عندما يستعيد المجتمع وجهه الحقيقي


هل تعود بيروت إلى إشراقتها، وبغداد إلى رصانتها، والشام إلى شامها، والكويت إلى حيويتها، والقاهرة إلى مهابتها؟ لا يحتاج الملم لرجل (دين) يمنحه مفتاح الجنة، فهو بحاجة لرجل (دولة) يمنحه الفرصة لتسلم مفتاح منزله الجديد.

بعيداً عن الصورة النمطية للثائر الطالع من قاع المجتمع بهدف الانقلاب على النظام، يخبرنا التاريخ عن قادة وملوك قادوا ثورات على أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية، تحت قيادتهم وإشرافهم، فشرعوا بإصلاحات كبرى، أقرب إلى الثورة على الذات، أو الانقلاب على الواقع المعيش الذي ورثوه من القدماء، فاستجابوا لمتطلبات عصرهم واستحقاقات التحول، والتغيير، والتقدم.

من أخبار تلك الثورات الحميدة ما يعود إلى القرن 18 فنتذكر الإمبراطور النمساوي جوزيف الثاني، الذي منع العبودية، وألغى القوانين المتعارضة مع عصره، وأقر الزواج المدني، وضمن حقوق غير الكاثوليك، وقلّص سلطة الأساقفة، وقام بحل الأديرة التي لا تقدم خدمات نافعة مثل التدريس أو التمريض! ومثلما لقيت تلك الإصلاحات الثورية القبول من ناس ذلك العصر، ومن المؤرخين فيما بعد، جوبهت بالرفض والتشكيك من المتضررين وقتها من تلك الإصلاحات.

ومن الملكات المتفلتات من قبضة السائد والمألوف، وفي الفترة التاريخية ذاتها، الإمبراطورة كاترين العظيمة، وهي أميرة ألمانية امتد حكمها لروسيا 34 سنة، وقامت باعتماد نظام تعليم متطور، وأصلحت النظام القضائي، ورعت الفنون والعلوم والآداب، وسعت إلى رفعة روسيا وإيصالها إلى مصاف الدول الأوروبية، كما عززت قوة الجيش الإمبراطوري، واهتمت ببناء الأسطول البحري.

الأمثلة كثيرة، وتؤكد على أن الثورات ليست حكرا على المعدمين والكادحين، أو الثورات التي ترفع شعارات فارغة وتبشر بالمن والسلوى، لتنتهي، عادة، بالخيبات والكوارث (الربيع العربي مثال حي) بل إن الثورات الأهم في التاريخ، هي تلك التي تقودها القصور، لا الثكنات والأوكار الحزبية.

ثورات البناء والتعمير، لا الهدم والتدمير. ثورات إصلاحية، اجتماعية، وفكرية تنويرية، عمادها الانفتاح والتسامح، كمثل (الثورة/النهضة) البناءة التي تجسدت بالخطوات الإصلاحية في المملكة العربية السعودية بمباركة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، وقيادة ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان، والتي بدأت تباشيرها تلوح في الآفاق، وترتسم فرحا على ملامح الناس، وهم يسارعون لاستعادة الوجه الأصيل لمجتمعهم.

وصفتُ الخطوات السعودية بالثورة، أما صاحبها - ولي العهد السعودي - فيصفها بالحرب، حين قال (هذه حرب السعوديين، هذه حربي شخصيا) وعلى أية حال فإن تلك الحرب (الاجتماعية والفكرية) التي تخوضها المملكة، ونجاحها باستعادة الوجه الحقيقي للمجتمع السعودي، سوف تفضي إلى خلق (نموذج سعودي) قابل للتصدير، بحكم طبيعة العصر أولا، وثانيا بحكم قوة السعودية، وحجمها، وقدرة شعبها، ومؤسساتها على التأثير بالمجتمعات المجاورة، خليجياً وعربياً، وربما أبعد من ذلك.

أمثلة الاقتدار السعودي على التأثير كثيرة، ومتنوعة. أشهرها، على صعيد القوة الناعمة، "تلفزيون العربية" وانتشاره الواسع في العالم العربي، ومن قبله جريدة "الشرق الأوسط" سيدة الساحات الصحفية العربية منذ صدورها عام 1978، ولن يفوتني أن أشير إلى مثال صغير، لكنه يفصح عن مدى قوة التأثير السعودي، فأذكر وجبة (المندي) اليمنية التي كانت طعاما مجهولا، قبل أن تنضم إلى المطبخ السعودي، وتمسي وجبة شهيرة تعرفها أسواق الطعام والمطاعم العربية.

إنها (قوة الماك) الناعمة، نسبة لاسم مطعم وجبات الهمبرغر الأشهر في العالم (ماكدونالدز) والذي يختصر سطوة الثقافة الأميركية وقدرتها على التأثير، عبر واجهات وقنوات كثيرة، منها سينما هوليوود، وبناطيل الجينز، والأطعمة الصينية والمكسيكية والبيتزا، ونحو ذلك من أطعمة لم يكن العالم يعرفها قبل أن (تتأمرك) وتصله عبر منصات وشركات أميركية.

عند الحديث عن ثقافة التسامح والانفتاح، ينبغي الإقرار بأن هذا النموذج إماراتي، بامتياز. فقد خبرت دولة الإمارات العربية المتحدة، الانفتاح، وعززت التسامح، وحصّنت المجتمع الإماراتي من مخاطر جمة، ورسخت حضور الدولة الإماراتية في الإقليم والعالم، في حين أقصت الثقافة السكونية المتمثلة بـ(الانغلاق والكراهية) دولا أخرى، انحسرت عنها الأضواء في المشهد الدولي، وحتى الإقليمي، فكادت تمسي وكأنها أثر بعد عين.

يتمثل النموذج السعودي باستعادة المجتمع لحقيقته المغيبة، عندما استجاب الشعب السعودي الكريم لدعوة القائد (الثائر) وسارع بالانعتاق من أسر صورته النمطية. فهذا النموذج التنويري الفذ، ينبغي تصديره إلى مجتمعات أخرى فقدت وعيها وغابت عن روح العصر. ذلك أن الانفتاح والتسامح حالة ليست جديدة على المجتمع السعودي (والعربي عموما)، وقد أشار إلى ذلك سمو ولي العهد بقوله (السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 1979).

ففي تلك السنة بدأت المنطقة بالغرق، تدريجيا، في الطوفان الأفغاني نتيجة الغزو الروسي لأفغانستان، ورواج أسواق (الجهاد) وزاد الطين بلّة وصول ملالي إيران (الشيعة) إلى سدة الحكم في طهران، وشروعهم بالتدخل في شؤون دول المنطقة، تحت شعار أهوج عرف بـ(تصدير الثورة) الأمر الذي جعلنا نحن في الضفة الغربية من الخليج، نحدثهم بلغتهم الدينية، عبر الصحوة (السنية) فإذا كان عدوك يهاجمك بسلاح الدين فما المانع أن تهاجمه بالسلاح ذاته؟ و(قابل صياح بصياح تسلم) حسب المقولة الشعبية.

غير أن المزايدة الدينية دوّامة جهنمية، ابتدعها جمال عبدالناصر عندما حبس (جماعة الإخوان المسلمين) وأطلق سراح أفكارهم في التعليم والإعلام (برنامج نور على نور) حتى جاء من بعده من فتح أبواب الدولة المصرية على مصراعيها لتلك الأفكار. فغرقت (المحروسة) في بحر شركات توظيف الأموال الإسلامية، ومصارف المرابحة، وموائد الرحمن. وكانت النتيجة تغلغل أفكار سيد قطب (التكفيرية) في عقول الناس، وانتشرت مظاهر (التدين الشكلي) في المجتمع المصري الذي شهد أحداثا إرهابية قاسية على أيدي جماعات الإسلام السياسي.

ما كان الرهان على الصحوة رهانا جيدا أو آمنا، فالمزايدة على إيران تعني أن (تتأيرن) أكثر منها، وذلك انتحار أكيد مؤكد، خاصة ونحن نرصد سوء المآلات في الدولة الدينية، والاختناقات المتكررة التي عانى منها نظام الملالي. فالمسلم العاقل الذي (يتقي النار بشق تمرة) حسب الحديث الشريف، يدرك أنه ليس بحاجة لرجل (دين) يمنحه مفتاح الجنة في الآخرة، بل هو يحتاج رجل (دولة) يمنحه الفرصة لتسلم مفتاح منزله الجديد في هذه الحياة الدنيا.

أعود إلى التحولات الكبرى في السعودية وأشير إلى أن استعادة الوجه الحقيقي للمجتمع السعودي، نموذج قابل للتصدير، فقد لا يمضي وقت طويل حتى تغار المجتمعات الأخرى، وتشعر بالحنين إلى ماضيها الاجتماعي والذهني الطبيعي (ما قبل الصحوة) وما قبل المسير عكس التاريخ، فتعود بيروت إلى إشراقتها، وبغداد إلى رصانتها، والشام إلى شامها، والكويت إلى حيويتها، والقاهرة إلى مهابتها. ومن يدري فقد تعود طهران، معهم، إلى زهوها القديم.

منذ منتصف القرن التاسع عشر والسياسة تعبث بالمجتمعات الشرقوسطية، لهذا يأمل المرء أن يفتح النموذج السعودي الباب لتحولات اجتماعية وفكرية تحتاجها هذه المجتمعات أكثر من حاجتها للتغيير السياسي، فتنتشر عدوى النور، وينحسر الظلام، وتعود الحياة في الشرق الأوسط إلى طبيعتها، وبذلك نكون قد شيدنا أول وأثبت مداميك (أوروبا الجديدة في الشرق الأوسط) أو (اللحظة القادمة في العالم) حسب تعابير ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان.

تاريخ الخبر: 2023-03-24 21:19:24
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 82%
الأهمية: 86%

آخر الأخبار حول العالم

زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بالبرد في هذه المناطق اليوم السبت

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 15:26:09
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 50%

زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بالبرد في هذه المناطق اليوم السبت

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 15:26:05
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية