لم يتماسك تحالف الحرية والتغيير طويلاً، ودبت الخلافات بين العسكريين، وهو المحظور الذي كان يتخوف منه المراقبون بخاصة في ظل الصعود الصاروخي للجنرال حميدتي إلي موقع الرجل الثاني في الدولة، واستغلاله منصبه لبناء منظومة عسكرية منافسة للقوات المسلحة.

لم يكن ينقص الفشل الذي لازم الفترة الانتقالية الهشة في السودان بعد إسقاط نظام الرئيس عمر البشير في أبريل/نيسان من عام 2019 إلا اندلاع الحرب، لتكون شاهداً على بؤس تجربة أحزاب الحرية والتغيير التي ورثت الحكم بعد البشير.

فقد كان واضحاً منذ البداية أن تحالف قوى الحرية والتغيير لا يمتلك برنامجاً واقعياً لإدارة الفترة الانتقالية، بقدر ما كان اهتمامه مُنصباً على تقاسم السلطة مع المكون العسكري الذي يضم القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي.

وبينما انصرف قادة الحرية والتغيير "لشجونهم الصغرى" حسب عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني وأحد أقطاب التحالف، تاركين قضايا الانتقال الديمقراطي الحقيقية كالانتخابات وراء ظهورهم، كانت الخلافات تتصاعد بين قوات الدعم السريع والجيش الوطني الذي تتبع له القوات نظرياً وبنص القانون.

بل، وللأسف الشديد، سعوا في الفترة الأخيرة إلى تحريض هذه القوات ضد الجيش وتشجيعها على التورط في هذه الحرب.

الخطأ الاستراتيجي الذي نتجت عنه هذه الأحداث الكارثية هو التركيبة الدستورية والسياسية التي صممت بها الفترة الانتقالية الطويلة جداً حسب الوثيقة الدستورية التي نصت على أنها أربع سنوات، واستحدثت مفهوماً غريباً لتقاسم السلطة بين المدنيين من قوى الحرية والتغيير والعسكريين.

لم يتماسك تحالف الحرية والتغيير طويلاً، ودبت الخلافات بين العسكريين، وهو المحظور الذي كان يتخوف منه المراقبون بخاصة في ظل الصعود الصاروخي للجنرال حميدتي إلي موقع الرجل الثاني في الدولة، واستغلاله منصبه لبناء منظومة عسكرية منافسة للقوات المسلحة في التسليح والقدرات البشرية، تأكيداً لطموحه القوي نحو إزاحة الجيش وانفراده بالسلطة.

وهو الطموح الذي وظفته قوي الحرية والتغيير "المجلس المركزي" لتتقوى به على الجيش لترغمه على التوقيع على الاتفاق الإطاري الفضفاض الذي يضمن لهذه القوى الصغيرة الانفراد بالسلطة وإقصاء بقية المكونات السياسية في البلاد.

إثر حسابات خاطئة وقع حميدتي في هذا الفخ وظن توهماً أن قوته العسكرية ستهزم الجيش في عملية خاطفة وسريعة، دون أن يستوعب حجم التعقيدات الإقليمية والدولية التي تحيط بالسودان، وحجم الترسانة العسكرية للجيش السوداني وتفوقه في سلاح الجو الذي لا يمتلك منه حميدتي شيئاً.

كما فات حميدتي حجم الحاضنة الشعبية الكبيرة التي تساند الجيش وتقف خلفه مقابل التعبئة السالبة ضد قواته المتهمة بارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان في دارفور غربي السودان وفي العاصمة الخرطوم .

والآن ومع دخول المواجهات العسكرية أسبوعها الثاني يبدو، بشكل جلي، أن الجيش يستخدم تكتيكاً حربياً يسعى إلى تقليل تكلفة الحرب مع استنزاف العدو وقطع خطوط إمداده وتدمير بنيته القيادية ومنظومة اتصالاته، ليسهل عليه إلحاق هزيمة منكرة تنتهي إلي تحقيق الهدف المعلن للعملية وهو تفكيك قوات الدعم السريع التي جرى تصنيفها على أنها قوات متمردة خارجة على القانون.

ويمكن الجزم بأن خطة الجيش تمضي قدماً ولو بشكل بطيء نحو تحقيق هذا الهدف، بخاصة أن قوات حميدتي فقدت كل مقارها الرئيسية في العاصمة وبقية الولايات واستسلم جزء كبير منها للقوات المسلحة.

قد يتبادر إلى الذهن سؤال حول على أي شيء كان حميدتي يراهن عندما أقدم على هذه الخطوة رغم المكانة التي حظي بها؟

الإجابة على هذا السؤال لها شقان: داخلي وخارجي. أما الشق الداخلي فيتعلق برغبة قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" في إقصاء خصومها المنافسين ممن كانوا معها في التحالف نفسه والانفراد بالسلطة بجانب سعيها الدؤوب لإحياء تجربتها في لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو، بتوظيف أجهزة الدولة ضد خصومها الإسلاميين، حيث يتملكها غضب عارم ضد الجيش لأنه يقف عقبة أمام هذا المسعي الانفرادي بالسلطة، وظل ينادي علناً بضرورة توسعة قاعدة القوى المؤيدة للانتقال الديمقراطي وفي مقدمتها حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، وهو الأمر الذي ترفضه قوى الحرية والتغيير التي تبنت مقابل ذلك المناداة بإصلاح الجيش وإعادة هيكلته، وذلك بغرض إضعاف تأثيره على المشهد السياسي في البلاد.

استطاعت قوى الحرية والتغيير أن تجتذب إلى صفها قائد الدعم السريع بعد أن خاطبت رغبته هو الآخر في إزاحة الجيش من طريقه نحو موقع الرجل الأول في البلاد، وفي الأسبوع الذي سبق المواجهات العسكرية هدد أكثر من مسؤول في تحالف الحرية والتغيير بأن الجيش إذا لم يوقع على الاتفاق الإطاري فلينتظر الحرب.

أما على المستوى الخارجي، تحظى قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" بدعم بعثة الأمم المتحدة في السودان ورئيسها فولكر بيرتس على اعتبار أن هذه القوى هي التي استقدمت هذه البعثة، الأمر الذي فُهِم وقتها على أنه محاولة للاستقواء بها ضد الجيش.

وعملت هذه البعثة بدأب على تنفيذ رؤى هذا التحالف واستبعاد بقية القوى السياسية الوطنية عن المشاركة في تقرير شؤون بلادها، ولاحقاً تكونت الآلية الثلاثية من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي القوى المؤيدة للاتفاق الإطاري والداعمة لتحالف الحرية والتغيير.

غير أن الحقيقة الصادمة التي فوجئ بها حميدتي بعد وقوع الحرب هي أن حلفاءه من تحالف الحرية والتغيير وأصدقاءه الجدد لم يغنوا عنه شيئاً، بل وجد نفسه وحيداً يقاتل جيش بلاده ويسبب الأذى لمواطنيه.

ولعل الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها على المستويين الدولي والإقليمي تفسر مواقف الأطراف المختلفة تجاه حميدتي وقواته، فالتقارب بين حميدتي وروسيا في الفترة الأخيرة كان محل قلق أمريكي، بخاصة حديثه عن إحياء اتفاق منح روسيا قاعدة مطلة على البحر الأحمر، و اتهامه بالتدخل في دولة إفريقيا الوسطى الغنية بالذهب والألماس بالتنسيق مع قوات فاغنر الروسية.

علي ضوء ما تقدم يمكن الإقرار بأن حميدتي ربما يكون الخاسر الأكبر من هذه الحرب التي أشعل فتيلها بتقديرات خاطئة.

والنقطة الإيجابية هنا هي أن المواجهات تقتصر فقط على الجيش والمتمردين من الدعم السريع دون أي تفسيرات إثنية قد تنحدر بالبلاد نحو مربع الفوضى الأهلية الشاملة.

وما عزز هذه الفرضية هو الإفادة الواضحة التي قدمها ناظر قبيلة الرزيقات التي ينتمي إليها حميدتي وإعلانه دعمه اللامحدود للجيش، وكذلك إعلان الزعيم القبلي "موسى هلال" دعمه للجيش وهو ما سيساهم في إبقاء الحرب، وفقاً للتوصيف الذي تجري عليه الآن، بين الجيش وفرقة متمردة عليه .

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي