المبادرة العربية هل تعود بقوة؟


"لسنا دولة محتلة. نحن احتلال له دولة. الاحتلال هو مشروعنا الوطني الأكبر، وهو يستمر منذ فترة طويلة جداً"، هكذا كتبت السياسية الإسرائيلية زهافا غلئون في "هآرتس" عبر مقالة لمناسبة ذكرى "حرب الأيام الستة" بحسب التوصيف الإسرائيلي والعدوان الذي أنجب "النكسة" وفق الأدبيات العربية.

والمقالة واحدة من مقالات عدة تناولت موقع إسرائيل وسياساتها بعد مرور 56 عاماً على تلك الحرب التي تمكنت خلالها من احتلال شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان السورية قبل أن تنسحب من سيناء لاحقاً بمقتضى معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية التي رعتها الولايات المتحدة الأميركية.

مادة اعلانية

نتائج حرب يونيو (حزيران) وضعت الشعب الفلسطيني بأكمله تحت الاحتلال الإسرائيلي. قبل ذلك كان قسم منه خارج الاحتلال. في غزة ترعاه مصر وفي الضفة الغربية كان جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية. أما الذين تشردوا في مخيمات دول الجوار، فكانوا لا يزالوا يحلمون بعودة إلى أراضي "دولة إسرائيل" المعلنة عام 1948، عندما داهمهم ضياع الوطن كله.

منذ النكبة، ثم منذ 1967 قيل الكثير وكتب الكثير عن إضاعة الفلسطينيين وأشقائهم العرب فرصاً ثمينة لاسترجاع بعض ما فقدوه، والآن حان دور الإسرائيليين للتفكير في ما فعلوه وإلى أين يمكنهم الوصول بعدما باتوا يتمتعون بهذه الصفة الفريدة "احتلال له دولة".

ربما تكون النقاشات والمناظرات والتحليلات التي تشهدها إسرائيل هذه الأيام فريدة من نوعها. تبدأ من الخلافات حول إصلاح القضاء التي شقت المجتمع عمودياً ولا تنتهي في أخطار الساحات المفتوحة ضدها مروراً بالمشروع النووي الإيراني والخلاف مع الإدارة الأميركية وصولاً إلى حروب غزة المستعادة والتوتر المتصاعد في الضفة وأخيراً حادثة إطلاق جندي مصري النار على موقع إسرائيلي شمال سيناء.

تدفقت كل هذه العناوين دفعة واحدة إلى المجال السياسي، فأثارت جدلاً وانتهت أفكار لم يكن سائداً سماعها في زمن يونيو (حزيران) والانتصارات المطلقة. من هذه الأفكار ما كتبه الصحافي الإسرائيلي عكيفا إلدار في "هآرتس"، قائلاً "يوم الإثنين في الخامس من يونيو يقوم الشعبان بإحياء يوم النكسة: سيحزن الشعب الفلسطيني على 56 سنة من الإهانة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويسجل الشعب الإسرائيلي- اليهودي سنة أخرى من السقوط في هاوية الفصل العنصري والاستبداد والعزلة". ثم يشبه الكاتب الانتصار الإسرائيلي بانتصارات بيروس (ملك إبيروس الإغريقي الذي حقق انتصارات عدة في حروب كلفته خسائر فادحة) الذي قال، "انتصار آخر كهذا ونكون انتهينا."

هناك شعور بالاختلال وعدم اليقين يلازم بعض النخبة الإسرائيلية منذ فترة، عمّقه مجيء الحكومة اليمينية الحالية التي تضم رموزاً متطرفة في عدائها العنصري للعرب، وشقت المجتمع الإسرائيلي إلى نصفين متناقضين بسبب عزمها على تنفيذ مشروعها لـ"الإصلاح القضائي".

بدت إسرائيل بعد 56 سنة على انتصارها الكاسح في يونيو دولة مفككة وغير واثقة، سياستها الوحيدة إدارة الظهر للقرارات الدولية الخاصة بحقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 ومواصلة سياسة الاستيطان وقضم الأراضي وأحدث مشاريعها في هذا المجال سيؤدي في حال تنفيذه إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها.

تجاهلت كل الدعوات إلى تسوية سلمية عادلة تلامس جوهر الصراع وانصرفت إلى أولويتين أخريين، المواجهة مع المشروع النووي الإيراني والتركيز على علاقات السلام مع العالم العربي، واعتقدت بأنه يمكن استناداً إلى التهديدات الإيرانية للأمن القومي والمجتمع العربي القفز فوق "القضية المركزية العربية في فلسطين" لبناء نوع من التحالف العربي- الإسرائيلي في مواجهة أخطار السياسة الإيرانية.

لم يكن مقدراً لهذه الرؤية الإسرائيلية الصمود طويلاً. صحيح أن إيران استفادت من "الحرب الإعلامية المفتوحة" مع إسرائيل لتبرير بناء وتعزيز شبكاتها المحلية في فلسطين ومحيطها ولتعزيز نفوذها المعنوي والمادي في بعض العالم العربي، لكن انعدام الأفق والثقة بالمشروع الإيراني واستمرار إسرائيل في قمعها وتجاهلها حقوق الفلسطينيين، أديا إلى فرملة مشاريع السلام من جهة وإلى فتح صفحة جديدة في العلاقات العربية- الإيرانية، قادتها السعودية، قوامها استعادة العلاقات الطبيعية على قاعدة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

أدى الإصرار الإسرائيلي على مواصلة منطق الاحتلال والاستيطان إلى مزيد من الصدامات في داخل فلسطين ومزيد من الأثمان الفادحة يدفعها فلسطينيو الضفة والقطاع، ومنح فرص إضافية لإيران لتوسيع نفوذها والإعلان صراحة كيف أن "أياديها الخفية" باتت تصل إلى الضفة بعد قطاع غزة الذي تقيم إيران علاقات وثيقة مع "مقاومته" التي تتبادل بدورها قصفاً مع إسرائيل في حروب دورية تنتهي غالباً إلى هدنة موقتة تقصر أو تطول كتلك التي تعمل عليها مصر الآن مع حركتي "حماس" و"الجهاد".

ذهبت بعض الأصوات في إسرائيل على وقع التأزم الحاصل إلى المناداة بدولة واحدة كتلك التي دعا إليها معمر القذافي يوماً وسماها "إسراطين"، وذهب قادة التطرف الحكومي إلى دعوات وممارسات تصل إلى حد التطهير العرقي. وبين الرؤيتين عاد إلى الواجهة من يقول بحل الدولتين والمبادرة العربية.

بارك الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي في نهاية مايو (أيار)، موت حل الدولتين على يد نتنياهو الذي وضع المجتمع الإسرائيلي أمام الاختيار بين "الأبرتهايد" و"نكبة-2 " وبين دولة ثنائية القومية ذات حقوق متساوية. ورد زميل ليفي عكيفا إلدار، بالنسبة لي "هذا اختيار بين مرض السل ومرض الكوليرا. على قباحة نظام الأبرتهايد الذي تفرضه إسرائيل في ’المناطق‘ ليست هناك حاجة إلى إطالة الكلام. في المقابل، يشبه جمع اليهود والفلسطينيين تحت سيادة مشتركة فرض السلام على زوجين كبيرين في السن، منذ زواجهما لم يتوقفا عن التشاجر، بدلاً من الانفصال بالحسنى هما يحولان حياتهما إلى جهنم "!

الصوت الأقوى في إسرائيل لا يزال لمصلحة سياسات الاحتلال والفصل والاستيطان في مناخات ضاغطة أكثر من أي وقت، تستفيد منها المجموعة الحاكمة لإعلاء صوت الاستعداد لحروب في الشمال والجنوب وعلى كل الجبهات. لكن تحليلات تلك المجموعة تصطدم بدورها بجملة من الوقائع الجديدة على المستويين الدولي والإقليمي. لقد قسّمت حرب أوكرانيا العالم، وفي الإقليم تحول جديد مع عودة العلاقات الخليجية- العربية- الإيرانية، وعودة سوريا لجامعة الدول العربية إشارة إلى منحى جديد تم إقراره في قمة جدة التي أكدت أولوية حل القضية الفلسطينية على قاعدة المبادرة العربية ومشروع الدولتين.

هذه "المبادرة- الحل" لا يشير إليها بنيامين نتنياهو وحكومته الاستيطانية، على رغم حرص الدول الراعية لإسرائيل على التذكير بها، وأميركا في طليعة تلك الدول التي غالباً ما تعلن تمسكها بحل الدولتين، على رغم إيلائها اهتماماً بأولوية التهدئة وعلاقات إسرائيل مع العالم العالم العربي.

حل الدولتين قرار دولي جامع تنقصه إرادة التنفيذ وتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في هذا الخصوص، والمجموعة العربية قالت كلمتها في هذا الشأن منذ قمة بيروت عام 2002 عندما أطلقت مبادرتها للسلام التي عادت لتأكيد التمسك بها في كل القمم العربية اللاحقة وصولاً إلى قمة جدة الأخيرة التي استضافتها وترأستها السعودية.

رفضت إسرائيل المبادرة وتجاهلتها. نتنياهو قال في مثل هذه الأيام قبل سبعة أعوام، "في حال قامت الدول العربية بجلب الاقتراح من عام 2002 قائلة: إقبلوه أو ارفضوه فسنقول لهم سنرفض".

في حينه رد الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي قائلاً، "هذا كلام مرفوض تماماً لأن مبادرة السلام العربية لها فلسفة معينة وترتيب معين وصدرت في شأنها قرارات من 14 قمة عربية" حتى 2016.

في ذلك الوقت سعى نتنياهو، في ظل الانقسام الفلسطيني والتوتر السائد بأنحاء المنطقة إلى استبدال الحل الفلسطيني بالسلام مع الدول العربية. بقي ذلك همه الأساس ووظف علاقاته الأميركية من أجل إقامة علاقات مع السعودية التي كانت واضحة في رفضها "نحن على استعداد لعلاقات مع إسرائيل بمجرد أن تنفذ مبادرة السلام"، قال مندوب الرياض لدى الأمم المتحدة عبدالله المعلمي في ذروة مساعي إسرائيل والولايات المتحدة من أجل علاقات السلام في الـ14 من ديسمبر (كانون الأول) 2021.

في قمة جدة العربية الأخيرة جدد العالم العربي بقيادة السعودية تأكيد المبادرة كصيغة لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والعربي- الإسرائيلي. كان العالم يتابع ما ستقوله القمة برئاسة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وجاء بيانها الختامي واضحاً وصريحاً في رسم ما يجب أن يتحقق.

وازدادت قناعة المراقبين والمهتمين بأن جامعة الدول العربية برئاسة السعودية ستلعب دوراً قيادياً نشطاً يكمل النهج الحيوي الذي يتابعه ولي العهد في قيادة المملكة، ما ينعكس على كل القضايا العربية المطروحة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

بعد القمة وعشية زيارة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إلى السعودية نصحته صحيفة "واشنطن تايمز" قائلة، "إذا مدت واشنطن يد التعاون المحترمة والصادقة إلى ولي العهد السعودي المفعم بالنشاط وصاحب التفكير المستقبلي، فلن يكون لديها أفضل من الأمير محمد بن سلمان".

يعكس هذا القول تغييراً فرضته خلاصات قمة جدة والنهج السعودي المسؤول والمستقل في معالجة شؤون الإقليم، من العلاقات على ضفتي الخليج إلى المشرق العربي وفلسطين تحديداً.

تراجعت طبول العلاقات الإسرائيلية- الأميركية إزاء تجديد التمسك بالمبادرة العربية وأولويات السلام العادل، وإزاء تراجع التوتر في العلاقات الإقليمية وجدت إسرائيل نفسها أمام الحقيقة العارية، هل هي دولة احتلال أم احتلال في دولة؟ وإلى متى؟

لم يمت حل الدولتين تقول "هآرتس". زعماء إسرائيل "من اليمين المتطرف وحتى اليسار الثرثار أدخلوه إلى حال التخدير والتنويم، ولحسن الحظ أن زعماء الدول العربية يرفضون فصله عن أجهزة التنفس".

في ظروف إسرائيل الداخلية والإقليمية الراهنة سيزداد الانقسام حول الوجهة المطلوب سلوكها، وما من شك في أن رؤى واقعية ستبرز في وجه نظريات الفرز العنصري، وسيكون المشروع العربي في صلبها. "فتفويت حل التقسيم المقترح في مبادرة السلام العربية يذكر برفض العرب والفلسطينيين التقسيم عام 1947"، وفق هآرتس.

في حينه طالب الفلسطينيون بكامل الأرض ورفضوا الاعتراف بإسرائيل، الآن إسرائيل تطالب بـ"أرض إسرائيل الكاملة" وترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية. رفضان لا يصنعان سلاماً وإنما نكبات متلاحقة.

* نقلا عن " اندبندت عربية"

تاريخ الخبر: 2023-06-12 21:18:38
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 93%
الأهمية: 90%

آخر الأخبار حول العالم

قالمة: 45 رخصـة استغـلال واستكشـاف للثـروة المنجميـة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 03:24:16
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 59%

إبادة جماعية على الطريقة اليهودية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 06:06:57
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 92%

تبسة: اتفاقية للتقليل من تأثيرات منجم الفوسفـات ببئر العاتـر

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 03:24:18
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 53%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية