في مولد المسيح رسول السلام
في مولد المسيح رسول السلام
تحتاج الحياة المثلي إلي زاد طيب تتبلغ به في سيرها الراشد إلي الكمال الإنساني الذي تنشده البشرية, وتهتف به, وتتطلع إليه, والذي تقتضيه رحمة الله للعالمين.
والذكريات الكريمة من الماضي القريب أو البعيد هي موطن هذا الزاد الطيب, وهي منهله الجليل الذي لا يشقي وارده, ولا يضل قاصده, والذي لا يكتمل الرشد الإنساني لضائق به أو معرض عنه, أو زاهد فيه.
وعلي قدر ما يهتم المرء بهذه الذكريات وينزلها بالمكان الملحوظ من نفسه, ويدبر رشده الإنساني من حولها, تترادف بين يديه العبر, وتنبت من حوله العظات, وإذا طرائق الحياة في عينيه واضحة, وسعيه فيها حميد, فإن هو تذكر لها أو أعرض عنها واستعان بها كان كمن جد به السير في طرق ملتوية تعلو بها الجبال حينا وتهبط بها الوديان حينا, وإذا هو مكدود مجهود… كلما صعد أو هبط احتاج أبين حاجة إلي جهد جديد, وعزم حديد ثم إذا هو ضائق بالطريق وبما ينتهي إليه الطريق.
فأصحاب الرشد من بني الإنسان هم الذين لا ينفكون يتمثلون الذكريات ويحملون أنفسهم علي أن يعيشوا فيها بكل ما تشمل عليه من بؤس ونعيم, ونصر وهزيمة, وخير وشر, ونفع وضر, وألم ملأ بالدموع عيون الملومين وسعادة أشرقت بالفرحة في وجوه السعداء الفرحين… والذين تهتف بهم العبر من تمثل الذكريات لم لا يلتفتون إليها ولا يستجيبون لها علي أية صورة كان وجهها, وعلي أي طمع كان مذاقها, هم بلا ريب المحجوبون عن الخير, والهائمون في أودية الحرمان.
وإن أجل الذكري, وأبينها نفعا, وأكرمها ثمرا ذكري رسل الله وأنبيائه وقد مضوا إلي ربهم بعد أن أبلغوا الرسالة, وأدوا الأمانة آخذين بيد الإنسانية إلي طمأنينة الحياة, وعزة الإيمان وهم يتحملون في تلك السبيل ما لا تحتمله الطاقات الإنسانية إلا أن تساندها عناية الله.
وميلاد المسيح عليه السلام من الذكريات المباركة الطهور التي ينتفع بالتأمل فيها, وتحري العبرة منها البر والفاجر, والمؤمن والكافر.
فإن سيرته عليه السلام مثلها كمثل النسائم العطرة في ليالي الربيع الوادعة, تمر علي المحرور الذي يتبرد بها محتاجا إليها, كما تمر علي المبرود الذي لا يحتاج إليها, وربما ضاق بها, ومع هذا يستريح إليها هذا, ويستريح إليها ذاك, وهما جميعا يجدان السعادة والنعيم بما ننشر من طيب الشذا وحلو العبير.
كان ميلاد المسيح عليه السلام خيرا وبركة, فقد أشرق إشراقة الصبح الجميل بعد ليل طويل دامس, وقد كان خليقا أن يلقاه قومه بالبشر يغمر الوجوه, والغبطة تعمر القلوب, شأن الحائر المتخبط في ظلمات الليل حين ينبلج الفجر فتتضح بين يديه معالم الطريق.
غير أن من الناس ناسا يلذون الليل لأن فيه حياتهم وإليه مآبهم ومعادهم, وما كان قط لقاطع طريق أن يأنس بالضوء أو يسعد بالنهار, وهل رأي الناس قط خفاشا واقعا علي الأرض أو سابحا في الجو والشمس طالعة, والنهار موجود.. فهكذا كان شأن الذين ضاقت صدورهم برسالة المسيح فحاولوا أن يحبسوا صوته, ويطفئوا النور الذي أنزل معه لكي يتسني لهم أن يعيشوا كما تعيش الخفافيش في ظلام الكهوف, أو كما يعيش قطاع الطرق أبعد شيء من وضح النهار.
… وكل رسول معه من الله برهان يدعو إلي الخير ويحجز عن الشر, ومقاييس الخير في الرحمة الإلهية التي جاء الرسل والأنبياء لإفاضتها علي العالمين, هي العدل والتراحم والتعاون علي تخفيف آلام الإنسانية, وتحقيق المساواة بين الناس فيما فهم من حق وما عليهم من واجب, ومنع الاستذلال والاستغلال, واحترام المعني الإنساني في غير تعصب لعرق, أو جنس, أو لون, وأطراح العداوة والبغضاء حتي تسلم للناس حياة يستشعرون في ظلها معني السكينة والسلام.
غير أن الناس بغرائزهم لا يرضون عن هذه المعاني الجليلة النبيلة فهم يحاربونها بكل سلاح وفي كل طريق, ولهذا تختلف وجهات النظر, ويمضي رسل الله في طريقهم الداعي إلي الإيثار, ويمشي الخاضعون لغرائز الشرفي طريقهم الداعي إلي الأثرة والاستذلال والاستغلال, ثم يكون بعد ذلك ما يشاء الله أن يكون.
فإذا كان لنا نحن المحتلفين بميلاد المسيح أن نتحري رضوان الله تعالي في هذه الاحتفالات فليكن واجبنا أن نتحري الخير للناس مهما تكن أجناسهم وألوانهم وعقائدهم, فكلنا خلق الله, وكما كان سيدنا عيسي داعية سلام فلنكن جميعا دعاة سلام والله الموفق والمعين.