القراي: ثغرة «الدفرسوار» التي نفذ منها الكيزان لنصرهم الأول على الثورة


عبد الله علي إبراهيم

وقف عمر القراي في تسجيل قصير أخير عند إشكالية في هذه الحرب وقفت أنا نفسي عندها وهي كوننا بإزاء خصمين كلاهما مر. واخترت أن أقف بجانب الجيش لأن الدعم السريع هو الأمر فيهما بينما اختار القراي أن يقف مع الدعم السريع لأن الكيزان الذين احتالوا على الجيش ودفعوه لحرب عبثية أشر من الدعم السريع. فالدعم السريع، في قول القراي، يقاتل بشرف بينما قتال الإخوان نذالة. ويغتصب أفراد من الجنجويد النساء بينما جعل الإخوان الاغتصاب وظيفة في الدولة في مثل اعتراف رجل الامن من قتلة الشهيد أحمد الخير. فجرائم الطرفين، عند القراي، غير متساوية. والحق أن الإخوان أسوأ من الدعم السريع. ولما ذكر القراي الجيش قال إنه يذبح الأسرى بينكما يؤمن الجنجويد الأسرى ويطعمهم ويسقيهم. فالإخوان والجيش هما الأمر من الدعم السريع كما ترى.

ولكني خلاف القراي لم أقف حين اخترت صف الجيش عند “أفعل التفضيل” وحسب كأنني عند واجهة للتسوق. فنظرت في وقفتي معه إلى حقيقة أن الجيش، في أي تعريف له، هو عماد الدولة الوطنية الحديثة مهما قلنا عن فظاظته. وليس الدعم السريع سوى حالة تطفل شقية على الدولة الحديثة حارب بشرف أو لم يقاتل. ولا يعني هذا أن الدولة الحديثة، أو جيشها، مفطومة من توظيف المليشيات في أداء خدمات بالثمن. ولكن الدعم السريع اختلف هنا عن المليشيات. فالدولة توظف، أي دولة، توظف المليشيا وتصرفها حين تستغني عنها. أما الإنقاذ فلم توظف الدعم السريع فحسب، بل جعلت منه جيشاً ثانياً بالقانون. وكانت عزيمة البشير أن يكون الدعم “حمايته” وأن يهمش، لو طال عهده، الجيش، أو ربما تخلص منه. وهذه سنة الديكتاتور. فحافظ الأسد همش الجيش السوري لشراكة السنة فيه ليحيل وظائفه للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة العلوية. ولكن شلت الثورة يد البشير وجعلت الإصلاح العسكري والأمي أسبقية: ما في مليشيا بتبني دولة والجنجويد ينحل والعسكر للثكنات ليكون له احتكار السلاح في دولة حديثة. وحدس ما حدس.
يرغب المرء في أن يعرض القراي علينا حيثياته لترجيحه للدعم السريع (لكيلا أقول انحيازه بعد) حتى لا يكون اختياره هذا مجرد تسوق واجهات تحكمت فيه غبينة تاريخية معروفة في معارضي الإنقاذ (وكثيرهم من قامت قحت على أكتافهم) للكيزان والجيش معاً مما لا يعتد بها وحدها في تحليل المواقف السياسة المستجدة.

حين أقرأ للقراي ومن على رأيه عن الكيزان أشك في صدق وصفهم لهم ب”الفلول”. فالحديث عنهم حالة شكوى مستسلمة من حركة قوية شديدة. فتجدهم يذيعون مكرهم وشوكتهم وقوة عزائمهم حتى قيل أنهم بصدد الرجوع الوشيك إلى حكم خلعوهم منه خلعاً. فإذا صح أن الكيزان استردوا أنفاسهم المؤسسية بقوة بعد 4 سنوات من “ندوس دوس” كان الفلول غيرهم في الطرفة المروية “الكافرة أمك”. ولا أعرف إن تفاكر القراي وأقرانه يوماً في تحول الكيزان من فلول إلى هذه الجماعة الفعالة لما تريد تقوض الانتقال الديمقراطي وتحمل الجيش لإشعال حرب ليأتي بها على سدة الحكم. فلم يكن مثل هذا النظر ما انعقدت حوله ورش تقييم الفترة الانتقالية التي وصفتها في زمنها بأنه كانت لملمة الشعث ولا تثريب في ما يعرف بتقييم المؤسسة (corporation) لنفسها.

وكنت واظبت بالكتابة خلال فترة الحكومة الانتقالية على لفت النظر إلى الثقوب في أدائها التي سينفذ منها الكيزان إلى الواجهة السياسة من جديد ويستبدلون ضعفهم قوة. وكان ثقب القراي بعد تهافت مشروعه لإصلاح المناهج من الوسع والخطر حتى وصفته ب”ثغرة الدفرسوار” التي نفذ منها الجيش الإسرائيلي ليحيل نصر مصر في حرب أكتوبر 1973 إلى هزيمة أو شبه هزيمة. وأعيد نشر المقال أدناه. ويا قراي أسأل الله أن يسهدك قولك أن الدعم السريع يقاتل بشرف إلى يوم الموقف العظيم: دعوة مرجوم. وإلى المقال القديم:

استقالة القراي: لم ينجح أحد

عبد الله علي إبراهيم
9 يناير 2021

للدكتور القراي في استقالته الحزينة مأخذ قوى مستحق على السيد حمدوك رئيس الوزراء. فصدر قرار حمدوك بتجميد شغله على رأس لجنة المناهج بعد مشاورات ناقدة ومعادية للمنهج شملت طيفاً من المؤسسات من غير أن يجلس القراي إليه ولا مرة واحدة حتى بعد أن سعى إليه لتوضيح ما عنده بوجه شانيئه. فأغلق رئيس الوزراء بابه في وجه القراي في حين دخلته المتردية والنطيحة وما أكل السبع. وهذه ظلمات لا بحق القراي فحسب بل بحق الثورة. فمعلوم أنه تجمعت سحب معارضة المناهج منذ فتح القراي خشمه بعد تعيينه في أكتوبر ٢٠١٩. وغير خاف أن المناهج كانت “ثغرة الدفرسوار” (ثغرة بين جيشين مصريين نفذ منها الجيش الإسرائيلي غرب القناة وطوقهما ورجّح الكفة لصالحه بعد نصر مصر المباغت في حرب أكتوبر ١٩٧٣) ركبتها الثورة المضادة وحققت منها نصرين. أما النصر الأول فهو اجبارها الحكومة أن تستغني عن موظف كبير بها مهاناً مذلولاً مضافاً لكسبها في إعفاء دكتور أكرم من وزارة الصحة. أما الثاني فهي فرض أفقها المضاد لما تكون عليه المناهج وتأمين حضورها في عملية تغييرها.

لابد أن القراي عاش وحشة كئيبة لعام ونيف يصطلي نيرن الثورة المضادة وغير المضادة. لقد عَدِم الزمالة التي في ندرة الكبريت الأحمر في صفوة المعارضة التي عرفتها عن كثب (قال النبي بعد وقاحة من أهله نحوه “بئس الجيرة جيرتكم يا آل عبد مناف”. فلم أقرأ للجمهوريين من خاصته يسندون ظهره بهجوم مضاد على المنهج القديم وهم من أحسن من نقده في كتاب النور حمد وخلف الله عبود الذي عرضته هنا يوم أمس. ولم يجد هذا السند من فائز السليك، مستشار رئيس الوزراء، وهو صاحب أدق النظر في بعض مناهج الإنقاذ. فلا أعرف من طعن فيها مثل السليك وباختصار. فعرض لكتاب “الثقافة الإسلامية” (٢٠٠٩) المقرر الجامعي من تأليف النعمان محمد صالح وحسن عووضة ومبارك عبد الله الذي قال عن الديمقراطية أنها أحد “صور الشرك الحديثة”. وانتظر مثل المؤتمر السوداني تجميد المنهج ليستنكره ولم يحرك ساكناً طوال ما كانت العوة واقفة. فقال الحزب بعظمة بيانه أن المنهج تعرض لهجوم في منصات الرأي العام “وكان من اللازم مناقشة الجهة التي وضعت المناهج والتحري معها حول رؤيتها وحول الأخطاء ومن ثَمّ إجراء اللازم وفق الأسس العلمية والمهنية”. ولا أعرف كيف لم يلزمهم هذا اللازم بالتدخل في الأمر خفافاً إما تربوياً من فوق رؤية تربوية اختصوا بها، أو من جهة الإجراءات في التحري فيما استثار هذه المنصات وأزعجها. ولما لم “يتب” (يثب) الحزب في عنفوان الصراع بإيجابية جاء بآخرة بعد خراب مالطا لينتقد رئيس الوزراء مما هو سياسية عاقبة في سياسة عاقبة من مشهورات قحت كأننا ناقصين.

أما خسارتنا الأكبر للثورة والإسلام فهي في فرض مجمع الفقه الإسلامي نفسه في خطاب المناهج كديدبان الهوية السودانية. وعَزّى حمدوك نفسه حيال هذا الفرض بقوله إنهم أعادوا تشكيله “بواسطة حكومة الثورة ليعبر عن روح الإسلام والتدين الذي يرفض التطرف والغلو”. بل خرجتُ بغصة من بيان جماعة الأنصار التي احتفلت بقرار تجميد المنهج بإشادة مسرفة بمجمع الفقه. ولا أعرف المرات التي نبهت إلى خطر هذا المجمع على ابتلائنا بتحديات الحداثة. وليس قولي بخطره من صنعي بل مما استفدته من الدكتور حسن الترابي في دراستي الموسومة “الترابي وثيولوجيا الحداثة”. فلم ينشأ هذا المجمع إلا على جثته كما يقولون. فقد رفض قيامه وهو في الشوكة حتى خرج منها بالمفاصلة في ١٩٩٩. وله في ذلك رؤية متقدمة. فمن رأيه أن رجال الدين الذين نعرف زائدة دودية في جسد الإسلام صادروا التشريع تاريخياً من الأمة، واحتكروه لأنفسهم. وعليه فقد استبعدهم من تبعة مقارعة التحدي الذي مثلته الحداثة للإسلام إلا بشروط.فنزع منهم حق الفتوى في ابتلاءات الحداثة إلا في إطار مجمع علمي يشمل تخصصات في الطب والعلوم والعلوم الاجتماعية والإنسانية.

وبقدر ما حاولت عبر السنوات تعميم هذه المعلومة عن خطر مجمع الفقه كما رآه الترابي لم أجد سوى التبكيت من معارضي الإنقاذ الرسميين ناهيك من الاتهام بالكوزنة. فأنت لا تقرأ الترابي في عرفهم. فهو لا يصلح إلا للردم. ويظن حمدوك أنه أصلح المجمع إصلاحاً سيخرجه من التزمت للإشراق الديني. ولم نر منه هذا الإشراق في معركة المناهج الحالية بل أسرف في الغلو والتطفل.

اشفقني خطاب استقالة القراي على خلق الزمالة بين طاقم الموظفين الذين انتدبناهم لقيادة الثورة. وساقتني الشفقة إلى أيام في عهد مايو استوحش فيها التكنوقراط من مثل جعفر بخيت ومنصور خالد وإبراهيم منعم في صراعهم مع كادرات الاتحاد الاشتراكي وآخرين سماهم منصور بتجار السياسة. وكتب جعفر بخيت يندب بؤس الزمالة بينهم. وأذكر أنه استشهد بالمتنبي حمّال الأسية:
وما يقبض الموت نفساً من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عود
ووجدتُ الثورة المضادة تنتظر متلمظة سقوط ثالث بيدها هي بعد كرم والقراي.

تاريخ الخبر: 2023-10-01 00:23:37
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية