فتاوى الورع الموسمي


في الأسبوع الأول من رمضان، استضافت القناة السعودية الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق، وهو صاحب قامة وقيمة دينية لا تحتاج إلى تعريف، وكان ذلك في برنامج (القصة باختصار)، وقد تكلم خلال الحوار عن أسئلة الفتاوى الرمضانية التي استقبلها وعجائبيتها، ومن بينها، الاعتقاد بأن ريق الفم يفطر باعتباره سائلاً، والقول بعدم جواز عقد الزاوج في نهار رمضان وإدخاله في مفسدات الصيام، مع أنه مجرد كلام ولا يشتمل على أفعال، وهذا يحدت رغم تقنين وتنظيم الفتوى في المملكة، وحصرها في هيئة كبار العلماء وفي هيئة البحوث العلمية والإفتاء، وكلاهما برئاسة المفتي العام، والشيخ عبدالله المطلق عضو فيها، ووفق إحصاءات 2018، فقــد نظرت الهيئة الأولــى فيما يزيد على 1070 موضوعاً، ووصل عدد الفتاوى الصـــادرة والمصادق عليها إلى 28 ألفاً و800 فتوى، وأتصور أن فتاوى فقه العبادات في رمضان كانت حاضرة أكثر من غيرها.

الفتاوى تنشط بشكل غير معقول في الشهر الكريم، وكأن الناس يعيدون اكتشاف دينهم، أو أنهم حديثو عهد بالإسلام، وأذكر أن أحدهم قال في استفسار متلفز، بعدم مسحه لرأســـه في الوضـــــوء طوال عشرة أعوام، فلم يكن يعلم أنه من أركان الوضوء، رغم وروده في القرآن الكريم بالنص، والهوس الاجتماعي باحتمالية الإفطار من أبسط الأشياء أمر محير فعلاً، وينطوي على مثالية مبالغ فيهـــا ويستحيل وجودها في المجتمعات الطبيعية، وحتى بعض فتاوى التحريم غير مفهومة، كعدم السماح بلعب الشطرنج إلا بعد قطع رؤوس التمـــــاثيل المستخدمة فيها، وحرمان المسلمين من بناء رجل الثلـج لأغراض التسلية والترفيه، والسبب ترويجها لأقكار غربية، وتحريم الأكل من البوفيه المفتوح، وتحريم العيش على كوكب المريخ لأنه قد يؤدي إلى الانتحار، وقصر القراءة على قصص الأنبياء والإصدارات الدينية، والامتناع عن قراءة الســـرديات الرومانسية، وكل ما يحتمل تناوله لأمــور غير سوية، ولا أدري عن مشروعية تداول كتاب من نوع (تحفة العروس) بين رجال الدين في الخليج وشمال إفريقيا.

مادة اعلانية

يوجد مفتون في المنطقة العربية معروفون بفتاواهم غير المألوفة طوال العام، كإرضاع زملاء العمل أو الكبير، والفتوى السابقة شخصية ولا تمثل مؤسسة دينية، مثلما يعتقد، وقد استندت لحالة واحدة وردت في السنة النبـــــوية، وفي ظروف مخصوصة، وصحتها محل شك، لأن سيرة الرسول الكريم (ص) كتبت بعد وفاته بنحو 120 عاماً، ونقلها تم بالمعنى لا بالنص الحرفي، وفي الفتوى يظهر قلق واضطراب صاحب الفتوى أمام المستجــدات الحيــاتية، فهو لا يستمزج الاختــــلاط في مكان العمل، ولكنه، وفي نفس الوقت، لا يستطيـــع رفض الواقع الاجتمــــاعي والاقتصـــــادي الــــــذي يعيشـــه، لأن لـديه بنات أو زوجات أو قريبات يعمــــلن ويخالطن الرجال منذ زمن، وبالتالي فتخريجة إرضاع الكبيـــر، رغم قدرتها الفائقة على الإضحاك، إلا أنها جاءت لإرضاء من أفتى قبل الآخرين، والفتوى، بحسب رأي جمهور العلماء، تكون للرجال والنساء معاً، ولا توجد تفرقة على أساس النوع الاجتماعي في هذه المسألة.

بخلاف أن المفتي صاحب الشعبية مقدم على المفتي العالم في الفضائيات العربية، ولأسباب تتعلق بزيادة أرقام المشاهدة والمكاسب الإعلانية، ما يجعل هذه الفضائيات شريكة في تسليع الفتاوى، وفي التعامل معها كمنتج تسويقي ومادة جاذبة للناس، وبعض الأشخاص يـــأخذ فتـواه من مفتين على منصــات السوشيــــال ميديــا، ومن دون أن يتأكد من مصادر معلوماتهم ودرجة تأهيلهم وقدرتهم على الإفتاء، وقد لا يعرف المذهب أو المذاهب التي استندوا إليها في إصدار فتاواهم، ومن بين أهل الفتوى الإلكترونية، في المجتمعات العربية، أشخاص لم يكملوا تعليمهـــــم الثانوي، ويتبعــــون الدليل السهل والجاهز ولو لم يناسب المستفتين، والفتوى الشخصية كالدواء قد تناسب شخصاً ولا تصلح لآخر، ولا تقبل التعميم، والفتاوى المأزومة التي تجتزئ الآيات والأحاديث وتنزلها في غير منازلها، تستحق الإلغاء ومعاقبة المتورطين فيها.

هذا الورع الموسمي الذي لا يستيقظ إلا في رمضان، حرك سواكن كثيرة، وهناك من يعتقد بأن الاستسلام للفتوى فيه تكريس لثقافة التلقين لا العقل، مع ملاحظة أن مجموعة من المستفتين يختارون أسئلتهم لمجرد المزاح وإحراج المفتي، وهؤلاء يجب الانتباه لهم، فالمفتي غير مطالب بالإجابة على كل سؤال، والفتوى نوعان، الأول جماعي يخاطب المجتمع بأكمله، ويصدر عن المؤسسات الشرعية والجماعات المتخصصة وهو ملزم، والثاني فردي وغير ملزم ويمكن تسميته بالرأي الشخصي، والمفروض تأييده بالدليل، وأن يحاسب صاحبه إذا تجاوز.

فتاوى المسلمين في شؤونهم العامة والخاصة تحتاج إلى ميثاق يضبط وينظم ممارساتها، وأن يتم الاتفاق عليه تحت مظلة منظمـــــة التعـــــاون الإسلامي، وبحيث تترك فيـــــه مســــاحات لخصوصيات الدول الثقافية والاجتماعية، وللاجتهادات الجماعية لا الفردية، ومن أهل العلم الشرعي الكبار، وفيما يخص الداخل السعودي، فإن الهيئات المعنية ليست حاضرة كما يجب، ولا تتفاعل بشكل فوري مع الناس على المنصات الاجتماعية، ولا زالت وظيفة تطبيق (اسألني) الإفتائي غامضة، أو غير مخدومة بصورة كافية.

* نقلا عن "الرياض"

تاريخ الخبر: 2023-04-09 15:20:12
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 79%
الأهمية: 85%

آخر الأخبار حول العالم

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية