هل انتهت حقبة «أفريقيا الفرنسية»؟


رغم محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التأكيد في مناسبات عدة، إدراكه أن متغيراتٍ عميقةً باتت تطفو على سطح علاقات بلاده بمستعمراتها القديمة في أفريقيا، وتعهده خلال زيارته التي بدأها مطلع الشهر الحالي للقارة بـ«طي صفحة الماضي»، وأن «عصر أفريقيا الفرنسية انتهى»؛ فإن مراقبين يرون أن تراجع النفوذ الفرنسي، ربما يرتبط بالنفوذ السياسي والحضور الأمني، لكنه لا يعكس بالضرورة استمرار «الهيمنة الفرنسية» على الكثير من اقتصادات مستعمراتها السابقة في القارة الأفريقية.
وأكد الرئيس الفرنسي خلال زيارته الغابون، الأربعاء، أن فرنسا صارت «محاوِراً محايداً» في القارة، مضيفاً أن «عصر فرنسا - أفريقيا انتهى»، كما استبق ماكرون زيارته إلى القارة بإعلانه في باريس (الاثنين)، أن «عصر الحديقة الخلفية لفرنسا في غرب أفريقيا انتهى». ودعا إلى «بناء شراكة متوازنة، والعمل على القضايا المشتركة» مع بلدان القارة.
وتواجه فرنسا تنامياً للمشاعر المناهضة لوجودها في الكثير من الدول الأفريقية، وبالأخص في منطقة الغرب، حيث شهدت دول في المنطقة احتجاجات عنيفة ضد الوجود الفرنسي. وقررت باريس سحب قواتها من مالي العام الماضي، فيما طلبت بوركينا فاسو، الشهر الماضي، القوات الفرنسية الموجودة على أراضيها بالرحيل.
ويتهم ماكرون روسيا ودولاً أخرى بتغذية تلك المشاعر المتنامية ضد بلاده، لكنه أعلن في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أن بلاده بصدد إعداد استراتيجية جديدة في أفريقيا، لا تقتصر فقط على إعادة النظر في وجودها السياسي والعسكري، لكنها «تتضمن إصلاح سياستها بشأن المساعدات التنموية من خلال رفع ميزانيتها وزيادة التركيز على دول أفريقيا جنوب الصحراء وإعطاء الأولوية للمنح بدل القروض».
ورغم تراجع الوجود الفرنسي في أفريقيا، وسط تنافس دولي غير مسبوق خصوصاً من جانب الولايات المتحدة وروسيا والصين؛ فإن فرنسا لا تزال تتحكم في اقتصاديات عدد من الدول الأفريقية من خلال «الفرنك الأفريقي - Franc CFA» الذي يُستخدم حالياً في 14 دولة، ويُطبع في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وألزمت فرنسا الدول التي كانت تحتلها سابقاً بإيداع 65 في المائة من الاحتياطي النقدي لكل دولة في البنك المركزي الفرنسي، وتم تخفيض النسبة إلى 50 في المائة عام 2005 بسبب الاحتجاجات، كما تنفرد باريس بتحديد قيمة تبادل العملة مقابل اليورو.
وتتعالى في عدة دول أفريقية دعوات لإلغاء التعامل بالفرنك الأفريقي، كما سعت عدة دول إلى البحث عن عملة بديلة، إذ قررت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس» المكونة من 15 دولة، الاعتماد على عملتها الخاصة «الإيكو» بحلول عام 2027.
ويرى ياسر اللواتي، المحلل السياسي المتخصص في الشأن الفرنسي، في دراسة منشورة له حول «الهيمنة الاقتصادية الفرنسية على أفريقيا» أن فرنسا لا تزال «تحصل على المزيد من المصالح والمزايا الهائلة من خلال الشروط والأحكام الصارمة لفرنك CFA»، لافتاً إلى أن كثيراً من المحللين والخبراء الاقتصاديين يعدون تلك العملة أداة «العبودية النقدية، أو الأداة غير المرئية للاستعمار الفرنسي الجديد في أفريقيا».
ويضيف أن ربط عملة المنطقة بعملة قوية مثل الفرنك الفرنسي في ما مضى، واليورو حالياً «يؤثر سلباً وبشكل مباشر على التنمية الاقتصادية لمنطقة الفرنك الأفريقي، التي تجد نفسها مضطرة إلى التركيز فقط على مكافحة التضخم لا التنمية الاقتصادية»، فضلاً عن ندرة أموال الاستثمار للشركات، ومواجهة الأسر معدلات فائدة باهظة.
ويوضح المحلل السياسي المتخصص في الشأن الفرنسي أن التحكم الفرنسي في الاقتصادات الأفريقية المرتبطة بها «تسبب في أضرار عميقة بتلك الاقتصادات»، مستشهداً بقرار السلطات المالية الفرنسية عام 1994 من جانب واحد تخفيض قيمة الفرنك الأفريقي إلى 50 في المائة من قيمته، مشيراً إلى أن القرار تسبب في ارتفاع هائل في تكاليف الاستيراد ومن ثم زيادة الأسعار، وانهيار القدرة الشرائية للملايين من أبناء تلك الدول.
ورغم أن دول غرب أفريقيا لا تعد شريكاً تجارياً رئيسياً لفرنسا، فإن الشركات الفرنسية لا تزال تسيطر على قطاعات حيوية في تلك الدول مثل الطاقة والاتصالات والخدمات اللوجيستية، حيث تمتلك الحكومة الفرنسية نحو 80 في المائة من شركة «أورانو» التي تعمل في صناعة التعدين، وتشارك في استخراج اليورانيوم في النيجر، كما تمتلك فرنسا شركة تعدين أخرى في الغابون.
ووقّعت شركة «توتال إنرجي» في الأول من فبراير (شباط) الماضي، بالتعاون مع المؤسسة الصينية الوطنية للنفط البحري (CNOOC) صفقة بقيمة 10 مليارات دولار لاستغلال احتياطيات النفط في بحيرة ألبرت في أوغندا، وبناء خط أنابيب نفط إقليمي، غير أنها حظيت برد فعل سلبي من المجموعات البيئية المعترضة على المشروع.
ويؤكد الدكتور سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس المغربية، أن النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية، لا سيما على المستوى السياسي، «يشهد تراجعاً مطرداً خلال السنوات الأخيرة». وتوقع الصديقي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «يمتد هذا التقهقر الفرنسي من دون شك إلى المصالح الاقتصادية والثقافية التي ظلت إحدى أهم آليات نفوذ فرنسا لا سيما في مستعمراتها القديمة».
وأشار إلى أن ما صرح به الرئيس الفرنسي أخيراً، يعكس اقتناع الدولة الفرنسية بما تواجهه من تحديات في فضاء نفوذها التقليدي في أفريقيا، ليس بما تشهده من منافسة من قوى دولية أخرى صارت تهتم بالقارة وتعزز حضورها فيها فحسب، بل أيضاً بسبب تنامي وعي الشعوب الأفريقية بضرورة إعادة تقييم ارتباط دولهم بفرنسا وضرورة تجاوز العوائق الموروثة عن الاستعمار التي تقيد هذه الدول وبأن النظام الدولي الحالي يسمح لها بخيارات كثيرة.
وتابع أستاذ العلاقات الدولية أنه رغم ما وعد به الرئيس ماكرون من مشروعات تحاول فرنسا من خلالها جاهدة الحفاظ على بعض نفوذها في القارة، فإنه توقع أن «تفقد فرنسا الكثير من هذا النفوذ»، وقد يشهد الحضور الفرنسي في القارة «انتكاسة كبيرة» خلال السنوات القليلة المقبلة بالنظر إلى حجم التحديات سواء داخل الدول الأفريقية أو من القوى الدولية المنافسة.


تاريخ الخبر: 2023-03-03 18:25:36
المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 86%
الأهمية: 88%

آخر الأخبار حول العالم

والــي أم البواقي يكشف: مسـاع للتكفـل بالمستثمريـن عبـر 17 منطقـة نشـاط

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:28
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

ميلة: بعثـة من مجلـس الأمـة تعايـن مرافـق واستثمـارات

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:25
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 61%

أكّدت أن أي عملية برية ستؤدي إلى شل العمل الإنســاني

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:31
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 65%

عنابة: استحداث لجنة لمتابعة تهيئة الواجهة البحرية

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:27
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 65%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية