البابا تواضروس.. أيقـونـــة الإنسانية والتسامح
البابا تواضروس.. أيقـونـــة الإنسانية والتسامح
. كل دكتوراه أحصل عليها هي تكريم للكنيسة والوطن فنحن نخدم الإنسانية ونعلي من قيم التسامح عندما نزرع الحب
للكنيسة مبادرات لخدمة الإنسان وأطلقنا أخيرا مبادرة للتوعية بمخاطر زواج الأقارب.. وهي أقربهم إلي قلبي لمعايشتي كثيرا من الحالات المؤلمة
تتمزق قلوبنا لما يحدث في فلسطين الحبيبة.. والكنيسة تساهم بشاحنات مساعدات إلي أهالينا في غزة
* موعد عيد القيامة يتحدد بثلاثة عوامل.. ونتمني توحيده في يوم واحد ونفرح معا بروح واحدة ونحن نقول: المسيح قام.. حقا قام
* 2025 عام الاحتفال بمرور 17 قرنا علي انعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية.. ونبحث أن ندعو كنائس العالم لاحتفالية علي أرض مصر..
* يونية القادم احتفالية على أرض الأنبا رويس لرحلة العائلة المقدسة بعرض خاص لفيلم الشركة المتحدة للخدمات الرقمية
أذكر أن أول حوار مع قداسة البابا تواضروس الثاني كان في الدير بعد ساعات من إعلان القرعة الهيكلية واختيار السماء له بطريركا للكرازة المرقسية.. من بعدها تعددت اللقاءات والحوارات مع تلاحق الأحداث علي ساحة الوطن والكنيسة.
في نهاية كل حوار كنت أعود وفي عيني أيقونة جديدة للبابا البطريرك.. البابا المدبر.. البابا الراعي.. البابا الكاروز.. البابا المسكوني.. البابا المعلم.. البابا المبدع.. بابا السلام.. بابا المحبة.
منذ أيام تلاحقت أحداث كثيرة, فالوطن يتألم لما يحدث في غزة ويهدد سلام الإنسان. والمجتمع يواجه تحديات اقتصادية تقلق حياة البشر. والكنيسة تعيش أيام صوم وصلاة وترفع الابتهالات ليحل السلام. وبرامج الخدمة والرعاية تتواصل لإدارة الأزمات.. ورأيت عيد القيامة يقترب والمشهد في الأراضي المقدسة حزين مؤلم.. الاحتفالات توقفت. والزوار تراجعوا.
مع تعدد الأحداث تعددت الأسئلة, وجاء موعد حوار جديد مع قداسة البابا تواضروس الثاني..
مصادفة أن جاء الموعد بعد ساعات من استلام قداسة البابا الدكتوراه الفخرية في احتفالية بجامعة الدول العربية لجهوده في خدمة الإنسانية وإعلاء قيم التسامح.. عندما جلست اليوم أمام قداسته في حوار جديد توارت أسئلتي لتفسح لتكريمه مكان الصدارة.
خرجت وفي عيني أيقونة جديدة للبابا البطريرك بابا الإنسانية والتسامح.
إلى السطور القادمة أدعوكم لتروا معي أيقونة بطريرك الكرازة المرقسية الجالس على كرسي الكاروز مارمرقس.. أيقونة البابا تواضروس الثاني.. تعالوا معي
* كانت مفاجأة أن نرى قداستكم داخل جامعة الدول العربية.. بيت كل العرب, وملتقى الملوك والرؤساء والزعماء, في تكريم من المؤكد أنه صادف أهله.. لكن ماذا عن تفاصيل هذا الحدث؟
** البداية ترجع إلى عام 2000 وتحديدا يوم 20 فبراير من ذاك العام, يومها زرت لأول مرة الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري بدعوة من الدكتور إسماعيل عبدالغفار رئيس الأكاديمية.
** يومها سعدت جدا بهذه الزيارة لأنني عشت سنوات دراستي الجامعية كلها بالإسكندرية, وكم تمنيت أن أعرف ما يدور داخل هذا الصرح الكبير.
** كان يوماً مزدحماً بالفعاليات.. زرت عدداً من الكليات, وألقيت محاضرة, وتحدثت إلى الطلبة, وتجمعت لدي معلومات كثيرة لم أكن أعرفها من قبل, بل كانت مفاجأة لي, فالأكاديمية لها من العمر نصف قرن ، إذ يعود تأسيسها إلى عام 1972, وهي تعد منظمة متخصصة لجامعة الدول العربية في مجالات التعليم والبحث العلمي والتدريب, وحققت العديد من الإنجازات التعليمية والتدريبية والبحثية في مجالات النقل البحري والعلوم الهندسية والإدارية من خلال منهجة تطبيق التكنولوجيا الحديثة في هذه المجالات, وهي تمثل مكانة بارزة في قائمة المؤسسات التعليمية, وخلال مسيرتها وفرت آلاف الفرص التعليمية لأبناء أكثر من 55 دولة عربية وأفريقية وآسيوية وأوروبية.
** الحقيقة أنه كان يوماً ممتعاً قضيته في صرح كبير للعلم والمعرفة أنشأته جامعة الدول العربية لإيجاد صياغة جديدة للعقل العلمي والمعرفي, وهذا ما أسعدني.. الأكثر أنه خلال زيارتي للأكاديمية تعرفت فضلا عن الدكتور إسماعيل عبدالغفار وهو إنسان مبارك ودود مثقف, فإنني تعرفت على هيئة التدريس, وأعداد كثيرة من الباحثين, وصارت بيننا صداقة ومحبة.. وهذا ما أسعدني أكثر.
** ولأن المحبة لا تسقط أبدا, فالمحبة التي جمعتني بالدكتور إسماعيل عبدالغفار, وهيئة التدريس, وشباب الباحثين, لم تنته بانتهاء زيارتي للأكاديمية في فبراير 2020, بل صار تقليداً سنوياً أن نلتقي في هذا اليوم من كل عام, نجدد الصداقة ونؤكد المحبة ونتبادل الأحاديث والذكريات.. وفي لقائنا هذا العام بالمقر البابوي بالقاهرة, كان بصحبة الدكتور إسماعيل عبدالغفار رئيس الأكاديمية ووفد من الأساتذة والطلبة, ومعهم سمو الأميرة دانا فراس رئيسة مجلس الجمعية الوطنية للمحافظة على التراث بالأردن, التي كانت في زيارة الأكاديمية وحرصت على المشاركة في اللقاء.
** في هذا اللقاء تطرق الحديث إلى أوضاع الصراعات التي تدور في مناطق كثيرة من العالم اليوم, ودور رجال الدين والقوى الناعمة في ترسيخ قيم المحبة ونشر السلام.. وحدثتهم عن رؤيتي في هذا, ومبادرات الكنيسة لإغاثة إخوتنا في غزة وفي السودان, ويبدو أنه من هنا تولدت فكرة الدكتوراه الفخرية عند الدكتور إسماعيل عبدالغفار.. ويبدو أيضا أن الأمر كان يحتاج إلى تجميع كثير من المعلومات, وإعداد حيثيات, والعرض على المجلس التنفيذي للأكاديمية, وهو ما كشف عنه الدكتور إسماعيل عبدالغفار عند إعلان قرار منح الدكتواره الفخرية لجهودنا في خدمة الإنسانية وإعلاء قيم التسامح.
** جاء قرار المجلس التنفيذي للأكاديمية قبل يومين من مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوماتية من أجل التفاهم والسلام العالمي الذي نظمته جامعة الدول العربية بالتعاون مع منظمة اليونسكو, ومن هنا رؤي أن يكون تسليم الدكتوراه في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الذي عقد بالقاعة الرئيسية لجامعة الدول العربية صباح الاثنين 22 أبريل 2024, وبحضور الأمين العام للجامعة السيد أحمد أبوالغيط, والدكتور إسماعيل عبدالغفار رئيس الأكاديمية, وسفير إسبانيا المشارك في المؤتمر, وعدد من الأساتذة, والحضور من سفراء الدول العربية والإعلاميين العرب.. ونحن نثق أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله.
* نذكر أن هذه هي الدكتواره الفخرية الثالثة لقداستكم, ففي العام الماضي -21 أغسطس 2023- حصلتم على الدكتواره الفخرية من جامعة بازماني بينز بالمجر لمجهودكم في تطوير التعليم المسيحي والتنمية البشرية.. وفي 31 مارس 2015 حصلتم على الدكتوراه الفخرية من جامعة بني سويف المصرية لدوركم في تعزيز السلم الاجتماعي..
وعندما يأتي تكريمكم هذا العام بالدكتوراه الفخرية من أكاديمية العلوم والتكنولوجيا العربي لمساهمتكم في خدمة الإنسانية وإعلاء قيم التسامح, نتوقف هنا لنتعرف على مساهمات قداستكم هذه؟
** كل دكتوراه أحصل عليها هي تكريم للكنيسة والوطن.. ودعني ألخص كل هذا في كلمة واحدة ”الحب”.. نحن نخدم الإنسانية, ونعلي من قيم التسامح, عدنا نزرع الحب وندعو كل إنسان إلى الحب.
** كلمة حب هي من أغلى الكلمات في قاموس اللغة العربية, وأقلهما حروفاً.. هي تتكون من حرفين فقط ح وب لكنهما يرمزان إلى معان كثيرة.. الحاء تعني حياة والباء تعني بقاء ومن هنا نحن عندما نقول حب فإننا نعني بقاء الحياة وبمعنى آخر فإن بقاء الحياة الإنسانية لن يكون إلا بالحب.. وحتى في اللغة الإنجليزية فإن كلمة حب-Love تبدأ بنفس الحرف الذي تبدأ به كلمة الحياة-Life.
** أرى الحب مفتاح قلب الإنسان.. هو العاطفة الأولى والمستمرة في حياته.. الله الخالق العظيم عندما أراد أن يخلص الإنسان من سقطاته وخطاياه تجسد وتأنس من أجل خلاصنا كما هو مكتوب: لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية.. الحب هو الدافع عند الله لخلاص كل إنسان.
** وإذا بحثنا في الوجود الإنساني بكل أبعاده وتاريخه الطويل سنجد أن الحب هو محور الحياة, سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات والشعوب والأمم, ففي كل نشاط إنساني تدور الحياة حول الحب.. فأنت تدرس المادة العلمية وتجتهد فيها لأنك تحبها, وتترك دراسة معينة أو عملا معينا لأنك لا تحبه, وتكون أسرة عندما تجد شخصاً تميل إليه وتحبه.. وهكذا إلى آخر السلسلة الأنشطة الإنسانية.. أنت تذهب إلى هذا أو ذاك عندما تحب.. وفي هذا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الإنسان المسيحي ودوره في منظومة الحياة أي مصباح بلا نور؟.. وأي مسيحي بلا حب.. وفي رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس يصف عظمة المحبة فيقول: المحبة لا تسقط أبدا وهو بذلك قرر حقيقة إنسانية خالدة.
** وفي القاعة التاريخية لجامعة الدول العربية سعدت أن أتحدث إلى جموع الحضور من ذاك الصرح العظيم.. معرباً عن سعادتي في بيت كل العرب, وعن امتناني لنوال درجة الدكتوراه الفخرية من الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا إحدى منارات العلم في مصر والعالم العربي.. قلت:
التعليم يسهم في إيجاد صياغة جديدة للعقل العلمي والمعرفي, ومن هنا تأتي أهمية التعليم لحياة الإنسان.. ولا أتخيل أن يعيش الإنسان بدون المحبة - محبة الخير ومحبة الغير - فهي التي تربط الإنسان بالله وبأخيه الإنسان, ولا يمكن تخيل العالم بدون المحبة.. ونحن في بداية كل يوم نصلي متطلعين إلى معونة الله فنقول: ليشرق لنا نور وجهك, وليضئ علينا نور علمك الإلهي, اجعلنا يا سيدنا أن نكون بني النور وبني النهار, لكي نجوز هذا اليوم ببر وطهارة وتدبير حسن.. ونحن نبدأ يومنا بمحبة الخير في تحيتنا لبعض صباح الخير وهي تحيتنا في كل العالم, لأننا نعلم جميعا أن كل يوم ملك لله كلي الخير, يعطيه لنا لنصنع الخير.
* نعرف أن جهود قداستكم لخدمة الإنسانية لا تتوقف عند الدعوة للمحبة.. نعرف أن لقداستكم مبادرات لخدمة الإنسان, ولكنيسة منظومة لمعاونة كل من ليس له معين.. أدعو قداستكم لنتعرف على جهودكم في هذا المضمار.
** منذ أن اختار الرب ضعفي لهذه المسئولية أنشأت بمكتبي ضمن السكرتاريات المتخصصة سكرتارية للرعاية الاجتماعية لها الآن أكثر من عشر سنوات.. ولدينا الآن قاعدة بيانات لكل الأسر التي لديها احتياجات, وأصبح مفتاح الإدخال هو الرقم القومي الذي يملكه كل فرد, وتم تفعيل هذا البرنامج بصورة كبيرة جدا, وأصبح التواصل من خلاله لتنظيم وصول الخدمة لكل محتاج.
** وخلال خدمتنا مع كل إنسان في حاجة إلى رعاية خرجت إلى النور برامج خدمية كثيرة, أذكر منها.. برنامج علم ابنك تحت شعار لا يحرم طالب من تعليم, ويخدم كل عام نحو 3 آلاف طالب من خلال مجموعات تقوية بصورة منتظمة لخلق جيل متعلم ومثقف في العائلات البسيطة.. وبرنامج بنت الملك تحت شعار لا تحرم بنت من زواج, وهو برنامج قائم على أساس فتح دفتر توفير لكل البنات بداية من 10 سنوات يضاف له مبالغ شهرية, فإذا ما بلغت سن الزواج يكون لديها الرصيد الذي يوفر احتياجاتهن, فضلا عن المساعدات التي تقدم للفتيات اللاتي لم يتم فتح دفاتر لهن, واللاتي في احتياج إلى مساعدات إضافية.. وبرنامج شنطة البركة وهي شنطة مواد تموينية توزع شهريا في القرى والمناطق الصحراوية والعشوائية وكل المناطق الأكثر احتياجا في كل محافظات مصر, وهي تصل الآن شهريا إلى أكثر من 15 ألف أسرة.
** ونحن نعمل من خلال أسقفية الخدمات في تنفيذ عدة برامج لتنمية المجتمع أذكر منها برامج التعليم, برامج التنمية الريفية, برنامج التنمية الاقتصادية, برنامج إطلاق قدرات النشء, برنامج تمكين المجتمع والاستدامة, برنامج بناء السلام المجتمعي, برنامج الفئات المستضعفة, برنامج الإغاثة, برنامج تحسين المسكن, برنامج تنمية الموارد.. وتصل خدمات هذه البرامج إلى أربعة ملايين مصري من بين الأفراد الأكثر احتياجاً وبصفة خاصة النساء والأطفال.
** إلى جانب ما تقوم به سكرتارية الرعاية الاجتماعية لمساعدة كل محتاج, وإلى جانب برامج أسقفية الخدمات لكل إنسان وكل الإنسان, رأيت أن نعمل على الوصول بخدمات أكثر جودة لكل الأسر المصرية فمن حقهم خدمات صحية أفضل ولأطفالهم مدارس جيدة.. من هنا أنشأنا منذ عام 2013 المكتب البابوي للمشروعات الذي نجح في إنشاء 8 مدارس في سلسلة عيون مصر تقبل كل الأطفال المصريين مسلمين وأقباط في تلاحم وطني جميل, ومدرسة للاجئين السودانيين عند الكيلو 4.5 بمدينة نصر.. والمكتب تحقيقا لأهدافه يطلق العديد من المبادرات بالشراكة مع الجهات والمنظمات المحلية والحكومية والعالمية.. أذكر منها الآن مبادرة كيمي للرعاية الصحية ومبادرة الكشف المبكر عن الأورام للمرأة ومبادرة احم نفسك للوقاية من فيروس كورونا.. وهذا الأسبوع أطلق المكتب مبادرة جديدة لمنع زواج الأقارب.
** عن مبادرة مخاطر زواج الأقارب دعني أحدثك بشيء من التفصيل, ليس لأنها أقرب المبادرات, ولكن لأنها أقربهم إلى قلبي لمعايشتي كثيراً من الحالات المؤلمة لزواج الأقارب..
** أذكر أثناء خدمتي في إيبارشية البحيرة ذهبت للخدمة في إحدى القرى القريبة من دمنهور, وتصادف أن التقيت بأسرة بسيطة الحال, وبالتي فهي بسيطة التعليم والتفكير والحيلة, لديهم 6 أولاد في أعمار مختلفة, منهم صبيان ومنهم بنات.. المؤلم هنا والمؤلم جدا أن الأولاد الستة لا يتكلمون بكم والسبب أن الزوجين أقارب!! وكلما أنجبا طفلاً لا يتكلم عادا إلى إنجاب طفل آخر على أمل أن يكون لهما طفل يتكلم, فتتكرر المأساة, لكنهما ببساطة تفكيرهما يعاودان التجربة يراودهما الأمل رغم أنهما يعرفان السبب حتى صار لهما 6 أولاد صم بكم!! ومن يومها كلما صادفت أي طفل يعاني من أي مرض أو عرض سألت عما إذ كان والديه أقارب, وغالبا ما تجيئني الإجابة نعم.
** ظلت صورة أسرة البحيرة لا تغادر قلبي وفكري وتؤرقني, إلى أن علمت أن أسقفية الخدمات في نطاق خدماتها التي تقدمها للأسر الأكثر احتياجاً, قامت مؤخرا بتبني 23 حالة طفل وطفلة يعانون من ضعف السمع وبالتالي ضعف الكلام أيضا, وسارعت بإنقاذهم بزراعة قوقعة الأذن وهي من مراحم الرب ومآثر التقدم العلمي.. أسعدني الخبر وطلبت دعوتهم لتكريمهم في اجتماع الأربعاء وبالسؤال كانوا جميعهم أبناء لأزواج أقارب.. ومن وقتها قررت أن نخطو خطوة إيجابية نحو التوعية لمواجهة هذه المشكلة المؤلمة في مجتمع مازال يحافظ على الإرث ولا يسمح بخروجه لغريب, ويتمسك بالنسب والبيت الكبير الذي يجمع كل العيلة جيل بعد جيل.. وتبني المكتب البابوي للمشروعات الدعوة, وكان إطلاق وثيقة مخاطر زواج الأقارب منذ أيام.
* عندما تقدم قداستكم كل هذه المبادرات لخدمة الإنسان نحو حياة هادئة سالمة كريمة.. وعندما تدعو إلى المحبة, فقداستكم تساهمون في خدمة الإنسانية وإعلاء قيم التسامح على نحو ما جاء في حيثيات منحكم الدكتوراه الفخرية.. لكن في أي أرض قداستكم تزرعون.. وكيف ترون حصاد جهودكم؟
** نحن لا نملك إلا أن نستمر في دعوتنا كما يقول داود النبي: جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني فلا أتزعزع.. نحن حينما ندعو إلي المحبة فإننا ندعو إلى الحياة الهادئة للإنسان من أجل سلامة الإنسان وسعادته.. عندما ندعو إلى المحبة فنحن ندعو إلى التسامح من أجل صفاء النفوس.. ندعو وبشدة إلى المحبة لأننا صرنا في عالم تسوده الكراهية والأنانية والأطماع والحقد والانتقام والتذمر والعنف والطمع, وغير ذلك الكثير.. ندعو إلى المحبة لخدمة الإنسانية وإعلاء قيم التسامح.
** هذا واقع معاش رغم أن الله ذاته صانع الخيرات قصد كل الخير للإنسان, وأعطاه حبه في العطايا العظيمة كالهواء والماء والشمس من باب العناية الإلهية لكل البشر, لكن الإنسان الذي فسد بالخطية تملكته كل صفات الشر, وبدلا من أن يأخذ بـالحب أخذ بـالحرب.
** حدثتك عن الحب على أنه الحياة والبقاء.. هو كلمة من حرفين أولهما ح يعني الحياة, وثانيهما ب يعني البقاء, لكن حرفا لعينا اخترقهما هو حرف الراء فقسم كلمة حب وحولها إلى حرب وضاعت الحياة, وضاع البقاء, وانكسر الحب, وسادت الكراهية, ومضى الإنسان يحارب كل جميل في الحياة, بل ويحارب الحياة نفسها تحت مسميات ومبررات نشهدها اليوم, وعشناها من قبل, وعاشها من سبقونا على امتداد التاريخ الإنساني.
** نقرأ عن ويلات الحروب العالمية الأولى والثانية في القرن العشرين التي راح ضحيتها ملايين وملايين من معظم الشعوب والدول, عندما فقد الإنسان عقله وحكمته, وأخذه غرور القوة فاستخدم القنابل النووية التي سقطت على مدينتي هيروشيما وناجازاكي باليابان فأدت بالدمار والخراب دون أن يجني الإنسان شيئا.. وها هو التاريخ يعيد نفسه, ونعيش بدايات حرب جديدة تتورط فيها القوى العظمى التي تملك أسلحة الدمار الشامل, وكأن الإنسان بالحقيقة فقد عقله, ولا يعي تماما نتائج الحروب وآثارها على الجميع نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وروحياً, وخسائرها المادية واللامادية.. ونحن لا نملك إلا أن نستمر ندعو إلى المحبة وإعلاء قيم التسامح, فالله لم يقصد للإنسان إلا أن يكون في سلام.
** إننا نأسف لما يحدث في فلسطين الحبيبة, ونتألم لما يدور في غزة, وتتمزق قلوبنا ونحن نشاهد على الشاشات الموتى والجرحى والمصابين والباحثين عن قطرة ماء.. مصادفة أن نتذكر هذا اليوم بعد 200 يوم تماماً على اندلاع الحرب في 7 أكتوبر من العام الماضي.. من يصدق أن 34000 قتيل سقطوا في هذه الأيام المعدودة, ولم يبق لنا إلا صور الدفن الجماعي, وصراخ الأرامل, ودموع الأطفال الصغار تتساقط على آبائهم وأمهاتهم وأشقائهم.
** مصادفة أيضا أن تشارك اليوم -الثلاثاء 23 أبريل 2024- أسقفية الخدمات للمرة الثانية في إعداد وتجهيز شاحنة مساعدات إلى أهالينا في غزة ضمن أعمال التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي.. ونحن نصلي من أعماق قلوبنا ليرجع القادة إلى رشدهم, ولا يفقدوا إنسانيتهم, ويسرعوا إلى حفظ سلام الإنسان وحياته كما قصدها الله, ويعرفوا أن العظمة والرغبة في الانتقام مهما تجبرت فإنها تنتهي إلى التراب عندما يموت الإنسان ويفقد كل شيء ويواجه مصيره المحتوم ويقف أمام الديان العادل الذي سيعطي كل واحد حسب أعماله.
* الحديث عما يدور في قطاع غزة من أرض فلسطين المقدسة يذكرنا بعيد القيامة, وهو عيد له طقوس ومظاهر خاصة في هذه الأراضي حيث صلب وتألم وقام السيد المسيح, وحيث القبر الذي دفن فيه, ومنه يخرج النور المقدس في معجزة يشاهدها حجاج بيت المقدس من كل العالم في هذا الموعد من كل عام.. كيف ترى قداستكم الصورة هذا العام؟
** الصورة هذا العام مختلفة تماماً, وسط الأحداث الدامية والمؤلمة التي تدور الآن هناك, وقد أعلنت بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس والمنظمة لهذا الاحتفال منذ قرون عن إلغاء المواكب الصليبية والتي كانت تجتذب آلاف الزوار من كل دول العالم, وتقييد الاحتفالات بخروج النور المقدس من القبر, واقتصارها على الطقوس الدينية دون أية تجمعات شعبية أو احتفالات خارجة عن الشعائر الدينية, جراء الحرب المستمرة على غزة ومشاركة لضحايا الحرب آلامهم, وتخصيص الوقت كله للصلاة والتأمل في المعني الروحي لأسبوع الآلام وعيد القيامة.. كما ستقام يوم عيد القيامة, ولأول مرة هذا العام, صلوات مسكونية تشترك فيها جميع الكنائس هناك من كل الطوائف المسيحية لأجل وقف الحرب وسلام المنطقة.
* على ذكر الطوائف المسيحية وعيد القيامة كان لقداستكم دعوة لتوحيد الاحتفال بعيد القيامة.. إلى أين وصلت, خاصة وأننا شاهدنا هذا العام تباعداً واضحاً بين الكنائس في ميعاد الاحتفال بعيد القيامة؟
** موعد عيد القيامة يتحدد بثلاثة عوامل حسب رؤية كنيستنا.. العامل الأول أن يكون بعد الاعتدال الربيعي -عيد الربيع في 21 مارس- والثاني أن يكون بعد الفصح اليهودي الذي بدأ الاحتفال به هذا العام 23 أبريل واستمر الاحتفال به حسب تقاليدهم وطقوسهم سبعة أيام لينتهي يوم 30 أبريل, والعامل الثالث أن يكون يوم أحد.. هذه العوامل الثلاثة هي التي تحدد لكنيستنا موعد الاحتفال بعيد القيامة على نحو ما شاهدناه هذا العام.. لكن الاختلاف يأتي من أننا نسير على التقويم الميلادي والغرب يسير على التقويم الغريغوري, ومن هنا يأتي الفرق الزمني في الاحتفال بعيد القيامة, ففي سنة نحتفل به سوياً كما في العام القادم -قيامة 2025- والسنة التالية سيكون هناك فرق أسبوع, وفي السنة الثالثة أسبوعين.. وهكذا ففي السنة الرابعة سيكون الفرق ثلاثة أسابيع, والسنة الخامسة أربعة أسابيع -كما حدث هذا العام.. وفي العام القادم السنة السادسة- نعود لذات التاريخ وتحتفل به كل الكنائس معا.. الأمر كله يتعلق باختلاف التقويم.
** نحن نتمنى التوحيد, لكن هناك عوامل تعطله, ولا يعني هذا أن الدعوة توقفت فمازال الأمر مطروحاً للنقاش.. وقد اخترنا الأحد الثالث أو الرابع من شهر أبريل من كل عام ليحتفل مسيحيو العالم في يوم واحد بعيد القيامة, ونفرح معا بقيامة المسيح بروح واحدة, ونحن نقول معا: المسيح قام.. حقا قام.
* يبدو أن الوصول إلى وحدة الكنائس ليس سهلا, والطريق ليس ممهدا.. هي أمنية الجميع وشهوة قلوبهم, لكن القلق بدأ يتسرب إلى العقول خاصة بعد أن أوصى المجمع المقدس لكنيستنا القبطية في جلسته الأخيرة بتعليق الحوار اللاهوتي مع الكنيسة الكاثوليكية.. كيف تري قداستكم الموقف؟
** هو تعليق وليس وقفاً للحوار وهذا أمر جيد.. هو مجرد تعليق لمراجعة وإعادة تقييم النتائج التي حصدها الحوار منذ عشرين عاماً.. فالحوار يضم الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة الخمس -الأقباط, السريان, الأرمن, الإثيوبيين, والإريتريين- وهؤلاء الكنائس الست يمثلهم عضوان فصار بالحوار 12 عضوا, ويختار لإدارة الحوار الأسقف القبطي عن الكنائس الأرثوذكسية الخمس فيكون الرئيس المشارك, وأيضا تنظم الكنيسة الكاثوليكية أعضاءها بذات الترتيب, ويدار الحوار في الأسبوع الأخير من شهر يناير من كل عام, مرة في روما, ومرة أخرى في بلد من بلاد الكنائس الشرقية الخمس بالتبادل, وعلى مسار العشرين عاماً عقد هذا الحوار ثلاث مرات في مصر, وكان يترأس هذا الحوار المتنيح نيافة الأنبا بيشوي, ومن بعده اختير نيافة الأنبا كيرلس الأسقف العام لكنيستنا في لوس أنجلوس.
** على امتداد 20 عاماً كان يختار الأعضاء موضوعاً لاهوتيا يتفقون عليه لمناقشته في الاجتماع التالي على أمل الوصول إلى فكر واحد في هذا الموضوع.. على سبيل المثال إذ اختاروا للنقاش موضوع العذراء مريم تقدم كل كنيسة عند الاجتماع السنوي ورقة بحثية, ويجتمع أعضاء الكنائس لمناقشة مجموع الآراء التي تتناولها البحوث للاتفاق على رأي واحد في الموضوع المطروح.. لكن الواقع يتوقف عند مجموعة محاضرات تستعرض فيها الأوراق البحثية ولا ينتهي الحوار لنتائج ولا لإتفاق أو رؤية واحدة.. من هنا فكرنا بعد 20 عاماً أن تكون هناك وقفة لتفعيل الحوار وليأخذ شكلاً إيجابياً.. الحوار مستمر, وسيستمر, ولن يتوقف.. نحن في حاجة إلى وضع آلية يكون لها ثمر ونتائج.
* من مقولات قداستكم المحفورة في ذاكرة كل مسيحيي العالم: خايف ييجي المسيح يلاقي الكنيسة منقسمة.. الجميع متعطش للوحدة.. والسؤال: متى؟!
** الإيمان بالمسيح يعني أننا نريد الكنيسة.. وأن نريد الكنيسة يعني أننا نريد شركة المحبة التي تلبي قصد الله منذ الأزل ليكونوا واحداً.. إن الله يريد وحدة كل البشرية الممزقة, ولذلك أرسل ابنه لكي يمنحنا بموته وقيامته روح محبته.
** في عشية الصلب, صلى المسيح من أجل تلاميذه, ومن أجل جميع الذين سيؤمنون باسمه, لكي يكونوا واحداً, فالحياة المسكونية هي خدمة الرسالة المسيحية الحقيقية, هي حوار حب يخص به الله كنيسته, وعلى دربه نحن نسير.. محبته تجمع لا تفرق, تقرب لا تبعد, تفهم كل شيء ولا تسقط أي شيء.
** منذ البدء كانت الكنيسة الأولى كنيسة واحدة مقسمة إلى كراسي رسولية, فكانت أورشليم وأنطاكيا في قارة آسيا, والإسكندرية في قارة أفريقيا, وروما والقسطنطينية في قارة أوروبا, وقد عقد أول مجمع للرسل في أورشليم عام 51 ميلادية, ثم بمرور الزمان اجتمعت الكنائس الرسولية أكثر من مرة في مجامع مسكونية لمناقشة قضايا إيمانية ولاهوتية والرد على الهرطقات التي انتشرت في زمانهم.. والكنيسة القبطية تعترف بالمجامع المسكونية الثلاثة -مجمع نيقية المسكوني الأول عام 325 ميلادية, مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني عام 381 ميلادية, ومجمع أفسس المسكوني الثالث عام 431 ميلادية- وهكذا ظلت الكنيسة المسيحية في العالم كله كنيسة واحدة لما يقرب من خمسة قرون, حتى جاء مجمع خلقيدونية عام 451 ميلادية, وحدث الانشقاق بين الشرق والغرب, هذا الانقسام تدخلت فيه عوامل سياسية, وثقافية, وعوامل ذاتية, ونشكر الله أن لنا تاريخاً في الحوارات الرسمية الجادة, ونحن اليوم بالمحبة نخطو في طريق التقارب والسعي لنتحد بالحب والالتقاء بالعمل والحق بدون حرمات وحرمانات.. الطريق طويل وصعب ولكننا نستمد قوتنا من الله المصدر الكامل للشركة والمحبة مدفوعين بمحبة المسيح الراعي الصالح, فالوحدة تنمو فيما نحن نسير معا.
* بعد الاحتفال بعيد القيامة تبدأ فترة الخمسين المقدسة وهي في طقوس الكنيسة أيام فرح تنتهي بعيد حلول الروح القدس.. ماذا في برنامج قداستكم على امتداد هذه الأسابيع السبعة التي تعيشها الكنيسة في فرح متواصل؟
** هي فترة لتذوق حلاوة الله بعد أن وهب القيامة للآخرين.. وامتداد نحو الناس.. ونحن تنتظرنا ملفات تحتاج إلى فكر ووقت, نطلب من الله أن يعيننا.. وستتخللها رسامات أمهات راهبات, وزيارات رعوية, يتخللها الاحتفال بذكرى دخول السيد المسيح والعائلة المقدسة أرض مصر في الأول من يونية القادم.
** نحن نستعد لهذا الاحتفال منذ يناير الماضي عندما زارتنا السيدة نشوي جاد الحق, الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة المتحدة للخدمات الرقمية WATCH IT ووفد من الشركة, عرضوا ما تم الانتهاء منه في سلسلة أفلام وثائقية تحت عنوان أم الدنيا.. وتستعرض هذه السلسلة في الجزء الثاني منه رحلة العائلة المقدسة في مصر, ووصول القديس مرقس إلي مصر, وعصر الشهداء, وبدايات فكرة الرهبنة في الأديرة.. وقد اتفقنا على عرض هذا الجزء من سلسلة أفلام أم الدنيا في احتفالية كبرى على أرض الأنبا رويس يوم الأول من يونيو القادم الذي يتوافق مع ذكري دخول السيد المسيح إلى أرض مصر يحضرها عدد من مسئولي الدولة والوزراء والسفراء الدوليين.
** وأيضا نحن نستعد لاحتفال كبير في العام القادم,2025-يتواكب مع مرور 17 قرنا على انعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية الذي دعا إليه الملك قسطنطين بناء على طلب البابا إلكسندروس بطريرك الكنيسة القبطية التاسع عشر لمناقشة بدعة أريوس الهرطوقي, وتأتي أهمية هذا المجمع من حضور 318 أسقفاً من كل العالم المسيحي, ومعهم البابا إلكسندروس القبطي وسكرتيره رئيس الشمامسة أثناسيوس الذي صار فيما بعد البطريرك العشرين للكرسي المرقسي, ومن استمرار انعقاد المجمع نحو مئة يوم, إذ بدأ اجتماعه في 20 مايو حتى اختتم أعماله في 25 أغسطس من عام 725 ميلادية, ومن أهمية دفاع أثناسيوس عن لاهوت السيد المسيح ضد بدعة أريوس وإفحامه الأريوسيين والفلاسفة الذين حضروا مع أريوس, وفضلا عن هذا وذاك فأن الأهمية الكبري لهذا المجمع أنه صدر عنه قانون الإيمان وعشرون قانونا آخر في أمور رعوية وطقسية ,ومن هنا كان من المهم أن نستعد للاحتفال بهذه المناسبة التاريخية خاصة وأن أبطال المجمع كانوا من آباء الكنيسة القبطية.
** بدأنا الاستعداد من العام الماضي-2023- للاحتفال في العام القادم-2025- وكانت البداية بتشكيل 7 مجموعات عمل من آباء أساقفة بالداخل والخارج, قدموا أفكاراً واقتراحات لتأليف كتب وعرض مسرحيات, وتنظيم مهرجانات, بحيث يمتد برنامج الاحتفال الذي ستشارك فيه كل الإيبارشيات في كل الكرازة بالداخل والخارج طوال العام, حتى إذ جاء نوفمبر 2025 يكون احتفال عالمي على أرض مصر بحضور كل الكنائس باعتبار أن مجمع نيقية المسكوني كان لكل كنائس العالم, ولكنيستنا تجربة ناجحة في هذا عندما اجتمع في مركز لوجوس للمؤتمرات بدير الأنبا بيشوي في الفترة من16 إلى 20 مايو 2022 ضيوف من30 جنسية منهم 17 بطريركا ورئيس كنيسة أعضاء الجمعية العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط, وكان مؤتمرا كنسيا ناجحا.
خرجت من عند قداسة البابا وفي عيني, أيقونة بابا الإنسانية والتسامح.. عظيماً حقا قداسته, ففي كل مرة أرى فيه أيقونة جديدة.