتفكير الديني – الماورائي.

موقع "إيران إنترناشيونال"، نقل عن ممثل خامنئي وإمام جمعة مشهد، أحمد علم الهدى، قوله إن "العالم كله يحاربنا"، مرجعاً ذلك لـ"العداء مع ذلك الرجل المتخفي (المهدي)، لا يريدونه أن يظهر، فيحاربوننا لأننا أدوات ظهوره، إذا توقفنا عن القيام برسالتنا هذه، فسوف يتوافقون مع اقتصادنا وسياستنا".

تصوير "الثورة الإيرانية" وكأنها الدولة "الممهدة للمهدي"، وأن المرشد الأعلى عليه مسؤولية تسليم الراية إلى "صاحب العصر والزمان"، فضلاً عن أنه ينطوي على مصادرة لرأي جمهور واسع من المسلمين الشيعة لا يؤمن بأن هذا هو دور إيران، فإنه عمل يؤدي إلى التماهي بين الدولة والمقدس، ويجعل كل إيراني ينتقد السياسات العامة لـ"الولي الفقيه" أو يعترض علانية وصراحة على النظام الحاكم، وكأنه في خانة "الأعداء للدين".

إن إيران ومنذ بدء الحكم الثوري فيها، بات حضور الدين متضخماً في كثير من مفردات الحياة، وحتى في القضايا السياسية، التي باتت تفسر من النخبة المتشددة من منظار ديني؛ وهذ يتضح أيضاً في رسالة الخميني إلى غورباتشوف، عندما اعتبر أن "مشكلة بلدكم الأساسية لا تكمن في مشكلة الملكية والاقتصاد والحرية"، بل "هي فقدان الإيمان الحقيقي بالله، وهى نفس مشكلة العالم الغربي التي قادته إلى الانحطاط وإلى الطريق المسدود، أو ستجره إلى ذلك".

هنا "العقل الإيماني – الغيبي" يقفز على الحقائق المادية والعلمية، ليعتبر أن "الإيمان" هو المدماك الأساسي للتقدم من عدمه، فيما "الثورة الصناعية" في أوربا، أو "التقدم التكنولوجي" في الولايات المتحدة، وحتى نهوض "النمور الآسيوية" جاء بناء على الاقتصاد والعلم ومن خلال مراكز البحوث والجامعات والخطط الاستراتيجية بعيدة المدى، والاعتماد على الخبراء، لا رجال الدين.

توهم الكمال

ما يزيد من صعوبة حدوث التغيير الحقيقي في بنية النظام الإيراني، ليس فقط خوف مؤسسة الحكم من فقدان السيطرة على الشارع العام، وليس توجسها الدائم من "الخصوم" الإقليميين والدوليين، وحسب. وإنما أيضا الثقة الكبيرة في الذات التي تجعلها لا تبصر الأخطاء، واعتقادها أن "الجمهورية الإسلامية في إيران وباعتبارها أكبر وأقوى قاعدة للعالم الإسلامي؛ تستطيع بيسر أن تسد الفراغ العقائدي في نظامكم"، كما جاء في رسالة روح الله الموسوي الخميني إلى ميخائيل غورباتشوف.

عقائدية التفكير لدى النواة الصلبة الحاكمة في إيران، تجعلها تتيقنُ أنها النموذج الأكثر صلاحاً، وأن النواقص التي تعتريها إنما هي بسبب "الحصار الإمريكي"، رغم أن ذات الشخصية التي حملت الرسالة قبل أكثر من ثلاثة عقود إلى الرئيس غورباتشوف، وهو الشيخ عبد الله جوادي آملي، والذي يعتبر أحد المرجعيات الدينية في حوزة "قم" في الوقت الحاضر، قال في تصريح له إن "الشعب الذي يعاني من كسر في عموده الفقري لا يملك القوة للنهوض، ناهيك عن المقاومة للوصول إلى الاقتصاد المقاوم"، معتبراً أن "العمود الفقري للشعب هو ثروة البلاد، وإذا لم یستطع الحفاظ على عموده الفقري؛ فهو فقير؛ كُسر عموده الفقري"، بحسب ما نقل موقع "إيران إنترناشيونال". فهل الترياق الذي حمله معه آملي في رسالة الخميني إلى غورباتشوف، ظناً منه أنه السبيل إلى الإصلاح، وجد وبعد سنوات أنه لم يجدي نفعاً في حل مشكلات إيران قبل سواها.

تاريخ الخبر: 2023-01-10 15:18:53
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 90%
الأهمية: 92%

آخر الأخبار حول العالم

النصيري يقتحم قائمة أفضل 10 هدافين في تاريخ إشبيلية الإسباني

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 21:09:00
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 77%

بركة: 200 محطة متنقلة لتحلية المياه سيتم توزيعها على جميع الأقاليم

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 21:09:55
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 56%

الهدنة بغزة.. "حماس" تبلغ قطر ومصر موافقتها على مقترحهما

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 21:09:57
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 67%

“الفيفا” تدخل على خط واقعة صفع الشيبي

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 21:09:09
مستوى الصحة: 61% الأهمية: 71%

“حماس” توافق على مقترح وقف إطلاق النار

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 21:09:07
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 82%

تأكيدا لسبق "تيلكيل عربي".. رسميا البقالي خارج ملتقى الدوحة

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 21:09:55
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية