على الرغم من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان يهيمن على الخطاب السياسي في المملكة المتحدة، فإن السياسيين البريطانيين البارزين يترددون الآن حتى في مناقشته. في غضون ذلك يعيد عدد متزايد من البريطانيين التفكير في تكاليف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم أولئك الذين صوّتوا لصالح المغادرة، أو لم يصوّتوا.

عند عديد من الأشخاص الذين حُرموا العلاج في المستشفيات وسط الإضرابات على مستوى البلاد في الأشهر الأخيرة، التي تفاقمت بسبب ضغوط تكلفة المعيشة، قد يبدو أن بريطانيا تشعر بالراحة في حقبة ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

في الواقع، حتى أولئك الذين يدعمون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يشعرون الآن بـ"Bregret"، أي الندم، كما يطلق عليه في الصحف البريطانية. أظهر استطلاع أجرته يوجوف مؤخراً أن معظم البريطانيين يشعر أنه كان من الخطأ مغادرة الاتحاد الأوروبي، فيما يأسف واحد من كل خمسة ممّن صوّت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لقرارهم ذلك.

علاوة على ذلك، قال 65 في المئة من البريطانيين إنهم سيؤيدون إجراء استفتاء آخر على الانضمام إلى الكتلة، في حين قال عدد أقلّ إنهم سيدعمون إجراء واحد على الفور، وهذا يشير إلى أن المناقشات حول مستقبل بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي قد تطفو على السطح. وإذا استمر فشل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في تحقيق أهدافه، فقد يتلاشى الدعم واسع النطاق له في نهاية المطاف.

تدهور الوضع الداخلي

في حين كان التعهد البارز بـ"صوّت للمغادرة" هو إنفاق 350 مليون جنيه إسترليني (400 مليون دولار) في الأسبوع على نظام الرعاية الصحية، لم يتحقق شيء. ليس هذا فقط بسبب إهمال حزب المحافظين للخدمات العامة، بخاصة نظام الرعاية الصحية، ففي موظفي مقدّمي الرعاية أيضاً نقص حادّ منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وفقاً لبحث أجرته كلية لندن للاقتصاد، أضافت البيروقراطية المتزايدة والإجراءات الرسمية على التجارة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي 210 جنيهات إسترلينية إلى فاتورة الغذاء لكل أسرة. تدهور مستويات المعيشة هو أيضاً تأثير غير مباشر على الناتج المحلي الإجمالي المصاب بالركود، الذي يُقدَّر أن يكون أقلّ بنسبة 5.5 في المئة بحلول الربع الثاني من عام 2022 في حال لم تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع خسارة قدرها 33 مليار جنيه إسترليني (40 مليار دولار).

ليست التكاليف فقط هي ما يؤرّق الناس، فقد صرحت غرف التجارة البريطانية بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يأتِ بالمرجوّ منه بعد أن وجد باحثوها أن 77 بالمئة من الشركات التي شملها الاستطلاع قالوا إن الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يساعد على نموّ أعمالهم، فيما تكافح أغلبية صغيرة للتكيُّف مع اللوائح التجارية الجديدة.

حتى المزارعون، الذين وُصفوا بأنهم أحد أكبر الفائزين بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لم يكونوا سعداء بصفقات تجارية جديدة، بخاصة مع أستراليا، لأنهم يخشون من أن أسعار لحم الضأن ولحوم البقر ستنخفض أكثر من أسعار المنتجات الأسترالية.

صحيح أن الناس في جميع أنحاء العالم يواجهون مشكلات مماثلة وتدهوراً في مستويات المعيشة بسبب جائحة كوفيد وتأثير الحرب في أوكرانيا في الطاقة والمواد الغذائية الأساسية، إلا أن حالة المملكة المتحدة تفاقمت بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ يُتوقع أن يكون لديها أسوأ انكماش اقتصادي في مجموعة السبع في عام 2023.

اقترح البعض أن طرح لقاح Covid-19 السريع في المملكة المتحدة كان نتيجة إيجابية لمغادرة الاتحاد الأوروبي، إلا أن من المهمّ ملاحظة أنه فيما حاول الاتحاد الأوروبي تشجيع الدول الأعضاء على اتباع برنامج اللقاح الخاص به، لم يكن هذا ملزماً قانوناً. في الواقع كانت بريطانيا لا تزال تتمتع بعديد من الحريات داخل الكتلة، مثل الوجود خارج منطقة شنغن والاحتفاظ بالجنيه الإسترليني.

ما الغرض من كل هذا إذاً؟ في حين أن وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عديداً من الأسباب -مثل المخاوف بشأن الهجرة ومعارضة العولمة- فإن الروح الضيقة بشأن السيادة التي روّجتها حكومة بوريس جونسون المستقيلة الآن، تشكّل أيضاً عاملاً رئيسيّاً.

فقد قيل للجمهور البريطاني إن إحدى مزايا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن بريطانيا ذات السيادة ستكون حرة في التحكم في صفقاتها التجارية، وأنه يمكننا بسهولة أن نستبدل بالتجارة مع الاتحاد الأوروبي اقتصاديات قوية في دول الكومنولث وغيرها من الاقتصادات سريعة النمو. لُعِبَ على وتر أفكار أخرى، مثل الترويج للأنغلوسفير Anglosphere لمنافسة الاتحاد الأوروبي.

مطبات "بريطانيا العالمية"

في حين أن كل هذا يبدو طموحاً، فإنه لم يكن عملياً في العالم الحقيقي. حتى الآن وقّعت المملكة المتحدة ما مجموعه ثلاث اتفاقيات تجارية جديدة، مع أستراليا ونيوزيلندا وسنغافورة، فيما زعم الوزير مايكل جوف خطأً أن المملكة المتحدة وقّعَت 70 اتفاقية جديدة بقيمة 800 مليار جنيه إسترليني (968 مليار دولار)، كانت هذه، في الواقع، عقوداً مستمرة أو أُعيدَ تأكيدها منذ كانت المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي لا تضيف قيمة إضافية إلى اقتصاد المملكة المتحدة.

غالباً بالغت حكومة المحافظين في تقدير قوة لندن الجاذبة، والمحادثات التجارية المتوقفة مع الهند، على الرغم من الموعد النهائي المحدد في أكتوبر/تشرين الأول 2022 أظهر ذلك. في حين تُعتبر الهند هدفاً جذاباً، إذ تفوقت مؤخراً على المملكة المتحدة باعتبارها خامس أكبر اقتصاد في العالم، قد يفكر الوزراء في نيودلهي: "علامَ سنحصل من هذه المحادثات التجارية؟".

في الواقع، قد تدرك بريطانيا أن التجارة مع الهند بشروطها الخاصة وشروط الدول الأخرى ليست ضماناً. تسعى بريطانيا أيضاً لإبرام صفقات تجارية أخرى مع كندا والخليج والولايات المتحدة، التي لن تقدّم أي شيء جديد يُعتبر جوهرياً أو تحلّ محلّ التجارة مع الاتحاد الأوروبي.

وسط ما وصفه بعض المعلقين في المملكة المتحدة بأنه "حنين إمبراطوري"، بدا عديد من الوزراء غافلاً عن أن بريطانيا، في الواقع، ليست قوة عظمى ولا إمبراطورية.

تدلّ تحركات رمزية أخرى على طموحات بريطانيا العالمية. إلى جانب مناورة جونسون للعب دور كبير في تقديم المساعدات العسكرية والإنسانية لأوكرانيا وسط حربها مع روسيا -مع زيادة ميزانيتها الدفاعية في الوقت نفسه- رُوّجَت أهداف مثل أن تصبح بريطانيا "قوة عظمى في العلوم والطاقة الخضراء".

مع ذلك، إلى جانب رؤى أخرى مثل تمكين الكومنولث، تحتاج كل هذه الخطط إلى المال. وإذا استمر الاقتصاد البريطاني في الركود وزادت الضغوط المحلية من أجل الإصلاحات الاقتصادية، فقد تُضطرّ لندن إلى إعادة التفكير في توقعاتها الطموحة.

في الواقع، لا تأخذ المراجعة المتكاملة لعام 2021، التي أيدت شعار "بريطانيا العالمية" وسلطت الضوء على المحيطَين الهندي والهادئ هدفاً حاسماً للتجارة، في حسبانها الصدمات الاقتصادية العام الماضي التي سبّبَتها الحرب في أوكرانيا.

للمضي قدماً

مع تَحمُّل بريطانيا تحديات ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، حتى المواطنون في جميع أنحاء أوروبا أصبحوا على ما يبدو أكثر تفضيلاً للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة. في حين أن قضايا مثل حرب أوكرانيا قد تلعب أيضاً دوراً في توحيد الأوروبيين، فإن مشاهدة ويلات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دفعت الناس إلى الرغبة في البقاء في الكتلة. حتى الأحزاب المتشككة في الاتحاد الأوروبي تقليدياً مثل الحكومة الإيطالية المنتخَبة مؤخراً ركزت النقاش على إصلاح الاتحاد الأوروبي بدلاً من الانسحاب منه.

بينما أظهر رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك مزيداً من البراغماتية تجاه بعض دول الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا، عارض أعضاء البرلمان من الأحزاب كافَّةً خطط الحكومة لإلغاء قوانين الاتحاد الأوروبي المتبقية في بريطانيا.

ومع انهيار حزب المحافظين العام الماضي، دعا كير ستارمر من حزب العمال إلى توثيق العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وسط تكهنات بأنه قد يفكّر في محاولة إعادة تقييم علاقات لندن ببروكسل في حال وصول حزبه إلى السلطة.

هذه الشكوك الاقتصادية والأمنية الجديدة التي لا تتماشى مع طموحات بريطانيا الأولية لما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي قد تدفع المملكة المتحدة إلى التطلع أكثر نحو أوروبا وتقليص مناوراتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما ينبغي أن يقال.

في الواقع، ظهرت اقتراحات بأن المملكة المتحدة قد تحاكي النماذج الأوروبية الأخرى ولو لم تنضمّ إلى الكتلة مثل النرويج أو سويسرا.

يتزايد إظهار الجمهور البريطاني علامات على الندم، وهو توجه من المرجح أن يستمرّ مع تفاقم الأزمات الناتجة عن بريكست، بما قد يدفع السياسيين في بريطانيا إلى إجراء مناقشات صادقة حول إعادة تقييم علاقات بريطانيا مع الكتلة.



جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي