فوق السطح

اعتصر الألم رأسى، حتى إننى شعرت وكأن طائرًا لامعًا يتخبط داخل جمجمتى، طائرًا ذا جسم معدنى.. طار خارج رأسى، وصارت أجنحته أكبر فأكبر، وأخذت تشع بضوء أبيض فضى تحت شمس الظهيرة، بإمكانه إذا ما حلَّقَ نحو الغرب رؤية المنازل والبرارى والطريق الدائرى الخامس والسادس ثم الجبل الغربى، ولو أنه طار باتجاه الشرق فيمكنه أيضًا رؤية الطرق والمبانى أيضًا. ستبدو له المبانى كالجبال والطرق كالأودية والمجارى المائية كأنها تعج بالسيارات والمشاة. بكين من منظوره مدينة كبيرة إلى أبعد حد، إلى حد أنها لا تترك فرصة لأحد ليلتقط أنفاسه! ظل يطير ويطير وهو يشع لمعانًا.

«ارمِ ورقك!».

رميت ورقة ٦ قلب أسود وقلت: «طائر».

حدقوا فى وجهى باستغراب.

راجعت نفسى ثم قلت سريعًا: «٦ قلب أسود».

«هذا هو الكلام الصحيح، قد يعقل أن تكون هذه الورقة أشبه بالعضو الذكرى لكنها لن تكون أبدًا أشبه بطائر!».

جلسنا فوق السطح نلعب لعبة «الشايب»، وظل شجرة الصفيراء يغطينا نحن الأربعة: شينج جيان، ومى لوه، وباو لاى، وأنا. أتم باو لاى العشرين هذا العام، وكان أكبرنا، وكنت أصغرهم؛ فقد تخطَّيت السابعة عشرة لتوى.

نعيش فى غرفة مستأجرة فى ضواحى حى هايديان. كنا نلعب الورق على السطح طوال النهار بداية من حلول الصيف وحتى حلول الخريف؛ وتحديدًا لعبة الشايب، فهى لعبة سهلة التعلم ولا يُمل منها. الشخص الذى تقع فى يده ورقة الشايب لا يخبر البقية، فهو عدو مشترك للثلاثة الآخرين. من يخسر يتعين عليه شراء السجائر والبيرة، ودائمًا ما يخسر الشخص الذى يواجه الثلاثة الآخرين؛ فمن تقع فى يده ورقة الشايب شخص سيئ الحظ. ومنذ أن سكنت مع هؤلاء الثلاثة وأنا أتبعهم إلى السطح والجلوس تحت ظل شجرة الصفيراء، وكانت ورقة الشايب من حظ باو لاى دومًا؛ وهذا غريب بالفعل! بدا كأن لهذه الورقة عيونًا تعرفه فتذهب إليه مباشرة كل مرة، ومن بين مائة جولة كانت الورقة تقع فى يده لما لا يقل عن خمس وتسعين مرة تقريبًا! حتى إننا بعد توزيع الورق كنا نسارع ونقول: 

«باو لاى، دعنا نرى ورقة الشايب التى تمسكها فى يدك!».

فكان يستسلم ويظهرها أمامنا وهو يقول: «ها هى».

لم تكن توقعاتنا تخيب تقريبًا، فها هو يخسر ثانية، أعطيته سيجارة ماركة تشونج نانهاى وكوب بيرة ماركة يانجينج كنت قد ربحتهما فى جولة سابقة، وقلت: «أيها الأخ باو لاى، أعطها لهما».

حقيقة كنت أشعر ببعض الأسف تجاهه، فوق أننى لا أدخن ولا أشرب البيرة! بل كنت أستشعر الحرج من سيجارة تتدلى من فمى وكوب بيرة فى يدى. كنت فى السابعة عشرة وقتذاك، وجئت إلى بكين فى بداية الصيف بعد أن تركتُ الدراسة؛ فقد كنت أكره مذاكرة الدروس، وأشعر بالصداع بسببها. أطلق الطبيب على هذا المرض اسم «الوهن العصبى»، وأخذ يكتب روشتة الدواء وهو يقول: شراب مهدئ ومنشط للدماغ، فيتامين مكمل غذائى، جرعة عند الشعور بالصداع أو التوتر. النوع الثانى كان زجاجة شبيهة بالمبيد الحشرى! فى كل مرة أفتح غطاءها أجدنى أقول: هذا سم! التأثير العلاجى لهذا الدواء لا يكاد يُذكر. كنت كلما حلّت الرابعة أو الخامسة عصرًا أقف أعلى المبنى التعليمى للصف الثانى الثانوى أتطلع إلى غروب الشمس.. شعور بالذعر ينتابنى لسبب غير مفهوم، وكأن العالم كلَّه ملىء بصوت نبضات قلبى العنيف، وكأن شرايينى وأوردتى أشبه بعيدان قرع الطبول. 

يطلق الأطباء على هذا العَرَض اسم «الخفقان». حسنًا، ولكن لماذا أعانى خفقان القلب؟ كنت أحس كأن طوقًا لتعويذة سحرية يطوق رأسى، يطبق على دماغى كلَّما طالعت الكتب، فأظل أعانى من الألم، ويصيبنى الأرق ليلًا، ولا أرغب فى الاستيقاظ صباحًا، وحتى لو أننى نمت فإن نومى يكون خفيفًا وكأنى أطفو فوق سطح النوم، بحيث يمكن لعطسة بعوضة أن توقظنى! غالبًا ما أرى نفسى كشخص آخر يقف بجانب السرير يتطلع إلىَّ وحدى داخل عنبر النوم المخصص لثمانية طلاب، بينما الطلاب السبعة الآخرون فى العنبر يشخرون ويجزون على أسنانهم ويهذون فى أحلامهم ويطلقون الريح كما يحلو لهم. قال الطبيب: عليك بممارسة رياضة الجرى؛ فالجرى يحسن استثارة الأعصاب، هل تعلم أن أعصابك فقدت مرونتها مثل الأربطة المرتخية التى فقدت مرونتها بسبب التوتر المفرط، ولذلك فأنت بحاجة إلى ممارسة الرياضة لاستعادة مرونتها مجددًا.. المشكلة أننى لا يمكننى النهوض لممارسة الجرى فى منتصف الليل!

لكن الطبيب قال إنَّ علىَّ ممارسة الجرى، حزمت أمتعتى وعدت إلى المنزل؛ فلم تعد لدى قدرة على الاستمرار فى الدراسة بعدها. أخبرت والدىَّ أننى لن أكمل دراستى، حتى لو قُتلت ضربًا. شعرا بالريبة حيال هذا المرض الغريب مثلى تمامًا، أخذ والدى يحوم حول رأسى، يرفع يده اليمنى ثم يضم الإبهام والسبابة معًا، على أمل أنه إذا اكتشف سلكًا معدنيًا لامعًا فسوف يمسك به على الفور ويخرجه من رأسى! وكأنه يقول لنفسه: لا يمكن أن أترك هذا السلك اللعين الخفى يفلت، وحين لم يعثر على شىء جلس على كرسى قديم من الخيزران، أرجله غير مستوية، ثم تحدث لوالدتى بجدية، قائلًا:

«ما دام سيجلس عاطلًا، فلنتركه يذهب إلى بكين رفقة هونج سانوان، ربما يجنى بعض المال حتى لشراء زجاجتين من النبيذ!».

قالت والدتى: «لكنه لا يزال فى السابعة عشرة».

«وما المشكلة؟ لقد أنجبنى والدى وهو فى السابعة عشرة!».

وهكذا جئت إلى بكين رفقة هونج سانوان. هونج سانوان هو زوج عمتى، يعمل فى مهنة تزوير الأوراق والشهادات فى بكين. أدرك أنه صار من الأثرياء عندما أتطلع إلى نوع الملابس التى يرتديها والسجائر التى يدخنها فى كل مرة يعود إلى مسقط رأسه. يدخن سجائر تشونج نانهاى الزرقاء فقط، وعندما يقابل أيًا من أبناء القرية يعطيهم من سجائره بسخاء وهو يقول: كبار قادة الدولة يدخنون هذا الصنف. كان يعطى والدى سيجارتين: واحدة يدخنها، والثانية يضعها فوق أذنه، كى يفركها ويشمها لبعض الوقت قبل أن يدخِّنَها.

سكنت مع شينج جيان، ومى لوه، وباو لاى فى تلك الغرفة الصغيرة، إيجارها مائتان وأربعون يوانًا شهريًا، بها سريران بطابقين. نقوم نحن الأربعة بعمل محدد: الخروج ليلًا للصق الإعلانات فى الشوارع، يحمل كل منا قلم حبر سميكًا ونكتب العبارة التالية فى الأماكن النظيفة الواضحة: لعمل الشهادات ونقش الأختام يرجى الاتصال على الرقم ××××××. ورقم ××× هو رقم جهاز النداء الآلى. يعمل كل من شينج جيان ومى لوه لحساب شخص اسمه تشن شينجدوه، أما أنا وباو لاى فنعمل لحساب زوج عمتى، بالطبع كان رقم جهاز النداء الآلى الذى يكتبه كلانا يخص زوج عمتى هونج سانوان، أحيانًا لم نكن نستخدم قلمًا للكتابة، بل نمسك بإسفنجة مشبعة بالحبر بإحدى الأيدى، وختم محفور بالبطاطس النيئة أو الفجل الأبيض باليد الأخرى، نمسح على الختم بالإسفنجة ثم نختم به، كان هذا أسرع بكثير من الكتابة. كنت أنا مَن نقش هذا الختم بنفس العبارة التى نكتبها بالقلم، لم تكن ذات منظر جيد، ولكنها كانت واضحة، من يلمحها يفهمها سريعًا.

لم نكن نعمل إلا ليلًا؛ خوفًا من ملاحقة الشرطة. فالشرطة وأفراد البلدية منتشرون فى كل مكان، يلقون القبض على كل من تلمحه أعينهم، لكن انتشارهم يقل بعد منتصف الليل، وقلَّما وجدت أحدهم مستيقظًا حتى فى الأماكن الصاخبة مثل شارع تشونج قوانتسون. لذلك كنا نكتب ونطبع الإعلانات بجرأة على الجدران، ولوحات محطات الحافلات، وجسور المشاة، والسلالم، وحتى على الطريق. وكنا نعيد كتابة ما يمسحه عمال النظافة.. لن تستطيع النيران القضاء على العشب ما دامت رياح الربيع تهب! وعليه فسوف ينجح أولئك الراغبون فى عمل الأختام أو الشهادات المزيفة فى الوصول إلى هونج سانوان وفقًا لبيانات الاتصال المكتوبة، وسينجح هونج سانوان فى الوصول إلى المحترفين المختصين فى القيام بذلك.

من مجموعة «حكايات من ضاحية بكين الغربية»

 

تاريخ الخبر: 2023-05-20 21:21:54
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 50%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

عملية الإخلاء من رفح تشمل نحو 100 ألف شخص وحماس تصفها بـ"تطور خطير"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:14
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:00
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 70%

عملية الإخلاء من رفح تشمل نحو 100 ألف شخص وحماس تصفها بـ"تطور خطير"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:18
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 63%

وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:04
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 51%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية