"لم يبق في مقبرة عائلتي حجر على حجر"

قبور مفتوحة وأسماء موتى على شواهد محطمة، بل وأجزاء من جثامين متناثرة، كانت يوما ما تحت الثرى.

مشاهد لا تفارق مخيلة بعض الفلسطينيين الذين لا يزالون في حالة صدمة جراء دهس عدد كبير من مقابر قطاع غزة.

بعد نحو ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب، لم يتوقع فلسطينون كثر أن يمروا على قبور أحبائهم، ليروها محاطة بآثار تجريف واضحة.

وبدلا من إلقاء السلام على موتاهم، يشهد غزيون دمارا طال حرمة المقابر لا المنازل فحسب، إثر التوغل البري الإسرائيلي في القطاع.

  • Author, إيثار شلبي وأحمد نور
  • Role, بي بي سي نيوز عربي

استطاعت بي بي سي التحقق من مواد مصورة تظهر ما بدت معالم دمار هائل وآثار تجريف واضحة في أربع مقابر في القطاع.

وتأكد فريقنا من صحة عدد من المقاطع المصورة التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، وأخرى شاركها فلسطينون مع بي بي سي، بعد مقارنتها بصور ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية.

كما روى لنا شهود عيان ما شاهدوه من آثار تدمير لمقابر عائلاتهم، متهمين الجيش الإسرائيلي بتعمد تجريفها لأسباب مختلفة. فمنهم من اتهم الجانب الإسرائيلي بمحاولة العثور على جثامين رهائن إسرائيليين تم دفنهم في مقابر بشمال القطاع، ومنهم من يعتقد أن إسرائيل تبحث عن جثامين لقياديي حماس لإخراجها من القبور.

اتهامات كان علينا التوجه بها إلى الجيش الإسرائيلي للحصول على رد أو تعليق بشأنها، ولكننا لم نحصل على إجابات واضحة على الأسئلة التي طرحت بشأن أسباب تجريف هذه المقابر أو مزاعم شهود العيان.

اكتفى الجيش الإسرائلي برد مقتضب قائلا: "نظرًا للنشاط العسكري الجاري حاليًا، لا يمكننا الرد على استفسارات محددة أو تأكيدها في الوقت الحالي، وتجدر الإشارة إلى استخدام حماس للبنية التحتية المدنية بما في ذلك المقابر".

تحدثنا أيضا إلى بعض المحللين لمحاولة فهم ما إذ كان هناك أي أسباب تدفع الجيوش –في حالة الحرب – لدهس القبور من الأصل، وقال لنا خبراء مستقلون إن استخدام المناطق المفتوحة، بما في ذلك المقابر والشواطئ والساحات، أمر شائع، خاصة في أثناء إجراء استعدادات لإنشاء مواقع أو نقاط عسكرية.

ويمكن أيضًا استخدام المقابر كجزء من الطريق المصمم للمركبات العسكرية للانتقال من نقطة إلى أخرى.

مقبرة بيت لاهيا

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي عدة مقاطع مصورة لما يبدو أنها مقبرة مدمرة، تقع في أقصى شمال قطاع غزة. تحققنا من موقع المقبرة الظاهر في أحد مقاطع الفيديو المنتشرة، من خلال تحديد الموقع الجغرافي لمركز شرطة بيت لاهيا، الذي يظهر في الثواني الأولى من الفيديو.

كما قامت بي بي سي بمطابقة لوحة شمسية، كانت قد ظهرت في مقطع فيديو شاركه معنا أحد سكان المنطقة، مع لوحة مشابهة ظهرت في صور الأقمار الصناعية لمقبرة بيت لاهيا.

كما توافقت آثار الدمار التي تظهر في صور الأقمار الصناعية مع التقارير المتداولة بشأن الأضرار التي لحقت بمقبرة بيت لاهيا في آخر نوفمبر/تشرين الثاني.

تحدثت بي بي سي إلى شهود عيان في بيت لاهيا عن مشاهداتهم لحجم الدمار الذي رصدوه في المقبرة، التي تمتد على مساحة تقدر بـ 23 مترا مربعا. من بينهم، شريف الخطيب، فلسطيني يبلغ من العمر 29 عاما.

أرسل الخطيب لبي بي سي مقطع فيديو قال إنه صوره من داخل المقبرة، وتظهر فيها ما تبدو أنها آثار تجريف واضحة على الأرض.

صدر الصورة، Sherif El-Khateeb

بصوت حزين، روى الخطيب، الذي كان يعمل في متجر لبيع الهواتف المحمولة في مدينة بيت لاهيا، لبي بي سي ما شاهده عندما مر على المقبرة، التي تبعد ستة أمتار فقط عن منزله.

يقول: "مررتُ بالمقبرة في الصباح، ورأيت مقابر مفتوحة، بها حفر يصل عمقها إلى نصف متر. لم يبق في مقبرة عائلتي حجر على حجر، فهي مدمرة تماما"، مضيفا أنه يعتقد أن جزءا كبيرا من المقبرة تعرض للقصف، وأجزاء أخرى تم تجريفها. "تم تدمير الصور المحيط بالمقبرة تماما، لا يوجد الآن أي حواجز بين الشارع و المقبرة"

ويعتقد الخطيب أن الجيش الإسرائيلي دهس المقبرة، "لأن المسؤولين الإسرائيليين يعتقدون أنها لا تزال أحد معاقل حماس" .

لم يعلق الجيش الإسرائيلي على هذه الادعاءات، لكنه أعلن في وقت سابق أن المنطقة الشمالية، بما فيها مدينتي بيت لاهيا وبيت حانون، تعتبر مخبأ لحماس.

مقبرة بيت حانون

تعد مقبرة بيت حانون، إحدى أقدم المقابر في غزة، وتقع على بعد نحو كيلومترين فقط من حاجز إيرز - نقطة عبور المشاة الرئيسية إلى إسرائيل. وتبلغ مساحة المقبرة 20 مترًا مربعًا تقريبا.

وكانت مدينتا بيت لاهيا وبيت حانون في شمال وشمال شرق قطاع غزة من أولى المدن التي استهدفتها الغارات الجوية الإسرائيلية بعد الهجمات التي شنتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

للتحقق من مزاعم دهس المقبرة، اطلعت بي بي سي على صور الأقمار الصناعية لمقبرة بيت حانون، وقارنت بين الصور التي تظهر قبل الدمار وبعده، كما تحدث فريقنا مع صحفيين محليين وخبراء مستقلين بشأن آثار تجريف مقبرة بيت حانون.

أظهرت صورة القمر الصناعي الملتقطة في 17 أكتوبر/تشرين الأول المقبرة في حالة سليمة، وتظهر فيها بشكل طبيعي المزارع والمباني المجاورة لها، مع مقارنتها بصورة التقطتها الأقمار الصناعية في 19 كانون الأول/ديسمبر، تظهر آثار دمار واضح في المنطقة كلها، بما فيها المقبرة.

تحدثنا مع حسام شبات، وهو صحفي يبلغ من العمر 23 عاما ومن سكان بيت حانون. هو أيضا أحد الفلسطينيين القلائل الذين تمكنوا من العودة إلى المدينة، وتصوير المقبرة، رغم ما وصفه بالوجود الإسرائيلي "المكثف" في المنطقة، والذي حولها لأكثر الأماكن "خطورة" على الغزيين.

تحقق فريق بي بي سي من الصور والمقاطع المصورة التي نشرها شبات، وفي خلفية إحدى الصور، تظهر آثار الجرافات بوضوح في أرض المقبرة.

عرضنا هذه الصورة على عمر خضر، الخبير في مؤسسة سيبيلين المعنية بمجال الاستخبارات وتحليل المخاطر. وقد اتفق تماما على ظهور "علامات تجريف واضحة" في مقبرة بيت حانون.

وقال خضر إن مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي للمقبرة والتي تم تداولها في الأسبوع الأخير من ديسمبر تؤكد أيضا ظهور أضرارًا مماثلة.

"لم أر آثار قصف في هذه المقبرة. لم تكن هناك أي حفر أو بقايا صواريخ فيها، لكن التجريف كان شديدًا وعميقًا لدرجة أن معظم الجثث ظهرت على السطح".

ومن الصعب التأكد من أسباب دهس المقابر في غزة، لكن بعض سكان المدينة، مثل شبات يعتقدون أن "إسرائيل تقوم بتدمير مقبرة بيت حانون بحثًا عن جثث الرهائن".

“إنهم (الإسرائيليون) يعتقدون أنها جثث رهائن إسرائيليين يتم دفنها في هذه المقبرة، لأنها قريبة جدًا من بلدات جنوب إسرائيل. لكن هذا ليس هو الحال، فلا يوجد رهائن مدفونين هناك. هذه مقبرة قديمة جدًا وقد دُفن هناك العديد من أفراد عائلتي الراحلين".

ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على هذه الادعاءات.

مقبرة الفالوجا، بالقرب من مخيم جباليا

تحققت بي بي سي من مقطع فيديو يزعم أنه يظهر علامات دمار ألحقتها المركبات الإسرائيلية بالمقابر في مقبرة الفالوجا، التي تقع بالقرب من مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة.

تخطى البودكاست وواصل القراءة

بودكاست أسبوعي يقدم قصصا إنسانية عن العالم العربي وشبابه.

الحلقات

البودكاست نهاية

وتحدثت بي بي سي عربي إلى صحفيين محليين وشهود عيان قالوا إن المقابر تعرضت لـ"أضرار بالغة" مشيرين إلى أن "أجزاء من الجثث باتت متناثرة على الأرض".

وقال مؤمن أبو عودة، صحفي محلي زار المنطقة، إن الآليات الإسرائيلية دمرت المقبرة، وحفرتها لتشكل شارعين بين القبور، بل وانتشلت ما بين أربع إلى خمس جثث متحللة إلى مكان مجهول، على حد تعبيره.

"يمكنك رؤية خطين طويلين من الأوساخ المدفوعة وكأن شارعين يتشكلان داخل المقابر مع وجود علامات جرافة واضحة على الأرض. كما ظهرت الجثث فوق القبور". وأضاف أبو عودة: "يبلغ عمق الحفرة الواحدة حوالي متر واحد، وكان من السهل رؤية العظام وأيدي الجثث متناثرة حولها".

وقال محمود عويضة، أحد سكان جباليا، إن المنطقة المحيطة بالمقبرة دمرت بالكامل، ويعتقد أن "القوات الإسرائيلية كانت تبحث عن جثث لكبار قادة حماس.

"لقد أخذوا جثمان أحمد الغندور، أحد قادة حماس، الذي دفن مؤخراً في هذه المقبرة".

ولا تستطيع بي بي سي التحقق من هذه المعلومات بشكل مستقل، لكن في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، قالت كتائب القسام، الجناح المسلح لحركة حماس، إن أربعة من قادتها العسكريين قتلوا، بمن فيهم أحمد الغندور، المعروف باسم أبو أنس، والذي وُصف بأنه "عضو المجلس العسكري وقائد لواء الشمال".

مقبرة الشجاعية

تحققت بي بي سي من صور الأقمار الصناعية لمقبرة الشجاعية الواقعة شمال قطاع غزة، والتي أظهرت حجم الدمار الذي لحق بالمنطقة.

ولم تتمكن بي بي سي من التحقق بشكل مستقل من كيفية تدمير المقبرة، لكن الخبراء قالوا إن هناك احتمالا كبيرا بأن الدمار نجم عن تجريف لا قصف.

وقال خضر لبي بي سي: "ربما استهدفت بعض عمليات القصف المقبرة، لكنني أعتقد أن هذه المقبرة قد تم تجريفها بالدرجة الأولى".

وأضاف: "لقد ترددت أنباء على نطاق واسع بالفعل عن استخدام جيش الدفاع الإسرائيلي لبعض المقابر كمواقع عسكرية".

وعلمت بي بي سي أن هناك مقابر أخرى تم تخريبها، تقع في جنوب مدينة خان يونس، بما في ذلك منطقتي بني سهيلة والقرارة، حيث تم تجريف مقبرة عائلية خاصة.