بمجرد أن سمعت خبر رحيل رائد أدب الطفل الأستاذ يعقوب الشاروني يوم الخميس الماضي 23 نوفمبر 2023 .. شعرت أنني فقدت أبا عظيما يمثل قدوة حقيقية للكبار و الصغار ، مصدرا للبهجة والسعادة، ومصدرا للتشجيع ومساندة كل من يجتهد في عمل أو مشروع أدبي جديد. كان يعقوب الشاروني صديقا لوالدي الأستاذ استيفن جادالله و عمي الأستاذ إبراهيم جادالله ، حيث كان زميل الدراسة لعمي في المرحلة الثانوية ، و دامت الصداقة بين العائلتين حتى نهاية العمر ، فقد رحل عمي عام 1997 ، و توفي والدي عام 2004 . كنت أزوره بصحبة والدي و ألتقي به في الندوات الثقافية ، و أنبهر بمدي نشاطه و الجهد الذي يبذله في الإطلاع علي أحدث وسائل الإيضاح التربوية و التعليمية للطفل في العالم . و كم لاحظت مدي دقته في المواعيد و حرصه الشديد علي عدم إهدار الوقت ، فقد كرس حياته للعمل المتواصل و مساعدة الآخرين أيضا . و أذكر أن والدي سأله ذات مرة : ” متي تأتي لزيارتنا في المنزل ؟ ” فأجابه الشاروني : ” عندما يصبح اليوم ثمانية و أربعين ساعة و الأسبوع أربعة عشر يوما ” !!

سحر المسرح :

كان الخيط الرفيع الذي يربط بين كل من والدي الأستاذ استيفن جادالله و عمي الأستاذ إبراهيم جادالله هو حب المسرح ، كان ثلاثتهم لديهم موهبة التأليف المسرحي و التمثيل و الإخراج . و المعروف ان يعقوب الشاروني نال الجائزة الأولي للتأليف المسرحي عن مسرحيته ” أبطال بلدنا ” عام 1960 ( من المجلس الأعلي للفنون و الآداب ) ، تسلمها من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر شخصيا ، و في عام 1962 فاز بالجائزة الأولي للتاليف المسرحي من الهيئة العامة لفنون المسرح عن مسرحية ” جنينة المحطة ” .

كانت موهبته في الكتابة و التمثيل قد ظهرت منذ طفولته ، فعندما كان تلميذا في المرحلة الإبتدائية كتب قصة ” خاتم السلطان ” ، ثم حولها إلي مسرحية و تم تمثيلها علي مسرح عرائس و نالت إعجاب الجميع . في هذه القصة نجد أن المظلوم يأتي يوما و ينتصر حتي لو بطريقة لا يتوقعها إنسان . هذا هو الإيمان بان الله يعطي مخرجا للإنسان من أية ضيقة يمر بها .

كان يعقوب الشاروني .. الشاب الوسيم الموهوب .. يلعب أدوار البطولة في الكثير من المسرحيات و يشاركه في الأنشطة المسرحية إستيفن جادالله و إبراهيم جادالله ، أما البطولة النسائية فقد شاركته فيها إيزيس قصبجي .. خطيبته آنذاك .. في مسرحية جنفياف ( و هي رواية عالمية من تأليف الكاتب النمساوي كريستوف شميد أعدها للمسرح يعقوب الشاروني )

كون الشاروني و إيزيس أسرة ناجحة يسودها الوئام و المحبة و التعاون ، لها ثمرتان عظيمتان : الدكتور مجدي يعقوب (طبيب أسنان) و الدكتورة هالة الشاروني الكاتبة و مصممة وسائل الإيضاح التعليمية .

خطاب مهم :

ذات يوم ( منذ أكثر من عشرة سنوات ) كنت أقوم بإعادة ترتيب مكتبة والدي فوجدت ظرفا صغيرا به خطاب موجه إلي عمي إبراهيم جادالله من يعقوب الشاروني بخط يده ، بتاريخ 12-11-1953 ، هذا نصه :

” عزيزي إبراهيم :

أرجو أن تكون أنت و الأخ استيفن و صبري أفندي في خير صحة

و بعد ،

الدور تقريبا اتحفظ صم .. و أنا لا أتركه في كل لحظة أهرب فيها من العمل المتواصل الذي لا ينقطع و لا ينتهي .

خد بالك من الأشياء الآتية :

1- في الفصل الأخير أظن أنني عدلت الحوار حتي يذكر الكونت بعد دخول كولو كلمة يشير بها إلي السم .. قبل أن يتحدث كولو عن السم – إذا لم تكن هذه الجملة في نسختك فأرجو إضافتها – لعلها موجودة في النسخة المختومة.

2- أنا أصر علي عدم تمثيل رواية كوميدي – إن رواية جنفياف ليست مثل بقية الروايات تحتاج إلي ” تحلية ” !! و إذا كان لابد فلتكن قبل جنفياف . إنما في الحقيقة أو بالتجربة و بالخبرة أنا لا أجد داعيا إطلاقا لتمثيل أي شيء بجوار جنفياف .

3- لا تنسي الأشياء الصغيرة – طعام ل جنفياف و كولو- الخطابات ( في السجن و التي سيقرأها الكونت ) – مصباح ل جنفياف في السجن – العروسة ( الطفل في السجن )

4- البرنامج مثل البرنامج الماضي – تفسير لكل مشهد و لكل فصل – أرجو أن تذكر أمام المنظر الأول بعد الفصل التاني أنه بعد تسعة أشهر من أحداث الفصل السابق لا بعد سبعة فقط !! هذا مهم لأنه أثار تعليقات بالمرة الماضية

5- لا بأس أن تذكر أن الذي أعد الرواية للمسرح أو أن الذي كتب حوارها هو ” أنا ”

6- قد لا أتمكن من عمل و لا بروفة معكم إلا يوم الجمعة صباحا – و في ذلك يكفي أنا و أنت و استير – أما السجان و الشبح و برتا و دراكوز فيمكن تدبير أية بروفة معهم في أي وقت – مجرد ساعة أو ساعتين – أو حتي يوم الجمعة صباحا أيضا .

إذا أردت أن ترسل أي خطابات ارسلها بمجرد وصول هذا الخطاب لأنني منذ يوم الإثنين عصرا سأكون في سوهاج ، و سآتي من سوهاج إلي مصر رأسا

ختاما تقبل تحياتي و كن مطمئنا – المهم الحفظ و أصر علي أنه لا داعي لرواية كوميدي

المخلص

يعقوب

الخميس 12-11-1953 ”

الوردة الحمراء :

من بين أعماله المسرحية المتميزة ” الوردة الحمراء ” ، و هي تدور حول البلبل الذي كان يحب الأميرة التي مرضت ذات يوم ، و كان علاجها الوحيد هو أن تشاهد وردة حمراء بينما لم توجد في المملكة ولا وردة حمراء واحدة ، فغرس البلبل شوكة الوردة البيضاء في جسده حتي يخرج منه الدم و يسيل علي الوردة البيضاء فتتحول إلي وردة حمراء .

وهناك مسرحية أخري من تأليف الشاروني و هي مسرحية ” يوم الحساب ” و التي أفتخر أنني قمت ببطولتها في الثمانينيات .

أفتخر أنني قمت بإعداد حلقة كاملة عبارة عن حوار مع يعقوب الشاروني ل برنامج ” دعوة علي فنجان شاي ” لقناة إيه آر تي الفضائية و تم إذاعتها عام 1996، و قمت بعمل حوار معه لجريدة وطني ، نشر في الملحق الإنجليزي بتاريخ 19 أكتوبر 2014 .

أهديته ديواني بعنوان ” الربيع و الجراد ” ، عام 2020 ، و بعد عدة أيام اتصلت به تليفونيا لأسأله عن رأيه فقال لي : لم أنم في تلك الليلة إلا عندما انتهيت من قراءته ، و علق بصوت مبهج ” إيه الحاجات الحلوة دي ” ، فسألته : تديني كام من عشرة ؟ فقال ” عشان خاطرك .. تسعة من عشرة ” .

يذكر أن يعقوب الشاروني لم يترك قضية واحدة تخص الطفل إلا و تعرض لها : قضايا بيئية ، التعبير عن الرأي بشجاعة ، طفل الريف ، الزواج المبكر للفتيات ، العشوائيات ، استلهام التاريخ الفرعوني و المعاصر و التراث الشعبي ، هذا بالإضافة إلي القيم الإنسانية النبيلة .

جدير بالذكر أن الشاروني حصل علي جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 2020 ، و في تعليقه علي ذلك قال : ” مصدر سعادتي أن الجائزة تعتبر تقديرا لكل كتاب الأطفال و ليس لي فقط ، و أضاف ” هذه هي المرة الأولي منذ 70 عاما التي تمنح فيها التقديرية لكاتب أطفال ”

و كانت اللجنة العليا المنظمة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب قد إختارت يعقوب الشاروني ليكون شخصية معرض كتب الطفل في دورته ال55 عام 2024 .

سيظل يعقوب الشاروني هو فارس أدب الطفل في مصر و العالم كله ( لأن أدبه ترجم لعدة لغات أجنبية ) و المثل الأبوي الأعلي الذي ستعرفه الأجيال القادمة و تتعلم منه كل القيم الإنسانية العظيمة .