الدار/ افتتاحية
اقتراح جلالة الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء إطلاق مبادرة على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، جزء لا يتجزأ من العبقرية الملكية التي ارتبطت منذ سنوات بالانفتاح على القارة الإفريقية وبلدانها من أجل بناء تجارب تعاون محلية واستثنائية تساعد هذه الدول على تجاوز إكراهاتها البيئية والاقتصادية والسكانية الهائلة. دول الساحل الإفريقي التي تضم السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينافاسو تعاني معضلات اقتصادية هائلة ناجمة بالأساس عن ظاهر التصحر وانعكاسات التغير المناخي على تراجع الموارد المائية، بما يعنيه ذلك من انهيار للأمن الغذائي والمعيشي بهذه المنطقة الجافة جدا. وهي في حاجة شديدة إلى بدائل تنموية مختلفة.
ومن ثمّ فإن تركيز جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء على طرح هذه المبادرة الرائدة في إطار دولي يعد حلا من الحلول المبتكرة التي يمكن أن تخفف عن دول هذه المنطقة التي لا تمتلك واجهة بحرية الكثير من مشاكلها وصعوباتها التي تؤثر على مسار التنمية. يتعلق الأمر أساسا بدول مالي والنيجر وتشاد وبوركينافاسو المحاطة تماما بمحيط هائل من الكثبان الرميلة المترتبة عن موجات التصحر والجفاف التي ضربت المنطقة وحوّلتها إلى مقبرة لكل أنواع الحياة الطبيعية النباتية والحيوانية، بينما أضحت تهدد أيضا شروط استقرار الإنسان وظروفه. وهذه المنطقة هي من بين أكثر مناطق العالم التي تعرف ظاهرة الهجرة المناخية بسبب انعدام الموارد المائية.
الاقتراح الملكي يحوّل تماما توجه هذه المناطق وتركيزها من المحاولات الصعبة واليائسة أحيانا لإرساء اقتصاد زراعي على الرغم من انعدام الموارد إلى توجّه جديد يكون قوامه الأساسي المحيط الأطلسي بما يتيحه من إمكانات وثروات سمكية وسياحية وطاقية هائلة. بعبارة أخرى تسعى الرؤية الاستباقية الملكية من جديد إلى تعميق برامج الشراكة والتعاون جنوب-جنوب التي أثبتت فعاليتها ونجاعتها في تقديم الكثير من الحلول لهذه الدول، وتؤكد ذلك بالملموس من خلال العديد من المشاريع التي أدارتها بلادنا في هذه المناطق في إطار التعاون الثنائي واستطاعت تحقيق نتائج باهرة سواء في ميادين الزراعة أو الأسمدة أو الاستثمارات.
بينما يحاول بعض الأنظمة السياسية الأخرى أن ينتزع واجهة بحرية أطلسية بمنطق القوة والتحكم وزرع الفتن يقدم جلالة الملك محمد السادس مبادرة إنسانية في قمة الذكاء والسخاء وفي توقيت غاية في الدقة من أجل تعزيز التعاون الإقليمي وتمكين هذه البلدان من الولوج إلى الساحل الأطلسي وهو الأمر الذي سيساعدها كثيرا على مستوى تأهيل قدراتها اللوجيستية وبنياتها التحتية ويطلق ثورة تنموية حقيقية في المنطقة تتجاوز التصورات القائمة اليوم على المنفعة المتبادلة فقط، على الرغم من أهميتها طبعا. في مبادرة جلالة الملك حسّ إنساني بالغ ورسالة أخلاقية راقية يريد أن يبلّغها لأشقاء المغرب في القارة السمراء، التي تعدّ اليوم دون مبالغة عمقا استراتيجيا واقتصاديا وأمنيا لبلادنا.
في طيات هذه المبادرة إذاً رسالة سياسية أيضاً لا تقلّ أهمية وينبغي لدول المنطقة أن تأخذ العبرة الهامة من ورائها. لا يمكن تحقيق أيّ مكسب أو إنجاز أو تقدم بالاعتماد على منطق الحرب والصراعات والمواجهة، أو بالثقة العمياء في شركاء تقليديين أثبتوا انتهازية لا حدود لها. دول العالم اليوم تتقدم بالتعاون والتكامل الاقتصادي بناء على المصالح المتبادلة والمنفعة الدائمة وليس على أسس إيديولوجية متجاوزة أكل عليها الدهر وشرب. دول الساحل الإفريقي في حاجة ماسة إلى هذه المبادرة الملكية لأنها تبحث فعلا عن منفذ جديد يسهل عليها تصدير مواردها إلى الخارج والبحث عن بدائل جديدة في ميدان الانفتاح على العالم. ولعلّ ما يميز هذا المقترح الذي قدمه جلالة الملك انتباهه إلى حالة الانغلاق الجغرافية التي تعانيها هذه الدول على نحو يعزلها عن محيطها الخارجي ويقلص حظوظ نمائها وتطورها.
