لطالما كان انهيار البنوك مصدر قلق كبير للاقتصاد الرأسمالي العالمي بسبب العواقب الوخيمة له وعلى نطاق واسع، والعوامل التي تؤدي لفشل البنوك عديدة ولكن أهمها هو فرض أسعار فائدة عالية، وعندما تكون في ظل مجالس قيادية وإدارات ولجان استثمارية ضحلة علميا أو نقلية عمليا أو كليهما، لذلك فانهيار بنك وادي السيلكون في الغالب ليست قصة فردية ولكن متكررة، ولكن حظ هذا البنك أن يكون فاتحة إعادة ضبط المنظومة المصرفية الأميركية ومعها العالمية.
حظي بنك وادي السيلكون SVB باحترام وثقة المستثمرين فيه والمتعاملين معه من المودعين سواء المستثمرين برأس المال الجريء أو روّاد الأعمال في قطاع الشركات الناشئة في التقنية المتقدمة في الألعاب والإعلام والتكنولوجيا المالية، وهم الغالبية العظمى التي تمثل عملاء هذا البنك، ولكن لماذا سقط بشكل مفاجئ ممثلا لثاني أكبر انهيار بنك في تاريخ الولايات المتحدة منذ عام 2008، مما سبب حالة من الذعر تعدت حدود وادي السيلكون، وهل المنظومة المصرفية على موعد مع إعادة ضبط شاملة؟
عندما أعلن البنك عن نتائجه للربع الأخير لعام 2022 في أوائل عام 2023، لاحظت وكالة التصنيف الائتمانية “مودي” Moody’s Investor Service بأن البنك يعيش خطر وجودي نتيجة خسائره الكبيرة في استثماراته غير المحققة – المدارة من قبل مجلس استثمارات كل أعضائه من النساء حسب خبر على صحيفة “النيوزويك” الأميركية في 14 مارس – وعجز شديد في السيولة بعد سحب المودعين لودائعهم بوتيرة متسارعة، مما أدى إلى رفع مستوى الضغط على السيولة، وهذا دفع الجهات المنظمة في كاليفورنيا وشركة تأمين الودائع الفيدرالية FDIC للتدخل وإغلاق البنك.
كان الانهيار صادما للبنك بعد حالة ازدهار كونه مموِّلا مهما لقطاع الشركات الناشئة المدعومة من رأس المال الجريء في المجالات التقنية، كما أن ميزانية البنك العمومية لعام 2020 كانت واعدة خاصة مع انجذاب كبار الأسماء للاستثمار في أسهم البنك، مما أكسبه مكانة محلية ودولية كنموذج يحتذى به للمؤسسات المالية التي تعمل في خدمة ريادة الأعمال المتقدمة المدعومة برأس المال الجريء.
لكن بدأت الأزمة بوادرها مع ارتفاع أسعار الفائدة المتسارع والمفاجئ بعد مرحلة تيسير كمي باذخة ونسبة فائدة مقاربة للصفر، وبعدها انكشاف حقيقة أن ما يقرب من 152 مليار دولار، أو حوالي 97% من إجمالي الودائع في البنك غير مؤمن عليها، وأسباب أخرى كارتفاع مستوى تمويله للشركات الناشئة التي حرقت الكثير من هذه الأموال، وخسارة استثماراته في السندات، ومفاجأة البنك للمستثمرين بأنه بحاجة إلى جمع أكثر من 2 مليار دولار لدعم ميزانيته العمومية.
وجد البنك نفسه أمام رد فعل صادم من أصحاب الودائع وعلى رأسهم صناديق التحوط وأصحاب رؤوس الأموال الجريئة الذين أدركوا أن البنك على شفى هاوية، فتحرك هؤلاء المودعون الكبار مثل Coatue Management و Union Square Ventures و Peter Thiel’s Founders Fund بسحب ودائعهم التي كانت الشرارة الأولى لبداية أزمة السيولة، وليتبعها عملية سحب شريحة كبيرة من العملاء لودائعهم بقيمة 42 مليار دولار، ولتكون النتيجة الحتمية هي انهيار البنك في غضون 44 ساعة.
ما حصل لن يقف عند هذا الحد، فما سيطرأ تباعا لبنوك أخرى في منظومة المصرفية المالية المعقدة والمتشابكة سيدفع الكثير من المودعين لتهريب ودائعهم من البنوك متوسطة وصغيرة الحجم، كما أن التبعات على الشركات الناشئة – القطاع الأهم في الاقتصاد الأميركي – ربما تكون مؤلمة، فغير أن البنك لم يعد قادرا على أداء مهمته نحو الشركات الناشئة في التقنية – من ذوات نموذج حرق المال لعدة سنوات – ستجد هذه الشركات نفسها أمام تحدي تدفقات مالية في المستقبل، بعد أن بدأت أعمالها البحثية ونشاطها التجاري القائمة على تمويل هذا البنك، مما يعرضها لخطر الانهيار قبل أن تبدأ بالفعل.
يبدو أن هناك حاجة جادة وتفرض نفسها لإعادة ضبط المنظومة المصرفية، فالحدث الذي يعيشه العالم اليوم ليس بالهزل وقد أرعب الجميع، والإشارات وإن كان هناك من يحاول تغطية وجهها إلا أن بعض إشعاعها النافذ يدل على أن أيام البنوك الصغيرة والمتوسطة بدأت في العد التنازلي من خلال بناء النية للاستحواذ عليها من قبل البنوك الكبيرة، والتي هي بدورها ستقوم بمراجعة شاملة لأدوات اتخاذ القرار، ولقدرات إداراتها وأعضاء اللجان الاستثمارية ومجالس الإدارة فيها وإمكاناتهم الاستباقية في قراءة الأحداث الاقتصادية، وغالبا رفع متطلبات الاقتراض التي لن تكون كما كانت في السابق، وإعادة النظر في تسهيل حرق الأموال للمنشآت الناشئة المقترضة أو الشريكة، وتقنين السيولة المؤمنة، وتسريع فرض العملات الرقمية الرسمية، وهذا التوجه سيكون على مستوى العالم وليس الولايات المتحدة فقط.
*نقلا عن صحيفة "مال".
