غيَّب الموتُ الخميس الماضي العلامةَ اللغوي المحقِّق الأستاذ الدكتور ف. عبد الرحيم، عن ثلاثة وتسعين عامًا، قضاها في العلم والتعليم والتأليف والتحقيق.

وقد كان ضليعًا بدراسة الدَّخيل والمعرَّب في اللغة العربية، وأتقن عددًا كبيرًا من اللغات، وأشرف على ترجمة معاني القرآن الكريم إلى أكثر من 75 لغةً، ونشِطَ في تعليم العربية للناطقين بغيرها، ووضعِ المناهج والمقرَّرات النافعة لهم.

وكانت ولادة الدكتور عبد الرحيم في مدينة فانيامَبادي بولاية تامِل نادو في جنوبيِّ الهند، عام 1352هـ / 1933م، واشتهَرَت أسرتُه باسم مدينته (فانيامَبادي) وهو يقدَّم عندهم على اسم الشخص، فاختصره واقتصر منه على حرف الفاء، فعُرف باسم: الدكتور ف. عبد الرحيم.

تلقَّى تعليمَه الأوليَّ في مدينته، ثم تخصَّص في علوم العربية والإنكليزية والشريعة الإسلامية، فنال شهادةَ ماجستير في اللغة الإنكليزية وآدابها من جامعة مَدراس عام 1957م، واللقب الشرقيَّ (أفضل العلماء) في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من الجامعة نفسها عام 1961م، وماجستير في اللغة العربيَّة وآدابها من جامعة عَليكرَه الإسلاميَّة عام 1963م.

ثم رحل إلى مصرَ أول عام 1964 والتحقَ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، ومنها حصلَ على شهادة الماجستير عن موضوع (الكلمات الفارسية المعرَّبة) عام 1966م، ثم على الدكتوراه في أصول اللغة العربية عن دراسة كتاب الإمام أبي منصور الجواليقيِّ (المتوفَّى 540هـ) الشهير "المعرَّب من الكلام الأعجميِّ على حروف المعجم" عام 1973م.

وأتقن عددًا كبيرًا من اللغات واللهَجات، منها 14 لغةً شرقية وعالمية، هي: العربية، والإنكليزية، والأُردية، والفارسية، والهندية، والتاميلية، والفرنسية، والألمانية، واليونانية، والتركية، والعبرية، والآرامية (السُّريانية)، والسنسكريتية، والإسبرنتو.

بدأ عمله في التعليم بعد تخرُّجه في الجامعة؛ محاضرًا في اللغتين العربيَّة والإنكليزية بجامعة مَدراس. ثم انتقل للعمل في جمهورية السودان بعد حصوله على الماجستير من جامعة الأزهر، فتولَّى رئاسةَ قسم اللغة الإنكليزية بجامعة أم درمان الإسلامية من 1966 إلى 1969م.

ثم رحلَ إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مدرِّسًا في شُعبة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة، ووضعَ معظمَ مناهجها، وكان مديرًا للشعبة زمنًا. ودرَّس أيضًا مادَّة الأصوات واللهَجات العربية بكلية اللغة العربية بالجامعة نفسها، وأشرف على رسائلَ جامعية لطلَّاب الماجستير والدكتوراه. واستمرَّ عمله في الجامعة الإسلامية ستًّا وعشرين سنة من 1969 إلى 1995م. وأقام في أثنائها دورات في تعليم اللغة العربية برعاية جامعته، في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، وباكستان، والهند، والفلبِّين. وأسهم في وضع نظام (معهد تعليم اللغة العربية) في إندونيسيا، التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة بالرياض.

وفي عام 1995م عُيِّن مديرًا لمركز الترجمات بمُجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة. وفيه أشرفَ على ما صدرَ من ترجمات لمعاني القرآن الكريم بلغات شتَّى، وبقي على رأس عمله إلى وفاته.

خلَّف الدكتور عبد الرحيم أكثرَ من أربعين كتابًا بالعربية والإنكليزية والأُردية، من أهمِّها وأشهرها: (القول الأصيل فيما في العربية من الدَّخيل)، و(سَواء السبيل إلى ما في العربية من الدَّخيل) استدرك على الجواليقي في الأول 500 كلمة، وفي الآخَر 400 كلمة. و(الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء عليهم السلام)، و(معجم الدَّخيل في اللغة العربية الحديثة ولهَجاتها).

ووضع كتبًا كثيرة في تعليم العربية للناطقين بغيرها، من أذكرها كتابه (دروس اللغة العربية لغير الناطقين بها) في 3 أجزاء، من مطبوعات الجامعة الإسلامية، ولقي قَبولًا كبيرًا، ولا يزال يدرَّس في عدد كبير من الدول.

ومن أشهر كتبه بالإنكليزية Europe Speaks Arabic (أوربا تتحدَّث العربية)، ويتناول فيه الكلماتِ العربيةَ الدخيلة في اللغة الإنكليزية، وفي عدَّة لغات أوربية أُخرى، ممَّا يُقرُّ فقهاءُ اللغات الأوربية بعروبتها.

ونشر غيرَ قليل من البحوث والمقالات في المجلات العلمية الرصينة؛ كمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجلة مجمع اللغة العربية الأردُنِّي، ومجلة الدراسات اللغوية، وفي ملحق التراث بصحيفة المدينة.

وبعد أربعة وخمسين عامًا من الإقامة في المدينة المنوَّرة، وبعد رحلة طويلة غنية بالعطاء، والزهد في الدنيا وما فيها، قضى الحقُّ قضاءه بوفاة العلامة الدكتور ف. عبد الرحيم عَزَبًا دون زوج ولا ولد، بعد مغرب يوم الخميس 4 ربيع الآخر 1445هـ الموافق 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2023م. وصُلِّي عليه عقب صلاة الجمعة في اليوم التالي في المسجد النبوي الشريف، ودُفن في مقبرة البقيع. رحمه الله تعالى وعوَّض الأمَّة من أمثاله من العلماء العاملين الصادقين.