بقلم: م. منــير وصـــفي بطـــــرس

باحث في موسيقى الألحان القبـطية

مـــدرس مــــادة اللــــحن الكنـــسي

بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيــة

أعزائي قُرَّاء جريدة وطني. إن كنيستنا القبطية الأورثوذكسية استطاعت بفهمها الروحاني أن تُعَبِّر عن مفهوم المناسبات الكنسية بصورة دقيقة، فأعطت ألحاناًمتعددة لكل مناسبة طقسية؛ حتى تُبرِز الجوانب العديدة لهذه المناسبات، فمثلا في الألحان التي تُقال في فترة الصوم الكبير (وهي أكثر من ثلاثين لحناً) نجد أنها تعبر عن مفاهيم عديدة لهذا الصوم، وكل مجموعة من هذه الألحان تُوَضِّح جانب أو أكثر من هذه المفاهيم من خلال نصوصها وأيضاً من حيث خصائصها الموسيقية من مقامات وإيقاعات وغيرها… وهذا ما سنوضحة بنعمة الله.

ولقد أعطى أبونا الموقر القمص أثناسيوس فهمي في كتابه (رحلة الكنيسة في الصوم الكبير) مصطلحاً جَمَعَ فيه فكر الصوم حيث كتب: “للصوم معنى (الحزن المضيء)، وهذا المعنى من السِمات المُمَيَّزة للروحانية الأورثوذكسية والتي ترتبط بالصوم، فهي حالة من تغيير العقل والقلب والسلوك والنفس، وتجديد الإنسان بكليته في جو ومناخ جديد ومُتَجَدِّد، وغاية الصوم أن تنفتح قلوبَنا على حقائق الروح،فنترك إرادتنا الحسية ونلتزم الهدوء بكل نوع، كما أن فكرة الصوم يكون هدفه الجوع للشركة والاتحاد مع الله ونوال غفران الخطايا “.

ومن خلال هذه الكلمات العميقة نجد أن ألحان الصوم الكبير بصورة عامة نسكية بها لمسة من الشجن، ولكن ليسفيها حزن الكآبة أو اليأس، ولكنها ألحان مليئة بالرجاء والروحانية مثل لحن إبصالية أدام الصوم الكبير موضوع هذا المقال.

مجموعتان من الألحان في الصوم الكبير:

النوع الأول مجموعة من الألحان موضوعة نصوصُها وموسيقاها خصيصاً لفترة الصوم الكبير، ومن أمثلتها (تين أويه إنسوك الصيامي، نيف سينتي، تي هيريني، شارى إفنوتي، إنثو تى تي شوري، ميغالو ، هلليلويا التوزيع الصيامي، جى إفسماروؤت)، وهي تُمَثِّل التعبير الواضح لمعاني الصوم من تقشف وتذلل ونسك وبها لمسة الشجن الممزوج بالجدية.

أما النوع الثاني من الألحان تتغير فيه النصوص لتلائم معاني الصوم، ولكن تحتفظ الكنيسة بروح النشاط وروح الرجاء ولمسة الفرح الهادىء والرضا الموجودة في ألحان الطقس السنوي والتي تعبر عن مفهوم الفرح الروحي بالرجوع إلى الله، ومفهوم القوة والغَلَبَة على الشيطان بنعمة المسيح، وكثير من هذه المجموعة خصصتها الكنيسة لسبوت وآحاد الصوم التي يقل فيها إحساس التذلل والتقشف، حيث نتذكر فيها فتح الفردوس و قيامة الرب من الأموات ومن أمثلتها: (إبصاليتي أدام وواطس للصوم، أرباع الناقوس، مرد الإبركسيس و الإنجيل لسبوت وآحاد الصوم، الأسبسمسان الواطس والأدام للصوم، وختام الصلوات)، وتمثل الجانب المُضِيء للصوم، وإحساسها العام الفرح والنشاط والسرعة

ألحان الصوم الكبير متنوعة وتعبر عن جوانب عديدة للصوم:

فعندما تريد الكنيسة أن تُعَبِّر عن معنى التذلل وطلب التحنن والرحمة لمغفرة الخطايا، تقدم ألحان الذكصولوجيات بلحنها الصيامي النسكي الانسحاقي، وعندما يدخل الإنسان في حالة النسك والتقشف يُسَبِّح بلحن تي هيريني المتقشف في نغماته، فيستطيع أن يَتَنَزَّه عن متطلبات الحياة الكثيرة، وعندما يقول مديحة طوبى للرحماء بلحنها المُمَيَّز يزداد إحساسه بالعطف على الضعفاء والفقراء والمحتاجين، وعندما يَتَغَنَّى بلحن الابصالية الأدام يحس بروح الرجاء في المعونة الإلهية، كذلك الصوم في كنيستنا صوم النشاط والقوة الروحية؛ ولذلك تُقَدِّم له ألحاناً حماسية مثل ختام الصلوات، ولا تنسى الكنيسة المفهوم اللاهوتي للصوم كاستعداد لأسبوع الآلام حيث أنالمسيح ككاهن أعظم قدم نفسه ذبيحة عن العالم كله، وهنا يُعَبِّر لحن “ميغالو” بمنتهى الدقة عن هذا الفكر مُقتَبِساً أفكاراً لحنية من أسبوع الآلام.

موضوع الإبصالية الأدام للصوم الكبير:

في هذه الإبصالية تختزل الكنيسة فكرة العبادة النقية والطهارة والحياة المقدسة مع الله في عبارة (من أجل الصوم)، التي تكررت في كل أرباع الابصالية، وهي إبصالية تَبُث روح الرجاء في تحنن الله علينا ليعين ضعفنا ويغسل خطايانا، فتعلمنا الاقتداء بالقديسين الأبرار الذين عاشوا حياة القداسة في علاقة قوية مع الله، وكان لهم الرجاء في تسديد الله لكل إحتياجاتهم، فأخنوخ أخذ إستنارة لعقله، وقَبِلَ ذبائح إبراهيم، وتكشَّفت ليعقوب إبي الآباء الأسرار الإلهية، ويوسف الصديق صار قائداً لأعظم مملكة في عصره، وداود الملك أخذ النصرة، واستجاب الله لصلوات إيليا، وأطال في عُمر صموئيل النبي في سلام وكرامة، واستطاع الرسل أن يملأوا المسكونة بتبشيرهم بقوة الروح القدس، وثَبَّتَ الله الشهداء في إيمانهم إلى النهاية.

والصوم والعبادة النقية أنقذت رجال الله من الأخطار، فكان لهم الرجاء في النجاة فآدم وحواء تحنن الله عليهم فأنقذهم من الهلاك الأبدي، ونوح أُنقِذَ من الطوفان ولوط من النار، وتم الخلاص لإسحق من الموت ويونان من جوف الحوت،ودانيال والثلاثة فتية نجوا من الموت فتغيرت طبائع الأسود والنار لأجل أمانتهم لله.

ومن أجل الصوم أيضا استلم موسى النبي لوحي الوصايا وقَبِلَ الله توبة أهل نينوى، ثم تنتهي بختام الإبصاليات الأدام بمباركة اسم ربنا يسوع المسيح، فهو الأساس الذي وُضِعَت لأجله الإبصاليات، حيث أن كل طلباتنا تتم باسم الرب يسوع.

الابصالية لغويا وموسيقيا:

هذه الابصالية مكونة من 24 ربع تبدأ بالحروف الأبجدية اليونانية بالترتيب، أما موسيقى اللحن هو لحن جميل وجذاب، ومليء بالدفء والمشاعر الجياشة، من مقامالنهواند (minor) الذي يتناسب هنا مع كلمات الابصالية للتعبير عن إستجداء الرحمة واستعطاف الله لأن يسرع لنجدتنا بسبب الصوم، على إيقاع رباعي بسرعة تقريبية(120نبضة في الدقيقة)، وهو عبارة عن فكرة واحدة مكونة من جملتين موسيقيتين واحدة سؤال (من عبارتين ) والثانية جواب (من عبارتين) ، وقد خَصَّصَ واضع اللحن العبارة الثالثة المتكررة “إثفى تي نيستيا” (بسبب الصوم) كمرد،وكأنها حجر الأساس التي يعطينا الرجاء في تدخل الله لتسديد الاحتياجات، وفيها يرتفع اللحن إلى الذروة، أما عن طريقة الأداء فيُقال رُبعان معاً بالخورس البحري، ثم يرد عليهم الخورس القبلي بربعين تاليين، وهكذا حتى نهاية اللحن؛ ولذلك فإن الربع الواحد يُكَمِّله الربع التالي بعلو واضح فيكونا فكرة واحدة ليكون قالب اللحن كالآتي (أ1- أ2 – أ3 00000 أ12) وينتهي اللحن أخيراً بمردات ثابتة في كل إبصالية أدام.

إن ألحان الصوم متنوعة ومُعَبِّرة عن مفاهيم متعددة،وضعتها الكنيسة بفهم ووعي، يتبقى أن نُصَلِّيها بفهم لنعيش فكر الصوم بالمعنى المُتَكامل الذي وَضَعَته الكنيسة في هذه المناسبة الطقسية المباركة.

لينك اللحن بصوت المعلم الكبير جاد لويس