الحطيئة

أبومُلَيْكة جرول بن أوس بن مالك العبسي المشهور بـ الحطيئة. شاعر مخضرم استوعب الجاهلية وأسلم في زمن أبي بكر. ولد لدى بني عبس من أَمةٍ اسمها (الضراء) دعِيًّا لا يُعهدُ له نسب فشبّ محروما مظلوما، لا يجد مددا من أهله ولا سندا من قومه فاضطر إلى قرض الشعر يجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينقم به لنفسه من بيئةٍ ظلمته، ولعل هذا هوالسبب في أنه اشتد في هاتى الناس، ولم يكن يسلم أحد من لسانه فقد هجا أمّه وأباه حتى إنّه هجا نفسه.

أدبه

للحطيئة ديوان شعر طبع في إسطنبول سنة 1890، ثمّ في ليبسيغ سنة 1893، ثمّ في مصر سنة 1905، وهويتضمّن مدحاً وهاتىً وفخراً وغزَلاً.

حبسه في السجن

كان سبب حبسه حتى الزبرقان بن بدرالتميمي سيد قومه عَمِل للنَبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر، وكان يجمع زكاة قومه ويؤديها لهم. وقد أشتكى لعمر لما هجاه الحطيئة. فنطق له عمر : وما نطق لك ،يا ترى؟ نطق : نطق لي :

دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها

واقعـدْ فإنّك أنـت الطاعمُ الكاسي

فنطق عمر: ما أسمع هاتى ولكنها معاتبة. فنطق الزبرقان : أولا تبلغ مروءتي إلا حتى آكل وألبس! والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قط أشد عليَّ منه. فنادى عمر حسان بن ثابت وسأله: أتراه هجاه،يا ترى؟ نطق حسان : نعم وسلح عليه! فحبس عمر الحطيئة، فجعل الحطيئة يستعطفه ويرسل إليه الأبيات، فمن ذلك قوله :

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ

زغبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ

فلم يلتفت إليه عمر، حتى أوفد إليه الحطيئة:

ألقيت كاسبَهم في قعر مُظلمة		فاغفر، عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمامُ الذي من بعد صاحبه		ألقى إليك منطقيدَ النُّهي البشرُ
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها		لكن لأنفسهم كانت بك الأثرُ
فامنن على صبيةٍ بالرَّمْلِ مسكنُهم		بين الأباطح يغشاهم بها القدرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينَهُمُ		من عَرْضِ واديةٍ يعمى بها الخبرُ

فبكي سيدنا عمر رضي الله عنه لما سمع الابيات ورحم الحطيئة واولاده ورق لحالهم ،وكان الصحابة رضوان الله عنهم يتعجبون من رحمه عمر للحطيئة ورقت قلبه له فنطق له سيدنا عمر : فإياك والمقذع من القول فنطق الحطيئة: وما المقذع،يا ترى؟ نطق عمر: حتى تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان وآل فلان خير من آل فلان؛ نطق الحطيئة: فأنت والله أهجى مني. ثم نطق له عمر : والله لولا حتى تكون سُنّة لبترت لسانك . فاقتنى عمر منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه عهداً ألا يهجوأحداً فنطق الخطيئة لك عهد الله يا امير المؤمنين . فنطق عمر : لكأني بفتىً من قريش قد نصب لك نمرقة، فاتكأت عليها، وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين. نطق: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.

فأطلقه الخليفة واقتنى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، فتوقف عن الهاتى،نطق بعض الرواة: فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر رضي الله عنه، فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم، فتأوه. ونطق: رحم الله ذلك المرء، فما أصدق فراسته.

نطق عن أمه :

تنحي فاقعدي مني بعيداً		أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاءَ مني		ولكن لاأخالُكِ تعقلينا
أغربالاً إذا استودعت سراً		وكانوناً على المتحدثينا
جزاك الله شراً من عجوز		ولقاك العقوق من البنينا
حياتكِ مافهمت حياةُ سوء		وموتُكِ قد يـسرُّالصالحينا

ونطق عن أبيه :

فنعم الشيخ أنت لدى المخازي		وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي		وأبواب السفاهة والضلال

ونطق يهجوا نفسه:

أبت شفتاي اليوم إلا تلكماً

بهجوفما أدري لمن أنا قائله

فرأى وجهه في الماء فنطق:

أرى اليوم لي وجهاً فلله خلقه

فقبح من وجه وقبح حامله

وعندما توفي أوصى حتى يعلق هذا على كفنه:

لا أحدٌ ألأم من حطيئة

هجا البنين وهجا المريئة

الشعر القصصي

الحطيئة رائد الشعر القصصي كما هوواضح في قصيدته سيرة كرم:

وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل		بتيهاء لم يعهد بها ساكن رسما
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة		يرى البؤس فيها من شراسته نعمى
وأفرد في شعب عجوزاً إزاءها		ثلاثة أشباح تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملّة		ولا عهدوا للبر مذ خلقوا طعما

وبعد هذه الإضاءة لبيئة السيرة، وشخوصها تبدأ حبكة السيرة وتأزم الحدث:

رأى شبحاً وسط الظلام فراعه

فلما بدا ضيفاً تسوّر واهتمّا

ويأخذ التأزم في التطور وتشتد عقدة السيرة حتى تصل منتهى الشد:

فنطق ابنه لما رآه بحيرة		أيا أبتي اذبحني ويسّر له طعما
ولا تعتذر بالعدم عل الذي ترى		يظن لنا مالاً فيوسعنا ذما
فروّى قليلاً ثم أحجم برهة		وإن هولم يذبح فتاه فقد همّا
ونطق هيا ربّاه، ضيف ولا قرى؟		بحقك لا تحرمه تاالليلة اللحما

ثم تأخذ الأزمة في الانفراج، ويبدأ حل العقدة:

فبينا هما عنت على البعد عانة		قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
عطاشاً ترغب الماء فانساب نحوها		على أنه منها إلى دمها أظما
فأمهلها حتى تروت عطاشها		فأوفد فيها من كنانته سهما
فخرّت نحوص ذات جحش سمينة		قد اكتنزت لحماً وقد طبقت شحما

وانحلت العقدة .. ثم تليها الإضاءة الأخيرة :

فيا بشره إذ جرّها نحوقومه		ويا بشرهم لما رأوا حدثها يدمى
فباتوا كراماً قد قضوا حق ضيفهم		فلم يغرموا غرماً وقد غنموا غنما
وبات أبوهم من بشاشته أباً		لضيفهمُ والأم من بشرها أما

المدح والثناء

يعتبر نقاد الأدب العربي القدماء، حتى أبياته التالية في المدح مما لا يلحق له غبار، أما النقاد المحدثون، فمنهم الدكتور محمد غنيمي هلال الذي أعتبرها من القصائد التي امتازت بالجزالة التي تتوافر للفظ إذا لم يكن غريباً ولا سوقياً.. وهي كما نرى تنبض بالحكمة من داخلها وإن كان ظاهرها الاستجداء والمدح:

يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها		وإن غضبوا اتى الحفيظة والجدُّ
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم		من اللوم أوسدّوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إذا بنوا أحسنوا البنى		وإن عاهدوا أوفوا ونىنىإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها		وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا

كما نطق الحطيئة:

زوامل للأخبار لا فهم عندها		بمثقلها إلاّ كفهم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا		بأوساقه أوراح ما في الغرائر

من أشعاره

أرى ليَ وجهاً قبّح الله شكله		فقبّح من وجـهٍ وقبّـح حاملـه
الشعر قاسي وطويل سلمّه		إذا ارتقى فيه الذي لا يفهمه
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل		ببيداء لم يعهد بها ساكن رسما
رأى شبحا وسـط الظـلام فراعـه		فلما بدا ضيفا تسور واهتمـا
وقـال ابنه لـما رآه بحيـرة		أيا أبت اذبحني ويسر له طعما