هنا يحدث الفرق في فهم مصطلح "التأثير"، من كونه صادر عن شخص يسعى لإثبات وجهة نظره لجمهوره أو يراهن على تغيير سلوكهم أو حتى مستعرض علم ومهارة، إلى خلق مفهوم جديد للمؤثر، يُقيَّم فيه الشخص بقدر ما يملك من أرقام وما يحصل عليه من إعجاب وتفاعل.

أن تتجنّب أن تكون "صانع تفاهة" فهذا أمر ممكن، لكنّ من المستحيل اليوم تجنّب وقوعك في براثن "صُناع التفاهة" الذين يحيطون بك في كل المنصات، ويخرجون لك من كل المنشورات والقصص.

في السابق كان المتصدرون للنشر يتخيرون أفضل ما عندهم ليقدموه وجبات مختلفة "الدسامة" لقرّائهم ومتابعيهم، ولهذا تجد عددهم قليل -بحكم عدد القادرين عن التعبير في العادة- وتأثيرهم واضح، ويُشار إليهم دوماً في مجتمعاتهم الصغيرة أو الكبيرة.

أمّا اليوم فأصبحت خوارزميات "التفاعل" هي الّلجام التي لا يرى "صناع التفاهة" غيرها وهم منطلقون في سباق الأرقام.

وهنا يحدث الفرق في فهم مصطلح "التأثير"، من كونه صادر عن شخص متمكن أو حتى متحاذق يسعى لإثبات وجهة نظره لجمهوره أو يراهن على تغيير سلوكهم أو حتى مستعرض علم ومهارة، إلى خلق مفهوم جديد للمؤثر، يُقيَّم فيه الشخص بقدر ما يملك من أرقام وما يحصل عليه من إعجاب وتفاعل.

المفهوم الجديد للتفاعل

وعند العودة إلى صُناع التأثير في السابق، نجد أنّ الأصل في التفاعل معهم هو الحوار، فلا يُؤخذ منهم إلا ما هو مقبول، ويجدون كثيراً من الرفض والممانعة عند طرح الأفكار الغريبة أو الشاذة أو حتى الحديثة، وهذا ما يخلق حِراكاً ثقافياً في المجتمع، ليس بالضرورة أن يصل إلى نتيجة، ولكنّ المهم أنّ القناعات اهتزت والمواقف تباينت وربما تغيّر السلوك.

أمّا عند النظر إلى كثير من صُناع المحتوى اليوم، فما يهمه هو القدرة على جمع أكثر عددٍ من الأرقام ليتحول من "هاوٍ" أو "تافه" أو "بلا قيمة" إلى مؤثر رقمي.

وهذا ما تصنعه الـ(Engagement) في المنصات، والتي تركز على قدرة الشخص على المداومة في صناعة محتوى يومي أو شبه يومي يستقطب فيه أكبر عددٍ من الجمهور، بغض النظر عن ماهية المحتوى المقدّم.

وهنا تقرأ الخوارزميات كل رد فعل على أنّه تفاعل إيجابي مع صانع المحتوى ولو كان هذا التفاعل بلا معنى أو قيمة أو حتى لو وصل إلى كونه شتائم ومسبات على صانع المحتوى نفسه.

وهذا المفهوم الجديد للتفاعل والذي انتقل من الحوار الهادف إلى احتساب كل نشاط "Activity" (أو نقرة) على أنّه تفاعل رقمي انتقل بنا بالضرورة من الحراك الثقافي إلى سباق العد الرقمي.

صُناع التافهة وصُناع المعرفة

قديماً يُنسب إلى سقراط قوله عن رجل جاء متبختراً في مشيته مختالاً بما يلبس متباهياً بأناقته: "تكلم حتى أراك"، فالقيمة الحقيقية لا تُقاس بمدى جمالك وأناقتك -وإن كان هذا مطلباً في ذاته باعتدال- لكنّ ما يصدر عنك من سلوك في القول أو الفعل.

هذا السلوك بثنائيته القولية والفعلية هو الذي يحدّد تقييمك عند الجمهور لا ما تحمله من صفات وألقاب تُحيط بها نفسك أو تضعها على "بروفايلك".

فقد تكون صانع محتوى، ولكنك "تافه". وقد تكون بسيطاً ولكنك تتخير أفضل السلوك قولاً وفعلاً.

وقد عبّر عن هذا المعنى بوضوح سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين قال: "أظل أهاب الرجل حتى يتكلّم، فإن تكلّم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي".

أعرف كثيراً -ويعرف معي من يقرأ هذه السطور- أنّ مئات ممن يملك آلافاً من المتابعين أو يفوق هذا العدد عرّفوا أنفسهم بألقاب شتى، لكنّ عند جمهوره لا يتعدّى كونه "تافهاً"، يُشاهَد ويُتابَع لضحكة عابرة أو لتنفيس غليان أصاب النفوس، أو حتى للرّد عليه وشتمه.

ليس هذا الكلام تزهيداً في الـ"لايكات" والتفاعل، فهما معياران مهمان جداً، لكن ليس في ذاتهما، وإنّما في كونهما نتيجة ما يُطرح من "محتوى" يؤثر في الجمهور.

لكنّه أدى إلى تفوق عدد "صُناع التفاهة" على حساب "صُناع المعرفة" في المنصات الاجتماعية، بل وتحويلهم إلى الظاهرة الأبرز التي بدأت تصنع مُدخلات حرّفت فيها مفهوم "التأثير" ليصبح محصوراً في درجات من "التفاهة" ينتقل فيها الجيل من السطح إلى عمق التفاهة.

عبث القيم.. ومتعة التفاهة

خطورة التفاهة وصُناعها لا تقف عند الحراك الثقافي بقدر تأثيرها العميق في مُدخلات المعرفة والرؤية للحياة عند جيل المراهقين الذين يشكلون العامود الفقري لجمهورهم.

وهذا واضح اليوم في مفاهيم قطاع كبير من المراهقين يرى أن إصرار المربين بمختلف أنواعهم على تنمية القيم إنّما هو ضرب من العبث، لما يرونه من معايير مختلفة عن الجيل السابق، وأولويات الغنى والتميّز والتأثير إنّما تأتي عن طريق الشهرة وليس العلم أو المعرفة، وهذا ما يصدقه الواقع.

فأن تدرس وتقرأ لتصبح في النهاية موظفاً لا يكفيه راتبه نهاية الشهر لهو طريق طويل، فيما أن تصبح مشهوراً وتنهال عليك العروض والإعلانات فهذا طريق أكثر متعة وغنى واختصاراً.

وما يحدث عند اتخاذ هذا القرار هو مزيد من صناعة التافهين، لأنّهم ببساطة لا يستطيعون التميّز إلا بها، فولادة التافه رقمياً يقابلها انهيار مجتمعي يعادل قوته الرقمية ووصوله إلى جمهوره، وهو بالضرورة تأثير مجتمعي سلبي مدمّر.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي