الرياض ومعادلات الإقليم... المبادرة والاستجابة


من يتابع التطورات في الشرق الأوسط وسياسة الإدارات الأميركية حيالها، ولا سيما تحت هذه الإدارة، يرى بوضوح أن العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج، بخاصة السعودية، قد علت وهبطت مراراً و تكراراً في الـ14 سنة الماضية، ولكن يبدو أن هذه العلاقات قد رست على معادلة جديدة، بعد أن فرضت الرياض على نفسها والآخرين، نهجاً استراتيجياً جديداً أرخى بظله على الأصدقاء والأخصام، بمن فيهم أميركا الشريكة التاريخية للسعودية.

بالفعل، فإدارة باراك أوباما، ومنذ يونيو (حزيران) 2009، انحرفت عن سياسة جورج بوش التحالفية مع الرياض، التي تكرست على زمن والده بوش الأول بعد نهاية الحرب الباردة خلال احتلال الكويت بأكبر تدخل أميركي لحماية الخليج والدفاع عن سيادة السعودية. واستمرت هذ السياسة باستقرار طيلة فترتي رئاسة بيل كلينتون، مع الشراكة التجارية الصلبة. أما تحت رئاسة جورج دبليو بوش، فتصلبت الشراكة أكثر اقتصادياً، وانطلقت بقوة في مجال مكافحة الإرهاب حتى عام 2009، حيث قلبت إدارة أوباما المعادلة رأساً على عقب، واتجهت نحو إيران لعقد صفقة شاملة، بينما بدأ أنصارها شن حملة على قيادة السعودية، بخاصة مع صعود نجم الأمير محمد بن سلمان، وكأن توقيع صفقة مع طهران يمر بإبعاد الرياض عن القرارات الإقليمية الكبرى. فتردت العلاقات الثنائية بين السعودية وحلفائها من جهة، وبين إدارة أوباما. فالعلاقات بين إدارة بوش والرياض كانت كالعلاقة بين "الحامي الأميركي" والذي "يُحْمَى" أي السعودية. ومع إدارة أوباما تطورت العلاقة سلبياً إلى "الأميركي الذي يفرض" والشريك السعودي والعربي الذي "يقبل". فوصلت العلاقة إلى الحضيض وبدأت السعودية تحمي نفسها في اليمن بمساعدة تحالف إسلامي وعربي.

مادة اعلانية

ومع دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض انقلب كل شيء رأساً على عقب، فتم تغيير سياسة أوباما، وأعاد الرئيس الجديد حينها السعودية إلى موقعها كحليف أساسي، وعاد التنسيق بخاصة بعد قمة الرياض تجاه إيران والجماعات الإسلامية المسلحة. فتقدم الوضع بين البلدين إلى درجة أعلى من فترة بوش الأب والابن. وألغى ترمب الاتفاق النووي ووضع "الباسدران" (الحرس الثوري الإيراني) على لائحة الإرهاب، ووجه ضربات إلى الميليشيات في المنطقة، ولكن إدارة ترمب وإن تحالفت مع السعودية، فبيروقراطياتها لم تفهم الثورة التصحيحية العميقة التي أطلقها ولي العهد السعودي، وظلت العلاقة تتقدم، ولكن ليس في الإطار التاريخي المطلوب لشراكة مع قوة إقليمية لها تحالف إسلامي دولي، ولكن باتت العلاقة في موقع أفضل بكثير من التوتر خلال سنوات أوباما.

سنوات بايدن

إدارة جو بايدن عادت بشكل سريع لعهد أوباما، من رفع جماعة الحوثي عن لائحة الإرهاب، مما شكل صدمة في الرياض وعواصم التحالف، إلى القفز باتجاه الاتفاق النووي، والتنازل المتدهور باتجاه طهران، فاقتنعت القيادة السعودية بأن واشنطن تغير سياساتها كتغيير الطقس، وأن أيام السياسة الخارجية الثابتة والمستقرة لواشنطن قد ولت، وأن تولي الإدارات المتخاصمة يخلق عدم استقرار مع الحلفاء الدائمين. وجاءت قمة جدة في الصيف الماضي لتحسم النظرة السعودية والعربية للتذبذب في واشنطن. وكما كتبنا سابقاً، فقد طلب بايدن من القيادة السعودية أن "تساعد أميركا" في إنتاج أكبر للنفط، وأن تسعره بما يناسب خطة الإدارة. وربما كانت الرياض لتلبي طلباً كهذا، ولو على حساب مصالحها، ولكن واشنطن رفضت أن تخرج من الشراكة غير الرسمية مع طهران.

وكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى السعودية. فالقيادة في الرياض لم تعد قادرة على تحمل أمواج السفينة الأميركية في كل مرة تغير اتجاهها، ولا سيما في ظل علاقات دولية متشنجة وحروب مدمرة ووضع اقتصادي عالمي هائج. وبين سياسات أوباما وترمب وبايدن، اختارت السعودية سياسة الاستقلال السياسي والتأني والاختيار الذاتي المبني على مصالحها المباشرة وعلى مصالح كتلتها الإقليمية. وفاجأت الرياض الغرب بوثبتها لإعادة التموقع عبر قمة بكين والتطبيع الحذر مع طهران، ومن ثم استيعاب سوريا والتموضع كقيادة الوسط دولياً، أي التحول إلى حكم بدلاً من أن تكون طرفاً تابعاً.

سياسة الحكم

وسرعان ما شاهد العالم سعودية جديدة تنتقل إلى موقع الحكم (Referee) مع انفجار "حرب الجنرالين" في السودان. فوجهت السعودية دعوة إلى طرفي القتال إلى جدة لمحادثات وقف الصراع. وسرعان ما زار مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان السعودية "لشكرها للعب هذا الدور المهم لنزع فتيل حرب رهيبة"، بسبب صعوبة التوسط بينهما.

وبدأ كلام عن مبادرات عدة في المنطقة قد تنطلق من السعودية، وبينها تحرك تجاه لبنان، وآخر لمساندة الصين في سعيها إلى وقف حرب أوكرانيا، إضافة إلى احتمال وساطة بين إسرائيل والفلسطينيين، لإنقاذ "الاتفاقية الإبراهيمية"، وغيرها من المبادرات. وبدأنا نرى السعي الدبلوماسي الأميركي لدعم مبادرات تحتاج إليها واشنطن لتوطيد لاستقرار في المنطقة، ولا ترى أمامها إلا "السعودية الجديدة" التي حزمت أمر علاقاتها الدولية، فانتقلت من موقع التابع إلى موقع الحكم المستقل، ففاجأت القوى الكبرى بهذا الدور الوسطي القادر، وصنعته بنفسها.

*نقلاً عن "إندبندنت عربية"

تاريخ الخبر: 2023-05-10 06:18:02
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 95%
الأهمية: 89%

آخر الأخبار حول العالم

عادل رمزي مدربا جديدا لمنتخب هولندا لأقل من 18 سنة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:26:15
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 53%

عادل رمزي مدربا جديدا لمنتخب هولندا لأقل من 18 سنة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:26:19
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية