في كتابها "داء منتصف الليل" تذهب الكاتبة والطبيبة الأمريكية "ألس ويفر فليرتي" إلى استكشاف العلاقة المعقدة بين العاطفة والكتابة، وترى أن فرط الكتابة ليس مؤلما ولا شائعا، أما عن حبسة الكتابة فهي مؤلمة وشائعة.

تبدو حبسة الكتابة أمر شائع ومؤلم  يصل أحيانا إلى التوقف لسنوات طويلة عن الكتابة هذا ما جرى  تحديدا مع الشاعرة العراقية نازك الملائكة والتي انقطعت تماما عن كتابة الشعر لفترة وصلت  لـ3 سنوات، هناك من انقطع تماما عن كتابة جنس أدبي بعينه ليأخذ مسار جديدا وهذا ما قد نشهده في سيرة عدد من الكتاب والنقاد العرب  نموذج الناقد والأكاديمي عادل ضرغام الذي بدأ حياته شاعرا وانقطع تماما عن كتابة الشعر ليبحر في عالم النقد.

ونرصد في التقرير التالي شهادات لكتاب مصريين وعرب عاشوا التجربة: 

حسين مقبل: حافظة جهازي ممتلئة بالنصوص غير المكتملة 

يقول الشاعر اليمني حسين مقبل: "منذ فترة ليست طويلة بدأت أترك بعص النصوص غير المكتملة، وهذه حالة لم أكن أعاني منها من قبل، فأنا لا استطيع التوقف عن كتابة نص ما قبل أن أكتب آخر كلمة فيه، هكذا عهدت نفسي... 

وتابع مقبل: “فالكتابة بالنسبة لي هي فكرة تولد وتتكثف إلى أن تصبح جاهزة لتكون نصا كاملا، حيث أشعر أني أفرغ شيء ما يثقل رأسي وما أن أنتهي حتى تعود تلك الخفة التي تطير معها مخيلتي للبحث عن فكرة أخرى”.

وتابع: “سمعت كثيرا من زملائي أنهم يكتبون جزء من نص ثم يعودون لإكماله لاحقا... كنت أشعر بالاستغراب والحيرة، هل أنا مختلفًا، أم عشوائياً ؟ حيث إني أعتقد بعدم وحدة الفكرة إذا كان ثمة تقطع، فمرور الوقت يولد أفكار جديدة ويخلق اتجاهات مختلفة تجعل من النص ذو بعدين لا يلتقيان أو أكثر من بعد... يُخلق معها النص مشوها... هذا كان بالنسبة لي إيمان مطلق ولا زال”.

وواصل: “في الآونة الأخيرة أصبحت لا أستطيع أن أكمل أي نص بدأته هذا ما جعل حافظة جهازي ممتلئة بالنصوص  غير المكتملة، نصوص أعد نفسي أني سأكملها لكن مجرد وعود لا أستطيع أن أفي بها، وهذا ما يجعلني أؤمن أكثر بمعتقدي في أن الانقطاع يعني القطيعة مع النص وسيصبح مجرد جزء من نص مفقود”.

وتساءل: “هل أستطيع أن أطلق على ما أعاني منه حبسة الكتابة؟ ربما لا... أو نعم”.

وختم مقبل: “لكن يبقى الشيء الجوهري في خضم هذا كله هو المزاج الفكري والنقاء الذهني، فضغوطات الحياة ومشاغلها تأخذ مساحة كبيرة من اهتماماتنا ... فالكاتب بحاجة إلى استراحة من تراكمات الأيام ليعود أكثر نشاطاً، بذهنٍ مصقول وخيال متجدد وهذه وصفة ربما تعالج ما يعرف بحبسة الكتابة أيضا”.

عيد عبد الحليم: اعتبر انقطاعي عن الكتابة فترة نقاهة 

من جانبه يرى الكاتب الصحفي والشاعر عيد عبد الحليم "الكتابة في حد ذاتها هي فعل مراوغة، هي امرأة لعوب تغرينا بفضاءاتها، وتتركنا أسرى لهذه الغواية التي لا تنتهي.

ويضيف عبد الحليم: “قد تلقينا في صحراء النسيان، فنرضخ لها راضين، وقد تتركنا في فضاء الحضور، فننعم بصفاء البال في كل أحوالها نعشق دلالها، لأنها بالنسبة لمن ذاق عسلها، داء لا شفاء منه".

ويلفت عبد الحليم إلى أنه في أحيان كثيرة تأتي الكتابة طيعة، كفتاة فطرية لكنها شديدة الجمال والرقة، وفي أحيان أخرى، تفر منا إلى صحراء قاحلة، فنذوق طعم العطش، لكننا نظل نحملق في السماء ربما يأتي شتاء قادم بمطر مؤجل".

ويؤكد عبد الحيلم: “أنا رجل مهنتي الكتابة في الأساس، من خلال عملي في مهنة الصحافة منذ ٢٥ عاما، فالكتابة  بالنسبة لي حركة يومية، وأدور في نفس الدائرة بسبب دولاب العمل الذي لا تتوقف حركته، الكتابة بهذا المعنى هي قدر لا فكاك منه، ناهيك عن رعايتي لكتابات الآخرين من خلال عملي كرئيس لتحرير مجلة أدب ونقد، أو إشرافي على القسم الثقافي بجريدة الأهالي”.

وتابع عبد الحليم “لكن الأهم في المسألة هو الكتابة الإبداعية القائمة على الخيال، هذه صعب التحكم فيها، لأنها تحتاج إلى صفاء ذهن يستلزمه فعل التخيل”.

وأشار عبد الحليم “مع ذلك إذا انقطعت الكتابة فترة، فأظن أن ذلك يكون أمرا حسنا، حتى إذا جاءت بعد فترة انقطاع جاءت بإبداع مغاير، يحدث هذا معي في الشعر تحديدا، لأن الشعر من وجهة نظري، هو أكثر الأنواع الأدبية التي تحتاج تغيير طاقة، حتى لا يقع الشاعر في التكرار، لذا اعتبر فترة انقطاع الكتابة، هي بمثابة فترة نقاهة، أعود من بعدها أقوى، وبرؤى الجديدة في الشعر دائما ما تأتي الكتابة لتنقذني من أوجاع كثيرة، لذا انتظر هباتها دائما ، من أجل أيام قادمة جميلة بالتأكيد، ستأتي”.

عبد الكريم الحجراوي: 6 سنوات أبحث عن تفسير لحالة الانقطاع

يقول الكاتب والناقد  الأكاديمي الدكتور عبد الحجراوي: “في بداية كتابتي الإبداعية للشعر في الجامعة كانت تنتابني في أحيان كثيرة دون سبب واضح حالة من عدم القدرة على إكمال النصوص، وكنت أعتقد أن تلك الحالة شأن يخصني وحدي، ولم يكن عندي الجرأة في الحديث حول هذا الأمر مع أصدقائي باعتبار تلك القضية شخصية وقد تشكك في قدراتي الإبداعية مع تصوري المثالي في هذا الحين بأن المبدع الحقيقي لا يتوقف عن الكتابة”. 

وتابع الحجراوي: "ولم أكن أعرف أن لهذه الظاهرة مصطلح خاص بها ويمر بها كل الكتاب، لكن بعد 6 سنوات من صمتي وعدم حديثي عنها في العلن، ذكرت لصديق لي يكتب القصة «إنني أحيانًا لا أستطيع أكمل نصوصي، وتتوقف رغبتي عن الكتابة» فاجأني يومها أن هذه الحالة يطلق عليها اسم «حبسة الكتابة» وأنها ليست ظاهرة فردية فما من أديب إلا ومر بها وأنني لست ببدع من الكتَّاب.. فبدأت أقرأ عنها لأعرف حيل الكتاب للتغلب على تلك الحالة.. وأحاول أن أجد التفسير المناسب لها عندي ووصلت إلى نتيجة مفادها أن المرء حين تأتيه الفكرة تتمثل في ذهنه صافية بديعة الجمال لكن ما يراه في الواقع _على الورق_ يكون بعيدًا كل البعد عن التصور الذي يطارده. الأمر عندي أقرب إلى التصور الذي ذكره أفلاطون في نظرية «المثل».

وتابع: “الخروج من هذه الحالة، فيما يتعلق بالكتابة الإبداعية عندي يكون بالاستجابة إلى تلك الحالة الشعورية المسماة بالحبسة، بالبعد عن المشروع الذي أعكف عليه فهي نوع من النقد الذاتي اللا واعي لما أقوم بكتابته، فهذا البعد يعطي المساحة لتأمل ما قمت بكتابته بشكل موضوعي ويكشف عن موطن الخلل الذي لم أكن أدركه. وتكون القراءة عادة الملجأ الذي ألوذ به من هذه الحالة فالقراءة أحب إلي أقرب من الكتابة التي ترتبط في ذهني بالمعاناة، وأشياء تؤرقني لن أستطيع الخلاص منها إلا بالكتابة”.

وختم الحجراوي: “أما فيما يتعلق بالكتابة النقدية فلا تكون هذه الحالة موجودة وإن حدثت فهي سريعة الذهاب، وقد يكفي تغير النشاط لمدة من الزمن سواء برياضة المشي أو مشاهدة التلفاز فيعود الحماس مرة أخرى، فهي لا تستمر لأشهر كما هو الحال في الكتابة الإبداعية”.