اليوبيل الذهبي لانتصارات أكتوبر الخالدة (1973-2023)
اليوبيل الذهبي لانتصارات أكتوبر الخالدة (1973-2023)
أواصل اليوم الإبحار في شهادة الراحل إبراهيم حجازي علي العمل الإعجازي لانتصارات أكتوبر الخالدة, احتفالا بالذكري الخمسين لها -2023/1973- وإذا كنت في الحلقة الأولي -الأسبوع الماضي- تحدثت عن المطلقات والعموميات كمدخل لهذا الملف الوطني القومي, أبدأ من هذه الحلقة الخوض في التفاصيل المحتم توثيقها لترسيخ ما حدث في ذاكرة المصريين, سواء من عاشوا تلك الأحداث أو من لم يعيشوها من أجيال الأبناء والأحفاد, استشعارا من جيلي بألا نترك ذلك الإرث العظيم يذوي وتقتصر ذكراه العطرة علي أفراحه وانتصاراته دون استدعاء تحدياته وتضحياته ومعاناته وما انطوي عليه مساره من تخطيط وإعداد عبقري سياسيا وعسكريا… وفي هذا الصدد أستقطع من كتابات إبراهيم حجازي عبر شهادته التي تتابع نشر حلقاتها في الأهرام من أكتوبر 2020 حتي فبراير 2021 الآتي:
** الأيام الستة الأولي من أكتوبر 1973 شهدت خلاصة الفكر والتخطيط المصري: عنصر المفاجأة والخداع, أعظم ما رأته حرب في تاريخ العسكرية في العالم… يوم الاثنين أول أكتوبر 1973 تم رفع درجة الاستعداد إلي الحالة القصوي تحت ستار بدء المشروع التدريبي الاستراتيجي… كل ما علي الجبهة يبدو كأنه علي حاله, لم يطرأ عليه أي شيء, القيادة كل همها أن يكتشف العدو نوايانا… يوم الثلاثاء 2 أكتوبر أبحرت القطع البحرية من قواعدها في البحر المتوسط لتنفيذ خطة الانتقال إلي باب المندب في البحر الأحمر لقطع خطوط المواصلات البحرية إلي إسرائيل عندما تأتي الساعة, وتم ذلك تحت ستار الإبحار لإجراء عمرات صيانة لدي الدول الصديقة في جنوب شرق آسيا.
** خطة الخداع اشتملت علي تحريك القوات والمعدات في اتجاهات شتي لإرباك وتضليل وسائل استطلاع العدو الإسرائيلي الذي بعدما رصد كل ذلك توصل إلي أن القيادة المصرية تبغي من جراء تلك المظاهر العسكرية امتصاص حالة الغضب الشعبي المتزايد من حالة اللاحرب القائمة… العدو ابتلع الطعم وبات يقينه أن التحركات الأخيرة ليست سوي سابقاتها التي انتهت إلي لا شيء.
** الأربعاء 3 أكتوبر تسارعت الأحداث السياسية والعسكرية علي الجبهتين المصرية والسورية, ففي ليل هذا اليوم دخل العتاد الهندسي إلي الجبهة: براطيم الكباري والمعدات الداخلة في إنشائها وطلمبات المياه والأسلحة الثقيلة, والقيادة العسكرية علي درجة استنفار غير مسبوقة خوفا من رصد العدو ومعه طائرات التجسس الأمريكية والأقمار الصناعية تلك التحركات.
** تحدد يوم السبت 6 أكتوبر لبدء العمليات, وذلك بناء علي دراسات دقيقة للوصول إلي اليوم الذي يحمل أقل السلبيات وأكبر الإيجابيات, فذلك اليوم عند العدو يوافق عيد الغفران وفيه تتعطل جميع مظاهر الحياة ويلزم الجميع بيوتهم وتتوقف المواصلات, الأمر الذي يؤدي إلي تأخير حتمي في إعلان التعبئة وضمان تأمين القوات المصرية في اقتحامها للقناة وإقامتها رؤوس الكباري والمواقع الدفاعية المنوط بها صد أي هجوم لدبابات العدو.
** لم تتغافل إسرائيل عن تحركات المصريين علي الجبهة وقامت جولدا مائير رئيسة الوزراء بدعوة مجلس الحرب للانعقاد حيث تم عرض الموقف من جميع جوانبه, وأفاد ممثل جهاز المخابرات الإسرائيلية أن مصر لا تستطيع أن تخوض حربا وأن ما يحدث وتم رصده من تحركات تعزي إلي مناورة تخص الجبهة الداخلية في مصر… وأن إمكانات إسرائيل كفيلة بردع أي نوايا, وأوصي بعدم جدوي التعبئة.
** يوم السبت 6 أكتوبر تم إبلاغ قادة الجيوش بموعد الحرب مع جدول توزيع التوقيتات علي المستويات المختلفة… إذا تم إعلان ساعة الصفر لبدء العمليات, وظل هناك هاجس خطير: هل لم يلحظ العدو أو يرصد التحركات منذ أول أكتوبر؟… هل إجراءاتنا علي هذه الدرجة العظيمة من السرية؟… أم أن العدو شعر وعرف ويخطط لعمل عسكري مضاد ومحاط بأقصي درجات السرية أيضا؟… كلما اقتربت ساعة الصفر تضاعفت الضغوط وتضاعف القلق… موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي أكد لمجلس الحرب أن رهان المصريين علي أي عنصر مفاجأة سيسقط لأنهم سيكتشفون أنه غير مجد… وحتي إن فكرت مصر وسوريا في الحرب فلن يعرفا بعد ذلك إلا الندم… بالرغم من ذلك استدعت جولدا مائير الجنرال حاييم بارليف الذي طمأنها بأنه جهز قناة السويس بوسائل إشعال تحرق كل من يقترب منها, ثم استدعت رئيس الأركان الجنرال إليعازر الذي طمأنها بأن عبور المصريين للقناة أمر مستحيل, علاوة علي أن المصريين متدينون بطبيعتهم فكيف يقاتلون في شهر رمضان.
** الثانية عشرة ظهرا بتوقيت القاهرة السبت السادس من أكتوبر تم إبلاغ الجنود بساعة الصفر التي ستكون بعد ساعتين… نصف مليون مقاتل علي امتداد الجبهة بطول 170 كيلومترا.. وبدأت معايير قمة سيطرة القادة علي جميع المستويات وكانت التعليمات الصارمة تقتضي ألا يظهر مقاتل بلبس الميدان علي الجبهة ولا يغادر خندقه قبل بدء الضربة الجوية… كانت هناك مائة مصطبة علي الساتر الترابي الذي أقمناه في الغرب سوف تحتلها الدبابات لتأمين العبور… وفي ساعة الصفر بدأت الضربة الجوية… ومعها 80ألف مقاتل رابضون في الخنادق وألفا مدفع وثلاثة آلاف طن ذخيرة جاهزة للإطلاق وكل معدات المهندسين الثقيلة وواحد وثمانون طلمبة مياه نفاثة لزوم تمزيق الساتر الترابي… علاوة علي دبابات بلا عدد وخلفها حائط صواريخ رهيب… اللحظة التي تنتظرها مصر من ست سنوات انطلق العد التنازلي لها.