حول جدلية المقاطعة … معركة الأسعار في الشارع المصري
حول جدلية المقاطعة … معركة الأسعار في الشارع المصري
استعرضت الأسبوع الماضي ما أسفرت عنه دعاوي مقاطعة الشارع المصري لمنتجات بعينها بعد انفجار الضربة الفلسطينية ضد إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي وما نتج عنها من الحرب الإسرائيلية الشعواء ضد قطاع غزة, تلك الحرب التي عصفت بالأخضر واليابس وشردت ملايين الفلسطينيين وقتلت وأصابت عشرات الآلاف, وبالرغم من الاتفاق علي هدنة لبضعة أيام معدودة لإدخال مواد الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلي القطاع, إلا أن إسرائيل عاودت القصف الوحشي مرة أخري متحدية القانون الدولي والأعراف الإنسانية تحت غطاء شيطاني داعم بقيادة الولايات المتحدة وتابعيها الأوروبيين… كل هذا في الوقت الذي تعم مدن أمريكا وأوروبا وكثير من دول العالم المظاهرات الشعبية الغاضبة المحتجة المطالبة بإيقاف تصفية الشعب الفلسطيني وإيقاف العبث الصهيوني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بناء علي أسس الحق والسلام وقرارات سائر المنظمات الدولية.
وكان أن تزامن مع تلك الأحداث البغيضة أن أطلقت دعاوي وطنية في الشارع المصري لمقاطعة سائر المنتجات التي تحمل علامات تجارية لشركات أجنبية تدعم إسرائيل, واسترعي انتباهي مع المتابعين لتلك الدعاوي كافة, الدرجة الملفتة لاستجابة المواطنين المصريين لها وإعراضهم عن المنتجات المطلوب مقاطعتها… حتي إن ذلك شكل ظاهرة غير مسبوقة وأفرز زخما لموقف وطني جماعي حقق الهدف من المقاطعة وأرسل رسالة قوية للعالم الخارجي تحمل تكاتف الشعب المصري مع الشعب الفلسطيني.
هذا التجاوب الملحوظ وما شكله من زخم فتح شهيتي لأستكشف سبل استنفاره وعدم تركه يذوي بإعادة توجيهه نحو قضية فيصلية تؤرق الشارع المصري منذ زمن بعيد وماتزال تضربه بعنف في أيامنا هذه… إنها قضية انفلات الأسعار… انفلات أسعار جميع السلع والمنتجات الغذائية والصناعية والخدمية وغيرها, حتي بات المواطن المصري يرزح تحت نير غلاء شبه يومي لكافة الأسعار دون أي بارقة أمل في السيطرة عليها أو كبح جماح جشع التجار… ويصرخ المواطن المغلوب علي أمره: ألا من سبيل لتدخل الدولة لمراقبة الأسعار وحماية المواطن؟… لكن تأتي الإجابة المريرة لترد علي استحياء: الدولة تعجز عن رقابة كل متجر وكبح جموح كل تاجر منفلت علي أرض مصر… الدولة من خلال أجهزتها ووزاراتها ومؤسساتها التنفيذية عليها أن تضطلع بإعلام المواطنين بالأسعار العادلة لكافة السلع, وعلي المواطنين بعد ذلك تدبر أمورهم للوقوف في وجه جشع التجار وانفلاتهم غير المبرر.
وأنا هنا لست أدافع عن مؤسسات الدولة بإعفائها من مهمة فرض الأسعار وإتاحة كافة الاحتياجات للمواطن بالأسعار الرسمية أو العادلة… فهذا افتراض آن الأوان للاعتراف بأنه مستحيل التطبيق, وآن الأوان لدعوة المواطن للاضطلاع بمسئوليته نحو تفعيل الأسعار الرسمية والعادلة -أو حتي الاسترشادية- في الشارع عن طريق رفض ومقاطعة التجاوزات التي يستحلها التجار للعصف بتلك الأسعار… وأعود وأقول إنني أراهن في هذا السبيل علي ما أظهره وأنجزه الشارع المصري في مجال مقاطعة السلع الداعمة لإسرائيل… فالمعضلة تكمن في كيفية تشكيل موقف جماعي لمقاطعة تاجر بعينه أو سلعة بعينها لاستعادة الصواب في مقابل الانفلات.
هناك أمران علي جانب عظيم من الأهمية: الأول يعتمد علي توفر قواعد معلوماتية واضحة ومنتظمة ومتاحة للكافة بشأن قوائم الأسعار الاسترشادية لسائر المنتجات والخدمات تصدر عن الجهات الرسمية التابعة للدولة ويتم بثها بمعدلات دورية علي وسائط التواصل بحيث تكون معلومة لجميع المواطنين… والثاني يعتمد علي كيفية خلق سلوك جمعي من جانب المواطن المصري نحو رصد المتاجر الملتزمة بالأسعار الاسترشادية للتعامل معها, وعلي الجانب الآخر رصد المتاجر غير الملتزمة بتلك الأسعار لمقاطعتها.
وهنا يقف المواطن الذي لا حول له ولا قوة بمفرده ليصرخ: كيف لي أن أفرض هذا الواقع؟… وأين الحكومة؟… لماذا تتركني وحيدا؟… لماذا لا تحاسب التاجر المنفلت؟… وأعود وأقول إن تلك الثقافة العاجزة هي المسئولة عن تردي واقعنا ويتحتم أن نتدبر أمرنا في كيفية الخلاص… وهنا تبرز ثقافة المقاطعة… وأرجو ألا يتصور أحد أن الدول المتحضرة المتقدمة التي سبقتنا في انتهاج سياسة المقاطعة وحققت بواسطتها نتائج فعالة اعتمدت علي سياسات أو قرارات قومية تسري علي كامل أرجاء الدولة… لا ليس هذا السبيل… إنما ثقافة المقاطعة تعتمد أساسا علي ترسيخ علاقات تواصل حياتي بين المواطن وجيرانه المباشرين: جيران السكن, جيران العمارة, جيران الشارع, جيران المربع السكني… فمن خلال هذا التواصل يمكن رصد الخلل في أسعار السلع ومدي تجاوزها القوائم الاسترشادية الرسمية, وبناء عليه اتخاذ مواقف مقاطعة تجار بعينهم, الأمر الذي سيؤدي بالقطع إلي ركود تجاراتهم وإجبارهم علي مراجعة منظوماتهم السعرية بحيث تتوافق مع عدالة القوائم المعلنة للأسعار الاسترشادية.
أعلم أن هناك مساحة هائلة غير مطروقة في مجال تواصل المواطن مع أقرانه علي مستويات المسكن والعمارة والشارع والمربع السكني… وأيضا ما يتجاوز ذلك علي مستويات الخدمات التجارية والسلع علي كافة أشكالها… وهنا سوف يشعر المواطن بالعجز عن تغيير واقعه, ولكن صدقوني أنه يتحتم علي كل منا أن يسكتشف هذا المنحي الذي نجح في سائر الدول التي سبقتنا في كبح جماح انفلات الأسعار… أما إذا استسلمنا لعجزنا وإلقاء المسئولية علي الدولة فلا نعد أنفسنا بأكثر من المكوث في ساحة البكاء والولولة من انفلات الأسعار!!