الرئيس الصيني شي جينبينغ في روسيا، يوقّع اتفاقات اقتصاديّة كبيرة الحجم. يعلن التحالف ضد الغرب، لكن دون التطرّق إلى المساعدات العسكريّة بشكل علنيّ. يُذكّره عرضاً الرئيس الروسي بوتين خلال كلمته باحتمال تزويد بريطانيا لأوكرانيا بقذائف للدبابات «تشالنجر» تحتوي على يورانيوم مُنضّب (DU)، متوعداً بالردّ بالمثل. مرّ خبر اليورانيوم كما تحذير الرئيس بوتين للغرب خلال كلمة الرئيس شي مرور الكرام. فمسألة اليورانيوم المُخصّب مسألة تكتيكيّة لا يأتي حلّها علناً وخلال لقاء قمّة، من المفترض أن يكون منبراً لإعلان بدء تشكّل نظام عالميّ جديد متعدّد الأقطاب لا تسيطر عليه أميركا. فالرئيس الصيني موجود جسديّاً في الكرملين، لكن فكره يذهب باتجاه البيت الأبيض.
وفي الوقت نفسه، عالم آخر موازٍ للأول يتظهّر من خلال زيارة رئيس وزراء اليابان إلى كييف. فالكلّ يأتي من الشرق إلى الغرب المُلتهب على عكس العادة. يريد رئيس الوزراء الياباني الاصطفاف مع الغرب ضد منافسه الأخطر في الشرق. في المقابل يريد الرئيس الصيني ضرب مشروع الاحتواء الغربيّ للصين بدءاً من الغرب. ترتّب اليابان محيطها مع كوريا الجنوبيّة بعد غسل الذاكرة التاريخية تحت شعار «نسامح ولا ننسى». وتستعدّ للسيناريو الأسوأ مع الصين كما مع كوريا الشماليّة. فتزيد موازنة الدفاع، وتشتري صواريخ «الكروز» الأميركيّة البعيدة المدى. وقد تنتقل مع حليفتها كوريا الجنوبيّة إلى مصاف الدول التي تمتلك أسلحة نوويّة بسرعة فائقة، وخاصة أنهما تملكان القاعدة العلميّة والتقنيّة لذلك. تريد اليابان أن تخلق ردعاً مزدوجاً للصين، وذلك عبر التحالفات، ومعاهدات الدفاع المشتركة مع الولايات المتحدة الأميركيّة من جهة. كما تريد تكبير حجم الردع عبر القوّة الصلبة لجيشها من جهة أخرى. وقد يُضاف السلاح النوويّ إلى معادلة الردع اليابانيّة.
إذا رضيت اليابان بقيادة الصين لمنطقة شرق آسيا؛ فهي ستكون لاعباً ثانويّاً (جونيور)، لكنها إذا اختارت الغرب؛ فهي ستكون لاعباً أساسيّاً مُقرّراً، إن كان من ضمن مجموعة الـ«كواد» (Quad)، أو من ضمن التعاون مع حلف «الأوكس» (Aukus)، لكن العقل الياباني، والذاكرة التاريخيّة، كما الثقافة الاستراتيجيّة، لا تسمح لليابان أن تكون جُرماً يدور في فلك الصين. من هنا خيار الردّ بالمثل.
فالصراع على مناطق النفوذ بينها وبين الصين سيكون في البحر وعلى الجزر، كما على خطوط المواصلات الحيويّة للبلدين والتي تبدأ من بحر اليابان، إلى بحر الصين الشرقيّ، ومن ثمّ إلى بحر جنوب الصين، وحتى الممرات البحريّة من مضيق مالاكا وحتى هرمز. فموقعها الجغرافيّ إلى جانب جزيرة تايوان، وغيرها من الدول التي بدأت تصطفّ إلى جانب أميركا، يخوّلها إحكام الطوق حول الصين بهدف احتوائها. لا تتمتّع اليابان بعمقّ برّي متواصل مع القارة الآسيوية، وذلك بعكس الصين، الدولة البحريّة والبريّة بنفس الوقت.
فاليابان في أوكرانيا وليس روسيا؛ لأنها على خلاف حدوديّ مع روسيا منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية (جزر الكوريل). يُضاف إليه خطر الحلف المستجدّ بين الصين وروسيا، إلى جانب المناورات البحريّة المشتركة بين البلدين في بحر اليابان.
* أوراسيا
من خلال المؤشرات التي تظهّرت بعد زيارة الرئيس الصيني لروسيا، تتبيّن الأمور الجيوسياسيّة المهمّة، ومنها:
- تسعى الصين إلى عدم انهزام الرئيس بوتين بالكامل كي لا يربح الغرب، أو يحدث ما ليس بالحسبان كاستعمال السلاح النوويّ. وهي في نفس الوقت غير قادرة على مساعدته كي يربح هذه الحرب المعقّدة. فإذا ربح الحرب قد يصبح عصيّاً على الإرادة الصينيّة، فيكون لاعباً مستقلاً منفرداً عن الصين في نظام عالميّ ثلاثيّ الأقطاب بالحدّ الأدنى. فالغرب بالنسبة إليها؛ أي الصين، لا يزال حيويّاً في عدّة مجالات.
- إذاً، استمرار الحرب الأوكرانيّة يعني استنزاف الغرب للغرب، كما الانشغال الأميركيّ الكلّي في أوروبا. وهذا أمر يريح الصين في المسألة التايوانيّة.
- وفي حال السيناريو الأسوأ؛ أي الحرب على تايوان، ستكون الحرب حتماً وبمجملها حرباً بحريّة. وهذا أمر سيقطع خطوط المواصلات واللوجستيّة الحيويّة عبر البحار والمحيطات للصين.
- وبذلك، لن يتبقّى لها سوى العمق الجغرافي الاستراتيجيّ البرّي عبر روسيا، لتضمن الصين أمن الطاقة كما الأمن الغذائي، وحتى الكثير من السلاح في حال الحرب على تايوان. إذاً، في هذه الحال، سيكون المسرح الأوراسيّ مسرحاً أساسيّاً كبديل لمسرح الإندو - باسفيك الذي تعدّه أميركا للصراع في القرن الـ21، حيث الغلبة فيه لها حتى الآن.
