عندما يتحدث المثقف النافع عن الانهيار الفكري والأخلاقي! – صحيفة التغيير السودانية , اخبار السودان


 

رشا عوض

 

كتب الدكتور معتصم الأقرع على صفحته بموقع فيسبوك ما يلي: “مع استمرار عملية الانهيار الفكري والأخلاقي يأتي تبرير إجرام الجنجويد وتغبيش الوعي بأحد أكثر حيله بشاعة هذه الأيام كما يرد في بوستاتنا وغيرها”.

إذ يتم الادعاء أن ما يحدث في الجزيرة هو مسؤولية الجيش الذي يستهلك 80% من الميزانية ولا يحمي أهلها.

بمعنى آخر، إذا نهب جنجويد مالك وروع أمنك ودمر قريتك واغتصب جارتك عليك بلعن الجيش ثم أنسى الجنجويد ولا تطالبهم بكف الأذى ولا تطلب من حلفائهم وكتابهم إدانة جرمهم المشين.

وبهذا المنطق المدمر للمجتمعات والنافي للمسؤولية عن حرمة دماء المدنيين وسلامتهم يمكن لأي مجرم أن يرافع في المحكمة ويدافع عن اغتصاب وقتل فتاة بالقول بأنه بريء وأن المسؤولية تقع على عاتق البوليس الذي تقاعس عن حمايتها رغم أنه يملك عربات نيسان ويسافر علي حساب الدولة ويستحوذ على موازنة ضخمة يسرقها العميد فلتكان. وهو نفس البوليس الذي قتل موسى واغتصب الرضية.

هل هناك أي قاع لهذا الانهيار التام للمنطق والأخلاق؟

المهم، شتارة كتاب تبرير إجرام الجنجويد والتهوين منه وتحويل اللوم إلى جهات أخرى بقو يذكروني قصة عشة العويرة ولكن تلك حكوة ليوم آخر.”

انتهى البوست وفيما يلي تعليقي عليه:

يا دكتور معتصم من أبشع تجليات الانهيار الفكري والأخلاقي عدم الأمانة في نقل ما يقوله الآخرون، وكذلك لا يليق بالمثقف أن يتناول القضايا الكبيرة والمعقدة بمثل هذا التبسيط والتسطيح ممثلاً في إهدار كامل السياق، والتركيز على جزئية واحدة فقط من الحقيقة معزولة تماماً عن كامل السياق وكأنما هذه الجزئية هبطت من السماء! رغبة في التستر على بقية الجزئيات القبيحة بل نفيها تماماً!!

بالعودة إلى البوست العجيب، لم يقل أحد أن جرائم وانتهاكات قوات الدعم السريع في قرى الجزيرة وغيرها غير مدانة ومستنكرة وأن الدعم السريع لا يتحمل كامل المسؤولية عنها، ولكن في ذات الوقت الجيش الذي يستهلك ثلاثة أرباع ميزانية الدولة السودانية مسؤول عن حماية المواطنين، هذا هو واجبه بحكم البداهة، فعندما تستباح المدن والقرى بهذا الشكل يجوز لنا كدافعي ضرائب أن نسائل جيشنا الهمام عن التقصير في مسؤوليته، لأنه أي الجيش أو بالأحرى تماسيح الجيش من جنرالات البزنس، فضلاً عن الأجهزة الأمنية يشفطون ميزانية صحتنا وتعليمنا وزراعتنا ويطالبوننا بالصمت على ذلك ومباركة امتيازاتهم بدعوى إنهم حماة الوطن والمواطن ويوفرون له الأمن باعتباره أهم من أي رفاهية أخرى حتى لو كانت دواء الملاريا أو مواد التعقيم في غرف العمليات، وبداهة يحتاج المواطنون لجيوشهم كي تحميهم في أزمنة الحرب وليس في أزمنة السلم! يعني بالبلدي كدا لما الجنجويد يجتاحوا ولاية الجزيرة هنا “حوبة الجيش”! الجنجويد لم يهبطوا على الجزيرة من السماء بل زحفوا نحوها من الخرطوم وقطعت تاتشراتهم عشرات الكيلومترات في خلاء مكشوف للطيران، لماذا لم يمنع الجيش وصول الجنجويد إلى الجزيرة؟ لماذا لم يتعارك معهم خارج مدنها وقراها ويحول دون دخولهم لأنو (دي حوبة الجيش)؟ وما دام هذا الجيش غير قادر على حماية أي مدينة أو قرية بالقوة العسكرية لماذا لا يحمي المواطنين بقبول الحل السلمي التفاوضي الذي يوقف هذه المقتلة العبثية للأبرياء؟

مع اندلاع الحرب خاطبتنا القيادات العليا في الجيش أن الحرب سوف تحسم في سويعات ثم إزبوع إزبوعين وها هي الحرب تطول وتتوسع والمواطنون يجدون أنفسهم وحدهم مكشوفي الظهر في المدن والقرى المستباحة إلا يستوجب ذلك مساءلة الجيش والتحسر على المليارات التي انفقت عليه من حر مال الشعب السوداني؟

بالمناسبة الجيش نفسه بعد فضيحة انسحابه من الجزيرة قرر تشكيل لجنة تحقيق، وكتائب الذباب الإلكتروني وكتائب الكيزان ملأت الأسافير ضجيجاً وعويلاً حول خيانة تمت في الجزيرة وصفقة بيع انعقدت، يعني مساءلة الجيوش عن تقصيرها أثناء الحروب هو مبدأ متعارف عليه عالميا، ومن نوائب الدهر حقاً، أن يتنكر المثقف النافع لهذا المبدأ فيصبح بسبب تربصه بمن يصنفهم كتاباً للجنجويد متخلفاً عن الذباب الإلكتروني وكتائب الظل!!

وإذا كان المقام مقام حقوق ورفض انتهاكات، ماذا عن انتهاكات الجيش نفسه في هذه الحرب ممثلة في قصف الطيران لمنازل وأسواق ومصانع ومنشآت مدنية وموت عشرات الأبرياء جراء ذلك؟ ما هي القيمة العسكرية مثلاً لقصف منازل في الضعين أو سوق في شرق النيل أو مدني؟

والسياق بكلياته إلا يستوجب مساءلة الكيزان الذين خلقوا واقع تعدد الجيوش واضعفوا الجيش مهنياً بالمبالغة في تسييسه وتمليشه، ثم ورطوه في حرب هو غير مستعد فنياً ومعنوياً لخوضها بدليل الوقائع على الأرض، ورغم أنف الوقائع يعارضون السلام ويعملون على تحويلها لحرب أهلية ويرفعون عقيرتهم بضرورة تقسيم جديد للسودان عبر دولة البحر والنهر!

المثقف هو من تكون إطلالته على واقعه شاملة وعميقة، ومنظوره النقدي لا يستثني أي طرف من صناع الأزمة الوطنية، ولا يتواطأ مع أي طرف بصورة ظاهرة أو مستترة، وأسوأ انواع التواطؤ هو التواطؤ المستتر!!

هل يعقل في ظل حرب كهذه أن يجعل مثقف محور كتاباته هو تبخيس القوى السياسية المدنية والكتاب المناهضين للحرب وللمشروع الكيزاني الاستئصالي ويستهلك نفسه في إزاحة اللوم عن الجيش متفوقا على الجيش نفسه! وعن الكيزان متفوقاً على كتائبهم! وتبكيت من ينتقدهم بالإرهاب المعنوي ممثلا في ذات اسطواناتهم المشروخة من تحالف مع الجنجويد وتبرير انتهاكاتهم!

كارثتنا الوطنية ممثلة في هذه الحرب من أهم عناوينها العريضة “فساد المؤسسة العسكرية بكل تشكيلاتها” بسبب هذا الفساد فإن السلاح المدفوع ثمنه من حر مالنا كشعب سوداني يقتلنا بلا هوادة في صراع سلطة بين الكيزان المتحكمين في الجيش وبين الدعم السريع الذي صنع على أعين الكيزان وجيشهم ثم استقوى عليهم وفي هذا الصراع اثبت الجميع استخفافهم بحياة المواطن.

هناك من يريد أن يجعل لهذه الحرب عنواناً وحيداً يتيماً هو “انتهاكات الدعم السريع” وفي أسوأ عملية للتدليس والبلطجة السياسية يتم تجريم كل من أدان انتهاكات الطرفين! فالإدانة الصحيحة والمقبولة كيزانياً هي إدانة الدعم السريع مقرونة بتمجيد وشهادة براءة للجيش وكتائب الكيزان بموجبها نمحو من الذاكرة الوطنية شجرة النسب السياسي والعسكري والقانوني للدعم السريع لأن هذه الشجرة ذات ارتباط عضوي بالكيزان والجيش! علينا أن لا نرى شيئاً سوى انتهاكات الدعم السريع في حين أن الاعتقالات والاخفاء القسري والتعذيب جرائم تشترك فيها استخبارات الطرفين، والقتال وسط المناطق المأهولة بالأسلحة الثقيلة جريمة يتشاركها الطرفان وتدل على استخفافهما بحياة المدنيين، وأصلا وجود ثكنات الجيش وسط المدن المأهولة هو أقوى مؤشر للخلل البنيوي في مؤسستنا العسكرية المصنوعة أصلا لحماية الحاكم وقمع المواطن، لأن وجود ثكناتها داخل المدن معناه أن عدوها هو سكان هذه المدن لا غيرهم! وقصف الطيران للمدنيين في الضعين ونيالا والخرطوم وأمدرمان ومدى جريمة الجيش وحده، وسرقة مواد الإغاثة وبيعها في السوق وعرقلة وصولها لمستحقيها مع سبق الإصرار والترصد هي جريمة الكيزان المتحكمين في سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، وقتل وتشريد مواطنين فقراء من ولايات الشمال والوسط على أساس انتمائهم القبلي لدارفور جريمة الأجهزة الأمنية الكيزانية، وعمليات النهب والاستباحة المنظمة للمدن والقرى وطرد المواطنين من بيوتهم جريمة الدعم السريع وحده، وكل هذه الجرائم مدانة ومستنكرة بذات الدرجة، ومن كان مخلصاً في الانحياز للضحايا ويريد إنقاذهم من ويلات الانتهاكات يجب أن يكون داعية للسلام وفق مشروع سياسي للسلام المستدام حتى يطوي هذا الوطن المكلوم صفحة الحروب، فالحرب أم الخبائث وألد أعداء الشعب السوداني.

أذكر في بداية التسعينيات وفي مقابلة إذاعية مع زعيم الحركة الشعبية الراحل الدكتور جون قرنق وفي سياق رده على أن عمر البشير يصفه بالمتمرد ضحك قرنق وبأسلوبه الساخر قال البشير نفسه متمرد لأنو عمل انقلاب قبل سبعة أشهر، وأنا تمردت قبل سبع سنوات، يعني أنا عندي “أقدمية بتاع تمرد”!

وعليه فإن من يتباكون من انتهاكات الدعم السريع لو كانوا صادقين في بكائياتهم لأدركوا أن تاريخ الانتهاكات في السودان لم يبدأ مع الدعم السريع الذي تكون قبل عشرة أعوام، وأن الجيش وأجهزة الكيزان العسكرية والأمنية الخاصة بتنظيمهم لديها “أقدمية في الانتهاكات”!

والإقرار بهذه الأقدمية يجب أن لا يكون هدفه تبرئة الدعم السريع أو تبرير أفعاله المنكرة، بل هدفه هو البحث الأمين والنزيه عن مخرج حقيقي للشعب السوداني من دوامة القتل والإجرام المنظم والانتهاكات الفظيعة في حقه بواسطة مؤسسات أمنية وعسكرية تستنزف جل موارده الاقتصادية وتفشل تماما ليس فقط في توفير الأمن والحماية له، بل تفشل في مجرد كف أذاها المباشر عنه قتلاً وتشريداً وتعذيباً وتدميراً شاملاً للوطن!

المثقف الحقيقي لا يليق به أن يكون قونة تغني للجيش وتتمغرز في القوى المدنية الديمقراطية، ولا يليق به أن يكون حكامة تمجد الدعم السريع، ولا يليق به أن يكون حارساً لمرمى الكيزان يصد عن شباكهم المهترئة أي هدف يكشف اهتراءها السياسي والأخلاقي وكأنه “مقاول من الباطن” لحملاتهم المسعورة ضد ضحاياهم، ولا يليق به كذلك مصادرة مشروعية النقد للمنظومة السياسية أو التحالف الذي ينتمي إليه، فمن المشروع بل من الواجب الوطني التفحص النقدي الشامل لأداء قوى الحرية والتغيير في الفترة الانتقالية وما ارتكبته من أخطاء استراتيجية أو حتى ثانوية ، فجميع الفاعلين السياسيين يجب أن يكونوا في دائرة المساءلة عن أدائهم، ولكن هناك حداً فاصلاً بين النقد المشروع وبين الافتراء والتجني، وفي سياقنا السياسي الراهن وتحت وطأة هذه الحرب من غير المفهوم على الاطلاق تشغيل إسطوانة وحيدة هي (قحت قحت قحت) و(تقدم تقدم تقدم) باسم مشروعية النقد وفي ذات الوقت اتهام كل من يتصدى لنقد الكيزان وتعرية دورهم في هذه الحرب في سلامته العقلية والنفسية تحت عبارات الكوزوفوبيا والحذلقات الأكاديمية المفخخة! بالله عليكم بماذا نسمي هذه الفئة من المثقفين سوى إنهم “مثقفين نافعين للكيزان” !!

 

 

 

تاريخ الخبر: 2024-03-02 18:24:09
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:14
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية