مفتاح يوجه رسالة إلى خليل الهاشمي


الدارالبيضاء في 10 أبريل 2023

صباح الخير صديقي العزيز. لقد ودعناك بالأمس بالدموع والزغاريد، ولكن، ما زلت أعتقد أن روحك التي فاضت مطمئنة تحلق الآن وتراقبنا. تذكر أنه عندما اشتد بك المرض اللعين، كنت أنا من الذين يفضلون عدم إزعاجك بزيارات قد تكون مرهقة، وقبل أسبوعين من رحيلك، رن هاتفي، وكان اسمك، وكانت الدهشة والفرحة. دعوتني وكأنك ترفع عني الحرج، وجلسنا جمعة إلى كسكس نتداول في المهنة والحياة. وعلى الرغم من أنني رأيت خليلا آخر جسديا جعلني أجمد دموعي بصعوبة في مآقيّ، إلا أن خليل الصلب وخليل القوي الذي عاش في خضم المواجهات الإعلامية والثقافية والسياسية، كان هو خليل الشجاع أمام المرض.

كان سي محمد برادة، أطال الله عمره، هو الأكثر ترددا عليك، بالطبع أنت تذكر ما قاله السي حسن العلوي فريموس في آخر أيامه قبل شهور للسي برادة وانبهرنا به بألم: «سعدات اللي مات وأنت حي أسي برادة». نعم، السي محمد الخدوم كان ينقل لي أخبارك، وكانت له شجاعة المواجهة هو والسي مقيت أكثر مني. قال لي قبل أسبوع ونيف إنهم عندما زاروك في المشفى خرجوا باكين، فزاد ألمي وإحجامي عن العيادة مضطرا وباكيا.

ولكن، قبل أيام، اتصل بي صديقنا وخليلك نعيم كمال، وقال لي إنك رغم الصعوبة التي تجدها في الحديث، فقد سألت عني. وهكذا هرولت في الغد مع السي برادة، يومين قبل رحيلك، لنجدك بين غفوة وصحوة تمسك بيدنا وتبتسم. قالت لي زوجتك الكريمة، لالة نجاة، إنك بالأمس قلت لهم أن ينادوني لأصعد من بهو المصحة إلى غرفتك في الطابق الأول، وأنا لم أكن هناك. لقد كان فعل التخاطر يلعب في هذا النزع الأخير من العمر. شاركنا الكثير، وكان أمامنا الكثير لنتشاركه، ولكن، على الأقل، ورغم هذا الفراق القاسي، ها نحن نتخاطر مرة أخرى من هذه الزاوية التي لطالما كانت محط نقاشاتنا كما كتاباتك اللاذعة البهية، سواء مع شّلة الرباط، أو شلّة الدار البيضاء، المهم تتذكر الإحساس الذي لا يمكن أن ننساه عندما غادرنا إلى دار البقاء رئيس شلّة الرباط السي نورالدين الصايل، تتذكر كيف التقينا بدونه وكأننا خرجنا من منازلنا وقد نسينا أن نلبس ملابسنا، كنا رمزيا عراة، لأنه كان سترا وعطرا وقطعة من موسيقى تضبط إيقاع نقاشاتنا الصاخبة.

اليوم، السي خليل، لا أخفيك أننا كذلك، على الرغم من أنني أقول للسي محمد برادة إنك ستزورنا الأحد المقبل بـ«دارنا» حيث تهيء لنا حرمه السيدة الفاضلة نهلة ما يطربك من كعك وفطائر محشية بالخليع وكؤوس الشاي المنعنع والقفشات التي نملح بها الجسلة عندما يأتي الدكتور ربيع ونخوض معه في نقاشات تخصصه حول البروستاتا وما جاورها وقهقاتنا ترتفع في سماء الوازيس. وبين دمعة وبسمة، نستحضرك الآن السي خليل ونستحضر السنوات الطويلة التي قضيناها زملاء وأصدقاء وأوفياء وكأنها يوم أو بعض من يوم.

تذكر بأننا جئنا من أفقين وعالمين مختلفين، اللهم إلا المنبع، حيث نشأنا في نفس الحي العريق درب السلطان بالدار البيضاء. عندما عدت أنت من فرنسا، وبدأت العمل في «ماروك إيبدو»، كنت أنا في فضاء مناقض بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» المعارضة، ولم تجمعنا الأقدار إلا في الفيدرالية المغربية لناشري الصحف. ظاهريا كان كل شيء يفرقنا، مفرنس مع معرب، قريب من الجهات الرسمية مع شبه مشاكس، ولكن، سنكتشف رويدا رويدا أن الذي يجمعنا أكبر، أكبر من أنني جئت من جريدة معارضة، واشتغلت في بدايات العهد الجديد في مجموعة «الصحيفة» و«لوجورنال» التي كانت على طرفي نقيض مع «ماروك إيبدو»، ولكن، ومن المصادفات العجيبة أن نؤسس جريدتينا «الأيام» و«أوجوردوي لوماروك» في نفس السنة 2001، وفي 2002 أسسنا الفيدرالية المغربية لناشري الصحف، وبدأت علاقة لم تنته إلا أمس، ولا مرة تخاصمنا رغم اختلافاتنا تحريريا وحتى في التقديرات السياسية، ولا مرة سقطت ولا حبة من سبحة الاحترام الذي ظل منتصبا، ولا مرة خدشنا صداقة صمدت في لجاج الأحداث والصراعات والمواقف التي كنا أحيانا مضطرين لاتخاذها بشكل مختلف، ولكن، كان يجمعنا حب الوطن كل بطريقته.

تتذكر أحلام البدايات في صحافة مستقلة جذابة، كنا نحلم بتعددية حقيقية كان جزء منها يتجسد فينا، أتذكر مواضيع المرأة والإرهاب والإسلام السياسي والعلاقة مع الجوار الصعب في الجزائر وإسبانيا وحوادث السير بين الدولة وجزء من الصحافة والحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع والمواقف من الاحتقان الاجتماعي والربيع العربي والموقف من الأصالة والمعاصرة وأحداث الريف وصعود الإسلاميين ثم انهيارهم، أتذكر هذا العمر الذي ينسل ولكن الحياة باقية وحبلى بالأحداث والحوادث.

في آخر المطاف، اكتشفنا أنه من الناحية المهنية، وكان يجمعنا الهيام بهذه الصحافة الفاتنة والقاتلة، فقد ضيع المغرب فرصة تحوله الكبرى بفعل عوامل عددناها آلاف المرات: «هناك أعداء حرية الصحافة ولكن جزءا من قبيلتنا أيضا جنى علينا! لقد تغلبت التفاهة في النهاية، وأصبح عشاق الافتتاحيات الجميلة والتحقيقات الجريئة، والربورتاجات المحكمة والمواقف القوية والمحترمة في آن مجرد ناد صغير يطل رواده بأفواه فاغرة على ما يجري من ذبح يومي للمهنة. كانت هذه خيبتك قبل الرحيل، وعن هذا حدثتني قبل الرحيل.

خليل، أعرف أنك لم تجمع في ألبوم علاقتك الأصدقاء فقط. لا، لقد كان لك خصوم لأنك كنت تجهر بما تفكر فيه. كنت قوي الشخصية، ولا تحب كثيرا الحلول الوسطى، خضت معارك كانت آخرها معركتك في وكالة المغرب العربي للأنباء التي حولتها من وكالة تقليدية للقصاصات إلى دار للصحافة والإعلام بمواقعها وإذاعتها وتلفزيونها وصحفها ومجلاتها، وذلك بميزانية متواضعة، واجهت من اختلفت معهم بلا هوادة، وأنت تعرف أنني في أحايين كثيرة كنت مع تدوير الزوايا والجنوح للدبلوماسية، ولكن، كنت تحيلني على القولة الشهيرة: إن الرجل هو الأسلوب.

وها أنت ترى الخاتمة عزيزي خليل، فحتى خصوم الأمس بَكوك اليوم، وجاؤوا إلى تربتك يشهدون على علو كعبك، وعلى شرفك حين تصالح وحين تواجه، وعلى قامتك الإعلامية الشامخة وأنفتك، وعلى هذا المواطن المغربي الغيور الذي، وإن اختلفت معه، أو تصادمت معه، فإنك تفتخر أنك تنتمي إلى بلد توجد فيه شخصية وهامة من الهامات العاليات مثله.

لقد بنيت بيوتا كثيرة، من الصحافة إلى الإعلام إلى الأدب إلى الشعر إلى جمعيات «نادي الأسود» و«أصدقاء غوتنبيرغ المغرب» والفيدرالية المغربية لناشري الصحف التي سلمتني مسؤولية رئاستها عندما عينك جلالة الملك مديرا عاما لوكالة المغرب العربي للأنباء سنة 2011، ولكنك أيضا بنيت مجدا مهنيا لا ينكره إلا جاحد، وبينت بيتا أسريا كريما، وبيتا إنسانيا من صداقات كانت جنازتك المهيبة أكبر دليل على رحابتها حيث جمعت تلك الظهيرة الأعيان والوزراء والمدراء والزملاء وبسطاء القراء، فهنيئا لك بهذا الاحتفاء، وهنيئا لنا برجل رفع رأس هذه المهنة حيا وميتا.

تذْكر أنك كنت معنا عندما حملنا نعش الراحل فهد يعتة قبل شهور وبعده السي عبدالله الشتوكي وبعدهما السي حسن العلوي، ثم السي عبدالله العمراني الذي لم يسعفك المرض لتحضر معنا وداعه. هذا جيل ينسل كالخيوط من جوارب الحياة الفضية، هذا جيل كتب أمجاد الصحافة المغربية، وتعرف أن هذه ليست نوستالجيا أو تخاريف التقدم في السن. إنها مأساة بلد اندحرت فيه القراءة والثقافة والإعلام حتى لتكاد تندثر. هؤلاء الأحفاد عموما ليسوا هم أولئك الذين كان يحلم بهم الأجداد. هل هي لعنة الهواتف المحمولة الاستسهالية؟ هل هو زمن السريع السطحي؟ هل هي سلفية نعتنقها في الإعلام دون أن نلحق بحداثة هربت مع الشباب؟ لا أعتقد السي خليل! أعتقد أننا نسينا بناء الإنسان.

في كل دول العالم، مع بعض الاستثناءات، لم يقع الانهيار الذي جرى عندنا في مجال قراءة النافع إعلاما وكتبا ! كان لجزء منا في هذا ذنب. لقد طحنتنا الصراعات التي كنت شاهدا على جزء منها، عندما بادر البعض إلى شق صفوفنا. كنت حزينا جدا، وكنت ضد التشرذم، وبقيت على الموقف إلى آخر ساعة من حياتك. عندما كان يظهر بصيص أمل لاتحاد الكفاءة والنزاهة الفكرية والمهنية، كنت تندفع بجوارحك لتمسك برأس الخيط مهما كان دقيقا. ولكن، وكما قلت يوما بانكسار: «لقد هزمتنا التفاهة والرداءة والاحتيال المهني والنصب الإعلامي».

ما العمل إذن؟ هنا، كان عندك جانب آخر في شخصيتك عجيب. الاعتراف بالتعثر واجب للانتفاض والبحث عن تحالف الأمل. كنت تتمثل بالضبط المعادلة الغرامشية حول تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، وعندما كان يفيض بي الكيل أمام كل هذه السريالية في قطاعنا، كنت تجد الكلمات المناسبة ليصبح الصبر لي بنزين مقاومة وإصرار على الاستمرار.

