قصة حب

 

 

زوجتى هى التى انتبهت للكلمة، سألتنى ضاحكة عن تلك التى تكتب لى يوميًا تلك الرسالة، قالتها وهى تشير بإصبعها إلى كلمة «أحبك»، محفورة على التراب الذى يغطى الزجاج الأمامى للسيارة، قالت إنها قرأتها من قبل عدة مرات، قلت: إن أحدهم يجعل من السيارة رفًا يضع فوقه قفص الخبز الطازج، يأتى به من الفرن القريب ولا تحلو له تهوية الخبز إلا فوق مقدمة سيارتى فتغمرها الردة المتساقطة من الأرغفة.

رأت فى كلامى مراوغة، ولم تصدق أننى أمسح السيارة يوميًا دون أن أنتبه للكلمة، لحظتها سكتت، ولم أُعر الأمر اهتمامًا، لكن فى اليوم التالى وجدت الكلمة مكتوبة، لم يكن التراب كثيفًا، فكانت الحروف باهتة، فاكتشفت سر عدم انتباهى لها فيما سبق، كنت أمحوها بالفوطة وأنفضها مع التراب وأشياء أخرى، وربما أدهسها تحت العجلات دون أن أنتبه لها.

تكرار سؤال زوجتى عن صاحبة الكلمة «لم يعد السؤال مصحوبًا بابتسامة، فبدا وكأنه اتهام» دفعنى لأن أسبقها فى النزول، لأمسح الزجاج وأمحو الكلمة التى بت أنتظرها وأخشاها فى الوقت نفسه. لكنها سبقتنى ذات يوم وكانت الرسالة مزدوجة، الكلمة مكتوبة فى مواجهة مقعد السائق، كأنها مكتوبة مرتين، لكنّ كفًا مسح النصف الثانى من الكلمة، أشارت زوجتى وهى تقرأ:

- أحبك أح... 

قلت لعل من كتبها أراد تكرارها، فنفت وقالت بل كتبت اسمك، ثم مسحت الميم والدال، وأرادت التأكيد على صحة ما تزعمه فأشارت إلى قلب مرسوم على زجاج الباب الذى على يسارى، صامتًا مسحت الزجاج بسرعة، ورأت هى فى السرعة ارتباكًا وعصبية، فعاودت السؤال، ولما أتانا صوت عبدالحليم، أدارت مؤشر الراديو بعصبية، ثم ضبطته على إذاعة القرآن الكريم، وراحت تقارن بين ترتيل محمد رفعت وغناء عبدالحليم حافظ، وأيهما أنسب لصباح يوم عمل جديد.

أسعدنى أن تستعيد زوجتى غيرتها علىَّ، فلعل الغيرة تنفخ فى بقايا نار ركدت تحت رماد الشغف، لكن خشيت نوبة جنون قد تفاجئها، فحاولت طمأنتها مذكرًا بأننى أقترب من الستين حثيثًا، وأن مَن تصر على كتابة تلك الكلمة يوميًا لا بد أن تكون صبية مراهقة، فلا يمكن أن تكون الكلمة موجهة لى، هزت رأسها علامة عدم اقتناع، فسألتها عن سبب إصرارها على أن الرسالة موجهة لى، وأن صاحبتها امرأة، لماذا لم تفترض مثلًا أن ولدًا عابثًا هو من يكتبها؟ لم تجب، فلزمنا الصمت، لا أعرف لماذا نحيت عن ذهنى فكرة أن يكون ولدًا عابثًا هو من يكتب؟ وقررت أن أراقب السيارة لعلى أكتشف تلك التى تحبنى. 

بعد الرجوع من العمل غيرت مكان مبيت السيارة، اخترت موضعًا يمكن مراقبته من الشرفة التى صارت مقرًا مفضلًا لتناول شاى المساء مصحوبًا بالأغنيات، وهو الأمر الذى انتقدته زوجتى، رأت فى أغانى الشوق مراهقة متأخرة لا تناسب عمرًا أوشك على المغيب، ولما ضاقت بسهرى مع الكتب وطالبتنى بإطفاء النور، غادرتها مصطحبًا الكتاب إلى الشرفة، لكن ظل الكتاب مغلقًا بينما نظرى ينطلق باتجاه السيارة التى لم يقربها أحد.

طول الوقوف والسهر أنهكانى، فعدت إلى الفراش بصحبة أطياف كثيرات، كل الجارات المرشحات لأن تكون إحداهن صاحبة الرسائل شبه اليومية كن معى، سهرت كثيرًا، أقرب أطيافهن تباعًا وأحاورهن لعل واحدة تبوح وتريحنى، لكنهن جميعًا راوغننى ولم أظفر باعتراف، سيطر علىّ كدر لأن كل الأطياف لأرامل أو مطلقات أو لنسوة تجاوزن منتصف العمر وامتصت الأيام من أجسادهن رحيق الأنوثة، تمسكت يائسًا بفكرة أن تكون الرسائل من شابة جميلة، وأنها تقصدنى أنا تحديدًا، لكن أيهن؟ لن تكون تلك السمراء التى تهتف بى كلما رأتنى:

- صباح الخير يا عم الحاج.

لعلها تلك الساكنة الجديدة التى تقف بصحبة ابنتها كل صباح، فلما تأتى سيارة الحضانة تقذف بالطفلة داخلها وتظل تلوح بيدها مودعة البنت، وكأنها على سفر، فلما تغيب السيارة بابنتها ترمقنى وهى تبتعد، لها ابتسامة جميلة وعينان واسعتان، وتلك الشامة على يسار شفتها تزيدها حسنًا، لعلها هى، سيكون جميلًا أن تكون هى، تصلح لأن أبادلها الحب، على أن أفكر فى طريقة تتيح تواصلًا أفضل، لكن قد تكون ثالثة لا أعرفها، من الغد سأركز فيمن تمر من الصبايا، لا بد أن أعرف من تكون؟

صرت أُبكر بالنزول مانحًا نفسى وقتًا يفيض كثيرًا عما أحتاج لمسح السيارة، أجلس بداخلها محدقًا فيمن تمر، مدققًا فى نظرتها، ومحللًا نبرات صوتها إن قالت صباح الخير دون أن تضيف «يا عم الحاج»، لكن ظللت عاجزًا عن اكتشافها، لذلك قررت تركيب كاميرا للمراقبة، قبل أن أعلن قرارى أسرفت فى الحديث عن انتشار حوادث سرقة السيارات، تظاهرت بالخوف ونجحت فى نقل عدواه إلى زوجتى فاقترحت علىّ أن نلجأ للكاميرا حتى نطمئن، اخترت مكانًا للسيارة يضعها فى بؤرة مجال الكاميرا، وتفرغت تمامًا للمراقبة.

مر صباح دون جديد، وفى الثانى اكتشفت السر، ابن الجيران، الحاصل على دبلوم التجارة، ويغادر يوميًا إلى المدينة القريبة بحثًا عن عمل، ضبطته الكاميرا وهو يشعل سيجارته وينفث دخانها ببطء حتى تنتهى، بعدها يتمطى ويتلفت يمينًا ويسارًا وكأنه ينتظر شخصًا ما، لكن لا أحد يأتى فيخرج من الكادر، بعد دقائق يعود ممسكًا بقفص سوف يحمل فوقه أرغفة الخبز، يركنه إلى جانب السيارة ويخط شيئًا على الزجاج الجانبى، لعله يرسم القلب المعتاد، ثوانٍ ويحمل القفص ويجتاز مجال الكاميرا، يغيب قرابة الساعة، فى منتصفها تظهر ابنة جار آخر، تخفى تثاؤبها بوضع ظهر يسراها على الفم، تقترب من السيارة وهى تبتسم، لعلها رأت ما خطه الولد على الزجاج الجانبى، تنظر إلى وجهها فى مرآة السيارة، ترد خصلة شعر إلى مكانها تحت الحجاب، ترسم قلبًا على مقدمة السيارة ثم تغيب.

يعود الفتى، ظهره يخفى عن الكاميرا القلب المرسوم على مقدمة السيارة، يضع القفص على مقدمة السيارة، ثم يشب مقتربًا من الزجاج الأمامى، لحظة ويبتعد وهو يشعل سيجارة، أرى كلمة «أحبك» واضحة، ألفها مرسوم دون الهمزة.

وتأتى الفتاة، تضع كيسًا من البلاستيك أسود اللون إلى جوار القفص، لعل بداخله كيس فول وقرطاس طعمية، تنتقى عدة أرغفة تضعها فوق رأسها، تتلفت قبل أن ترسم همزة فوق الألف، ثم تأخذ كيسها الأسود وتمضى.

ويأتى هو، يحدق فى الزجاج، لعله يبحث عن كلمة كتبتها، لعله انتبه إلى الهمزة أو لم ينتبه، لا يطول وقوفه، يحمل قفص الخبز ثم يختفى، ولم يعد فى الصورة إلا سيارتى، وعند نزولى أجد القلب الذى رسمته الفتاة مختفيًا تحت الردة التى نثرتها الأرغفة، وبغيظ أضرب بالفوطة ماسحًا السيارة.

تاريخ الخبر: 2023-05-01 00:21:27
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 00:26:34
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 00:26:27
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية