المصريون والنظافة (١).. التاريخ القديم


أن نعتنى بنظافتنا الشخصية ونتفاخر بها لا يعنى بالضرورة أننا نقدر النظافة بشكل عام، فقد لا يقترن الحرص على النظافة الشخصية بالحرص على نظافة الحيز العام الذي نعيش فيه. تماما مثل التخلص من القمامة المنزلية والمخلفات بإلقائها في الشارع، وكأن المجال العام سلة قمامة كبيرة. وقد لا يقتصر الأمر على الشارع، وإنما على كل ما هو عام ومشترك كسلالم البيوت وأسطحها و”المناور” والأركان. إن العلاقة بالنظافة هى علاقة مزدوجة صحية وجمالية، ولكن عندما تتسم سلوكيات النظافة بالأنانية واللامبالاة تصبح مصدرا للأذى والقبح. وأسوأ ما في القبح هو القدرة على التعايش معه، وأسوأ ما في الثقافة هو الرياء القيمى. فمن المعتاد أن نرى عبارة “النظافة من الإيمان” أو “حافظوا على نظافة مدينتكم” مكتوبة بخط عريض على أحد الأسوار وبجوارها أو على مسافة غير بعيدة منها مقلبا للقمامة. وقد بات من المشاهد المؤذية كذلك أن تجد أطنان مخلفات البناء، والمواد البلاستيكية والعبوات الفارغة وحفاضات الأطفال على جوانب الطرق، وفى المسطحات المائية، وحتى فى الطرق الصحراوية. وإذا نظرت إلى أسطح المبانى من أعلى لا تندهش عندما تجد بقايا البناء وحتى مخلفات المنازل ملقاة على الأسطح. ومن المثير، أن تتحول أكوام القمامة المنتشرة فى شوارع المدن، إلى “مراعي” للأغنام، فى ظاهرة يمكن أن نطلق عليها “الرعى الحضري” والذى هو مأساة بيئية وصحية.

ربما لكل هذا يمكن أن نطرح السؤال: هل المصريون “بطبعهم” مجتمع متعايش مع المخلفات والقذارة رغم التفاخر بالنظافة الشخصية؟ وفى الحقيقة أستخدم كلمة “بطبعهم” أو “طبيعتهم” على سبيل التهكم لأنها كلمة تُستخدم لإخفاء الأسباب الحقيقية للظواهر الاجتماعية. والنظافة والقذارة من هذه الظواهر الاجتماعية والسلوكية. وعلى أى حال فإن الاجابة عن سؤال علاقة المصريون بالنظافة متعددة لأبعاد فلها جوانبها الثقافية والسلوكية والاجتماعية والقانونية، وسوف أكتفى فى هذا المقال بعرض بعض المعطيات التاريخية والاجتماعية، من خلال إشارات مستقاة من التاريخ، نتاول فى المقال الأول التاريخ القديم، ونخصص المقال الثاني للتاريخ.

ثمة معطيات تاريخية تفيد بأن للنظافة تاريخ في المجتمع المصري منذ عصر الفراعنة. ومن الملفت أن كلمة “النظافة” حاضرة عند مؤرخى التاريخ المصري القديم. ولعل الإشارات الأساسية جاءت فى كتابات المؤرخ اليوناني هيرودت (484 ق.م – 425 ق.م) والذي يعد مصدرًا أساسيا لمؤرخى التاريخ المصري القديم. واستنادا إلى كتابات هذا المؤرخ، يقول سير و. م. فلندرز بيرى في كتابه “الحياة الاجتماعية في مصر القديمة”، تحت عنوان تمسك المصريين بالنظافة: “ولقد كان المصريون يتمسكون بالنظافة تمسكا شديدا، وكانت ملابسهم، وملابس الكهنة بشكل خاص تصنع من الكتان (التيل) لأن الملابس الصوفية كانت في ملتهم واعتقادهم مرتعا خصيبا محببا للهوام والحشرات، وكانوا يحرصون على غسل ملابسهم فى فترات قصيرة وبعناية خاصة”. ويضيف: “كانوا يغتسلون بالماء البارد أربع مرات كل يوم مرتين فى النهار ومرتين فى الليل، كما كانوا يحلقون رؤسهم وأذقانهم، لا بل وأجسامهم مرة كل ثلاثة أيام! وكان مما يثير سخطهم وسخريتهم أن يروا الشعور المرسلة الكثة فى صورة الرعاة أو بعض الأجانب…”.

وعنوان “النظافة” فالتاريخ المصري القديم لا يعنى فقط المظهر النظيفوالهيئة الشخصية، ولكن تم تناول النظافة بوصفها نظام وتطورات مرتبطة بالحضارة المصرية، سواء تعلق الأمر بمقتضيات العناية بالنظافة الشخصية، أو بالوسائل المادية والتدابير الصحية المرتبطة بها. وهو ما نجده بالتفصيل فى دراسة متخصصة بعنوان “النظافة فى الحياة اليومية عند المصريين القدماء” للباحثة إيمان أحمد أبوبكر، حيث تستعرض الجوانب المختلفة لنظام “النظافة” عند المصريين القدماء وما يرتبط بذلك من تدابير كالحمامات ووسائل الصرف وعمليات التطهير وحتى أدوات ومواد التزيين. ووفق هذه الدراسة يتبين أهمية النظافة فى الحياة اليومية عند المصري القديم وحرصه عليها، وخاصة أنها تعتبر مما تقتضيه تعاليمه الدينية وعقيدته. وقد عرف المصري القديم بعض أدوات النظافة منذ عصر ما قبل التاريخ وبعضها منذ عصر بداية الأسرات واستمرت بعد ذلك فى العصور المختلفة، وتشير الباحثة إلى أن بعض أدوات النظافة كان لها وظيفة طقسية إلى جانب وظيفتها الدنيوية. وفى هذه الدراسة نتعرف على المهن المرتبطة بالنظافة، كالحلاقين والمزينين، ومصففى الشعر والغسالين، وأدواتهم وأساليبهم. وتستعرض كذلك أشكال النظافة الشخصية كنظافة الجسم والمنزل والملابس. ويعد الاستحمام والاغتسال المظهر الرئيس للنظافة الشخصية سواء فى الحمامات او النيل، وتطوير وسائل لتصريف المياه ولتخلص من الفضلات. كما ظهرت أنواع مختلفة من الدهانات والزيوت العطرية وتدرجت فى أنواعها باختلاف الطبقات. وكان حلق الشعر من مظاهر النظافة الشخصية. بل إن عادة الختان “الطهارة” .

وبالطبع، فإن الدراسة تقدم صورة أساسية ولكنها عامة، بمعنى أنه ربما كانت هناك جوانب اجتماعية أخرى لم يتم ذكرها، وربما يكون هناك عدم دقة فى بعض الظواهر ذات الصلة، فمثلا تقول الباحثة “حرص المصري على لبس الملابس الكتانية البيضاء لأن الحشرات لا تعلق بها..”، وهذا مغاير لآراء أخرى تقول أن المنتمين للطبقات الشعبية كانوا يرتدون الجلباب الأزرق القصير، لأنه يخفى الأوساخ. وعلى ما يبدو أن هناك بعد طبقى فى الموضوع. ولكن ما يبدو صحيحا إلى حد كبير هو أن النظافة الشخصية كانت ملموسة فى حياةالمصريين اليومية، ووفق بعض الآراء فقد يكون لهم السبق فى ذلك.

ومن الملاحظ أيضا، أن مصادر التاريخ المصري القديم ركزت على النظافة والمظهر الشخصي والوضع المنزلي، بدون الحديث كثيرا عن نظافة المجال العام. وقد لا يكون لهذا أهمية كبيرة، لأن المجال العام الذي ظهر فى العصر الحديث لم يكن معروفا، بهذا المعنى، فى السابق. كما أن البعد السكاني وأنماط الاستهلاك ربما لم تكن مصدرا للكثير من المخلفات كما هو الحال فى العصور الحديثة. وعلى أى حال فإن الكتابات التى تناولت التاريخ المصري القديم أظهرت الحرص على النظافة بالمعنى الديني (التطهر) والدينوي(المظهر). ولكن، مع الحداثة، وبداية الاهتمام بما بات يعرف بالمجال العام، هل باتت مشكلة النظافة مختلفة، وهذا ما سوف يتم تناوله فى المقال التالي، من خلال بعض ما قيل عن النظافة في المجتمع المصري في العصر الحديث.

تاريخ الخبر: 2023-12-25 09:21:28
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:11
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 68%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:25:52
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 52%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:00
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 69%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:17
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية