"الوهم نصف المرض، والهدوء نصف العلاج، والصبر أول خطوة نحو الشفاء".

مقولة تُنسب إلى ابن سينا وهو طبيب وفيلسوف وشاعر وموسيقي وعالم نفس مسلم من أشهر العلماء المسلمين في العصور الوسطى وأكثرهم تأثيراً

في وقت كانت فيه أوروبا تؤمن أن الشياطين والأرواح الشريرة هي سبب الأمراض النفسية، أدرك ابن سينا العلاقة الوثيقة بين المشاعر النفسية والحالة الجسدية، ووصف العديد من الاضطرابات النفسية وطوّر العلاج بالصدمة والموسيقا وتغيير نمط الحياة، بالإضافة إلى العديد من الإسهامات الكبيرة في مجال الطب والفلسفة وغيرها.

*إسهامات ابن سينا في الطب النفسي

يُعد ابن سينا من أوائل العلماء المسلمين الذين تحدثوا عن أهمية العلاج النفسي، وتأثير المرض النفسي في الأعصاب والجسم، ووصف العديد من الاضطرابات النفسية المختلطة التي تجسد سمات الهوس والاكتئاب والذهان قبل 1,000 عام تقريباً من وجود الطب النفسي الحديث، بالإضافة إلى أن ملاحظاته السريرية الخاصة بالمرضى المصابين بالسوداوية تتفق إلى حد كبير مع تلك الخاصة بالأطباء المعاصرين، وقد كان رائداً في الطب النفسي العصبي، فوصف العديد من الحالات العصبية والنفسية الأخرى مثل الهلوسة والأرق والخرف والصرع والشلل والسكتة الدماغية والدوار والرعشة.

كذلك قادت نظرياته وملاحظاته إلى تطوير مجموعة متنوعة من العلاجات للأمراض النفسية؛ مثل العلاج بالتعرض، والصدمة، والموسيقا، واتباع النظام الغذائي الصحي، والأدوية، وقدّم قُرابة 30 نوعاً من الأعشاب الطبية لعلاج الاكتئاب وإدارته بالإضافة إلى إجراء التغييرات في نمط الحياة.

كما أدرك ابن سينا علم النفس الفيزيولوجي في علاج الأمراض التي تنطوي على العواطف، وطوّر نظاماً لربط التغيرات في معدل النبض بالمشاعر الداخلية، وغالباً ما كان ابن سينا يستخدم طرائق نفسية لعلاج المرضى الذي يعانون من حالات نفسية؛ ومن إحدى الحكايات أن أميراً في بلاد فارس كان يعاني من سوء التغذية والكآبة ويهلوس أنه بقرة يجب أن تُذبح، وعندما اقتنع ابن سينا بالقضية، أرسل رسالة إلى المريض يطلب منه أن يكون سعيداً لأن الجزار قادم ليذبحه، فابتهج الرجل المريض، ولما اقترب ابن سينا من الأمير وبيده سكين، سأل: "أين البقرة فأقتلها"؟ فصرخ المريض مثل بقرة للإشارة إلى مكانه، فلما اقترب ابن سينا من المريض المتظاهر، قال: "إن هذه البقرة هزيلة جداً وغير مستعدة للذبح، وينبغي إطعامها جيداً وسأقتلها عندما تسمن"، وهكذا؛ عرض على المريض طعاماً يأكله، فاكتسب القوة تدريجياً وتخلص من أوهامه وشفي تماماً.

*العلاقة بين النفس والجسد

يرى ابن سينا في علم النفس الخاص به أن العقل البشري يشبه المرآة، ولديه القدرة على عكس المعرفة لأنه يستخدم الذكاء الفعال (أي التفكير)، فكلما فكرنا أكثر كانت المرآة أوضح وأكثر لمعاناً؛ ما يجعل المرء يوجه نفسه نحو اكتساب المعرفة الحقيقية. علاوة على ذلك، اعتقد أن العقل يتحكم في الجسد، وأن ثمة علاقة هرمية مباشرة بين الاثنين، فعندما يريد العقل أن يحرك الجسد، يستجيب الأخير، في حين أن المستوى الثاني من سيطرة العقل على الجسد يكون من خلال التأثير في المشاعر والإرادة؛ إذ يمكن أن تسبب المشاعر القوية نبوءات تحقق ذاتها، فإذا ما اعتقد المرء أنه سيفشل في أمر ما، فإن احتمالية الفشل ستزداد.

وقد أسهم ابن سينا في فهم ما يُعرف بـ "المرض النفسي الجسدي"؛ وهو الحالة التي يمكن لبعض العوامل النفسية مثل التوتر والقلق والاكتئاب أن بسبب فيها أعراضاً جسدية مثل الصداع وآلام المعدة والإرهاق.

ويمكن تشبيه ذلك بتأثير الإجهاد في جهاز المناعة؛ الذي يؤدي بدوره إلى زيادة احتمال الإصابة بالأمراض الجسدية.

كما قترح ابن سينا فكرة مفادها أن البشر لديهم القدرة على التغلب على الأمراض الجسدية من خلال إقناع أنفسهم بقدرتهم على التحسن والشفاء، في حين أن الشخص السليم قد يمرض إذا ما توهّم أنه مريض.

وقد شكّل هذا الارتباط بين النفس والجسد أساس تحليلاته للاضطرابات النفسية، فوثق العديد من الحالات بدقة؛ أهمها الهذيان واضطرابات الذاكرة والهلوسة وشلل الخوف ومجموعة من الحالات الأخرى، بالإضافة إلى أنه أسهم في التخلص من المعتقدات السابقة القائلة إن الأمراض النفسية تنتج من الشياطين أو الأرواح الشريرة أو إنها حالات خارقة للطبيعة.

وباختصار يمكن القول إن نظريات ابن سينا قد أسهمت في فهم العلاقة بين العوامل النفسية والصحة الجسدية، ومهدت الطريق إلى تغيير الطريقة التي يُنظر فيها للأمراض النفسية والأساليب العلاجية التي يمكن اتباعها.