محمود عوض يكتب: هذا المشاغب طه حسين

أراد فى بدايته أن ينزع السلاسل من عقل مصر.. وكان نموذجًا عصريًا للأديب والفنان الذى جاء به القرن العشرون

لم أكن أنوى أن أكتب عن طه حسين.

***

طلب منى صديق أن أتوسط له عند طه حسين لكى يوافق على أن يسجل للتليفزيون حديثًا أدبيًا ومناقشة محدودة.

***

وافق طه حسين.

***

سألت صديق : كم من الأجر سيصرفه التليفزيون لطه حسين فيما لو تم تسجيل هذا الحديث؟

بعد عملية جمع وضرب وقسمة وطرح وخصم، المبلغ هو : ١٨ جنيهًا و٦٠ مليمًا! 

بالصدفة، سألت عما تتقاضاه راقصة مبتدئة عن المدة نفسها. فعلمت أن ما تتقاضاه حضرة الراقصة المبجلة هو ٢٨ جنيهًا.

إننى لم أمتعض، ولم أبتهج. فقد فهمت الدرس بوضوح: إن هز البطن أهم لمجتمعنا كثيرًا - وكثيرًا جدًا - من هز العقل، قلة عقل.

***

حكاية سمعتها من محمد عبدالوهاب لثالث مرة:

«... منذ ٣٥ سنة سافرت إلى لبنان مع أمير الشعراء أحمد شوقى، لقد ارتبطت هناك بالغناء فى عدة حفلات.. كان أحمد شوقى - رحمه الله- يشملنى برعايته كعادته.

«... وفجأة قرأت فى جريدة (المقطم) التى وصلت من القاهرة خبر وفاة أبى.. هذا الخبر أصابنى بصدمة بالغة قبل ساعات قليلة من غنائى فى حفل مقرر بمدينة (عالية)..

«... كان من الطبيعى أن أعتذر عن عدم الغناء، بعد أن أصابنى انهيار نفسى، وفى ذلك المساء أخذنى أحمد شوقى إلى الدكتور طه حسين الذى كان يصطاف بالمدينة نفسها، وروى له ما حدث..

«... فجأة قال لى طه حسين: لماذا لا تغنى؟. ولماذا تعتذر عن حفلتك؟. هل الغناء فرح فقط؟.. إن الغناء تعبير وقدرة على التعبير. إن الفن يستطيع أن يعبر عن الفرح، ويعبر عن الحزن أيضًا، فى الفن سعادة. وفيه ألم. وبدلًا من أن تعبر عن ألم بالدموع.. عبر عنه بفنك».

***

سألت طه حسين عن هذه القصة فقال: «نعم، نعم، نعم.. فى تلك الليلة غنى عبدالوهاب.. فى تلك الليلة لم تكن دموع عبدالوهاب هى فقط التى تحس بفداحة المصاب، كانت دموع الجمهور هى أيضًا تساهم فى العزاء»..

***

كما هى العادة، كان حديثى مع طه حسين هو مجرد دردشة، حينما يثرثر الإنسان فإنه يتناول فى ثرثرته موضوعات وأسماء لا رابط بينهما.

الأسماء التى تناولها طه حسين كثيرة.. 

عن توفيق الحكيم مثلا يقول: «.. إن أول كتاب له آثار اهتمامى هو مسرحية أهل الكهف.. لقد قمت بتقديمه للناس والكتابة عنه وتشجيعه، لأننى رأيت فيه مستقبلًا عظيمًا بالنسبة للكتابة المسرحية. بعدها بفترة قصيرة كتب هو شيئًا فى الفلسفة - كتابًا على ما أتذكر - فكتبت أنا أنصحه بأن يتعمق فى الفلسفة بأكثر مما فعل، وأنه يكون أكثر توفيقًا عندما يكتب فى المسرح. كان هذا رأيى الذى لم يتقبله توفيق الحكيم بصدر رحب».

قلت: ولكنى، أعتقد أن هذا الخلاف فى الرأى لم يستمر، لأنكما اشتركتما بعد ذلك فى تأليف كتاب واحد..

- لا.. لم يستمر، لأننا تكلفنا نسيان أسبابه..

- والآن؟

- الآن لم يتغير رأيى كثيرًا فى توفيق الحكيم، وإن كان قد زاد عليه شىء من العتاب أحتفظ به نحوه.

- ونجيب محفوظ؟.

- نجيب لا يعجبنى فى الفترة الأخيرة، أو ربما لا أتابعه أنا بدرجة كافية. على أى حال، أنا أعجبتنى جدًا قصصه المبكرة.

- وإحسان عبدالقدوس؟.

- عتابى على إحسان أنه لم يرسل لى ولا واحد من كتبه!! .

- وهل تحب أن تقرأها؟.

- طبعًا، طبعًا.. على كل، أنا رأيى فى إحسان أنه كويس.

***

إن طه حسين فى حديثه، يعطينى دائمًا انطباعًا غير عادى، إننى أحس أنه لم يكن أبدًا مجرد شخص يريد أن يكون كاتبًا، أو أديبًا، أو مفكرًا.. هذا رجل أراد أن يعيش.. يعيش عصره، ومجتمعه، وتحدياته. يعيش.. بكل الحب الطبيعى للحياة، والحرية، والفرصة، والتجربة، والتضحية.. التضحية التى صنعت الثورة العظيمة فى مصر سنة ١٩١٩، ثورة أعطت وهمًا كبيرًا فى بداية هذا القرن، بأن مصر سوف تتفتح هكذا إلى الأبد، وسوف تعيش عصرها هكذا إلى الأبد. ثورة سوف تعطينا سياسة وثقافة وعلمًا وفنًا وأدبًا بغير حدود، وانطلاقًا بغير سلاسل.

نعم، طه حسين أراد فى بدايته أن ينزع السلاسل من عقل مصر.. من عقل الجيل الذى عاصره وخرج عليه وتمرد ضده. إنه فى تمرده كان جادًا، وفى حديثه كان نموذجًا عصريًا للأديب والفنان الذى جاء به القرن العشرون. أديب لا يعتمد على الأفيون، مثل كولريدج، ولا على الحشيش.. مثل سيد درويش، أديب لا يعتمد فى عمله على خمسين ألف فنجان قهوة، مثل بلزاك، ولا يعيش فى غرفة مغلقة هربًا من دائنيه.. مثل بروست. أديب يأخذ الأدب بجدية.. وفنان يعطى فنه بغير مخدر.. أو خبر.. أو شذوذ. 

نعم، كان طه حسين قاسيًا على نفسه أولًا، لكى يكون بعد ذلك قاسيًا على مجتمعه.

***

المنزل :

طلبت المخرج السينمائى يوسف شاهين وطلبنى.

فى التليفون سألته: لماذا زرت طه حسين أمس؟.

رد : أبدًا.. يعنى.. أصل..

قلت : بمناسبة تفكيرك فى تحويل كتاب طه حسين «الأيام».. إلى فيلم سينمائى.. ماذا أعجبك فى القصة؟.

رد يوسف شاهين: شرق. أزيك. سينما. سلطان. نوم. النور. حذاء. مكوى. خدامة. عندى. أسود. دوفيتير. تدخل. مين ؟. هائل. إسكندرية. ناس. عمر الشريف. سمك. شجرة. آه. هوليوود. فوق. جذاب. عين. ثلاثة. ليلة. سعيدة. نصف....... 

قلت (مقاطعًا): يوسف.. أنا أسألك لغير النشر.. فلتكن كلماتك مفهومة.

رد يوسف شاهين: آه.. كده؟. طيب. . أعجبنى فى الأيام قدرة الدكتور طه حسين العظيمة على تحليل الشخصيات نفسيًا من الداخل، ثم تجسيمه لأشياء كثيرة، بحيث تحمس وأنت تقرأها كأنها مجسمة أمامك... أعجبنى أيضًا القيمة الإنسانية التى تعبر عنها ذكريات طه حسين فى «الأيام»... قيم استطاعت الحضارة الحديثة أن «تغلوش» عليها.. بحيث أصبح عقل الإنسان عاجزًا عن استخراج المعانى البسيطة للحياة.. أنا نفسى - وأتمنى - أن أخرج بشىء من هذا فى فيلم سينمائى..

قلت: من الذى تتصوره لأداء دور طه حسين؟.

رد يوسف شاهين: شرق. أزيك. سينما. سلطان. نوم. نور. إلخ.. إلخ. إلخ..

***

«الأيام»:

«.. حادثة واحدة حدت ميله - طه حسين فى صباه المبكر - إلى الاستطلاع، وملأت قلبه حياء لم يفارقه إلى الآن.. كان جالسًا إلى العشاء بين إخوته وأبيه، وكانت أمه كعادتها تشرف على حفل الطعام... ترشد الخادم وترشد أخواته اللائى كن يشاركن الخادم فى القيام بما يحتاج إليه الطاعمون. وكان يأكل كما يأكل الناس. ولكن لأمر ما خطر له خاطر غريب!!. ما الذى يحدث لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه، بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذى يمنعه من هذه التجربة؟ لا شىء وإذن.. فقد أخذ اللقمة بكلتا يديه وغمسها فى الطبق المشترك، ثم رفعها إلى فمه.. فأما إخوته فأغرقوا فى الضحك. وأما أمه فأجهشت بالبكاء، وأما أبوه فقال فى صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنى.. وأما هو.. فلم يعرف كيف قضى ليلته».

لا أدرى لماذا أعود دائمًا لقراءة هذه الفقرة من كتاب «الأيام»، ولا لماذا وضعت خطوطًا تحتها.. هل لبساطتها؟ لقوتها فى التعبير؟ لبراءة الطفل فيها؟ لصراع خياله المبكر فيها مع قوة التقاليد؟ أو لأنها تجربة تبشر بالروح التى خاض بها طه حسين حياته بعد ذلك؟.

لقد انتقلت هذه الرغبة فى التجربة بعد ذلك من يد طه حسين إلى عقله.. لقد حرص طوال حياته الفكرية بعد ذلك. أن يقول للناس إنه لا شىء مقدس ... لا شىء يعلو على العِلم والفهم والتجربة. لا شىء يتحصن ضد المناقشة والتأمل وإعادة النظر. لا شىء. ولا أحد.

***

يتنفس الإنسان كثيرًا، ثم فجأة يخطر بباله سؤال: لماذا يتنفس؟. 

أيضًا : يقرأ الإنسان لطه حسين كثيرًا، ثم فجأة يسأل نفسه: لماذا طه حسين بالذات؟ لماذا نقرأ له الفكرة نفسها مرة وعشرين مرة.. وتظل فى كل مرة لها المتعة نفسها.. والتأثير نفسه؟

تفسير بسيط.. إن ما يدفعنى إلى طه حسين شىء أكبر من كل أفكاره، وكل كتبه. يدفعنى إليه الوفاء. الوفاء لمعنى، لقيمة، لتاريخ، لمبدأ.. لرجل صاحب مبدأ، لمحارب. طه حسين محارب. لقد عاش دائمًا كمحارب. كم سنة عاشها.. بغير ما يكفيه من النقود، من الطعام، من الملابس، من المأوى، من الأمن؟. كم معركة خاضها وهو مستعد لأن يرهن حياته فى أقرب نقطة بوليس... مقابل رأی واحد یؤمن به؟!. كم إهانة تلقاها؟. كم حرمانًا عانى منه؟! كم تهمة وجهت له؟!.

کافر وزنديق وملحد... خارج عن الصف والطاعة والقانون والإسلام، محرض على الخلاعة والإباحة والفسق والفجور.

هذه مجرد عينة من القذائف التى أصابت طه حسين. قذائف لم تصبه فقط فى سمعته، وإنما امتدت شظاياها إلى حياته ومرتبه ووظيفته.. لقد نقلوه من منصبه الجامعى مرة، وفصلوه من الخدمة نهائيًا مرة. إن قرار الفصل صدر ضده من مجلس الوزراء مجتمعًا. هكذا - دفعة واحدة تحول طه حسين شخصيًا إلى مشكلة قومية فى سنة ١٩٣٤. هكذا قضت عليه السياسة بأن يظل سنوات وسنوات موضوعًا فى القائمة السوداء التى ينبذها المجتمع وتحاربها الحكومة.

ولقد كان هذا كله بسبب موقف سیاسی واحد لطه حسين: کتاب أصدره، وقال فيه رأيه «فى الشعر الجاهلى».. كتاب ظل محل جدل وأخذ ورد إلى أن تراكمت بعده مواقف طه حسين ضد السياسة فصدرت ضده العقوبة فى النهاية، ليس باعتباره مفكرًا... ولكن كمتمرد.. كمشاغب. 

***

المشاغب:

أفكار تراودنى عن تاريخ طه حسين. أفكار تنتهى إلى نتيجة واحدة، إنه كان مشاغبًا، كان فى رأى السياسة والسياسيين مشاغبًا، رجل لا يريد أن يغلق فمه.. لا يريد أن يغلق عقله ويصفق مع الذين يصفقون..

هذه الكلمات مثلًا:

«... كانت رائعة بارعة خطبة العرش التى ألقاها رئيس الوزراء فى البرلمان، صورت لنا الحياة المصرية كأحسن ما تكون حياة الأمم: حكومة جادة لا تنام ولا تنيم، وشعب عامل لا يريح ولا يستريح!. وقد رضيت الحكومة عن نفسها فأثنت على نفسها، ورضى البرلمان عن الحكومة فصفق للحكومة، وسمع الشعب للحكومة تقول والبرلمان يصفق، فهز الأكتاف وهز الرءوس، وترك الخلق للخالق.. وأقبل المترفون على ترفهم ينعمون بغير حساب، وأقبل المحرومون على حرمانهم يألمون بغير حساب»..

كلمات كتبها طه حسين سنة ١٩٤٧ بعنوان «جوع وأحاديث».. كلمات من نار، وسخرية من مرارة.

قبلها بـ١٤ سنة كان موقف طه حسين - عميد كلية الآداب - مع وزير المعارف.

سأله الوزير: تريد أن تمنح كلية الآداب - وأنت عميد لها - الدكتوراه الفخرية لعدد من أنصارها السياسيين.. ممكن؟.

ويومها رد طه حسين: يا باشا.. عميد كلية الآداب ليس عمدة... يتلقى التعليمات من مأمور المركز فينفذها... هذه جامعة، وليست عزبة!!.

كلمات قالها طه حسين.. واستعاذ بالله.. استعاذة لم تعفه من الفصل والتشرد والبقاء فى منزله يستدين نفقات حياته من أخيه، يستدين بكبرياء. 

نحن جيل مشحون بالكهرباء!

فى الطريق إلى غرفة نوم طه حسين. كنت أحس أننا - نحن الجيل الجديد - جيل مشحون بالكبرياء. من اليمين واليسار يحاولون أن يسحبوا منا الكبرياء. هم المطرقة، ونحن السندان. نحن الأغنية، والموسيقى والكلمة، وغدًا. نحن البلد. نحن مصر، تراب مصر. وقودها لحظة الأزمة، وترابها فى فترة الراحة. نحن جيل محكوم عليه بالراحة، راحة من الحياة.. وإعفاء من المسئولية.

ومع ذلك فنحن جزء من الحياة، إن لم يكن اليوم فغدًا، أو حتى فى القرن القادم: يوم نستبدل بالغرور الأمانة. وبالوهم الحقيقة، وبالكذب الصدق، وبالراحة المسئولية.

هل ننجح فى ذلك؟.

أكيد.. إذا لم نعط لمجتمعنا السمو.. فعلى الأقل نخفف عنه الألم.. إذا لم نحقق له الأمل.. فعلى الأقل نصحح الوسيلة، إذا لم نعطه الحقيقة.. فإذن: الاقتناع ... إذا لم نشع فيه الأمانة.. فإذن: التفكير فيها.. إذا عجزنا عن الصراحة.. فعلى الأقل نقضى على النفاق.. إذا لم نعط لمجتمعنا العاطفة، والقلب، والإحساس.. فعلى الأقل نعطيه عقلًا أفضل..

إلى أن يحدث هذا فلا بأس من أن نعترف بما نحن عليه.. لا بأس من أن نقف فى موقف الدفاع. نعم.. نعم.. نحن جيل التليفزيون والجاز والشعر الطويل والكرة والفوضى.. نحن جيل بليغ حمدی وعفاف راضی وعادل إمام والشرق الأوسط ونجلاء فتحى وبابويا. نحن أيضًا جيل الأتوبيسات المزدحمة والتليفونات الخرساء والصوت المختنق والنور المتقطع والنفس المنقطع.. نعم.. نعم. ليكن كل هذا، نحن كل هذا. نحن فوق هذا. فوق النفاق والكذب والانتهازية وتقتلنى أو أقتلك. نحن الصراحة نحن الصدق. 

و... فاض الكيل.

***

طه حسين يتكلم.. يقول من جديد ويتكلم:

«... كنا على أيامنا نهتم بالاختيار والتوجيه والتصحيح، اختيار المواهب وتوجيه الأجيال الجديدة وتصحيح الأخطاء المتراكمة.. الآن لا أرى شيئًا من هذا. أرى إهمالًا - فوق إهمال - للجيل الجديد فى كل شىء، لا أريد أن أقول إننى أرى هجومًا ضد الجيل الجديد.. أنا شخصيًا متفائل عمومًا.. متفائل، خصوصًا بكل جيل جديد».

هذا طه حسين يتكلم.

عندما يتكلم فإننى أحس أن كلماته هى حديث رجل يفرغ جيوبه أمامى بغير توقف، إنه لا يتحدث بكلمات، يتحدث بأشياء، بحقائق، بأفعال، بتجارب. إنه لا يحتاج إلى صفات، يحتاج فقط إلى أفعال وأسماء ومواقف.. نعم: مواقف.

إنه أمامى يشبه سمكة شفافة فى حوض شفاف، إنى أستطيع أن أرى عظامه، رئتيه، قلبه، كليتيه، أمعاءه.. أستطيع أن أرى الكرات الحمراء فی دمه تتحرك.. أستطيع أن أرى فى داخله نجومًا تتهاوى وكواكب تدور. إن الصمت - حتى الصمت - الذى يخلقه فى حديثه أحيانًا يمكن أن يصيبنى بالصمم...

إن الصوت عميق، ولكن مؤثر. الإيقاع بطىء لكن محسوب. الابتسامة قليلة، ولكن رنانة. الهدوء واضح، ولكن مشحون بالانفعال. إن لهجته وتعبيراته جادة، وساخرة. إن فى ذكرياته غالبًا تكشيرة فى الطريق إلى وجهه، قبل أن تغير رأيها عند شفتيه.. إن ابتسامته هى علاج بأكثر مما هى تعبير. علاج للمرارة فى جزء كبير من ذكرياته - من ذكريات يختارها طه حسين ويرتبها فى ذاكرة مدهشة غالبًا، ولكنها أصبحت تخونه أحيانًا.

من الذاكرة يقول طه حسين:

«... إنى أخطأت عندما كتبت نقدًا مرة لكتاب (النظرات)، الذى أصدره المنفلوطى، كنت غير موضوعى فى نقدى، لأنى ركزت على اصطياد الأخطاء اللغوية له، بدل أن أركز على نقد موضوع الكتاب ... هذا شىء مرت عليه أكثر من خمسين سنة، ولكنى أستحى حتى الآن من تذكره ...

«.. أخطأت أيضًا خطأ بالغًا عندما قررت إلغاء تدريس اللغات الأجنبية فى التعليم الابتدائى وأنا وزير المعارف.. كنت أريد أن أقوى معرفة التلاميذ باللغة العربية، ووقتها تصورت أن تدريس الإنجليزية يؤثر على استيعابهم للإنجليزية، رأى خاطئ وقرار خاطئ مازال مستمرًا... لا التلميذ استمر يدرس لغة أجنبية، ولا هو - حتى - أصبح يعرف لغته العربية!. 

«... طبعًا، طبعًا، أنا فكرت أكثر من مرة فى إعادة النظر فى کتابی: مستقبل الثقافة فى مصر.. لقد سجلت فى الكتاب ملاحظاتى على الثقافة فى مصر سنة ١٩٣٦، ولو عدت إلى تأليفه اليوم من جديد فسوف أقول: زفت.. مستقبل الثقافة.. زفت»!.

الإسكندرية:

من وقت لآخر يحلو للإنسان أن يقطع الحبال التى تشده إلى الناس والواقع والظروف. من وقت لآخر يريد الإنسان أن يصبح كبالون اختبار انقطع حبله الذى يشده إلى الأرض فأصبح يتحرك مع الريح بقوة وضعف يمينًا ويسارًا.. شرقًا وغربًا!.

من وقت لآخر يمر على صديقى الفنان بليغ حمدى، لكى نصبح معًا فى هذه الحالة البالونية الغريبة.. حالة دفعتنا هذه المرة إلى الإسكندرية.. فجأة قررنا أن نذهب وحدنا إلى المدينة التى نحبها: الإسكندرية. ثم فجأة قررنا أن نعود إلى المدينة التى نعيش فيها: القاهرة.

فى الطريق إلى القاهرة سألنى بليغ حمدى: لماذا التعجل؟

قلت: لأنى أريد أن أرى طه حسين.. إحساس غامض فى داخلى يدفعنى إلى أن أزوره فى منزله الليلة ! 

قال: ولماذا الليلة؟..

- لا أعرف.

بعد لحظات من الصمت سألته: هل قرأت شيئًا لطه حسين؟

- طبعًا.. كثير.

- ماذا ترى فى أسلوبه؟.

رد بليغ حمدى - بانفعال وفن وموسيقى: يعجبى فيه الموسيقى، يعجبنى الإيقاع، إننى من أول ثلاثة أسطر أحس أن هذه الكلمات كلمات طه حسين - ليس لها فقط وقع فى عينى وإنما لها إيقاع فى أذنى. لها رنين، لها نغمة، لها موسيقى تجعلنى أقول على الفور: هذا أسلوب الدكتور طه حسين..

***

الهرم:

- ماله الدكتور طه حسين؟.

- إن شاء الله خير.. إنها مجرد وعكة بسيطة ألمّت به ظهر اليوم. كان هنا أعضاء لجنة من مجلس الآداب والفنون، جاءوا للاجتماع به، وبعد ساعتين من الاجتماع شعر بآلام حادة فى معدته، لقد ظل يتكتم ويتحمل إلى أن انتهى الاجتماع بعدها بساعة.. بمجرد انصرافهم طلب أن ننقله إلى السرير، وطلبنا نحن أن يحضر الطبيب.. نحن فى انتظار الطبيب .

هكذا سمعت الكلمات بطيئة فى بيت طه حسين بالهرم، سمعتها بالإرهاق نفسه والملابس التى عدت بها حالًا من الإسكندرية.. فعلًا، ربما كان هذا هو تفسير شعورى الغريب بأننى لا بد أن أذهب لطه حسين الليلة.. خير. إن شاء الله خير.

***

الثلاثاء:

«إن شاء الله خير، جاء الدكتور وقال: خير، تفضل...».

هكذا أخبرنى سليم سكرتير الدكتور طه. لم أتفضل. لقد رأيت الدكتور طه يستمع إلى صوته المفضل والوحيد: أم كلثوم. إننى اطمأننت. واستدرت خارجًا فى الطريق إلى الباب تصفحت بعض الكتب التى وصلت حالًا مهداة لصاحب المنزل.

إهداء من نجيب محفوظ: «إلى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين... رمز إجلال وحب يفخر به الأدب العربى فى جميع العصور».

إهداء آخر من يوسف السباعى: «إلى أستاذنا الكبير عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين.. مع خالص المودة والتقدير» 

إلخ.. إلخ... إلخ...

****

الأربعاء:

اطمئنان وحديث وخطاب وصل من ابنه مؤنس، وسؤال منى عن مؤنس.

قلت لطه حسين: هل كنت تسمح لأولادك بالاختلاف معك فى الرأى؟.

رد الرجل واثقًا فخورًا: طبعًا.. فمن الذى قال إن أبناءنا لا بد أن يكونوا على شاكلتنا؟. هم شباب، ونحن شيوخ.. هم عصر.. ونحن عصر.. هم رأى.. ونحن رأى آخر.

بين هذه الكلمات تراوحت مناقشتنا فى بيت الدكتور طه حسين، بيت يعيش فيه صاحبه كالصينيين القدماء.. حينما كان الفنان أو الفيلسوف يبدأ فى الشعور بالشيخوخة، فإنه يعيش ويتأمل فى سلام.

.. طه حسين يتأمل فى سلام. إن فى تأمله شيئًا حقيقيًا من الطبيعة الصينية. إنه مثل الحكيم فى القصة الصينية القديمة. حكيم سألوه مرة: لماذا لم تحقق أبدًا المعجزات التى تنسب لتلميذك؟. فأجاب : «إن الله قادر على أن يعمل هذه المعجزات، ولكنه أيضًا قادر على أن يمتنع عن عملها».. نعم، طه حسين لم يكن أبدًا نشيطًا.. لم يكن يعنيه أن يكون نشيطًا، كان يعنيه فقط أن يرفض، أن يعترض. إنه لم يكن متمردًا، كان ثائرًا، ثائرًا ضد الجيل الذى انتمى إليه.

بهذا الاعتبار - فقط - أحييه فى عيد ميلاده الـ٨٣، تحية ضائعة ولا معنى لها، لأنه هو شخصيًا لا يتوقعها. 

هل أنت تحيى الشجرة لأنها تنشر ظلالها؟!

***

لم أكن أنوى أن أكتب عن طه حسين.

من كتاب «شخصيات» طبعة «دار المعارف»

تاريخ الخبر: 2023-02-12 21:22:16
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 70%

آخر الأخبار حول العالم

بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 03:24:56
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

بركة : مونديال 2030.. وضع خارطة طريق في مجال البنيات التحتية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 03:24:53
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية