صراع أجداد محمد السادس مع أجداد الهمَّة


كثيرون يشبهون الرحامنة مع العهد الجديد بمثابة مدينة سطات على عهد الحسن الثاني، وبما أنها مدينة فؤاد عالي الهمة، صديق الملك والرجل القوي في المملكة، فإنها حظيت باهتمام خاص، سواء عندما نزل الهمّة إلى العراك الحزبي أو بعد أن عاد إلى الديوان الملك، بحيث احتضنت اليوم أكبر مدينة خضراء في المملكة وأرقى جامعة بها.

وللرحامنة مع الملوك العلويين قصص مثيرة تستحق أن تروى، كانوا فيها عموما متمردين معتزين بأنفسهم ثائرين على السلطة المركزي. وهذه هي حكاية أجداد فؤاد مع أجداد محمد السادس.

تاريخ الرحامنة الذين عزلوا مولاي اليزيد وبايعوا مولاي هشام وسحقهم محمد بن عبد الرحمان

 

تقول الدراسات الإثنية إن قبيلة الرحامنة تنتمي نسبا إلى عرب بني معقل، هذه القبيلة التي استوطنت بداية صعيد مصر قبل أن تنزح هي والقبيلة العربية الأخرى «بنو هلال» إلى شمال إفريقيا، ومازال الصعيد المصري يضم قبيلة الرحامنة المعروفة هناك والتي تنتمي إلى نفس جد رحامنة المغرب، الذين أتى بهم من تونس بعد تغريبهم من مصر، السلطان المنصور الموحدي، الذي أدخل كثيرا من العرب إلى المغرب، ولا ندري إن كانت من حسناته أو من سيئاته، ولعله في ذاك الزمن البعيد كان جلب العرب إلى المناطق غير العربية أمرا مستحبا ومستحسنا، وإذا كان المنصور الموحدي قد جلب الرحامنة إلى المغرب فإن أحمد المنصور السعدي كان وراء انتشارهم بعد غزو هذا السلطان السعدي للسودان الذي سُمِّي آنذاك بالسودان المغربي الذي يمتد من نهر السينغال إلى «تمبكتو» بمالي، وهكذا انتشر الرحامنة في الصحراء الغربية و»تمبكتو» وموريتانيا وبلاد «النيجر».

 

ومن أكبر القبائل الرحمانية بالصحراء قبيلة «البرابيش»، ويذكر التاريخ للرحامنة أنهم ساعدوا الدولة السعدية في مواجهة الغزو الأجنبي للسواحل المغربية الجنوبية، لذلك لن نستغرب في وجود قبائل صحراوية في منطقة الرحامنة اليوم كـ «الرقيبات» و»اولاد تدرارين» وغيرهم، والذي يشرح هذه الهجرات الكبيرة والطويلة التي عاشتها هذه القبيلة، هذه الهجرات التي لم تكن قراراً أو رغبة، فهجرة الرحامنة من مصر إلى المغرب كانت نتيجة لهزيمة القبيلة الأصل «بني معقل» أمام قبيلة عربية أخرى تسمى «بني سُليم»، ورغم أن التحالف الذي جمع بين بني معقل و»بني هلال» كان الانتصار الساحق لبني «سليم» ومن ثم تجد أن النسبة الغالبة من العرب التي نزحت إلى شمال إفريقيا تنتسب إلى هاتين القبيلتين، أي «بني هلال» و»بني معقل» الذين كانوا لكثرة حروبهم وعصيانهم ومشاكستهم ينعتون بأجلاف العرب، ومن هنا نقف على أن هجرتهم كانت هجرة مهزومين لا هجرة منتصرين، ومن هنا كذلك يمكن أن نفهم أن التاريخ الطويل لحروب العصيان التي خاضتها قبيلة الرحامنة لم يكن سوى محاولات متكررة للثأر من الهزيمة القديمة أمام «بني سُليم»، هذه القبيلة العربية التي ينذر أن تجد لها امتدادا في المغرب هذه الهزيمة العربية- العربية، لم تكن فقط وراء نزوح الرحامنة من مصر إلى المغرب، بل كانت كذلك ذلك المغذي الأبدي لعصيان الرحامنة على مر العصور.

 

ولا غرابة، فقبيلة الرحامنة دوخت كثيراً من سلاطين المغرب، ولعل أحمد المنصور الذهبي السلطان السعدي لم يأمر بإجلاء العرب بالصحراء، وأكثرهم رحامنة، إلا لأنه ضاق ذرعا بعصيانهم وتمردهم المستمر، وهل غاب عن المنصور الذهبي، هذا السلطان العبقري، أن العرب تحركهم الهزائم أكثر مما تحركهم الانتصارات،  ولعلك وقفت على الكم الهائل من القصائد الشعرية والكتابات النثرية التي قيلت في سقوط الأندلس أو سقوط باقي عواصم الخلافة، في حين أن ضم بلاد الأندلس أو إقامة عاصمة خلافة في دمشق أو بغداد أو حتى بـ»إسطنبول» لم تثر قريحة شاعر أو عبقرية ناثر، ولعل الهزائم لم تتخلَّ عنّا إلا لشغفنا الأبدي بالهزائم، وقبيلة الرحامنة ليست عن هذا ببعيدة.

 

ويجملُ بنا أن نعرف ما قاله الكاتب «غستون دوفردان» «Gaston Deverdun» في كتابه الشيق الآسر بعنوان

«Marrakech des origines à 1912» والذي ارتأى المترجمان «محمد الزكراوي» و»خالد المعزوزي» تعريب عنوانه بـ «تاريخ مراكش من التأسيس إلى الحماية»، وهي ترجمة نابهة لغة واختياراً، فهذا المدرس الباحث الفرنسي الذي قام فعلا بعمل جبار جدا، يجعلك تقف على يتم مدينة مراكش اليوم بكل البهرجة الخارجية والمستوطنات السياحية، والاستعمار الروحي الأنيق لهذه المدينة، والذي قرأ هذين المجلدين لـ «دوفيردان» عن مراكش سيقف على مدى التدمير الروحي الذي تعرضت له هذه المدينة ومازالت وكأننا في سباق مع الزمن لتسليم مدينة «مراكش» للمجهول، وحتى لا يجنح بنا الكلام نعود إلى ما قاله «دوفيردان» عن بلاد الرحامنة بعدما عرفنا باقتصاد شديد أصولهم وهجراتهم، يقول «دوفيردان»: «بلاد الرحامنة مسطحة جلت عنها التعرية قشرتها الرسوبية دون أن تبالغ في تشريحها، وليس في هذه الأراضي القاحلة نهر دائم وأمطارها أقل ما يتساقط بالمغرب أجمع…» إلى أن يقول: «كل شيء في بلاد الرحامنة يكشف عن أصلها العربي: النمط واللباس واللغة ولاسيما العادات.

 

إذن يقابل الجبل البربري السهل الأعرابي، وهو مجال الرعاة، والرحامنة من أجودهم ولم يشتغلوا بفلح الأرض إلا مكرهين»، ربما قد غاب عن السيد «دوفردان» صاحب هذا الكتاب الشيق عن «مراكش»، أقول غاب عنه أن من يضطر للهجرة بعد حرب خاسرة، يظل أمينا للتمرد على كل شيء من السلطة إلى الأرض، والتمرد على الأرض هو رفض الاستقرار، والفلاحة تمسك بالأرض واستقرار، والرعي هجرة دائمة، فإذا كان «دوفيردان» يقول عن الرحامنة إنهم من أجود الرعاة فهم كذلك من كبار المهاجرين، ويستمر «دوفيردان» في وصفه لبلاد الرحامنة ليقول: بلاد الرحامنة، بلد البراري، يخال المرء فيه (لاسيما في الصيف) أنه في الصحراء.

 

لكن على قدر ما تجد الدواوير مستقرة ثابتة يحيط بها حاجز من شوك السدر اليابس، تجد أخرى ظاعنة غير مستقرة، وكثير من هذه العمائر المكونة من نوالات تقليدية متصل بماء من المياه وبصهريج يحدق به الصبار، أو بمجرى واد صغير كان في القديم يسَكَّر لتحويل مياه الأمطار إلى الأراضي الدائمة الجفاف، بلاد الرحامنة اليوم ليست ببعيدة عن توصيف «دوفيردان» رغم الفارق الزمني ورغم ما أحدثوه في بلاد الرحامنة من شبهة التمدُّن، ويقولون إنهم سيحدثون في بلاد الرحامنة أكبر مدينة خضراء في المغرب وربما بإفريقيا، وعود رائعة تذكرني بوعود «سطاتية» سابقة.

 

 

عموما «دوفيردان» في كتابه المتفرد يبدو وكأنه سمع تساؤلنا فكتب عن طموحات الرحامنة آنذاك، بأسلوب المتمكن من بحثه ومن مادَّته فيقول: والرحامنة أنفسهم لا يرجون من بلادهم سوى منتوجات الرعي كالزبدة واللحم والصوف والجلود، إلا أن فائدة أخلاف عشائر الرحل هؤلاء أنهم أكسبوا هذه البراري الحديثة قيمة اقتصادية ولولاهم لظلت عديمة الإنتاج وأنهم أحسن زبناء المدينة، ولما يقول «دوفيردان» الأستاذ الباحث إن الرحامنة أحسن زبناء المدينة، فلأنهم كانوا يذهبون إلى مدينة «مراكش» للتبضع واقتناء ما يحتاجونه ويعودون بسرعة إلى مضاربهم في البراري، ومن ثم فالرحامنة لم يساهموا في ترييف مدينة «مراكش»، أو لنقل لا ذنب لهم في «La Ruralisation» لمدينة مراكش أما ترييف الأحزاب والرحامنة فنتركه لخبير في الترييف الحزبي، أما التمدن فنترك سؤاله حتى تتخرج أول دفعة من الجامعة العالمية المزمع إنشاؤها بـ «بنجرير».

 

وكما أسلفنا ظل الرحامنة متمردين على السلاطين السعديين منهم والعلويين، وما تحسنت أخلاقهم إلا مع السلطان العلوي المولى سليمان الذي كانوا يعتبرونه طالع يُمن وبركات، ولعل ذلك هو ما جعل كثيرا من الأسر في قبيلة الرحامنة تطلق على أبنائها اسم «سليمان» تيمنا باسم هذا السلطان العلوي الذي سالمهم، ولا نقول سالموه، بدعوى أن قبيلة الرحامنة ثارت أو تمردت على سلاطين قبله وسلاطين بعده، ومن ثم فالمسالمة جاءت من السلطان لا من القبيلة، يقول صاحب الاستقصا: لما قدمت قبائل الحوز على السلطان المولى يزيد بمكناسة ظهر لهم منه بعض التجافي وأنزلهم في العطاء دون البربر والودايا وغيرهم، فساءت ظنونهم به وانفسدت قلوبهم عليه ولما رجعوا إلى بلادهم تمشت رجلاتهم بعضها إلى بعض، وخبّ الرحامنة في ذلك ووضعوا، واتفقت كلمتهم مع أهل مراكش وعبدة وسائر قبائل الحوز فقدموا المولى هشام بن محمد للقيام بأمرهم وأتوه ببيعتهم وطاعتهم.

 

ولما يقول الناصري في استقصائه «خبَّ الرحامنة في ذلك ووضعوا» كان يعني أن قبيلة الرحامنة هي التي تزعمت هذا التمرد على السلطان العلوي المولى «يزيد»، فقالت قبيلة الرحامنة وهي تتزعم تمرد القبائل العربية كيف للسلطان أن يقدم علينا البرابر والودايا ونحن عرب أصحاب شوكة وعصبية، وأسقطوا بيعة المولى يزيد وبايعوا المولى هشام بن محمد، وأطاعته قبائل الحوز كلها، ولم تلبث قبيلة الرحامنة إلا قليلا حتى ثارت على من بايعته بالأمس، أي المولى هشام، وخلعت بيعته لأنها اتهمته بقتل قائدهم «عبد الله الرحماني»، ولم تقبل الرحامنة أن الذي قتل قائدهم هو فرقة منحرفة من قبيلة الرحامنة نفسها، كما شهد بذلك السلطان العلوي المولى سليمان الذي سالم قبيلة الرحامنة كما أسلفنا، لكن شهادة هذا السلطان الذي سيأتي بعد هذه الأحداث لم تنفع في شيء، وهكذا يقول صاحب الاستقصا: «لما قتل القائد عبد الله، خلعت الرحامنة طاعة المولى «هشام» وبايعت أخاه حسين بن محمد، وزحفوا به إلى مراكش فلم يرع المولى هشام إلا طبولهم تقرع حول القصبة وأرهفوه وأعجلوه عن ركوب فرسه، فخرج يسعى على قدميه إلى أن أتى ضريح الشيخ أبي العباس السبتي، فعاد به وثابت إليه نفسه وبعد أيام تسلل وسار في جماعة من حاشيته إلى «آسفي» ونزل على وزيره القائد «عبد الرحمان بناصر» فأكرم مثواه وأحسن نزْله، وغدا وراح في طاعته ومرضاته.

 

ودخل المولى حسين قصر الخلافة بمراكش، فاستولى على ما فيه من الذخيرة والأثاث من متاع المولى هشام ومتخلف المولى يزيد، فاضطر أهل مراكش حينئذ إلى مبايعة المولى حسين والخطبة به». ولعلك واقف بعد الذي قرأت على أن تمرد قبيلة الرحامنة لا يمكن أن توقفه حتى شهادة سلطانية، ونعني بها شهادة المولي سليمان التي تقول إن فئة منحرفة من قبيلة الرحامنة هي التي قتلت القائد الرحماني رغم أن المولى سليمان عرف عنه قبل توليه الحكم وأثناء توليته التقوى والورع والزهد في الحكم، لكن شهادته لم تكن لتثني قبيلة الرحامنة عن خلع من بايعت، أي المولى هشام. والشيء الثاني الذي يمكن أن نقف عليه هو أن المولى هشام كان يدرك أن قبيلة الرحامنة ستحترم الولي الصالح «أبو العباس السبتي» أكثر مما ستحترم سلطانا بايعته بالأمس، ومن كثرة احترام ضريح أبي العباس السبتي لم تطوقه ولا حاصرته قبيلة الرحامنة، بل تركت للمولى هشام متسعا للهروب إلى آسفي، ولك أن تعجب من موتى ينقذون أحياء من درجة سلاطين..!! وهكذا أصبحت قبائل «عبدة» و»احمر» و»دكالة» مع المولى هشام والرحامنة وسائر قبائل الحوز المراكشي مع المولى حسين، واتقدت نار الفتنة بين هذه القبائل وتفانوا في الحروب إلى أن بلغ عدد القتلى بينهم أكثر من عشرين ألفا كما يؤكد صاحب «الاستقصا».

 

وبرغم كل هذا التطاحن والقتال تنازلت قبيلة الرحامنة عن بيعة المولى حسين كما تنازلت «عبدة» و»احمر» و»دكالة» عن بيعة المولى هشام، وبعثوا للمولى سليمان ليبايعوه، وهو الهارب من بؤرة التمرد هذه ويراقب من بعيد حروب المتمردين لعلهم يكتفون بمن قتل منهم وبأعداد هائلة، فعشرون ألف (20 ألف) قتيل عدد مهول بحساب ذاك الزمن، وهكذا استطاعت قبيلة الرحامنة المتمردة أن تبايع وتخلع في ظرف وجيز اثنين من السلاطين أو على الأقل مشروع سلطانين،

 

يقول الناصري: «هذا كله والسلطان المولى سليمان مقيم بـ «فاس» معرض عن الحوز ومتربص بأهله الدوائر إلى أن ملّوا الحرب وملتهم، وكان ذلك من سعادته فصاروا يتسللون إليه إرسالا ويسألونه الذهاب إلى بلادهم ليعطوه صفقة بيعتهم، فكان بعدهم يقول «إذا فرغت من أمر الشاوية قدمت عليكم إن شاء الله» وربما صدق رهان السلطان العلوي المولى سليمان، الذي راهن على أن قبيلة الرحامنة المتمردة سيصيبها الملل من الحروب والتمرد ومن ثم ستكون سهلة الانقياد داخلة عن اقتناع في الطاعة ومخلصة في بيعتها له، وقد صدق فعلا، فقد هادنته قبيلة الرحامنة في مدته فقط، وهي استراحة من التمرد لا اقتناعا بالتخلي عنه، وهو ما أثبتته المراحل اللاحقة، حيث عادت قبيلة الرحامنة إلى تمردها القديم على السلاطين والذي كان فيه للسلاطين العلويين النصيب الأوفر من تمرد هذه القبيلة، ومن ثم ندرك أن السلطان المولى «سليمان» عاش فقط هدنة مع قبيلة الرحامنة التي طاوعته لتلتقط أنفاس التمرد فقط، وهكذا استيقظ تمرد قبيلة الرحامنة بعد استراحة يصعب أن نجزم بأنها كانت اختيارية أو إجبارية، وهكذا وبعد هدنة في عهد المولى سليمان والمولى عبد الرحمان.

 

ولما كان السلطان محمد بن عبد الرحمان مشغولا بحربه مع الإسبان لاسترجاع مدينة تطوان، ثار عرب الرحامنة بالحوز كعادتهم كما يقول صاحب «الاستقصا» وعمدوا إلى سوق «باب الخميس» بمراكش، فأغاروا عليه وانتهبوه وسلبوا المارة وأرباب الجنات، وضايقوا أهل مراكش حتى منعوهم من الارتفاق حول المدينة فانقطعت السبل وارتفعت الأسعار، وقطع الرحامنة ما حول الأسوار من الأشجار واحتطبوها وحصدوا الزروع في الفدن واغتصبوها، واشتد الحصار، وتخاذلت الأنصار! وهذا تصوير دقيق لما خضعت له مدينة مراكش من طرف قبيلة الرحامنة المتمردة من نهب وسلب وتخريب، فالتهجير القديم مازال محركا والهزيمة القديمة مازال يثأر لها، وعاشت مدينة مراكش تحت رحمة هذا النهب والسلب الرحماني حتى عاد السلطان العلوي «محمد بن عبد الرحمان» من «تطوان» متوجها إلى مدينة مراكش، فلما أصبح قريبا منها أجمعت قبيلة الرحامنة على حربه، فانحازوا إلى ناحية الرميلة والأودية وزاوية «بن ساسي»، وهي زاوية كبيرة ببلاد الرحامنة على ضفة وادي تانسيفت والتي يوجد بها ضريح «أبي محمد عبد الله بن ساسي السباعي»، وهكذا تحصنت قبيلة الرحامنة بهذه المناطق حتى يحولوا بين السلطان محمد بن عبد الرحمان وبين دخوله إلى مراكش، فهجم عليهم السلطان وأوقع بهم وقعة شنيعة، وساقهم إلى مراكش مربوطين بالحبال حتى ضاقت بهم السجون، وكما يقول صاحب «الاستقصا» «ولولا أن السلطان محمد بن عبد الرحمان كفّ أيدي الجيش عن الرحامنة لاستأصلوهم.

 

ثم عفا عنهم بعد أن انتزع منهم بلاد آيت «سعادة» و»غواطم» و»الاوداية» وهي من أخصب البلاد وأزكاها، حتى إن بعض فقهاء مراكش بعد هجمة قبيلة الرحامنة على هذه المدينة وسلبها ونهبها وطرد أهلها، كانوا يقولون: إن الرحامنة إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون».

 

وهو تحوير لآية: «إن الملوك إذا دخلوا………» على اعتبار أن هذه الآية أصبحت تصحُّ وتصدق على الرحامنة لا على الملوك والسلاطين الذين كانوا أرحم وأسلم..!! بعد هذا التقتيل والتتريك لم تزدد قبيلة الرحامنة إلا تمرداً وعصيانا أو ثورة إن شئنا، وبعد هذه الوقعة التي تعرضت لها قبيلة الرحامنة كتب السلطان «محمد بن عبد الرحمان» إلى أخيه المولى الرشيد مبتدئا بالبيت المشهور:

 

ومنْ تكُنْ برسُول اللَّه نُصْرتُ

إنْ تلْقَه الأسْد في آجامها تجِم

 

ولأهمية هذه الرسالة السلطانية نوردها بالنص:

«الحمد لله الذي تدارك الأمة باللطيف الكفيل بتمهيد أقطارها وتيسير أوطارها.

أخانا الأعز الأرضى مولاي الرشيد أصلحك الله وأعانك وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد.

فإنه لما تواترت الأنباء المحققة بعد التباسها وتواردت الأخبار التي يغني نصها عن قياسها بما ارتكب ظالمو أنفسهم الرحامنة من أنواع الفساد التي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها، وقد كانت في صدورهم كامنة، صرفنا الوجهة إليهم، وطوينا المراحل من أجلهم.

ولما حللنا ببلادهم، وأرسلنا ع

ليهم سيل العرم من العساكر المنصورة، والجيوش الموفورة، فما كان غير بعيد حتى أتوا برؤوس منهم كثيرة محمولة على أسنة الرماح وأسارى من مقاتليهم مجردين من الثياب والسلاح ومن نجا منهم رجع مجردا من خيبة سعيه وما سقي إلا بكأس بغيه. واستولت العساكر والأجناد على جميع ما كان عند أهل الفساد، ومن المعلوم أن من سل سيف البغي يعود إلى نحره، و من ركب متن الشقاق يغرق في بحره، وأن الفتنة تحرق من أوقدها والمخالفة صفقة تعود بالخسارة على من عقدها.

 

ولما أردنا معاودتهم لقطع دابرهم وتشتيت ما بقي من رماد أثرهم، تعلقوا بالمرابطين من ذوي الوجهات، وأكثروا من الذبائح على المحال وتوجيه العارات، وقاموا بواجب السمع والطاعة في كل ما أمرناهم به جهد الاستطاعة، فأبقينا عليهم وإن عادت العقرب عدنا بحول الله لها وكانت النعل لها حاضرة فالحمد لله الذي خيب آمالهم وأبطل أعمالهم وخذل أنصارهم، وأركد إعصارهم لما أعمى أبصارهم، وردهم ناكصين على الأعقاب بعد سلب الأموال وقطع الرقاب «ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب» ونعوذ بالله من الآراء المعكوسة والحظوظ المنكوسة، وسوء الفعل الذي يورد المهالك، والحرمان الذي يجعل البصير كالأعمى في دجنة الليل الحالك.

 

هذا ويصلكم ما قطع من رؤوس قتلاهم لتعلق بباب المدينة، ويعتبر بها المعتبرون، ويتذكر بها المتذكرون والله أسأل ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأن يكون لنا وللمسلمين بما كان لأوليائه وأحبائه وأصفيائه، وأن يوفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه ويختم للجميع بخير، والسلام».

 

بعد هذه الرسالة السلطانية الغاضبة الحانقة، وبعد تعليق رؤوس قتلى قبيلة الرحامنة على أبواب المدينة، وبعد الذبائح والعارات التي قدمتها قبيلة الرحامنة للسلطان محمد بن عبد الرحمان، وبعد تتريك قبيلة الرحامنة ونزع الأراضي الخصبة منها والاستيلاد على مواشيها، وأسر العديد من مقاتليها، وبعد تاريخ طويل عريض من العصيان والتمرد والثورة، فهل ستكون هذه هي نهاية تمرد هذه القبيلة التي بايعت سلاطين وخلعت سلاطين، وثارت في وجه سلاطين، وظلت مدينة مراكش تحت رحمة تمردهم، فمراكش تزدهر إن دخلت قبيلة الرحامنة في الطاعة وتعيش مراكش أبشع أنواع النهب والتخريب إن تمردت قبيلة الرحامنة، فهل بعد هذه الوقعة الدموية  الشاملة التي أوقعها بهم السلطان العلوي «محمد بن عبد الرحمان» تستطيع مرة أخرى قبيلة الرحامنة العودة إلى تمردها القديم؟ لا أحد كان يتوقع أن تعود قبيلة الرحامنة إلى سابق عهدها في التمرد لأن الضربة التي تلقتها كانت قاضية باعتراف السلطان نفسه، لكن العكس هو الذي حصل، فقبيلة الرحامنة عادت مرة أخرى إلى تمردها أو ثورتها على «المولى الحسن»، هذا السلطان العلوي الذي أمر بتقسيم قبيلة الرحامنة إلى تسع إيالات بعدما كانت قبيلة الرحامنة في إيالتين اثنتين، فالسلطان العلوي المولى الحسن كان ينشد من وراء تشتيت قبيلة الرحامنة في ربوع مملكته الحد من تمرد هذه القبيلة التي دوخت أجداده السلاطين، وأن تشتيت قبيلة الرحامنة بهذا السخاء والكرم في ربوع المملكة المغربية كفيل بإسكاتهم إلى الأبد، وترتاح منهم مراكش وحوزها، كل هذا لم يستطع إخماد تمرد قبيلة الرحامنة، لتعود مرة أخرى لتثور على المولى عبد العزيز، ليتم اعتقال أقوى رجل في قبيلة الرحامنة المسمى مبارك بن سليمان وأخيه سليمان (لاحظ شغف قبيلة الرحامنة باسم سليمان كما ذكرنا آنفا) وولد الفاطمي وطاف بهم العبيد بالمدن داخل أقفاص.

 

ويذكر المؤرخ بن زيدان في إتحافه أن الرحامنة كان ينعتها بعضهم بمساخيط السلطان، وبعد الثورة التي قامت بها قبيلة الرحامنة على المولى عبد العزيز السلطان العلوي فأمر باعتقال الثائر الغوات الدمناتي (لاحظ معنى الاسم) وكاتبه سالم الرحماني، هذا الكاتب المتمرد الرحماني أركبوه على جمل أعرج (ولا ندري لماذا أصروا على أن يكون هذا الجمل أعرج اللهم إذا كان المقصود هو أن المتمرد أو الثائر سالم الرحماني لا يستحق أن يعذّب فوق جمل سوي)، عموما طافوا بسالم الرحماني وسط المحلة السلطانية وهو عاري الرأس، ففي ذاك الزمن كانت تعرية الرأس من طرف الغير إهانة كبيرة، طافوا بالمتمرد أو الثائر الرحماني عاري الرأس والصفع يتوالى على قفاه، كما وثق ذلك المؤرخ بن زيدان في إتحافه، وبعد هذا الإنهاك التاريخي الذي تعرضت له قبيلة الرحامنة من تشتيت شملها وتفريق جمعها وقتل زعمائها وسلب أراضيها الخصبة رضخت في الأخير إلى حكم القائد العيادي بعدما خمدت ثوراتها السلطانية.  ولا ندري إذا كان رحامنة مصر يشاركون رحامنة المغرب في التمرد والثورة.

 

تاريخ الخبر: 2023-03-29 18:21:23
المصدر: الأيام 24 - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 63%
الأهمية: 85%

آخر الأخبار حول العالم

‎مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-16 12:26:22
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 70%

‎مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-16 12:26:26
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 61%

يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-16 12:26:31
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 50%

يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-16 12:26:27
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 54%

استمرار "الحرمان" من وصل الإيداع يشعل غضب حماة المال العام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-16 12:26:06
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية