محمد الباز يكتب: إمام التفكير.. «عم حسن» يقود نصر أبوزيد إلى «ابن عربى»

- جمع فى أعماله بين التجربة الروحية والأسس العقلانية ونشأته ساعدت فى ذلك

- «نصر» كان ممتلئًا بالمعنى الأكبر عند محيى الدين بن عربى وهو «دين الحب»

 

فى أحد حواراته التى لم يتوقف عنها بعد خروجه من مصر، سأله محاوره: كيف تستطيع أن تصف العلاقة بين نصر حامد أبوزيد والإسلام؟ 

بوضوح قال نصر إنه ابن الفضاء الإسلامى سواء فى نشأته فى القرية التى حفظ فيها القرآن، أو فى دراساته التى بدأت فى تتبع الفكر الدينى الإسلامى منذ نشأته. 

وأضاف: أنا ثقافيًا وفكريًا وحضاريًا أنتمى إلى هذا الفضاء الإسلامى، ودراساتى تأتى من داخل هذا الفضاء وليس من خارجه، وهذا لا يعنى أننى أرفض الدراسات التى من خارجه كدراسات المستشرقين، بالعكس فأنت تحتاج إلى دراسة من الداخل والخارج، لا يمكن أن تقول إن العلاقة بينى والإسلام هى علاقة طرفين، لأننى ابن هذا الفضاء. 

وفى ندوة الإسكندرية الشهيرة التى حضرها فى العام ٢٠٠٨، قال: أنا متصوف بالمعنى الحياتى، لا بالمعنى المعرفى، أى أننى مؤمن بأنه كلما استغنيت اغتنيت، أقلل احتياجاتى دائمًا، فتقل قدرة الآخرين على التحكم فىّ، تكفينى حجرة وكتاب ومكتب وقلم، ربما يرجع هذا لنشأتى الريفية والفقر واليتم، لكن الأهم أن التصوف منهج للحياة يجعل الإنسان مستقلًا. 

يمكنك ألا تصدق نصر فيما قاله، ربما بسبب حملات التشويه التى لا تزال تلاحقه حتى الآن، وربما لأنك عندما تقترب من كتاباته يصعب أن تتجاهل تعبيراته الحادة، وربما تقف عند ما يمكنك اعتباره تجاوزًا، فهو فى جميع كتاباته مثلًا لا يلحق اسم النبى محمد بـ«صلى الله عليه وسلم»، وحتى ما قاله تبريرًا لذلك وهو أنه يكتب بحثًا علميًا ولا يقدم موعظة دينية، لن يكون قادرًا على إقناعك. 

لكننا عندما نتأمل ما قدمه فى رسالتيه للماجستير والدكتوراه تحديدًا، سنتأكد أنه كان جادًا فيما قاله لأساتذته الذين أصروا على أن يتخصص فى الدراسات الإسلامية رغم رفضه الشديد خوفًا من مصير لا يرضيه كما حدث مع السابقين الذين سلكوا هذا الطريق. 

فعندما أخبروه بأنه ليس عليه إضافة جديد للدراسات الإسلامية، استنكر ما وجدهم عليه، وقرر أن يكون مختلفًا ومتفردًا.. وهو ما كان.

قالوا له: نحن لسنا الأزهر ولا دار العلوم، أنت ستتعامل مع القرآن من منطلق بلاغى ونقدى، ونوع النص الذى ستدرسه ليست له علاقة بما تخشاه، أنت ستدرس البلاغة والنحو واللغة.

لكنه قرر أمرًا آخر تمامًا، فقد دخل إلى الدراسات الإسلامية من باب «الدراسات القرآنية» واختار أن يأتى بما لم يأت به أحد ممن سبقوه، وأعتقد أن أحدًا ممن لحقوه حتى الآن لم يقترب منه. 

فى السنة التمهيدية للماجستير اختار أن يتخصص فى البلاغة، حتى يقابل أستاذًا تجديديًا، وقتها كان رئيس قسم اللغة العربية هو الدكتور حسين نصار، وصفه نصر بأنه كان وسطًا بين أهل التجديد وأهل التقليد، ولذلك ذهب إلى الدكتور عبدالعزيز الأهوانى ليكون أستاذه راضيًا به ومقتنعًا أنه سيستفيد من خبراته المنهجية. 

من أرضية البلاغة، التى قرر نصر أن يتخصص فيها، فكر فى أن يدرس أهم مبحث فى البلاغة العربية، وهو مبحث المجاز، يدرس ظروف نشأته ومفهومه عند المعتزلة الذين تشير الدراسات السابقة إلى دورهم فى تكوين هذا المبحث وإنضاجه، مع دراسة أثر القرآن الكريم فى ذلك، وتحديدًا ماهيته ووظيفته فى التعبير البليغ. 

قرر نصر أن يكون موضوع رسالته للماجستير «قضية المجاز فى القرآن عند المعتزلة». 

وحتى نعرف ما فعله، دعونا نستمع إليه وهو يتحدث عن خلفية دراسته. 

فحركة المعتزلة بدأها واصل بن عطاء وبلغت أوجها فى النصف الأول من القرن التاسع الميلادى، وطبقًا لهم فالقرآن هو كلمة الله غير المخلوقة، لكن الكلمات والحبر والورق المستخدمة فى التعبير عن النص الذى جاء لنا فى وقت معين ومكان معين هى من تم خلقها، وبالتالى فالنص الأصلى الذى نملكه اليوم هو ظاهرة مخلوقة. 

بين عامى ٨٢٧ و٨٣٣ بدأ الخليفة العباسى المأمون تحقيقًا أعلن فيه عن أن أى قاض شرعى يقاوم منطق المعتزلة فيما يتعلق بالقرآن سيخسر وظيفته، وربما يتعرض للسجن. 

ويتساءل نصر: هل كلمة الله موجودة فى متن الرسالة المعبر عنها باللغة البشرية؟ هل تحتوى تلك الرسالة على اللغة كعامل أساسى؟ 

ويجيب: القرآن نفسه يذكر «قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددًا»، فلو أن كلمة الله لا يمكن حصرها، فكيف يمكن للقرآن وهو النص المحدود بزمان ومكان، أن يكون التعبير الأوحد عن كلمة الله؟ فى الوقت ذاته القرآن يشير لنفسه على أنه كلام الله، وهى الفكرة التى تساوى بين القرآن وكلمة الله، إن فكرة أن الله هو نفسه المتحدث تثير العديد من القضايا اللاهوتية، وهى القضايا التى حلها المعتزلة بتأويل عدد من آيات النص بشكل مجازى. 

كان المعتزلة- كما يرى نصر- متأثرين بشدة بالفلسفة اليونانية والمنطق، وبالتالى طبقوا قواعد الاستنتاج المنطقى فى تفسيرهم للقرآن، ولم يتفق اللاهوتيون منهم على بعض النقاط، لكن جميعهم كانوا متفقين على خمسة مبادئ أساسية هى: «العدالة، التوحيد، صدق الوعد والوعيد، المنزلة بين منزلتين، ارتكاب ذنب كبير لا يجعل منك كافرًا، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، أما خصومهم فكانوا المحافظين على التفسير الحرفى للقرآن، والتسليم بسيادة القضاء والقدر. 

بعد أربع سنوات من التحليل ومقارنة خطاب المعتزلة اللاهوتى مع خطاب منتقديهم، أدرك نصر ما يقع فى قلب معركة التفسير، كيف نجد المعنى فى النص تتعارض فيه الآيات المحكمات، وهى العمود الفقرى للقرآن مع الآيات المتشابهات؟ لا جدال داخل بناء الإسلام أن الآيات المتشابهات تفسر فى ضوء الآيات المحكمات. 

إذن ما المشكلة؟ 

يجيب نصر: إن الآيات التى اعتبرها المعتزلة آيات محكمات، اعتبرها معارضوهم آيات متشابهات والعكس صحيح، تشبث كل طرف بقوة بوجهة نظره، مؤمنًا بأن هذا الخلاف يضع معنى وبناء القرآن على المحك. 

ويضيف نصر: واحد من الاستنتاجات التى توصلت إليها فى دراستى هى محاولة كل طرف أن يفرض فكره وأيديولوجيته الخاصة على معنى النص، بمعنى أن كل طرف حاول أن يجعل القرآن متفقًا مع معتقداته، وتعجبت كيف يمكن لمعنى النص أن يُؤول بهذه السهولة؟!. 

كانت أطروحته الأساسية المتناولة للنص القرآنى تقول إنه حتى يصبح الفكر الإسلامى ملائمًا للعصر، لا بد أن يتم الأخذ فى الاعتبار بجانبه البشرى، إن تحرى مكانة القرآن فى التاريخ لا يعنى أن أصوله بشرية، فهو يؤمن بأن القرآن نص إلهى أوحى به من الله للنبى محمد عليه الصلاة والسلام من خلال جبريل، هذا الوحى تشكل عن طريقة لغة، وهى العربية، بجذورها الموجودة فى السياق التاريخى. 

بدأ نصر دراسته بجمع كل الآيات القرآنية التى قام المعتزلة بتأويلها وأجروا عليها فكرة المجاز، فوجد المجاز عندهم مجرد وسيلة، حتى تستقيم معانى الآيات مع مبادئهم الفكرية والعقلية المسبقة، وليس له إلا دور يسير فى حجاجهم العقلى، فاتجه بكل جهده ليفهم الفرق الدينية الإسلامية، وفهم صراع المسلمين الأوائل ودوره فى نشأة الفرق والقضايا الفكرية، فالفكر لا يأتى من فراغ، بل من صراع فى الواقع. 

توصل نصر من خلال دراسته إلى أن الفرق الإسلامية اتفقت على وجود محكم واضح ومتشابه غامض يحتاج إلى توضيح، لكن الفرق اختلفت فيما بينها حول ما الواضح وما الغامض، واتخذ المعتزلة هذه المسألة وسيلة شرعية لتأويل الآيات التى لا تتفق مع مبادئهم الفكرية من التوحيد والعدل، واستخدموا المجاز كوسيلة لإخراج دلالة نص القرآن من المعنى الظاهر للآيات إلى معنى مجازى، وفى حالة عجزهم عن تأويله استنادًا إلى تركيبه اللغوى يلجأون إلى الاستناد إلى الدليل العقلى. 

نشر نصر رسالة الماجستير بعد مناقشتها فى كتاب عنوانه «الاتجاه العقلى فى التفسير»، وكما يقول هو فى تقديمه لكتابه «هكذا تكلم ابن عربى»: أثارت النتائج التى توصلت إليها فى تلك الدراسة الكثير من الأسئلة، وهى الأسئلة التى حفزتنى على محاولة اكتشاف مجال «التجربة الروحية»، كما تمثلها التجربة الصوفية عند ممثلها الأكبر محيى الدين بن عربى، وأثرها فى بلورة إطار تأويلى للوحى. 

لم يكن نصر غريبًا على عالم التصوف والمتصوفين. 

يعترف لنا لأنه من الصعب أن يفصل فى خبرته الدينية بين التجربة الروحية وبين الأسس العقلانية التى تتبلور فى وعيه تدريجيًا من عقيدته ودينه، وفى نسيج الحياة الدينية اليومية فى القرية المصرية. 

يقول: كانت نشأتى فى أسرة ريفية متواضعة، يعد التصوف العملى من أبرز السمات التى يمكن ملاحظتها فى هذا النسيج، فقصص الأنبياء وكرامات الأولياء وأحاديث الصالحين من أسلاف القرية والقرى المجاورة تعد من أهم المعارف التى ترتبط بالطفولة وذكرياتها، وبمجرد تعلم الكلام يبدأ التعليم بحفظ القرآن والتردد على المسجد لإقامة الصلاة، وفى المسجد تعقد حلقات الذكر بعد صلاة العشاء، آخر الصلوات الخمس المفروضة، كل يوم خميس- ليلة الجمعة- وهى التى يطلق عليها الحضرات، حيث ينتظم الكبار فى شكل دائرة ويتحركون حركات موقعة ذات اليمين وذات الشمال، مع ترديد بعض الأناشيد بقيادة شيخ الحضرة، وتدريجيًا يتسارع إيقاع الحركة حتى يصبح اهتزازًا عنيفًا أقرب إلى الرقص، ويتسارع إيقاع الإنشاد بنفس الدرجة، حتى يصبح التمييز بين الكلمات مستحيلًا، ثم يتركز الإنشاد فى اسم الله، ومع ازدياد حدة السرعة فى الرقص والإنشاد يتم اختصار الاسم فى الحرفين الأول والأخير «اه» فقط من كلمة الله، ويبدأ بعض المشاركين فى الصياح والخروج عن نسق الإيقاع فيصرخون، وبعضهم يسقط على الأرض فى شبه إغماء، وهى حالة «الجذب» و«الفناء»، كنا نحن الأطفال يسمح لنا أحيانًا بالمشاركة، ولكن خارج الحلقة وكان بعضنا يريد أن يثبت وصوله إلى حالة الجذب كالكبار. 

ولا ينكر نصر أهمية القراءة والتزود بالمعرفة، لكنه يستسلم إلى الحقيقة لا التى يستطيع تجاهلها. 

يقول: لكن تظل جذور تجربة الطفولة كامنة فى أعماق كل منا، فى حالتى أخذتنى الحياة مآخذ شتى وسلكت بى طرقًا عديدة، حتى قررت أن أتخصص فى دراستى العليا فى مجال «الدراسات الإسلامية» كانت تجربتى فى الحياة والتعليم قد أخذتنى بعيدًا عن «التصوف» إلا من خلال علاقة خاصة بأحد أصدقاء والدى المقربين. 

صديق الأب كان اسمه حسن. 

فلاح مصرى بسيط، لكنه كان شاعرًا وقارئًا لشعر التصوف بصفة خاصة، وكان كثير الترحال لزيارة الأضرحة والتبرك بمجاورة «أهل البيت» بالقاهرة لفترات تطول أو تقصر، وكان يعتبر نصر محلًا لثقته، فيفضى إليه بأسراره التى لا يكاشف بها أحدًا حتى من أولاده. 

حدث من حسن ما قلب كيان نصر. 

يقول عنه: زارنى عم حسن ذات يوم بدا فيه مضطربًا أشد الاضطراب، كأنه كان يحمل فوق كاهله همًا تنوء بحمله الجبال، ظللت أسأله: ما الخبر؟ ماذا حدث حتى يبدو الاضطراب باديًا على وجهك، والإعياء يكاد ينبئ بأنك مريض؟ لكنه ظل صامتًا ذلك الصمت المعذب، وأخيرًا قرر الإفصاح، قال: إنه سر لا أستطيع احتماله أكثر من ذلك، أعلم أننى سأعاقب لإفشاء السر، لكننى لا أحتمل الكتمان. 

تزايد قلق نصر وخمن أن الرجل يعانى من كارثة. 

يستكمل الحكاية: قلت له: يا عم حسن فرج عن نفسك وأخبرنى، ألست محلًا لثقتك، وفى مقام الابن منك؟ قال: والله يا نصر أنت أكثر من ابن وأعز من أولادى جميعًا، أنت الحبيب ابن الحبيب رحمه الله، لذلك سأفضى لك بالسر الذى يعذبنى كتمانه، ثم استجمع قوته وانفجر قائلًا: يا نصر يا ولدى لقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى المنام.. وأجهش فى بكاء سمعته أختى، فجاءت تسأل ما الخبر؟ لكنى صرفتها واقتربت من عم حسن، لكنه لم يتوقف عن الحكى، ونشيجه يتصاعد: رأيته والله العظيم، فقلت له: أحبك يا رسول الله، فرد علىّ: وأنا أحبك يا حسن. 

يضيف نصر: لم أدر ماذا أقول سوى أن أتمتم ببعض عبارات لا معنى لها، كان الأمر بالنسبة لى غير مفهوم آنذاك، رغم تعاطفى قلبًا وقالبًا مع عم حسن، بدا يهدأ تدريجيًا بعد أن أزاح السر الضاغط، السر الذى يمثل إفشاؤه خطرًا يترتب عليه العقاب. 

سأله نصر: أى نوع من العقاب يترتب على إفشائك أمر هذه الرؤيا لى؟ 

رد عليه: يا ولدى أخشى أن يهجرنى الرسول عليه السلام، فلا يظهر لى مرة أخرى، وهل هناك عقاب أشد من هجر الحبيب؟ 

يعلق نصر: حاولت بقدر استيعابى لموقف جديد علىَّ تمامًا أن أطمئن عم حسن أن رسول الله لن يهجره، وفى نفس العام تقريبًا قرر الحج، ولكى يدبر نفقة السفر إلى الديار المقدسة باع قطعة الأرض التى كان يزرعها رغم معارضة أبنائه ومحاولتهم منعه بالقوة. 

لم يفهم نصر كثيرًا من الجوانب العاطفية والروحية لرؤيا صديق والده إلا بعد أن بدأ فى دراسة «فلسفة التأويل» عند ابن عربى بعد ذلك بأعوام، فهم معنى السر ودلالة الكتمان وأهميته فى التجربة الروحية، وكيف يكون البوح ومتى ولمن، فهم أكثر المعنى الروحى العميق للحج، وأهميته للتجربة الروحية، هذا بالإضافة بالطبع إلى أهميته الشعائرية الرمزية بالنسبة لكل مسلم، وبدراسته للتصوف أدرك معنى الذكر وأهميته، وفهم لماذا يكون الذكر فى شكل دائرة، وما معنى تكرار الاسم «الله» ولماذا يتم اختصار الاسم فى دلالة حرفيه الأول والأخير، أهم من ذلك صار قادرًا على شرح معنى «الجذب» و«الفناء» و«الشطح». 

يقول: لم يكن الحافز على دراستى للتصوف، ولفكر ابن عربى بصفة خاصة، هو ذلك الشوق النابع من تجارب الطفولة الدينية فى قريتى، تلك التجارب التى ساهمت تجربة عم حسن فى تعميقها، بل كان الحافز، بالإضافة إلى ذلك، هو رغبتى فى استكمال معرفتى بقطبى التراث الإسلامى الأساسيين: العقلانية والروحانية، وأذكر أنه لولا الفرصة التى أتاحت لى السفر لأول مرة إلى بلاد الغرب حيث قضيت عامين دراسيين فى الولايات المتحدة الأمريكية «١٩٧٨- ١٩٨٠» لما تمكنت من إنجاز أطروحتى عن فلسفة التأويل عند الشيخ «فلسفة التأويل.. دراسة فى تأويل القران عند محيى الدين بن عربى». 

وهو فى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، وضع نصر يديه على حقيقة مهمة، وهى أن قراءة الشيخ الأكبر ابن عربى تتطلب تفرغًا كاملًا، يقول: كان من المستحيل الاندماج فى عالم الشيخ من خلال تخصيص ساعتين فقط من ساعات اليوم الأربع والعشرين للجلوس إلى الشيخ ومسامرته، ليس أقل من أن تكون مع الشيخ يومك وليلك، صباحك ومساءك، يقظتك ونومك، أن تكون باختصار واحدًا من المريدين لا مجرد زائر عابر لبعض الوقت، لم تكن حياتى فى مصر عمومًا وفى مدينة القاهرة على وجه الخصوص، قادرة على منحى نعمة الجلوس إلى الشيخ والإنصات لفكره، ما لم تتحه لى القاهرة أتاحته لى مدينة «فلادلفيا» ومكتبة جامعة «بنسلفانيا»، فى سنتين أنجزت قراءة «الفتوحات المكية» وفى نفس الوقت قرأت عن فلسفة التأويل عند فلاسفة الغرب بدءًا من «أوريجن» حتى «جادامر» وكان ذلك مثمرًا فى تعميق وعيى بالقضايا التى يمكن أن تفصح عنها كتابات الشيخ من منظور معاصر. 

امتلأ نصر أبوزيد أيضًا بالمعنى الأكبر عند محيى الدين بن عربى، يقول: كانت أبياته الشعرية عن «دين الحب» الذى يتسع لكل العقائد، من الوثنية إلى الإسلام محتضنًا اليهودية والمسيحية معًا على وجه الخصوص، تتردد دائمًا فى سمعى: لقد صار قلبى قابلًا كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان/ وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن/ أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه/ فالحب دينى وإيمانى. 

هذا المشروع الذى صاغه ابن عربى صياغة شعرية باسم «دين الحب» يجمع بين الدير والكعبة وبيت الأوثان ومرعى الغزلان، فقلب العارف يتسع لكل هذه الصور من العبادات والشعائر، ويؤمن بكل هذه المعتقدات، لأنه يعرف الأصل الوجودى الذى تستند إليه جميعها، يمثل الأصل الذى تستند إليه كل الأديان والمعتقدات، وهو أصل العلاقة بين الحق الخالق والخلق المخلوق، وهى علاقة الحب، فى البدء كان الحب. 

هكذا يتصور ابن عربى «الحقيقة»، كان الله ولا شىء معه، كان كنزًا مخفيًا فأحب أن يعرف فخلق العالم ليعرفه، هكذا تتحدد الحقيقة استنادًا إلى التراث الإسلامى مشروحًا شرحًا عرفانيًا، يسمح لابن عربى أن يميز فلسفيًا بين مفهوم «الدين الإلهى» الواحد وبين «أديان المعتقدات» الكثيرة.

كان هذا بمثابة الفتح الكبير أمام نصر حامد أبوزيد، وهو الفتح الذى حوله إلى معرفة تجلت فى رسالتيه للماجستير والدكتور، فنحن لسنا أمام باحث عابر، ولكن عالم وفقيه ومجدد، أخذ من التراث ما يخدم به الإسلام. 

وعندما تسألنى: وكيف خدم نصر الإسلام بدراساته التى جعلته فى مرمى سهام من كفروه؟ 

أقول لك: سأخبرك بكل ما جرى، لكن ليس عليك إلا أن تنتظرنى قليلًا. 

غدًا.. كيف خدم نصر حامد أبوزيد الإسلام؟ 

تاريخ الخبر: 2023-04-11 00:21:12
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية