لو كان «لولا دا سيلفا» بيننا


مهدي رابح

الجهل يؤدي إلى الخوف، الخوف يؤدي إلى الكراهية، الكراهية تؤدي إلى العنف، هذه هي المعادلة“. (ابن رشد).

الجهل ليس فضيلة يحتفي بها، ولا التراكم المعرفي الأكاديمي والفني هو بالضرورة يمثل حصانة من الانحراف الأخلاقي، فالالتزام بالقيم الأخلاقية الفاضلة (نعمة الإحساس بالعدالة التي وضعها الرب في قلبك كما يسميها فولتير) هو مزيج من الفطرة والأطر المجتمعية التي تم تربية الشخص على اساسها، لكن المعرفة الأكاديمية يحتفي بها من منطلق كونها توفر فرصة أكبر لبناء ما يسمى بالعقل النقدي للفرد المستقل غير المنقاد، وتعطيه مجالا أوسع للاختيار ما بين الصواب والخطأ، لكنها لا تحصنه من الخيارات الخاطئة بالضرورة، كما أنها توفر له خيارات أكبر لشكل الحياة التي ينشدها والتي يرى أنها تحقق معناها -أي حياته- وبذلك تجعله في حالة من التصالح والسلام مع المجتمع بصورة عامة لكنها ليست حتمية.

للاستدلال على عدم ارتباط المعرفة (التكنوقراطية والأكاديمية) بالضمير الحي ربما يجب أن نتذكر أن صفوف الإسلاميين كانت تذخر بحاملي الشهادات العليا من أكبر الجامعات في العالم ولكن ذلك لم يمنعهم من المشاركة في جرائم تشيب لها الولدان؛ طالت أرواح الابرياء وكرامة المواطنين وأمنهم وعرضهم واستباحت المال العام، وعاثت فسادا لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان ربما منذ بدء الخليقة، والسبب الرئيسي في ذلك لم يكن انعدام المعرفة بل انعدام العقل النقدي القادر على استخدام هذه المعرفة للتفريق بين الخير والشر، وسيطرة عقلية القطيع اليقينية وانعدام الوازع الأخلاقي الذاتي (الضمير الحي)، وهي المصيبة الكبرى!

كما أن التحصيل الأكاديمي أيضا لا يمثل حصانة أو مقياسا لقدرة الأداء في الحقل السياسي، بنجامين فرانكلين، لولا دا سيلفا (بدأ ماسحا للأحذية في شوارع ساوباولو)، تشيرشل، هاري ترومان، وغيرهم من عظماء السياسة في العالم لم يمتلكوا شهادات أكاديمية تذكر إنما دخلوا إلى هذا المجال من بوابات مختلفة، كالأدب عند تشيرشل والعمل النقابي في حالة لولا.

َالسبب هو أن نظام التعليم الحديث صمم على نسق سلاسل الإنتاج الصناعي التي ابتدعها فورد في مصنعه عام ١٩٢٠م، والتي يكون فيها لكل فرد تخصصه في قطاعه المعني المحدود، بغض النظر عن مدى تعقيد مهمته ومتطلباتها المعرفية والذهنية، ويتحول فيها الفرد إلى ترس ضمن تروس متعددة الأحجام والأشكال في ماكينة كبيرة وضخمة (دولة) يصيبها العطب أحيانا أو تعمل بشكل جيد، لا يهم، المهم هو أن العمل السياسي مرتبط اساسا برؤية عامة تنطلق من تبني الفرد لمنظومة من القيم الأخلاقية والمبادئ تؤطر في تصور كبير Big Picture لما يجب عليه أن تكون هذه (الماكينة) لتعمل بصورة أفضل وتقوم بمهمتها الأساسية لتوفير حياة كريمة للمنتمين إليها من المواطنات والمواطنين. ويتقدم فيها الفرد صفوف القيادة بناء على قدرته في اقناع الأخرين برؤيته وقيادتهم وكخطوة أخيرة إثبات مدى ارتباطه بقضايا الناس أصحاب المصلحه وتفهمه لها، وصواب رؤيته لمخاطبة اشكالاتها وقدرته على العطاء عمليا في حال تسنم مسؤولية فوضت إليه من قبل الجمهور أصحاب المصلحة عبر التفويض الانتخابي. كل ذلك طبعا في سياق العملية الديموقراطية التي تستمد فيها السلطة السياسية صلاحياتها والدولة سيادتها من الشعب وليس من منطلق شرعية القوة القاهرة للدولة الشمولية طبعا.

في البدايات الجنينية لنظم الحكم الديموقراطية في القرن التاسع عشر كانت هنالك طرق مختلفة لإقصاء الآخرين من المنافسة على السلطة، تسديد الضرائب، لإقصاء الفقراء، أو الشهادات الأكاديمية لاقصاء طبقات أجتماعية معينة أو العرق ولون البشرة (التكوين الفيسيولوجي) في دول الفصل العنصري لاقصاء اثنيات محددة، أو النوع الاجتماعي لاقصاء النساء، لكن في كل دول العالم المعاصر تغيرت الأمور كثيرا وتعمقت مفاهيم الدمقرطة وانعكس ذلك على نظم الحكم وأطرها التشريعية والدليل الأكثر سطوعا على ذلك هو أنه لا يشترط للترشح لأعلى منصب سياسي في كل العالم المتقدم امتلاك شهادات أكاديمية على الإطلاق!

ربما من أجمل الأمثلة المحلية هي تجربة (شيخ الأمين)، القيادي في اتحاد المزارعين وعضو الحزب الشيوعي في ستينات القرن الماضي، والذي شغل منصب وزير الصحة، مثبتا قدرة على العطاء مبنية على رؤية نابعة من تفهمه واحساسه بقضايا الناس، وهو بحسب شهادة أحد الأصدقاء الأطباء :”ربما هو من أفضل من مروا على هذا المنصب”. َ

على ذات المنوال ربما يجب أن نذكر أيضا تجربة السيد انيورين بيفان Aneurin Bevan وهو مواطن وسياسي بريطاني، ولد في جنوب ويلز لأسرة عمالية في ١٥ نوفمبر ١٨٩٧م، ترك الدراسة بعمر ١٣ عاما وعمل كصبي جزار لعدة شهور وبعدها اتجه للعمل في المناجم، ثم انخرط في الحركة العمالية وأصبح رئيسا لاتحاد منجمه بعمر ١٩ عام، بعد ذلك انخرط في العمل السياسي وانضم لحزب العمال البريطاني، وفقد وظيفته وظل عاطلا عن العمل لمدة ٣ سنوات، إلى أن تم انتخابه عضوا بالبرلمان البريطاني عام ١٩٢٩ وتقلد بعدها عدة مناصب؛ أهمها حقيبة وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية، ووزارة الخارجية في حكومة الظل، ومنصب نائب رئيس حزب العمال.

وكانت أهم انجازاته عندما كان وزيرا للصحة انشاءه لنظام (NHS)، وهو النظام الصحي الذي يكفل العلاج المجاني لكل المواطنين البريطانيين بميزانية تبلغ اليوم ١٣٤ بليون جنيه استرليني سنويا (في عام ٢٠٠٢ تم اختياره ضمن أعظم مائة بريطاني في استطلاع أجرته البي بي سي).

التعامل مع الحكومة وكأنها شركة مكونة من سلاسل إنتاج وتروس متخصصة هو مقاربة معيبة، ورغم أن امتلاك شخص ما لمعرفة تؤهله أن يصنف كتكنوقراط لا يعني ايضا أنه غير مؤهل للقيادة السياسية؛ إلا أن الأخيرة لديها محددات مختلفة أهمها انخراطه في العمل السياسي وتدرجه فيه وارتباطه المباشر بالقضايا الراهنة، وفي سياق الواقع الثوري الانتقالي الحالي والساعي لتغيير البني السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورة عميقة، وفي الغياب المؤقت لآلية التفويض الانتخابي (24 شهرا حسب الاتفاق السياسي الإطاري) فلا مناص من أن يكون أهم معايير اختياره هو إيمانه بهذا التغيير والذي تؤكده أفعاله ورصيده المتراكم في مقاومة النظام السابق وما تلاه من انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١م، اعتمادا على دلائل ملموسة لا يرقي إليها شك، فتجربتنا السودانية مع وضع التكنوقراط الخاملين سياسيا في موضع المسؤولية خلال فترات الانتقال الحساسة جدا من ديكتاتورية إلى ديموقراطية، ومن حرب إلى سلم، ومن فشل اقتصادي إلى نهضة، كانت مخيبة جدا الآمال ولعبت دورا في إجهاض تضحيات جسام وشكلت نقطة الضعف المركزية التي استغلها أصحاب المشاريع الشمولية لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء واسقاط صخرة (سيزيف) التي حملها الشباب إلى قمة جبل اشواقهم وتطلعاتهم جيلا بعد جيل، إلى الأسفل إلى العتمة من جديد.

مجمل القول ولتقريب المعنى، لو كان الزعيم الكبير ورائد النهضة في البرازيل السيد (لولا دا سيلفا) بيننا اليوم، حيث لا هياكل قاعدية سليمة في أغلب الأحزاب السياسية وحيث لا وجود تقريبا لتقاليد ديموقراطية على المستويات المحلية أو نقابات حقيقية تعمل بالفعل على تحقيق مطالب من يدعون تمثيلهم، لأصبح (لولا) اليوم نسيا منسيا، أو ربما رحل مغاضبا حاملا “بقجته” التي تحوي معدات مسح الأحذية إلى أرض السامبا من جديد.

تاريخ الخبر: 2023-01-28 15:23:26
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:09
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية