المادة الإعلانية وتأثيرها علي الأسرة
المادة الإعلانية وتأثيرها علي الأسرة
ربما كان المألوف أن تتجه الأنظار والآذان إلي ما تقدمه شاشة التليفزيون من أعمال ثقافية وترفيهية ودرامية وتقييمها ونقدها, ولكن الأنظار هذه المرة تتجه إلي المادة الإعلانية, تضم المادة الإعلانية بعد أن أصبحت تشغل مساحة كبيرة جدا ووقتا مميزا من أوقات الإرسال بعد أن أصبحت تلح علي الأذن وعلي العين ويجلس الأطفال بالذات لمشاهدتها ومتابعتها وترديدها وتقليدها أيضا.
والإعلان حق للمعلن وضرورة اقتصادية لترويج سلعته وتعريف المستهلكين بها وهو مصدر دخل كبير جدا لذلك الجهاز الإعلامي الضخم.. التليفزيون وهو ليس مرفوضا كمبدأ ولكن من الضروري أن تحكمه أخلاقيات وقيود وحدود بحيث لا يكون له تأثير سيئ علي أخلاقنا وقيمنا وسلامنا الاجتماعي وسلامتنا النفسية أيضا.
وربما يبدو هذا الكلام وتلك التعبيرات قاسية أو تتسم بطابع المبالغة, ولكن الحقيقة تخالف ذلك تماما. وقد درسنا في الجامعة عناصر الإعلام وأساسياته وأهدافه وحملاته التعليمية والتذكيرية, واتجاهه بالدرجة الأولي إلي المرأة باعتبارها صاحبة القوة الشرائية الأولي في الأسرة وتأثيره علي المجتمع والأسرة وضرورة أن يكون صادقا وغير مضلل, وما نراه حاليا علي الشاشة الصغيرة إنما هي حركات غريبة وأحيانا مدمرة.
ولنا أن نتصور أما تصرخ من الغرفة لأن ابنتها الصغيرة تتحدث معها أو مع صديقاتها اللواتي في سنا وهي تحرك حواجبها في حركات راقصة أو وهي تغمز بعينيها وتتشدق باللبانة في شكل مقزز. والابنة وعشرات ومئات الأطفال ذكورا وإناثا معذورون لأنهم ببساطة يتعلمون ما يشاهدونه في الإعلانات, فمعظم الإعلانات إن لم يكن كلها تقدم لنا الأطفال يتراقصون دون أن يكون هناك داع للرقص, ويتمايلون ويصرخون وإحدي الفتيات التي لم يتجاوز عمرها عشر سنوات تمضغ اللبانة وفمها مفتوح علي آخره وهي تغمز بعينيها, ثم تتوالي الصور وتقدم لنا سيدات كبار رفضن نفس الشيء, وكل ذلك للإعلان عن نوع من أنواع اللبان. وأظن أن المشاهدين الصغار لا يتذكرون اسم اللبان, وإنما علق بأذهانهم هذه الصورة الراقصة الملونة وكلمات الأغاني والتمايل, ويقلدونها باعتبارها مسلكا طبيعيا جميلا محببا, وإلا لما عرض علي شاشة التليفزيون.
الفتيات الجميلات تتحدثن بميوعة شديدة, وحواجب متحركة, وتغامز ورقص, وهن يرددن كلمات الإعلان الممطوطة بالدلع الزائد عن حدود اللياقة. وكل هذه التحركات لا علاقة لها بالسلعة المعلن عنها, ولا تخدم الهدف, ربما علي العكس تركز اهتمام المشاهد علي ما يراه من حركات فتصرف ذهنه عن السلعة نفسها. الرجال أيضا للأسف الشديد يتراقصون بشكل مثير ومنفر ليقدموا إعلانا عن قطع من الملابس التي لا تحتاج لهذه الحركات بقدر ما تحتاج إلي أن يعرف المشاهد مدي جودتها, وجودة أنسجتها وثبات ألوانها, وتهاود أسعارها ليقيم ما يراه ويوازن بين ميزاتها وثمنها فيقرر الشراء. وإذا كانت المرأة في أغلب الأحيان كما يؤكد علماء الاقتصاد والاجتماع هي التي تتخذ قرار الشراء فهي لا يهمها رقصات الرجال الذين يعلنون عن الثياب, وإنما يهمها ما به من مميزات. ولنر آخر ما تتفق عنه ذهن المعلن, فقد خرجت لنا صور منفرة علي شاشة التليفزيون لرجل يعلو الجد وجهه يفكر بعمق, ومعه آخرون يجففون وجوههم من العرق, ثم نري دوسيها مكتوبا عليه ميزانية الشركة, بما يوحي لنا أن الرجل المحترم ذو مركز رفيع فهو قد يكون رئيس مجلس إدارة أو العضو المنتدب أو ما شابه ذلك. ثم نري مجلسا منعقدا وذلك الرجل يجلس علي قمة الاجتماع, وفجأة وبشكل يثير الاشمئزاز والسخرية, يقف الرجل المحترم المهذب الممتلئ ليرقص في حركات عصبية, ويتبعه باقي المجتمعين يرقصون كما يفعل, ليردد ببلاهة شديدة أنه ليس مبسوطا لأنه يريد بسكويت أو -كيك- لا أذكر علي وجه التحديد وبعض المشاهدين يضربون كفا بكف دهشة مما يرون.
والإعلانات التي نشاهدها انحدرت كما انحدرت الأغنية الحالية, والكلمات ممجوجة واللحن والرقص والتمايل. كل الإعلانات راقصة غنائية حتي إذا كانت السلعة لا تتحمل رقصا أو غناء أو تمايل أو تحريك حواجب.
وهذا لا يعني أن كل الإعلانات علي هذا النمط فهناك إعلانات جادة ومدروسة وتخدم السلعة التي تعلن عنها دون أن تسيء إلي المستمع والمشاهد, وتحترم عقل المشاهد وتفكيره ووجدانه ومشاعده وتقاليده, ولكن الأغلبية السائدة هي هذه الموجات العاتية من الإعلانات التي تجر أولادنا إلي تقليدها فتفسد مسلكهم وتهز أخلاقياتهم.
والعديد من الآباء والأمهات يخشون من أن يشاهد أولادهم هذه الإعلانات أكثر من خشيتهم من مشاهد الأفلام والأعمال الدرامية, فالأولاد تجذبهم الإعلانات ويحبون مشاهدتها, ويرددون أغانيها ويقلدون ما يرونه. أحد الآباء حمل التليفزيون, ووضعه داخل الدولاب وأغلقه بالمفتاح ومنع أولاده من مشاهدته كلية. وعندما عاد ذات يوم مبكرا وجد أن زوجته أخرجت التليفزيون وجلست أمامه تتفرج علي أحد المسلسلات فثار وغضب واتهمها بأنها لا تقدر المسئولية وأنها تعرض الأولا لتأثيرات مدمرة ونزع سلك التليفزيون وتركه غير صالح للاستعمال.. فقد شاهد ابنه يقلد أحد أطفال التليفزيون يحرك أصابعه بجوار رأسه كما يفعل أي إنسان ليتهم الذي أمامه بالجنون وأحزنه وأخجله ما يفعل ابنه وأسرع بضربه ولكن الأم أخبرته أن الطفل لا ذنب له وهو يقلد طفلا في أحد الإعلانات, ومن يومها قرر أن يمنع أطفاله من مشاهدة الإعلانات, ولكنهم يحبون مشاهدتها ويحفظونها فقرر الاستغناء تماما عن مشاهدة التليفزيون.
حقيقة أخري تؤكد أن لهذه الإعلانات تأثيرا آخر مدمرا غير تأثيره علي الأخلاقيات والقيم, فكثير من الأسر لا تخجل من الاعتراف بأن هذه الإعلانات تسبب لهم مضايقات نفسية متنوعة, وتسبب قلقا في البيت, فالأولاد يريدون أن يشتروا أنواع الحلوي والجيلي والبسكويت والكيك واللبان والسوداني وغيرها من المواد الغذائية التي يعلن عنها, إمكانيات الأسرة الاقتصادية لا تستطيع أن تحقق ذلك أو تفي به, بل إن بعض السلع تثير حفيظة غير القادرين, وتدفعهم للتساؤل عن الفئات التي توجه إليها هذه السلع وعن القادرين علي شرائها واقتنائها. ويري علماء الاجتماع أن بعض الإعلانات عن السلع المكلفة والكمالية تسبب قلقا وتهدد السلام الاجتماعي, وتثير الحقد الطبقي والكراهية للقادرين, والإحباط لعدم القدرة علي اتباع سلوك الآخرين من القادرين وشراء السلع المعلن عنها فكيف يتقبل شاب لا يملك أن يدفع إيجار شقة متواضعة يحقق فيها حلم حياته هو وشريكة حياته وتكوين أسرة -كيف يتقبل مثل هذا الشاب أن يري إعلانا عن مساكن للتمليك يبلغ ثمن الشقة الواحدة مائة ألف جنيه وأحيانا ضعف هذا المبلغ, كيف يتقبل ذلك دون أن يشعر بالعجز والإحباط والحقد والكراهية للمجتمع الذي يحوي هذه المتناقضات الصارخة؟
إن الإعلانات بشكلها الحالي تحتاج إلي وقفة, فكثير من الأسر متذمرة, ورافضة للأسلوب الذي تعرض به, تخشي التأثيرات السيئة علي أولادها. والتليفزيون ذلك الجهاز الضخم الخطير يجب أن تكون له وقفة, ليس برفض الإعلان, إنما بوضع شروط ومواصفات للإعلان الذي يقبل أن يقدمه علي شاشته بحيث يكون علي قدر من القيمة والحرص علي القيم والأخلاقيات, بلا حركات مثيرة أو مفسدة, وسوف يخضع المعلن لأن يحتاج إلي التليفزيون كوسيلة إعلامية مهمة للإعلان عن سلعته, وإذا رفض له إعلان غير لائق فسوف يحرص علي أن يكون إعلانه التالي مقبولا ولائقا.
إننا نريد أن يكون كل ما يصل إلي آذاننا وتشاهده عيوننا غير مسيء إلي أولادنا وأسرنا حتي وإن كان مجرد مادة إعلانية.