بالوكالة عن الغيب بالأصالة عن الكارثة

نداءُ الاستغاثة الذى أطلقهُ رئيس الحكومة، بدا كأنه صرخة فى وادٍ سحيق، ونفخة أمل فى قِربة مهترئةٍ ومثقوبة. العالمُ مرعوب ومذعور من انتقال العدوى إلى البلدان الأخرى المجاورة، وتفشى الوباء وتحول البشر جميعًا إلى كائنات من غير المعروف مستقبلها. هل ستبقى أليفة، أم ستتحول لاحقًا إلى طورِ التوحش والافتراس والدموية، وتتحقق نبوءة روايات الخيال وأفلام الرعب؟! فى هكذا أحوال، تكثر التحليلات، والخبراء الاستراتيجيون، والشائعات، والكلام الفارغ.

إحدى الدول العُظمى طالبت بعقد اجتماع طارئ وعاجل ومغلق لمجلس الأمن الدولى، لم يُدعَ إليهِ ممثلُ البلدِ المنكوب، المعنى بالأمر. طرحت تلك الدولة خيارًا كارثيًا مجنونًا مفاده؛ «ضرب المنطقة الموبوءة باثنتين أو ثلاث قنابل ذرية، تُبيدُ الوباء وطرق انتقالهِ، سواء أكانَ ينتقلُ عبرَ فيروس أو جرثومة أو حيوان أو أية طريقة أخرى». وهددت بتبنى ذلك الخيار وتنفيذه، من خارج مجلس الأمن، إذا لم يتقدم الأعضاء باقتراحٍ آخر، عملى وناجع. حجة صاحبة ذلك المقترح؛ أنه لإنقاذ البشرية و٧،٥ مليار إنسان من هذا التحول الحيوانى، ينبغى التضحية بالمرضى وإبادة بضعة ملايين من البشر، إن لم يكونوا أكثر. وذكرت تلك الدولة أنه لولا استخدامها السلاح الذرى فى الحرب الثانية، لربما استمرت الحربُ عشراتِ السنوات، وأبادت البشرية!

لقى المقترح رفضًا. وصفتهُ دولة عظمى أخرى بأنه متهور ووحشى، ليس لأنهُ ناجم عن ذهنية رعناء متحيونة رهيبة، واعتباره الإبادة الجماعية حلًا. كان الرفض قائمًا على مخاوف عدم وجود ضمانات أكيدة؛ أن ثلاث قنابل ذرية ستنقذ العالم من هذا المرض أم لا؟! وإذا لزم الأمر استخدام قنبلة رابعة وخامسة، فماذا هم فاعلون؟! سيؤدى ذلك إلى دمار القشرة الأرضية، وسيؤثرُ على الغلاف الجوى والبيئة أيضًا، عدا عن الإشعاعات المدمرة التى ستصل البلدان الأخرى. ذلك الرفض، لم يكن بريئًا، بل انطوى على أنانية مقززة ومتوحشة.

أحد بلدان جوار البلد المَنكوب، قدم اقتراحًا، لاقى قبول الجميع، وحظى بالتصويت عليه. قال مندوب ذلك البلد: علينا بناء جدار عملاق، من الخرسانة، مكهرب، بارتفاع عشرة أمتار، وسماكة مترين، يحيط بالبلد المنكوب، داخل أراضى بلدان الجوار، بعمق عشرة كيلومترات. تلى الجدار، حقول ألغام بمسافة كيلومتر، ثم نشر الجيوش خلف حقول الألغام، على طول هذه الحدود الجديدة، ووضع كاميرات حرارية حساسة، كل شخص أو حيوان أو طير يحاولُ اختراقَ الطوق المفروض، يُقتل على الفور. يجب الانتهاء من بناء الجدار فى سرعة قصوى، دون إبلاغ سُكان المدن والقرى التى ستدخل ضمن الجدار. ستخسر دول الجوار، مساحات من أراضيها، ستضاف إلى مساحة البلد الموبوء. سيدخل جزء من مواطنى دول الجوار ضمن دائرة سكان ذلك البلد، حتى لو لم يطاولهم الوباء. كل تلك الخسائر والتضحيات الإضافية، كى ننقذ بلداننا والبشرية جمعاء. أى بلد يرفض هذا القرار، سيتم تحميله مسئولية دمار البشرية، ويعاقب بشدة وقسوة.

مضى شهر على إطلاق نداء الاستغاثة. سكانُ البلدِ المنكوبُ، والأراضى المقتطعة من بلدان الجوار التى صارت جزءًا منهُ، وجدَوا أنفسهم فى حصارٍ لم يكونوا يتوقعونه مطلقًا، فرضهُ عليهم العالم كله. الذهولُ والصدمةُ الكبرى والمريرة، والشعور بالغدر والخيانة الخانقة، سيطرَ على سكان بلدان الجوار الذين أُلحِقوا، دون علمهم وجبرًا، بالبلد المنكوب. أن يستيقظ عشرات الألوف من مواطنى دولةٍ ما، ذاتَ يوم، ويروا أن دولتهم تخلت عنهم، وتركتهم فريسة وباء، لمجرد الاشتباه بالإصابة، هذا ليس بالأمر الهين والعابر. 

حركة استئصالية مريبة، لن ينساها التاريخ. عادةً ما تحدث نزاعات حدودية بين البلدان، ربما تكون سببًا لحروب أو صراعات أو سلام مشوب بالمكايدات والمنافسات. هذه أول مرة نرى فيها حركة استئصالية جماعية تقوم بها عدة دول، وتتخلى عن مساحة من أراضيها، ومئات الألوف من مواطنيها، لصالح دولة أخرى. ليس حبا وكرمًا، بل بحجة تفادى وباء يتمدد كالنار فى الهشيم. 

هكذا؛ البلدُ الذى لم يعلن الحرب على أحد، ولم يشارك فى أى حرب أو صراع، كانت مساحته ٢٠ ألف كيلومتر مربع، أصبحت ٦٠ ألف كيلومتر مربع تقريبًا. وقفزَ عدد سكانه، بشكل غريب ودراماتيكى رهيب، من سبع إلى تسعة ملايين. لم تسعَ دول الجوار ودول العالم الأخرى إلى إجلاء رعاياها وبعثاتها الدبلوماسية، خشية أن يكون أحد عناصر تلك البعثات حاملًا المرض. تركتهم فريسة الوباء وضحت بهم. أصبحَ البلدُ الصغيرُ المسالم أرضًا مكروهةً ملعونةً منبوذة، يشن عليها العالم حربًا ظالمة غير معلنة.

سقطت علاقاتُ حسن الجوار بين الدول والقوانين الدولية أمام تلك الأزمة. ليتهم تركوا سبعة ملايين إنسان يواجهون المرض وحدهم، بل أضافوا إليهم مليونين من مواطنى بلدانهم أيضًا! لم تعترض أية دولة، صغيرة كانت أم كبيرة، على ذلك القرار. إجماع على المشاركة والتورط فى إبادة ملايين الناس المرضى تحت الحصار. لم تقل أية دولة لنفسها: ماذا لو كنتُ أنا الأرض التى تتعرض لهكذا محنة ولعنة؟! ماذا لو تعرضتُ لأزمة أخرى، تشابه هذه، وتعامل معى العالم، بمثل تعاملهِ مع ذلك البلد الموبوء الصغير؟! 

عادةً ما يتأخر العالمُ ومجلسُ أمنهِ فى اتخاذ قرارات حاسمة فى ما يتعلق بالحروب والصراعات والإبادات التى تحصد أرواح الملايين. حيال هذا المَرض، تحول العالم كله إلى جيش بغيض يحاصرُ ملايين البشر. هل هناك خزى شهدهُ تاريخ البشرية أكبر من ذلك؟

مضت ستة أشهر. استكمل الوباء انتشارهُ تمامًا على كامل مساحة البلد الموجود داخل الجدار، وتوقف عند ذلك. حتى أحزاب الخضر وجمعيات ومنظمات الرفق بالحيوانات فى العالم، ما حركت ساكنًا ضد الحصار. تملص وعدمُ اكتراث غير مسبوق، كان لسان حال الجميع. لا تنظيم مظاهرات واعتصامات ضد هذا العار الدولى المشين، كالتى كانت تنظمها تلك الأحزاب والجماعات ضد العولمة، والتغير المناخى، والحفاظ على البيئة والحيوان! حزب الخضر الذى كان يحكم البلد المصاب بالمرض، غدرت به كل أحزاب الخضر فى العالم أجمع.

أشهرٌ أخرى مضت. لم يتراجع العالم عن قراراتهِ وحصارهِ وحربهِ الباردة، رغم تأكده من أن ما طرأ على حياة وأشكال مواطنى ذلك البلد هو فقط زيادة كبيرة فى كثافة الشعر على أجسادهم. سقطت فرضية أو احتمال تحولهم إلى قتلة ومتوحشين ومصاصى دماء. لم يصابوا بسعار جماعى، يعضّون بعضهم بعضًا. مع ذلك، استمرت ماكينة الدعاية والإعلام العالمى فى التضليل، والتبرير، وإلباس سلوك المجتمع الدولى لبوس الحق والعدل والإنسانية، وأن الطبيب يضطر إلى استئصال أنسجة سليمة مع استئصال العضو المصاب بورمٍ خبيث. يفعلُ ذلك كى ينقذ روحًا. وأحيانًا، يضطرُّ إلى بتر قدم، فيه إصبع مُصاب بـ«الغنغرينا (Gangrene)»، كى ينقذ الجسم من الاستشراء والتفشى والموت المحتم. فى النهاية، ربما يُضطرُ إلى القتل الرحيم، كى ينقذَ روحًا من الآلام والعذاب. ضَخٌّ إعلامىٌ هائل وفظيع، متنوع المشارب؛ صادر من دول شيوعية، رأسمالية، إسلامية، مسيحية، يهودية، بوذية... إلخ، موحد الهدف والاتجاه، مقصدهُ ومراميه؛ التبرير. افتضاحُ العالم مدافعًا عن عريهِ وتوحشهِ، كان لسان حال إعلامهِ ونظمهِ ومثقفيه. 

عقب انتهاء الحرب الثانية، جرت محاكمة مجرمى الحرب والضالعين فى الإبادة من طرف واحد فقط. نصب العالمُ لهم محكمة، وتجاهل مجرمى الحرب فى الأطراف الأخرى. لكأن جرائم الحرب وفعل الإبادة والدمار ارتكبهُ طرفٌ واحدٌ فقط، من الأطراف المشاركة فى تلك الحرب المسعورة! الضالعون فى الحرب، من كل الأطراف، كانت أنظمة وعقائد وأيديولوجيات مستذئبة. قادة مستذئبون، يجيدون الخطابات المسعورة عن السمو والصفاء العرقى. وقادة مستذئبون يطلقون الخطابات عن المجتمعات اللاطبقية والعدالة الاجتماعية والمساواة ومناهضة الاستغلال والظلم والاستعباد. وقادة مستذئبون يدبجون الخُطب عن الحرية والديمقراطية، تبرر سفكهم دماء مدنيى الأطراف الأخرى المعادية لهم. وهكذا. 

هل كنا حقا جزءًا من هذا العالم؟! وشركاءَ فى صناعة هذا الظلم اللاحق بنا؟! هل كنا شهودَ زور على الخديعة الكبرى التى حكمتنا، تحت اسم القانون، والمجتمع، ومجلس الأمن الدولى؟! أسئلة طرحها مسئولو ونخب ومواطنو البلد المنكوب على أنفسهم، بعد تأقلمهم مع حياتهم الجديدة. التأقلمُ مع الظلم، تأقلم مع العبودية. لكن، تلكَ الأسئلة المغموسة فى علقم الخيبة والخذلان، كانت جمراتِ الرفضِ المتقدة تحت رمادِ المجهول. 

المجهول يرسلُ إشاراتهِ إلينا، لكن جهلنا لا يلتقطها، ولا يحتاط لها. وغالبًا ما يعوّل المجهولُ على الجهل.

الفصل الثالث من رواية «بالوكالة عن الغيب.. بالأصالة عن الكارثة». إصدار منشورات بتانة. القاهرة. فبراير ٢٠٢٣.

تاريخ الخبر: 2023-01-29 12:21:59
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية