السودانيون: تجاذبات الداخل وتدخلات الخارج


 

السودانيون: تجاذبات الداخل وتدخلات الخارج

خالد فضل 

أنقرأ حاضر دولتنا وفق رغباتنا وأمنياتنا أم على ضوء حقائق التاريخ ووقائع الأيام وكرّ العهود ؟  نحن الموسومين بصفة السودانية ، هلا تحققنا من ثبوت هذا الوسم دون زحزحة، أهي صفة لازمة تحدد مجال حركتنا وسكوننا ؟ عملنا وتفكيرنا ؟ وتؤطر بالتالي مجال وجودنا وتعايشنا وتطلعنا وطموحنا ؟ أم هي صفة نستدعيها للعجب في موقفين متناقضين ، عند التباهي بفعل نبيل ، وفي ذات الوقت عند الإشارة إلى عمل ذميم ، ولعل كل قارئ لكلمتي هذه يمكنه إيراد عشرات النماذج لهذا التناقض العجيب المسنود كله لـ (نحنا) السودانيين !

وقائع التاريخ القريب ؛ قبل قرنين فقط من الآن تشير بوضوح إلى أنّ أول نواة تكوين للدولة السودانية الحديثة  قد تمّ على يدي المستعمر الخارجي ، لقد فرضت الدولة المصرية _التابعة ولو اسميا للسلطنة العثمانية التركية _سيطرتها على معظم الأراضي التي تشكل الآن الدولة السودانية تقريبا ، حتى تخوم نمولي في دولة جنوب السودان الحالية ، وعرفت المجموعات التي كانت تقطن هذه الأراضي تحت مسميات ممالك وسلطنات وقبائل عديدة ؛ لأول مرّة بروز سلطة مركزية  عاصمتها الخرطوم ،تبسط سيطرتها على أقاليم شاسعة ومساحات واسعة في مناطق كانوا يسمعون بتبعيتها لتلك السلطنة أو هذه ، وعرفوا حكام محليين أجانب  من أدنى المستويات في المناطق إلى المديريات،والحكمدار ،  والشرطة ،والضرائب والدواويين ،والصكوك، والأوراق الرسمية والعملة النقدية وغيرها من سمات الدولة .

واستمرت هذه الدولة على نفس النسق تقريبا خلال الحقبة المهدوية والإستعمارية التالية حتى عهد الإستقلال قبل سبع وستين سنة . ولكن ومنذ الإستقلال لم تنعم أقوام السودان بنظام سياسي مستقر بمعالم واضحة ، تقلبت عهود وأنظمة سياسية بطبيعة متناقضة كما هو معلوم للكافة  ، ولعل اللحظات التي سبقت إعلان طلب الإستقلال من جانب أعضاء الجمعية التأسيسية الأولى في اليوم التاسع عشر من ديسمبر 1955م ، كانت تلك اللحظات هي آخر لحظات الإجماع بين السودانيين بصورة شبه كاملة . لم يتكرر الأمر إلا في برلمان البشير/الترابي ؛ بصيغة الإجماع السكوتي ، وهو برلمان ظل حتى  لحظات سقوطه في ثورة ديسمبر المجيدة  منقوص الشرعية ، منزوع الأخلاق .

لقد بدأت التجاذبات منذ أيام الإستقلال الأولى ، عندما نكص حزبا الأمة والوطني الإتحادي عن وعدهما للقيادات الجنوبية بإعلان ميلاد الدولة السودانية الفيدرالية المستقلة ، وهو المطلب الذي بموجبه انحاز النواب الجنوبيون في تلك الجمعية التأسيسية لمقترح نيل الإستقلال ، هذه وقائع حقيقية ، ولبنات أولية لإستمرار حالة التجاذبات الداخلية ، والتي أسفرت في تطوراتها اللاحقة عن بروز واقع الحرب الأهلية في الجنوب القديم ،والجنوب الجديد ، تعاقبت حكومات منتخبة _جزئيا_ وإنقلابات عسكرية ، مدعومة يساريا  تارة وإسلاميا تارات أُخر ، وفترات إنتقالية عسكرية وعسكرية مدنية ، واستمرت متلازمة التجاذب حتى أمسية جماعة أردول الراهنة ! وليرحم الله د. جون قرنق ، عندما سأله الأستاذ محجوب عروة في أول وآخرمؤتمر صحفي عقده في الخرطوم عقب توليه موقع النائب الأول للرئيس المخلوع عمر البشير بموجب إتفاقية نيفاشا 2005_2011م ، عن كيف سيساعد في لجم التدخلات الخارجية في شؤون البلاد من خلال علاقاته الخارجية ؟ أجاب الراحل بحكاية من قريته (ونقلي) بالقرب من بور ، وأن الناس هناك لا يستطيعون النوم إلا تحت (ناموسيات) خاصة في الخريف ، والسبب هو الباعوض ، فإذا لم يشد أحد الناس ناموسيته وهاجمه الباعوض ، منو الغلطان ؟ ولم يزد . والمغزى مفهوم لمن يريد الفهم .

اليوم تعج الساحة بتجاذبات سودانية سودانية عاصفة ، والتدخلات الخارجية لم تعد محل جدل ، وحميدتي نائب قائد الإنقلاب يقول بوضوح (السفارات تسيرنا طواعية ) حسب ما نشرته وسائط إعلامية سودانية ، والآلية الثلاثية ليست من أعيان حمر  والداجو والأمرأر  على كل حال ، ورئيس المخابرات المصرية ليست شيخ الميدوب ، وآبي أحمد والرباعية الدولية غير شيوخ كدباس ، علينا التواضع وعدم المكابرة والمزايدات باسم الوطنية ، فكل تاريخ عراكنا وصراعنا الدامي حلحلته التدخلات الأجنبية ، من أيام الإمبراطور هيلاسي لاسي ، وحتى عهد فولكر الحالي ، أما العهد الغيهب _ والتعبير للراحل د. منصور خالد_ فقد شهدت ثلاثينيته المدمرة ما لم تشهده عهود من قبل ومن بعد ه من حيث كثافة التدخلات الأجنبية الموازية لكثافة المظالم والإبادات والضحايا ، حد مكوث جيوش  بعتادها وعدتها وجندها ألوفات ألوفات  ولسنوات طويلة ! هذا تاريخ قريب ؛ حتى لا يفلقنا حلاقيمو ( السيادة الوطنية) من مسيري المسبرات جهة مقر بعثة فولكر !! ليس في وسعنا إلا الإقرار بالفشل , وهو إقرار ممض على أية حال ، ولكنه ضروري حتى نستعيد بجرأة محمودة قراءة وقائع حاضرنا بمسؤولية ، ومن ثمّ التواطؤ من أول جديد على صيغة لبناء دولة قومية تجد فيها كل مجموعة ملمحا من ملامحها ، وبالضرورة أن هذا البناء القومي المنشود لا يستقيم أبدا ولن يقوم سليما إلا عبر الحقيقة السياسية الواضحة ، دولة علمانية مدنية ديمقراطية ، ذلك الحد الأدنى للبناء ، وعلى أصحاب المشاريع التبعيضية مراجعة مواقفهم بصدق وأمانة ،فما دون السودانوية كله تبعيض ،دينيا أكان جهويا أم عرقيا .

 

تاريخ الخبر: 2023-01-29 03:23:06
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

وزير الخارجية الأمريكي: واشنطن ترفض أي عملية برية في رفح الف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-13 06:22:05
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

ماذا قال أنتوني بلينكن لوزير الدفاع الإسرائيلي بشأن فلسطين؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-13 06:22:10
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 62%

الاحتلال يُجدد القصف على غزة.. هل أسفر عن ضحايا؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-13 06:21:59
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 52%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية