الشرعية التاريخية في الخليج.. وأحكام المستقبل


صديقي المقيم في دبي يخبرني عن مفاجآت دبي، حيث أخطأ في اختياره الطريق، الذي يوصله إلى منزل صديقه، فتأتي المفاجأة برسالة إلى هاتفه راسمة خريطة الطريق إلى منزل الصديق، فيذهب مرتاحاً إلى هناك، ثم يردد مستغرباً بأن دول أوروبا لا تقدم مثل هذه التسهيلات، ويكرر إعجابه بالتطور التكنولوجي في دبي.

والحقيقة إن دولة الإمارات العربية المتحدة تعيش انطلاقة تكنولوجية حملت بعضاً من شبابها وشاباتها إلى الفضاء، مشاركة آخرين من الدول المتقدمة، وتستعد في الوقت الحاضر لإرسال آخرين في مهمات أكثر تطوراً نحو الفضاء.

مادة اعلانية

ومن المؤكد أن ما سجلته الإمارات في ملاحقتها للمستجدات وابتكارات التكنولوجيا يشكّل فصلاً من فصول أخرى تستوعب فيها دولة الإمارات كل جديد في شؤون الحياة، من صناعة وزراعة وخدمات وسياحة وفنون مبتكرة، لاجتذاب الاستثمارات التي تنقل إليها المستجدات وإبداع أهل المعرفة في الدول المتقدمة.

كما أن المؤشرات داخل مجلس التعاون تشير إلى أن الذي يتحقق في المملكة العربية السعودية التي تعيش ثورة التحديث والانفتاح وبخطوات متلاحقة وبأحجام كبيرة، يثير الإعجاب لقدرة البلد على استيعابها ونشرها لتتعرف عليها المجتمعات الخليجية، وبسرعة غريبة تعبّر عن عزمها على الالتحاق بأهل المعرفة في فنون التكنولوجيا والتفوق العلمي.

ففي غرب المملكة، هناك مدن حديثة تتواصل في اتساعها وتتنوع في خدماتها، سعياً لإرضاء جميع الأذواق، وتصرخ حاملة الهمة القيادية المؤمنة بصواب قراراتها، وتصر على سرعة إنجازاتها، وتستحضر آليات تعبّر عن جودتها، تبني متاحف وتوفر خدمات على سواحل البحر الأحمر، وفي مدينة النبي صالح قرب المدينة المنورة، فضلاً عن التبدلات التي غزت مدينة الرياض وضواحيها، واكتسحت الدرعية العاصمة الأولى للدولة السعودية.

ولم تقصر قطر في انفتاحها، الذي تعرفت عليه شعوب العالم خلال تنظيمها لدورة كأس العالم لكرة القدم، وتواصل البحرين وسلطنة عمان اللحاق بالمستجدات، بهدوء الواثق، وتبقى الكويت التي تنتظر التنفيذ لمشاريع فيها طموح يحملها جميع المواطنين، المتعطشين لبعث المواهب الكويتية التي رافقت البلد إلى الريادة.

وهنا أود أن أتطرق إلى الحقائق التي تختص بها دول مجلس التعاون، ووفرت لها استيعاب أعباء التطور، وتحمل خصوصية خليجية:

أولاً: تنعم دول مجلس التعاون بنعمة الاستقرار الثابت المعتمد على جذور عميقة لنظام الحكم فيها، المحصّن بآليات الألفة بين النظام وأبناء الشعب، وتتميز هذه الألفة بالمرونة والقدرة على الانسجام مع التبدلات التي يشهدها العالم، كما تتميز بالانفتاح الذي يستوعب مختلف الاجتهادات توفرها المجالس الاجتماعية التقليدية الخليجية، التي يدخلها أهل السياسة والتجارة وأهل البحر والبر، وهي ديوانيات تتحكم في تنظيم قواعد متوارثة تتمتع باحترام الجميع لفوائدها وللأصول التي يفرضها نظامها في احترام آليات الحوار.

ثانياً: توفر هذه المجالس المناخ الملائم للتعبير عن وجهات النظر في الشأن الوطني، وفي غيره من قضايا تثير اهتمامات المتواجدين، يحق لهم طرح المقترحات والأفكار بلا قيود أو تحفظات، شروطها فقط حسن القول المزين بالاحترام، وتمكن هذه اللقاءات المسؤولين للوقوف على مرئيات المجتمع ورغبات أبناء الشعب وأولوياتهم، والمهم في هذه اللائحة من المنافع هي قاعدة التداخل بين القيادة السياسية وأبناء الشعب في التطرق إلى هموم الوطن ومشاكله، في تأكيد التشابك بين أهل الحكم وأبناء شعبهم، ودورها شبيه بدور برلمانات الحاضر.

ثالثاً: تتمتع أنظمة الحكم في الخليج بجذور تاريخية تعمقت عبر قرون، شهدت خلالها تحديات وضغوطاً نبعت من فقر الإمكانات، ومن ضعف في مصادر الدخل، وتواضع الحصيلة وقسوة المناخ. وبالرغم من ذلك، فإنها تعاملت مع أثقال الفقر عبر ما يملكه الحكام والمواطنون من مؤهلات في تحمّل متاعب الفقر والتكيف مع الموجود، وممارسة فضيلة تبادلية العطاء بين من يملك وبين المحتاج، وهي آلية الشراكة الاجتماعية.

رابعاً: كانت التشكيلات القبائلية عنصراً من أهم الوسائل التي أمنت الاستقرار، وساهمت في تأكيد الاطمئنان، وعززت السلم الاجتماعي، كان الانضباط القبائلي عنصراً حيوياً في حماية الأمن، وفي السعي إلى توفير حاجة المجتمع في الجانب الغذائي الزراعي، كما كان فعالاً في الالتحاق بترتيبات الدفاع عن النظام وتراب الوطن إذا ما برزت المخاطر، وكان تواجد القيادات القبائلية بجانب المسؤولين يماثل ترتيبات الحاضر في مجالس الدفاع الأعلى لصون الوطن.

خامساً: طغت على المجتمع الخليجي غريزة الاعتماد على النفس في معارك البقاء، وتشكلت داخل المجتمعات تكتلات نقابية تسهم في تنظيم المهن، التي يمكن أن يمارسها أبناء المجتمع، وتنوعت وفق طبيعة الأرض وقرب السكان من البحر، فكان نصيب الكويت البحر والانطلاق نحو الهند وأفريقيا، والغوص بحثاً عن اللؤلؤ، والبحرين نحو تجارة اللؤلؤ والبحث عنه في بحر الخليج، واختار سكان قطر اللجوء إلى البحر، وتنوعت حياة مجتمع المملكة العربية السعودية بين زراعة وبحر وخدمات مرتبطة بأعداد الحجاج الذين يتجهون إلى مكة والمدينة.

جاءت هذه التنوعات خلال البحث عن المعيشة في غياب المياه وقسوة الطبيعة، وخشونة الأرض، مع الاعتماد على شطارة كل شخص لاختيار وسيلة الحياة التي تناسبه، كان المناخ الاجتماعي قبل مرحلة النفط يدفع نحو استحضار الهمة الرجولية للتفوق على بخل الطبيعة وتوحش البيئة وترويض شراسة الفقر.

سادساً: شهدت دول الخليج تبدلات ضخمة رافقت مراحل اكتشافات النفط، التي بدّلت الخريطة الخليجية الأمنية، فوضعتها في صدر متطلبات الاستقرار، وحوّلت سلامة الدول الأعضاء إلى حالة الضرورة الدائمة حفاظاً على صحة الاقتصاد العالمي وعلى سلامته وحيويته، وتمتعت سلامة دول الخليج وأمنها واحترام استقرارها بأولوية الهموم العالمية.

عشت شخصياً في الحالة العصبية التي تسيدت اجتماعات الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس 1974، في أعقاب حرب أكتوبر، وإفرازات حظر النفط ضد الولايات المتحدة وهولندا، وشهدت مستوى العصبية العالمية التي تسعى إلى الاطمئنان على تواصل تصدير النفط من دول الخليج.

سابعاً: تعاملت دول الخليج مع دبلوماسية النفط بوعي متكامل لأهميته كغذاء لا يستغنى عنه في صحة الاقتصاد العالمي، وحافظت على أناقة الأسلوب في علاقاتها مع دول العالم، وأكدت التزامها بالمسؤولية بتوفير الطاقة بأسعار تراعي حق المنتجين وقدرة المستهلكين، وتمكنت منذ الأزمة النفطية عام 1974 من تأكيد التحالف الثابت بين الطرفين، وتعميق قناعاتها في تبني سياسة الاعتدال في دبلوماسيتها مع نفورها من الأزمات التي تؤثر على واقعها كدول معتدلة تقدر ثقة الأسرة العالمية في دبلوماسيتها النفطية.

ثامناً: تتوقع الأسرة العالمية من دول الخليج أن تظهر التزامها السياسي والأمني والأخلاقي، في أربعة مسارات، جاءت أهميتها من إملاءات مرتبطة بحقائق النفط، منها:

- تبنّي سياسة سلمية قواعدها المبادئ التي يجسدها ميثاق الأمم المتحدة، الإيمان بالحوارات، وحل القضايا بالمفاوضات، والمشاركة في مسارات التنمية للدول النامية والمؤسسات العالمية، وتواصل توفير الطاقة ومراعاة حجم الاستهلاك العالمي.

- الابتعاد عن سياسة المحاور في الحرب الباردة، والتزام الحيادية في المواجهات بين الدول.

- هذه التفاهمات الثنائية بين الأسرة العالمية ودول الخليج هي أهم النتائج التي سجلتها دورة الأمم المتحدة الاستثنائية لعام 1974.

نقلاً عن "القبس"

تاريخ الخبر: 2023-09-11 18:11:34
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 87%
الأهمية: 90%

آخر الأخبار حول العالم

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية