نستكمل معا الدِّراسة في أوشية الراقدين وهي من الأواشي الكبار التي تُقال في رَفعِ بخور عَشِيَّة وباكِر.

أما من حيثُ أن الصلاة بأُوشية الراقدين في رَفع بخور عَشِيَّة تكون في وقتَ غروب الشمس أو المَساء، ليَتَذَكَّر المؤمنون بأن هذا العُمر سيغرُب وينتهي في يومٍ ما، فنعمل على تَكمِلَةِ جهادنا في خوفِ الله ونطلب غُفران خطايانا.

نظام الصلوات الطقسية وكنموذج لها الأواشي:

يقول الأب الورع القمص إسطفانوس سمير: “إن نصوص القداس هي مجموعة من الآيات أخذها الآباء الذين وضعوا “الليتورجيا” (صلاة جماعية طقسية)، وربطوها بأدوات ربط، ثم شَكَلوا من مجموعة الآيات مقاطع بأسلوب متسلسل بديع بإرشاد الروح القدس، وتتخلل هذه المقاطع فواصل عبارة عن مردات الشماس ومردات الشعب”، فتصير بذلك صلاة ثلاثية مابين صلوات الكاهن وتنبيه الشماس وتجاوب الشعب في الصلاة، ونجد هذا التركيب أيضاً في جميع أجزاء القداس الإلهي أو في الصلوات الطقسية الإجتماعية الأخرى خارج القداس، وبهذه الطريقة تكتمل هذه الصلوات بهذا الأسلوب الطقسي الرائع.

وبصورة عامة نلاحظ أن “الليتورجيات” عبارة عن مجموعة متناغمة من الكلمات والحركات والألحان تفسر المعنى الروحي المطلوب فهمه أو الصلاة به، وهذا هو الشكل العام للطقس الكنسي.

كما نجد ملاحظة أخرى، وهي أن كل جُملة أو كلمة أو ربما كل حرف في الصلاة هو منغم أو مُلَحَن (يظهر هذا بوضوح في الأواشي)، وهذا لأن القداس هو لمحة من لمحات السماء حيث الملائكة وعملهم هو التسبيح الدائم، كذلك لأن الموسيقى لها تأثير كبير على نفس ومشاعر الإنسان فتساعده أن يسمو بروحه في علاقته مع الله .

كذلك أحب أن أُأَكِّد على ملحوظة هامة: أن اللحن القبطي يكون متناسب مع اللغة الأصلية لوجود الحروف المتحركة الكثيرة الموجودة في اللغة القبطية واليونانية والتي تساعد على التعبير بالنغمات المُطَوَّلة “الميليسما” عن معنى الكلمات كما يُعطي معنى أعمق وأقوى وأوضح وأدق من ترجمته إلى أي لغة أخرى.

تحليل مقدمة الأواشي:

يبدأ الكاهن بمقدمة عبارة عن حوار مابين الكاهن والشماس والشعب، وهذه المقدمة ثابتة في بداية مجموعات “أواشي” عديدة تُقال في الطقس الكنسي، وكلمة “أوشية” كلمة يونانية معناها (طلبة أو صلاة أو إبتهال)، وفيها تطلب الكنيسة لأجل أمور كثيرة في الحياة.

وتتكون هذه المقدمة من أربع عبارات صغيرة، وهي “شليل” وفيها يخاطب الكاهن الشماس أن ينبه الشعب للتركيز والوقوف للصلاة، وهنا نوضح أن عمل الكاهن في القداس الإلهي هو الصلاة عن نفسه وعن الشعب، ويحتاج أن يكون متفرغاً تماماً لمخاطبة الله؛ لذلك فوجود الشماس في الصلاة مهم، حيث عمله الكنسي أنه خادم أو مساعد للكاهن، ومن وظيفته تنبيه الشعب وتحذيره وإنذاره إلى واجباته، وتوصيل كلمة الله بوضوح كما في القراءات الكنسية، والآن هوينبههم للقيام والوقوف للاشتراك في الصلاة، فيناديهم بصوت قوي واضح قائلا: “إبي إبروس إفشي ستاثيتى” أي (للصلاة قفوا).

ونلاحظ هنا أن لحن هذه المردات من مقام الصبا الذي يتميز بروح الشجن، وفيها معنى حث الشعب بروح الاتضاع أن يبدأوا الصلاة ويحسوا بالمهابة للوقوف أمام الله، وربما يُذَكِرنا هذا بقول القديس بولس الرسول للمؤمنين “لذلك إسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلا ونهارا لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد” (أع 20: 31).

كما نلاحظ أن عبارتي الكاهن والشماس يمثلان سؤال، حيث يكون الركوز في نهاية العبارتين الموسيقيتين على الدرجة الثالثة للمقام وهي درجة غير أساسية في مقام الصبا، وفيها ينتظر تجاوب الشعب في الصلاة والوقوف والاستعداد للصلاة بروح الطاعة والخضوع لله، وهنا يستكمل الكاهن صلاته بأن يخاطب الشعب قائلا: “إيريني باسي” (سلام لكم)، وهذه هي وصية رب المجد للرسل ومن بعدهم كل من هم في رتبة الكهنوت “وأي بيت دخلتموه قولوا أولاً سلام لهذا البيت”(لو10: 5)، فوظيفة الكاهن هي توصيل سلام الله للمؤمنين، كما يرشمهم بعلامة الصليب المقدسة حيث أنها علامة المصالحة، ويَرُد الشعب متجاوباً مع بركة الكاهن قائلين: “كى تو بنفماتي سو” (ولروحك أيضا)، والجميل هنا أن نرى أن الكاهن والشعب يشتركوا بروح متبادلة في طلب السلام كل منهما للآخر.

ونلاحظ هنا أن هاتين العبارتين قد انتهوا موسيقياً على الركوز الأساسي أو الدرجة الأولى للمقام، ولذلك فهما عبارتان جواب لما سبق، وهذا الركوز الموسيقي يُعطى راحة للأذن وراحة للنفس، وهذا مناسب جداً للفكرة، حيث أن الكاهن أعطى السلام للشعب، مع خضوع الكاهن لاخوته الكهنة في بداية الصلاة، وتبادل السلام مابين الكاهن والشعب، واطمئنان الكاهن والشماس لتجاوب الشعب مع روح الصلاة، كل هذا يُعطي راحة وهدوء للنفس فيأتي هذا اللحن مؤكداً لهذا المفهوم بالركوز على أساس السلم أو المقام الموسيقي.

أوشية الراقدين بصوت المتنيح المعلم الكبير صادق عطالله أستاذ الألحان القبطية