أيها الرفيق، هل تابعت الجنازة؟ ألم تجمع حولك ما تفرق في حياتك؟ هل بقي هناك فرق بين من هو في المشور السعيد ومن في المساندة ومن في المعارضة ومن في هذه الجمعية أو تلك الفيدرالية أو ذلك الاتحاد، أو من كان قريبا أو بعيدا أو من اختلفت إيديولوجياتهم؟ هذه الجنازة كانت رسالة أمل، هذا النداء الذي أرسله رحيلك ولبيناه جميعنا هو ورود على شاهد قبرك. إنهم المغاربة، وأنت تعرفهم، وبدأت تعرف جذور شجرتهم عندما بدأت في قراءة سير المتصوفين المغاربة، بل صرت في نهاية حياتك صوفيا مغربيا قحا، وكم أمتعتنا بتحليلات رجل جاء من عوالم موليير إلى عبد السلام بن مشيش وأبو الحسن الشاذلي وغيرهما.

كنت متفائلا حد الجنون، ورغم وطأة المرض وقسوة الوهن، كنت تحدث زوارك عن مشاريعك. ألم تخرج إلى المكتب وقد فقدت ثلثي وزنك؟! هكذا كانت الحياة بالنسبة لك، تعاش إلى آخر رمق بأحلى شيء كان عندك في هذه الدار الفانية وهو العمل. العمل كان سكرك وصحوك. والعمل إدمانك. والعمل عبادتك.

السي خليل، كما كنت أتحرج من عيادتك عندما كنت تصارع المرض ببسالة الشجعان، فإنني الآن محرج إن كنت قد أطلت عليك. ولكن صديقي العزيز، أنت الآن في أمان الله ولا خوف عليك، إن شاء الله، ولا أنت تحزن. فلذلك اسمح لي أن أطمئنك إلى أن الأمور كلها ستسير إن شاء الله كما كنت تتمنى أن تصير وأنت حي. وبذرة هذا الإعلام الوطني ستثمر، وآلاف الشباب الذين اختاروا الالتحاق بهذه السلطة المعنوية للكلمة والصوت والصورة سيأخذون بزمام الأمور غدا. بل، أعدك أننا نحن سنحاول جاهدين أن نلملم شتاتنا، وأن نخلق جبهة لمواجهة هؤلاء الذين يضعون المتاريس في الطريق السيار، فالنيات الحسنة موجودة، وهاته الجنائز التي أخذت جزءا من الآباء المؤسسين لمهنتنا لا بد وأن تجعلنا نستفيق من غفوتنا، وننهض من غفلتنا، ونعود للمجتمع لنتعاون على الخروج من هذا الاندحار القيمي والاكتئاب الثقافي والضغط الاقتصادي والحيف الاجتماعي.

لقد اختلفنا في أشياء كثيرة، ولكن عزيزي خليل، جمعتنا كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، وهما الوفاء والوطن، وأما حب صاحبة الجلالة فقد كان سبب وجود.

نم صديقي قرير العين، سنواصل الحضور في الآحاد المشمسة إلى حديقة السي برادة والسيدة نهلة أطال الله عمرهما، وستكون ثالثنا أو رابعنا أو خامسنا، وسنحدثك كل أسبوع كما أفعل الآن وأنت القريب البعيد، وسنواصل البناء بلا تآمر ولا دسيسة كما فعلنا دائما، وشكرا لك السي خليل بزاف على ما قدمت لنا ولبلدك وإلى الأسبوع المقبل إن شاء الله.

تحياتي ومودتي

تاريخ الخبر: 2023-04-14 18:21:02
المصدر: الأيام 24 - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 68%
الأهمية: 78%

آخر الأخبار حول العالم

توقيف 8 طلبة طب بوجدة بعد يوم واحد من تهديدات ميراوي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 00:25:53
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

توقيف 8 طلبة طب بوجدة بعد يوم واحد من تهديدات ميراوي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 00:26:02
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية