بحارو الأرجو

عودة للموسوعة
اجتماع بحاروالأرجو.

بحاروالأرجو أوأرجوناوتي أوالأرجوناوتيون (بالإنجليزية: Argonauts)‏ و(بالإغريقية: Ἀργοναῦται) هم مجموعة من الأبطال الأغريق الذين أبحروا قبل الحرب الطروادية مع جاسون بن أيسون ملك أيولكوس في تساليا، إلى أيا التي عهدت في أزمنة لاحقة باسم كولخيس، والتي تقع على الطرف الأقصى من البحر الأسود. اتى اسمهم من اسم سفينة الأرجو التي سميت على اسم صانعها أرجوس، وكان غرض هذه الحملة إحضار الصوف المضىي للكبش الذي هرب عليه إينوإلى الساحر أييتيس ملك أيا، الذي أكرم وفادته وزوجه ابنته خالكيوبي فنحر الكبش ضحية وعلق صوفه في حرج أريس Ares حيث ظل يحرسها أفعوان دائم السهر الذي لا ينام إطلاقاً.

مؤلف العمل

ومحرر سيرة أبطال الأرجوهوأبوللونيوس الرودسي، ولد في نوكراتيس بالإسكندرية في مصر حوالي عام 260 ق.م.، ولقب بـ الرودسي لأنه قضى شطراً طويلاً من عمره في جزيرة رودس.وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا تولى أبوللونيوس أمانة مخطة الإسكندرية حوالي عام 193 ق.م. كان تلميذا لكاليماخوس، نظم ملحمة طويلة من شعر الأبطال باسم أرجوناوتيكا في أربعة خط، انتقل فيها من ذوق أساتذته لشعر الفهماء والشعر الصناعي، قاصدًا بساطة هوميروس، أشهر وأعظم شعراء الإغريق، فقوبلت بنقد واستياء شديد من قبل خصومه، وعلى رأسهم كاليماخوس -مفهمه- الذي هاجمه كثيراً وسخر منه. فرحل على إثر ذلك إلى جزيرة رودس، ومكث فترة ليست بالقليلة من حياته، وتفرغ هناك لملحمته ينقحها ويصوب أخطائه حتى نجح ولاقت القبول في صورتها الثانية. وأعتقد أبوللونيوس باختياره لملحمته موضوعاً يجمع فيه بين الإلياذة والأوديسة أنه يجمع الفهم والإلهام معاً، وإنه بإمكانه عن طريق إحياء التنطقيد الشعرية القديمة حتى يبدع عملاً عظيماً. ولم يحاكي أبوللونيوس التراث الكلاسيكي القديم بكل حذافيره، ولكنه اتخذ موقف الوسيط بين القديم والحديث. لذلك كان النقد الذي وجهه كاليماخوس له لم يفلح في عدوله عن موقفه، فظل يصوب الأخطاء في الملحمة فترة طويلة من حياته، لكن الخطة الأساسية لعمله الملحمي ظلت كما هي دون تغيير.وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا

الموضوع

تفاصيل تلك المغامرة الغريبة

جاسون وبيلياس

جاسون في لقاءه مع بيلياس.
تمثال جاسون.

شيد كريثيوس مملكة أيولكوس على خليج تساليا، وأقام لها مدينة عظيمة، وهجرها لابنه أيسون. بيد حتى شقيق أيسون الأصغر المسمى بيلياس اغتصب العرش من أخيه. فلما توفي أيسون وهجر ابنه جاسون، خشي بيلياس حتى يشب جاسون ويفهم بأمره فيطالب بعرش أبيه، فعجّل بإرساله إلى القنطور خيرون الذي اختص بتنشئة أبناء العظماء والوصول بهم إلى ذروة المجد. فأخذ يدرّب جاسون ليكون في مقدمة الأبطال ونشأه تنشئة سامية.

عندما بلغ بيلياس من الكبر عتيا، بلبلت أفكاره نبوءة أقضت مضجعه ونفت النوم عن عينيه. فقد حذرته هذه النبوءة من فتى يرتدي فردة حذاء واحدة في إحدى قدميه. وعبثا حاول بيلياس حتى يصل إلى كنه هذه النبوءة، وقد عجز المفسرون عن تفسير ما تقصد إليه تلك النبوءة. في ذلك الحين كان جاسون قد بلغ من العمر عشرين ربيعاً، فهجر مدربه خيرون وأقلع سراً إلى وطنه أيوكلوس، ليثبت حقوق أسرته في عرش البلاد الذي اغتصبه عمه بيلياس.

حذا جاسون حذوقدماء الأبطال الذين خلد التاريخ أسماءهم، وتسلح برمحين، أحدهما للقذف والآخر للطعن، ووضع فوق حلته التي يرتدها جلد نمر أرقط، كان قد اصطاده في إحدى الرحلات، وهجر شعره الطويل مرسلاً فوق كتفيه. وصل جاسون إبان رحلته إلى نهر عريض حيث قابل عجوزاً شاب وليدها، راحت تتوسل إليه حتى يساعدها على اجتياز النهر.

لم تكن تلك العجوز سوى الربة هيرا ملكة الآلهة وألدّ أعداء الملك بيلياس ولم يلاحظ جاسون شخصية الربة وهى متنكرة في ثيابها الرثة والهيئة التي اتخذتها. فحملها برفق، وأخذ يخوض النهر وهى بين ذراعيه. وفي منتصف النهر غرست إحدى قدميه في الطين فالتصقت فردة الحذاء بالطين، فلما حمل قدمه خرجت بلا حذاء، فلم يعر ذلك اهتماما واستمر بحملها يعبر النهر حتى بلغ الضفة الأخرى، فودع العجوز ثم اتجه إلى سوق أيولكوس في اللحظة التي كان فيها عمه بيلياس يقدم ذبيحة للرب بوسايدون إله البحر، وكان يحيط بالملك جمع غفير من شعبه.

لما رأى القوم جاسون، بهرهم جماله وظنوه أبوللوأوأريس قد ظهر فجأة وسطهم. غير حتى الملك بيلياس لم تقع عينه على جماله أوطوله، بل سقطت على قدميه، وقد أفزعه وهويقدم الذبيحة حتى ذلك الغريب يلبس فردة حذاء واحدة في إحدى قدميه. فسرى الحزن في قلبه، لكنه تمالك نفسه ولم يبد ما يشير على خوفه، فلما انتهت الطقوس الدينية تقدم إلى الشاب اليافع وسأله في رقة عن اسمه وعن وطنه.

كانت إجابة جاسون كافية لأن تهد كيان بيلياس، فقد أجابه في جرأة وجسارة نادرتين، ولكن في نبرة تنم عن الذوق والأدب ودماثة الخلق، قائلا: «أنا جاسون بن الملك أيسون. وقد ربّاني خيرون فأحسن تربيتي، وقد جئت الآن لزيارة بيت أبي».

أصغى بيلياس إلى ابن أخيه في اهتمام وبشاشة زائدين وقد أخفي ما تعتريه نفسه من خوف. فأمر أتباعه بأن يرافقوا الضيف العزيز إلى قصره. فصار جاسون يتطلع إلى ساحات القصر وغرفه التي ربى بين جدرانها في طفولته المبكرة. رحب بيلياس بابن أخيه أحسن ترحيب، فأقام له الحفلات وأولم له الولائم الفاخرة خمسة أيام كاملة، وفي اليوم السادس، هجروا الفساطيط التي أقيمت لاستضافة المدعوين، وتوجهوا إلى الملك بيلياس، فمثلوا بين يديه. تقدم جاسون في أدب ورقة بالغة ونطق لعمه:

«أيها الملك، أنت تفهم تمام الفهم، أنني ابن ملك البلاد الشرعي، ووريث عرشه، وأن جميع ما تمتلكه الآن هولي.. غير أنني سأهجر لك جميع بتران الماشية والأغنام، وجميع الحقول التي استحوذت عليها من والدي.. ولن أسألك شيئا سوى الصولجان والعرش اللذين كانا يوما ما لأبي».وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا

أعمل بيلياس فكره بسرعة قبل حتى يجيب، فكان رده عاطفياً ولكن عن مكر ودهاء وبعد نظر، إذ نطق: «لك ما ترغب يا ابن أخي، فإنني على أتم استعداد لتطبيق طلباتك. وفي لقاء ذلك يجب حتى تحقق لي راتى واحدا، وتؤدي خدمة بدلا مني، فأنت لا تزال في شرخ الشباب وعظيم القوة، ولا يمكن لشيخ مثلى حتى يقوم بها.. لقد مضى زمان طويل، وطيف فريكسوس يحوم حولي ويطاردني في أحلامي، حتى امتنع علي النوم ولازمني السهاد. إنه يطلب مني، ويحلف في الطلب، حتى أجلب السلام لروحه، بالرحيل إلى كولخيس والتوجه إلى الملك أييتيس فأستعيد منه جرة الكبش المضىي. وأنت تفهم حتى ليس في استطاعتي القيام بمثل تلك الرحلة التي تتطلب عزم الشباب وفتوته، وسيعود إليك مجد تحقيقك هذا الراتى، وعندما تعود بسلام حاملا هذه الهدية الرائعة، فسأعطيك المملكة والصولجان، فهما حق شرعي لك دون غيرك».

سيرة الصوف المضىي بدء رحلة بحارة الأرجو

كانت إينومحظية أثاماس والد فريكسوس وعشيقته، وكانت خارقة الأنوثة بارعة الجمال، إلا إنها كانت شديدة القسوة جافة الطباع، فكانت تعامل فريكسوس ابن زوجها معاملة قاسية، وتذيقه ألوان العذاب. ولا يجرؤ أحد على حتى يخبر زوجها، بما يعانيه ولده على يد تلك الحية. لم تطق نيفيلي والدة فريكسوس حتى ترى ابنها يسام العذاب هووأخته هيللي ، فقامت بمساعدة ابنتها هذه بخطف الطفل من منزل أبيه، ووضعت طفليها على ظهر كبش مجنح، صوفه من خيوط العسجد النضار، كانت تلقته هدية من الإله هيرميس. فحملها الكبش وحلق بهما في الجو، وظل يجوب أجواز الفضاء في سرعة بالغة، فأصيبت الفتاة بدوار شديد وسقطت من على ظهر المطية المضىية لتلقى مصرعها في البحر، الذي أصبح منذ تلك اللحظة يسمى هيللي أوهيلليسبونت نسبة إلى تلك الفتاة.

أما فريكسوس فقد وصل سالماً إلى بلاد كولخيس على شاطئ البحر الأسود، حيث استقبله الملك أييتيس أعظم استقبال، وزوجه إحدى بناته. وهى فتاة مدللة اجتمعت فيها الحكمة المثلى والأنوثة الكاملة. واعترافاً بجميل الكبش كرسه فريكسوس لزيوس أبى الآلهة، الذي أطال في طيرانه وقدم الجرة للملك أييتيس الذي كرسها بدوره للرب أريس، وسمرها في شجرة في كهف مقدس لهذا الرب، وجعلها في حراسة أفعوان ضخم، لأن هناك نبوءة تقول حتى حياة الملك نفسه تتوقف على امتلاكه لتلك الجرة المضىية.وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا

ذاع صيت هذه الجرة في جميع أراتى الأرض، وسمع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كنز ثمين لا يقدر بثمن. لم يكن بيلياس مخطئاً حين طلب من ابن أخيه حتى يحضر له هذه الجرة الثمينة. وكان جاسون دون أدنى شك على استعداد تام بنية صادقة لإحضار تلك الهدية، ولم تخامره قط الفكرة الحقيقية التي جعلت عمه يطلب منه هذه الطلب الوعر. إذ حتى القصد الحقيقي لبيلياس كان هوالتخلص من جاسون تماماً بإرساله في هذه المهمة التي كان بيلياس على يقين من حتى ابن أخيه لن يعود منها سالماً.

طلب جاسون من أشهر أبطال الأغارقة وأعظمهم، حتى يسهموا في تلك المغامرة الخطرة. فبدأ أمهر الصناع ببناء سفينة ضخمة، تحت رعاية الربة أثينا واستخدموا في صنعها أجود أنواع الخشب.كانت السفينة تتسع لخمسين مجدافاً، وأطلق عليها أرجو نسبة إلى بانيها أرجوس بن أريستور. لقد كانت أطول سفينة قام بصنعها الإغريق حتى ذلك الوقت، للإبحار عبر المحيطات الواسعة. وقد روعيَ عند بناء حيزوم السفينة حتى يوضع فيه بترة من الخشب أخذت من شجرة دودونا البلوطية التنبؤية هدية من الربة أثينا.

سفينة الأرجو.

التف البحارة حولها واقترعوا على الأماكن التي سيحتلها جميع واحد منهم، فكان على جاسون حتى يتولى قيادة الحملة بأسرها، وأن يقوم تيفوس بقيادة الدفة، ويتولى لونكيوس الحاد البصر إرشاد السفينة، في الأماكن الخطرة. وأن يجلس البطل المغوار هرقل في مقدم السفينة، وقد كرس جاسون سفينته لبوسايدون إله البحر. وقبل قيام الحملة بالرحلة المشهورة، قدم جميع الأبطال ذبائحهم وصلواتهم المقدسة إلى هذا الرب، وإلى غيره من آلهة البحر الآخرين، اتخذ جميع بطل مكانه المخصص له على ظهر السفينة، وحملوا المرساة وتحركت السفينة بعيدا عن الشاطئ، وأخذ الخمسون مجدافا يحركون مجاديفهم في نظام بديع، وفي اليوم التالي هبت عليهم ريح عاتية، فساقتهم إلى ميناء جزيرة ليمنوس.

بحارة الأرجو

بحارة الأرجوفي جزيرة ليمنوس

كانت نساء هذه الجزيرة قد قمن بقتل أزقابلن، أوعلى الأصح بقتل جميع رجال الجزيرة. لأنهم كانوا قد أحضروا معهم من تراقياً محظيات على قدر كبير من الفتنة والجمال، فعم الجور والمجون، وغضبت لذلك أفروديتي وأثارت حفيظة النساء على أزقابلن، فأعملن التقتيل في الرجال فلم ينج منهم سوى ملك ثواس الذي أنقذته غبنته هوبسيبولي، فأخفته في صندوق وقذفت به إلى البحر. ومنذ ذلك الحين استولى الذعر على نساء ليمنوس واندلع الهلع في نفوسهن، خشية حتى يتعرضن لغارات التراقيين للأخذ بثأر أقربائهم. وكثيرا ما كانت النساء يتطلعن صوب البحر إلى الأفق البعيد خوفا من قدوم سفينة تحمل المحاربين من التراقيين.وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا

وذات يوم، بينما وقف بعض النسوة بجانب الشاطئ إذ أبصرن سفينة الأرجوالعظيمة، فأسرعن إلى المدينة يخبرن بنات جنسهن بما رأين. فتسلحت النساء بسرعة وتدفقن إلى الشاطئ كجيش من الأمازونيات المحاربات. اندهش الأبطال كثيرا عندنا أبصروا الشاطئ يعج بالنساء المسلحات وليس بينهن رجل واحد.. فأوفدوا إليهن رسولا في زورق، فلما بلغ الشاطئ وتقدم إليهن أخذنه إلى ملكتهن هوبسيبولي غير المتزوجة، فنطق لها حتى البحارة يطلبون إيواءهم بضعة أيام كضيوف، ليستريحوا من عناء السفر.

جمعت الملكة نسائها في سوق المدينة، ونطقت لهن أنها ترى حتى يرسلن إليهم ما يحتاجوا إليه من الطعام والشراب في زورقهم، وبهذه الطريقة يستطعن حتى يحتفظن بصداقتهم بعيدا عنهن.. استوت الملكة ثانية على عرشها في دلال وعندئذ حملت خادمتها العجوز رأسها بمجهود شاق، وأومأت بالموافقة ونطقت: "أوفدن الهدايا إلى هؤلاء الأغراب بأية وسيلة من الوسائل، فهذا خير ما يجب عليكن القيام به في هذا الظرف، لاقى هذا الرأي موافقة بالإجماع من سائر نساء ليمنوس، وحبذن فكرتها، فأوفدت الملكة إحدى الفتيات لمصاحبة الرسول إلى السفينة كي تخطر الأبطال بالقرار الذي وصلن إليه، فسر البحارة بهذه الدعوة.

علق جاسون عباءته، التي أهدتها إليه الربة أثينا فوق كتفه، وراح يخطوصوب المدينة، واتجه صوب القصر في خطوات حثيثة، فإذا بالعذارى الحسان من الخادمات يفتحن الأبواب على مصراعيها، وإذا بالفتاة الشقراء التي كانت رسول الملكة إلى الأبطال تقوده إلى حجرة سيدتها.

كانت هوبسيبولي ناضرة الشباب، قد سبح وجهها في هالة من الحسن والبهاء، وما حتى سقطت عينها على ذلك الفتى الأنيق حتى اصطبغ خدها بحمرة الورد خجلا وحياء، وفي رقة بالغة راحت تخاطبه بألفاظ المديح والإطراء قائلة: «أيها الغريب النبيل، إذا هيئتك لتدل على شرف عنصرك، حقا إنك لمن الأبطال العظام والنبلاء.. ما الذي جعلك تتردد في دخول أبوابنا،يا ترى؟ ليس في هذه المدينة رجال تقدر حتى تخشاهم. فقد خان أزواجنا عهود الزوجية، وانتقلوا بصحبة عشيقاتهم من الأسرى التراقيات إلى بلدهن، ومعهم أبناؤهم وعبيدهم فهجرونا لا حول لنا ولا قوة، ومن ثم تقدر أنت ورفاقك الأعزاء، لوراق لكم حتى تحضروا إلى بلدنا، وتكونوا أفرادا من شعبنا، ولوأردت فلك حتى تحكم رجالك وتحكمنا بدلا من أبي وأنني لعلى يقين من حتى هذه البلاد ستروق لكم، فهي أكثر جزر البحار خصباً وأوفرها ثماراً، فامضى إلى صحبك وأبلغهم بهذه الذي أعرضه عليك، ثم عد إلي بقرارهم».

بيد أنها لم تذكر له أنهن قتلن أزقابلن، فأجاب جاسون قائلا: «أيتها الملكة العظيمة، إننا بقلوب يملؤها الشكر نتقبل المساعدة التي تنوين تقديمها لنا، والتي نحن في أمس الحاجة إليها.. وسأبلغ رفاقي بعرض جلالتك، ثم أعود إلى مدينتك العامرة. ولكي حتى تحتفظي شخصيا بصولجانك وبجزيرتك! وليس معنى هذا أنني أرفضه، ولكن أخطارا ومعارك بعيدة تنتظرني، ويجب عليَّ القيام بها».

قدم جاسون يده إلى الملكة مونادى، ثم عاد إلى الشاطئ.. وسرعان ما تبعته النساء في عربات سريعة محملة بالهدايا الكثيرة. أنبأ جاسون رفاقه بحديث الملكة إليه، ثم هبط إلى الشاطئ معهم، ما عدا هرقل وبعضا من زملائه الذين كانوا يعافون الحياة وسط النساء. كان من السهل على السيدات إغراء الأبطال بدخول المدينة والإقامة في منازلهن، فعاش جاسون في قصر هوبسيبولي، على حين تفرق الأبطال هنا وهناك مع الحسناوات الجميلات، وسرعان ما امتلأت المدينة برقصات العذارى وولائم البهجة والسرور.

ظل موعد الرحيل يتأجل من يوم إلى يوم، ولوكان الأمر بيد الأبطال، لتلكئوا ما طاب لهم مع مضيفاتهم الفاتنات الساحرات، بيد حتى هرقل الصارم جاء من السفينة وجمع الأبطال حوله دون فهم النساء وخاطبهم بقوله: «أي أبطال الأغارقة، ما أتعسكم وأحقركم! ألم يكن لديكم في بلادكم ما يكفيكم من النساء،يا ترى؟ هل كنتم في أمس الحاجة إلى زوجات حتى تحضروا لإلى هذه المكان وتعدلوا عن إتمام العمل المجيد الذي اضطلعتم به،يا ترى؟ هل ترغبون في حرث حقول ليمنوس،يا ترى؟ طبعا، إذا أحد الآلهة سيبحث عن الجرة المضىية ويحضرها لنا، ويضعها تحت أقدامنا دون حتى نحرك نحن ساكنا أونبذل أي مجهود! إني أرى من الأفضل حتى يعود جميع امرؤ منا لإلى بلده... وليتزوج جاسون هوبسيبولي ويعمر جزيرة ليمنوس بأبنائه منها، ثم يجلس بعد ذلك ويصغي إلى سيرة أعمال البطولة التي يقوم بها غيره».

كان لهذه الألفاظ سقط في نفوس الأبطال دونه سقط السهام، ولم يجرؤ أحد منهم حتى يحمل بصره إلى البطل العظيم أويرد على أقواله بحدثة واحدة، وشعر جميع فرد منهم بالخزي يجلل هامته، فهجروا الحشد واستعدوا للرحيل. بيد حتى نساء ليمنوس اللواتي كن قد عقدن النية على الزواج من الأبطال شق عليهن حتى يهجرهن الرجال بتلك السهولة، فحاصرنهم في جموع غفيرة كأنهن النمل، وأخذن يتوسلن إليهم كي يرقوا لحالهن ويمكثوا معهن، ولكن وجدن حتى الأبطال قد قرروا العودة إلى سفينتهم، فرضخن إلى الأمر الواقع.

أما هوبسيبولي ملكة الجزيرة الفاتنة، فقد ذرفت الدموع، وانتحت إلى جانب بعيد عن الأخريات، وأخذت جاسون من يده ونطقت: «امضى مصحوباً بالسلامة، ولتمنحك الآلهة، أنت ورفاقك الأجلاء النجاح في الحصول على الجرة المضىية التي تبتغونها وهجرتم وطنكم من أجلها، ولورغبت يوماً بالعودة إلينا فأهلاً وسهلاً».

هجر جاسون الملكة وهومملوء إعجاباً بما تتصف به من حسن وفتنة مقرونين بالحكمة والرزانة ورجاحة العقل، وكان هوأول من صعد إلى السفينة، ثم تبعه الآخرون، واحتل جميع واحد منهم مكانه، وحملوا المرساة ونشروا الأشرعة، وفي لمح البصر كانوا قد خلفوا وراءهم الهيلليسبونت.

بحارة الأرجوفي بلاد الدوليونيس

خطة سير مقترحة لبحارة الأرجو.

جرت السفينة تطوي المراحل على صفحة اليم، وظل البحارة يجدفون دون كلل ولا ملل، حتى إذا انقضت بضعة أيام، هبت الرياح من تراقيا فجرفت السفينة صوب ساحل فروجيا، حيث كان يعيش العمالقة المتوحشون الذين أنجبتهم الأرض جنبا إلى جنب مع شعب الدوليونيس المسالم، في جزيرة كوزيكوس.وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا

كان لهؤلاء العمالقة ست أذرع، تمتد اثنتان منها من كتفين عريضتين، كما تمتد ذراعان من جميع جنب، أما الدوليونيس فكانوا ينحدرون من رب البحر، الذي كان يحميهم من جميع من يتعدى عليهم أويريد بهم سوءا، حتى من جيرانهم المتوحشين، وكان يحكمهم الملك كوزيكوس، الذي اشتهر بالتقوى والورع والعبادة.. فلما وصلت السفينة إلى الجزيرة، خرج الملك وكل شعبه لاستقبال بحارتها والترحيب بهم.

وبعد حتى رست السفينة على الماء، ونزل الأبطال إلى البر رحب بهم الملك وصمم على استضافتهم في قصره وإكرام وفادتهم، لأن نبوءة من قديم الزمن كانت قد أمرته بضرورة استقبال زمرة الأبطال المقدسين بحدثات الترحيب الرقيقة، وقبل جميع شئ يتجنب القتال معهم.. ومن ثم زودهم بكمية وافرة من الخمر والذبائح المنحورة.

كان ذلك الملك لا يزال يافعا في عز صباه وريعان شبابه، وكان قد تزوج حديثا فتاة حلوة القسمات مشرقة السمات، جميلة الطلعة، وكانت وقت ذاك تنتظره في القص، ولكنه رضوخا لتلك النبوءة بقى ليشهجر في الوليمة، وظل معهم يجاذبهم أطراف الحديث ويسألهم عن حالهم وغرض رحلتهم، فلما فهم أمرهم، زودهم بالمعلومات وبالطريق الذي يجب عليهم حتى يسلكوه.

ظل الأبطال يمرحون بصحبة الملك النبيل، حتى مضى جزء من الليل، ثم مضىوا إلى المخادع التي أعدت لهم، فباتوا ليلتهم على الفرش الوثيرة، حتى إذا ما أصبح الصباح وتبدد الظلام، خرجوا يصدعون في جبل شامخ كي يروا بأنفسهم من قمته أين تقع الجزيرة من المحيط، فلما أبصرهم العمالقة انقضوا عليهم من الجانب الآخر متدفقين كالسيل الجارف، وأخذوا يسدون المنافذ إلى الميناء ببتر ضخمة من الصخور والأحجار.

كانت الأرجوقابعة في الميناء يحرسها البطل هرقل، الذي رفض للمرة الثانية مغادرتها، فلما رأى ما فعه أولئك العمالقة الأشرار، خاف على زملائه من بطشهم، فأخذ قوسه القوية وصار يقذف العمالقة بسهامه، فتردى منهم الكثيرون، وسقطوا في أماكنهم صرعى وفي نفس الوقت كان الأبطال يعملون التقتيل في المعتدين برماحهم وسهامهم، فهزموا العمالقة هزيمة نكراء، وتكدست أكوام جثثهم في الميناء الضيق كأنها جذوع أشجار ضخمة بترت من غابة كثيفة.

خرج الأبطال هكذا من المعركة ظافرين منتصرين، فعادوا إلى القصر يودعون الملك ويشكرون له حسن ضيافته وكرمه، ثم اعتلوا ظهر سفينتهم وأقلعوا عبر البحر، وكادت الشمس تتوسط كبد السماء، وكانت الريح رخاء، والسفينة تشق طريقها حثيثا في الماء، حتى إذا جن الليل، تغيرت الرياح وتبدلت الأحوال، فهبت عليهم من الجانب الآخر ريح عاتية أجبرتهم على الرسوبمركبهم بالقرب من اليابسة حتى تمر الزوبعة وتهدأ الريح.

كان الأبطال قد أرسوا سفينتهم على الجانب الآخر لجزيرة الدوليونيس ، غير حتى بحارة الأرجوظنوا أنهم قد رسوا على ساحل فروجيا، فلم يدرك المضيفون السابقون الذين هبوا من نومهم مذعورين على صوت إرساء السفينة، حتى أولئك القادمين هم ضيوفهم السابقون، وأصدقاؤهم الذين احتفلوا بهم وتناولوا معهم الطعام والشراب في مرح وسرور منذ يوم واحد فقط.. فهرعوا إلى أسلحتهم، وسرعان ما قامت بين الفريقين معركة حامية، فقذف جاسون رمحه في قلب الملك نفسه دون حتى يدري القاتل من هوالمقتول، ولا المقتول من قاتله. فلما رأى الدوليونيس ما حل بملكهم، أطلقوا العنان لأقدامهم، وولوا الأدبار، واختفوا في المدينة، وفي الصباح التالي اكتشف جميع من الفريقين خطأه.وسم <ref> غير سليم؛ أسماء غير سليمة، على سبيل المثال كثيرة جدا

عندما رأى جاسون ورفاقه جثة الملك الطيب كوزيكوس ترقد في بركة من دمائه الزكية، استولت عليهم الكآبة والوجوم، وعقد الحزن العميق ألسنتهم، فانهمرت دموعهم حارة تكاد تلهب وجوههم، فقد جازوا الإحسان بالإساءة ولوحتى ذلك وقع عن غير قصد، وظلوا مع الدوليونيس يبكون الموتى ثلاثة أيام بلياليها، وكان أهل القتلى يمزقون شعورهم من شدة الحزن والكمد، وأخذوا يعدون الولائم الجنائزية تكريما لمن سقطوا صرعى في المعركة.. بعد ذلك أقلع الأبطال يستأنفون رحلتهم، أما كليتي Clite الحسناء، زوجة الملك المقتول، فقد شنقت نفسها بحبل، إذ لم تطق البقاء بعد حتى توفي زوجها.

هرقل يتخلف

هبت العواصف على السفينة من جميع جانب، وأخذت تعبث بها الرياح في صخب، فرسا الأبطال على مدينة كيوس في خليج بيثونيا، فاستقبلهم الموسيون سكان هذه المدينة استقبالا رائعا، وبالرغم من حتى الظلام قد أقبل، فإن أهل المدينة استمروا يخدمونهم ويقدمون لهم الطعام والشراب بكميات وافرة.

لما كان هرقل لا يميل إلى أي لون من ألوان الترف ويعده مفسدة للرجل، فقد هجر رفاقه ينعمون بالوليمة، وأخذ يضرب وسط الغابة الكثيفة ليصنع لنفسه من أشابها مجدافا أقوى من المجاديف التي بالسفينة، استعدادا للعمل الذي ينتظره في صباح الغد، فصار يتفحص أشجار الغابة حتى عثر على شجرة صنوبر خشبها صلب قوي، كانت عين ما يصبوا إليه ويريد، ووضع هرقل قوسه وجعبته جانبا، وخلع عنه جلد الأسد وألقى هراوته إلى جانبه، ثم أمسك بجذع الشجرة بكلتا يديه وجذبها جذبة قوية انتزعها من منبتها.

كان هرقل في إحدى المعارك قد اغتال بطلا في حملة ضد الدريوبيس، وكان لذلك البطل ابن وقع يسمى هولاس، فأخذه هرقل ونشأه معه حتى كبر وأصبح خادمه وصديقه. هجر هولاس الوليمة أيضا، وأخذ جرة ليملأها ماء لسيده وصديقه إذا احتاج إلى الماء عند عودته، فلما بلغ الصبي الجميل البئر، أبصرته حورية البئر، أبصرت شابا يافعا طويل القامة حلوالقسمات، فسحرها جماله حتى أنها قد طوقته بذراعها اليسرى، على حين أمسكت مرفقه بيمناها وجذبته إلى أعماق البئر.

صرح الصبي مستغيثا يطلب النجدة، فسمعه أحد الأبطال ويدعى بولوفيموس، وكان جالسا ينتظر هرقل بالقرب من البئر، فهب مسرعا إلى مصدر الصوت ليخلص الصبي. بيد أنه لم يعثر عليه كأنما الأرض قد ابتلعته.. وما حتى شاهد هرقل مقبلا من الغابة حتى ناداه قائلا: «معذرة أيها السيد ما كنت لأود حتى أكون أول من ينبئك بخبر يشق عليك سماعه، لقد مضى صديقك هولاس إلى البئر ولم يعد، لابد حتىقد يكون قد قابله أحد قاطعي الطرق واختطفه أومن الممكنقد يكون قد قتله.. لقد سمعته بنفسي وبأذني يصيح مستغيثاً».

ما إذا سمع هرقل ذلك النبأ حتى تميز غضبا وجاش قلبه حزنا وكمدا، وبخعه الألم بقلبه، وفي سورة الغضب ألقى بشجرة الصنوبر أرضا، واندفع كثور هائج، واخذ يعدوخلال الغابات حتى بلغ البئر وهويصيح صيحات الحزن والأم والجزع.

أصبح الصباح، وأشرق نجمه فوق الجبل، فهبت رياح مواتية، وعندئذ حث مدير الدفة الأبطال على حتى يستغلوا فرصة هذه الرياح ويقلعوا في الحال، فتسابق البحارة إلى السفينة يصعدون على ظهرها ويتخذ جميع منهم مكانه فيها في ضوء الفجر الأحمر، وبينما هم ينزلقون في غبطة وسرور على صفحة الماء، إذ تذكروا بعد فوات الأوان أنهم هجروا اثنين من خيرة الأبطال على الشاطئ، وهما هرقل وبولوفيموس.

عندما اكتشف الأبطال هذا الأمر، دب بينهم شجار عنيف ونقاش حاد، كيف من الممكن أن يصح حتى يبحروا بدون رفيقيهم،يا ترى؟ لم ينبس جاسون ببنت شفة، ولاذ بالصمت والحزن يأكل قلبه ويستولى على مشاعره فجلس منطويا على نفسه وقد مضىت به الأفكار شتى المذاهب.. أما تيلامون فقد استشاط غضبا ولم يتمالك نفسه من هول الصدمة العنيفة، فصاح في جاسون قائلاً: «كيف تجلس في مكانك صامتا هادئا هكذا،يا ترى؟ أعتقد أنك تخشى حتى يتفوق هرقل فينال من بسالتك! ولكن لم أضيع وقتي في الحديث،يا ترى؟ فلووافقك حشدنا على مسلكك هذا، فإني سأعود إلى البطل الذي هجرناه على الشاطئ».

وما حتى أتم تيلامون كلامه هذا حتى انقض على تيفوس مدير الدفة وأمسك بصدره وجذبه جذبة عنيفة وكاد يجبره على الاتجاه بالسفينة صوب بلاد الموسيين، لولا حتى قبض على ذراعيه زيتيس وجذبه إلى الخلف وهويعنفه على ما صدر منه.. بيد أنه وقع وهم يتعاركون حتى برز لهم بين الأمواج، جلاوكوس رب البحر، وأمسك بدفة السفينة بيده القوية، وصاح في البحارة بقوله:

«لا يدب الخلاف والنزاع بينكم أيها الأبطال ولا تتراشقوا بجارح الألفاظ، فلن تأخذوا معكم هرقل، الذي لا يخشى بأسا، إلى بلاد أييتيس ضد إرادة زيوس! إذا القدر ليحتفظ به لمهام أخرى غير مهمتكم. لقد أبصرت إحدى الحوريات الشاب الجميل هولاس، فهامت بحبه وبرح بها الهوى حتى أنها خطفته، ولما كان هذا الفتى صديقا لهرقل، ولا يستطيع حتى يرجع بدونه، فقد تخلف عنكم من شدة شوقه إليه».

فلما نطق رب البحر هذه الحقائق، وأنبأ بها الأبطال حتى لا تنفصم عرى الصداقة بينهم وينشق بعضهم على بعض، غطس ثانية في البحر، وابتلعته المياه الزرقاء كما اتى. عند ذلك احمر وجه تيلامون خجلا، ثم مضى إلى جاسون واعتذر له عما بدر منه، ووضع يده في يده ونطق: "لا تحنق علي يا جاسون، فقد أفقدني الحزن العميق صوابي وطار لبي ودفعني إلى التسرع في الكلام، فلم أع ما كنت أقول، فلتمضى غلطتي هذه مع الرياح، ودعنا يتمنى جميع منا لأخيه أطيب الأماني كما كنا نعمل من قبل. سر جاسون سرورا بالغا لعودة السلام بينه وبين تيلامون، وانتشار الهدوء بين الأبطال على ظهر السفينة ثانية، ثم أبحروا بعد ذلك عبر الأمواج الهادئة. هذا ما وقع على ظهر السفينة، أما من بقى على الشاطئ، فإن بولوفيموس أقام مع الموسيين وشيد لهم مدينة عظيمة، على حين استمر هرقل في سيره وتجواله إلى حيث استدعته مشيئة الإله زيوس.

بولوديوكيس وملك البيبروكيين

أشرقت شمس اليوم التالي، فلاح عن بعد شبه جزيرة منبسطة إلى داخل البحر، فلف الملاحون الأبطال السفينة نحوها، وكانت توجد في هذه الأرض حظائر أموكوس ملك البيروكيين المتوحشين وبيته الريفي، وكان هذه الملك ذا قوة وسلطان يفرض قانونا صارما على جميع الأغراب.

ولما كان بطلا مغوارا لا يتصدى لقوته فارس، فقد فرض على جميع غريب يرمي به حظه التعس إلى شبه الجزيرة هذه، ألا يغادرها قبل حتى يلاكمه، وكانت الغلبة طبعا لهذا الملك الباطش ذوالقوة الخارقة، وبذلك تخلص من عدد كبير من جيرانه.

أبصر أموكوس السفينة تقترب من الشاطئ، فضحك ملء شدقيه ساخرا من أولئك التعسين الذين ساقهم القدر إلى حتفهم، فدنا من مرسى السفينة قبل حتى تطأ أقدام من فيها أرضه وتحداهم قائلا: "اسمعوا يا قراصنة البحار، أرهفوا سمعكم لما أقول، هناك أمر واحد يجب حتى تعهدوه جيدا، ليس لغريب قط حتى يبرح بلادي دون حتى يتلاكم معي.. ومن ثم آمركم حتى تختاروا أقوى رجل فيكم وترسلوه إلي، وإلا مصيركم كلكم الهلاك وبئس المصير".

كان بين بحارة الأرجوبطل الإغريق في الملاكمة ويدعى بولوديوكيس وهونجل ليدا فلما سمع كلام أموكوس وغطرسته، ثارت ثائرته وجاش قلبه حقدا على ذلك المغرور الذي تحدي جميع الأبطال، وبطش بكل من تقدم لملاكمته، في غير رحمة ولا شفقة. فنزل إلى البر وسعى إلى الملك قائلا: "اختصر الحديث يا هذا فإني على أتم استعداد لملاكمتك والويل لمن يصرخ أولا".

تطلع الملك إلى البطل المقبل، وأخذ ينظر إلى ذلك الشخص الذي سخر من تحديه، كأنما يزن قوته ويبحث في جسم غريمه عما جعله يقدم على قبول النزال بتلك الجرأة التي لم يعتدها فيمن

سبقوه.. ولكن بوديوكيس لم يأبه لنظراته ولم يعره إي اهتمام ، وما حتى غادر الأبطال السفينة ووطئوا اليابسة حتى احتل المتلاكمان أماكنهما، الواحد تجاه الآخر، واتى أحد عبيد الملك بزوجين من قفازات الملاكمة، وألقى بهما على الأرض بين الغريمين ، فنطق أموكوس لخصمه، اختر لنفسك القفاز الذي يروقك، فإنني لا أريد ضياع الوقت في الاقتراع على القفازات".

ابتسم بولوديوكيس ابتسامة هادئة، ثم التقط القفاز القريب منه وهجر أصدقاءه وكذلك عمل الملك، ثم بدأت الملاكمة، فهجم الملك على الإغريقي كالموجة العاتية، فيحاول بولوديوكيس حتى يتفادى منها بأقصى صعوبة، ولم يهجر لغريمه فسحه من الوقت يستطيع فيها حتى يأخذ نفسه..

كان بولوديوكيس مر العود صلب المكسر، فسرعان ما اكتشف موطن الضعف في خصمه وأخذ يمطره وابلا من اللكمات التي لم يستطع تحاشيها، غير حتى الملك كان لا يهجر فرصة، دون حتى ينتهزها، ومن ثم كانت الفكوك تترنح تحت وطأة اللكمات، ولم يكف الطرفان عن الملاكمة إلا بعد حتى أخذ التعب منهما جميع مأخذ، وراحا يلهثان من شدة التعب، فاضطر جميع منهما إلى حتى يتنحى جانبا ليستريح ويجفف عرقه.

مضت فترة وجيزة، استأنف البطلان بعدها الملاكمة فأخت اللكمات تنزل تباعا دون إبطاء، وكان من العسير حسم النزال، لولا حتى أموكوس أخطأ رأس غريمه، واتىت الضربة على كتفه، على حين هوى عليه بولوديوكيس بضربه قاضية خلف أذنه، هشمت عظام رأسه، فخر على ركبتيه يترنح وهويصرخ من شدة الألم.

صاح ملاحوالأرجوصيحة الفرح لفوز رفيقهم على ذلك الجبار، بيد حتى قوم البيبروكيين اقبلوا لمساعدة ملكهم، وانقضوا على بولوديوكيس بهراواتهم ورماحهم، فلم يقف زملاؤه كتوفي الأيدي، بل انبروا بهراواتهم بالسيوف وأعملوا فيهم التقتيل والتنكيل، فلم يسع البيبروكيين إلا حتى يطلقوا العنان لأقدامهم يسابقون بها الريح، ملتمسين النجاة في مخابئ بلادهم، فلما رأي الأبطال هزيمة هؤلاء الجبناء الرعاديد، دخلوا حظائرهم واستولوا على بتران الماشية والأغنام وأمضوا الليل على الشاطئ بقرب سفينتهم، يضمدون جراحهم ويقدمون الذبائح للآلهة، وقضوا ساعات الدجى يحتسون الخمر المعتقة ويأكلون من الشواء الشهي.

فينيوس والطيور الملعونة

أقبل الفجر فوضع نهاية لوليمتهم، وصعد الأبطال على ظهر السفينة يحملون إليها بتران الماشية والأغنام التي غنموها، وما حتى تنفس الصبح حتى كانت الأرجوتشق اليم بقوة سواعد الأبطال، حتى بلغوا بلاد بيثونيا التي كان يقطن فيها فينيوس Phinius بن البطل أجينور Agenor وكان فينيوس هذا قد حلت به مصيبة ما بعدها مصيبة، وسببها أنه سخر من هدية النبوءة التي منحه إياها أبوللو، فأصابه العمى في شيخوخته، ولووقفت المصيبة عند هذا الحد لهانت ولأمكنه حتى يطيقها في غير تذمر، ولكن الأدهى، أنه حدثا أراد حتى يتناول طعامه، كانت تنقض عليه طيور متوحشة شريرة شبيهة بالساحرات، وكانت تدعى باسم هاربييس، فكانت تلتهم ما أمامه من طعام فلا تبقي له إلا القليل، ويا ليتها تهجره صالحا للأكل، بل تلوثه وتدنسه بكيفية تجعل النفس تعاف تناوله.

ظل فينيوس يعاني الأمرين من العمى والطيور الملعونة حتى وهن جسمه ونحل عوده وأصبح هيكلا من العظام، ولم يكن له في الدنيا سوى أمل واحد، فقد كانت نبوءة من زيوس تقول إذا فينيوس يستطيع حتى يتناول طعامه في هدوء لا يعكر صفوه ولا تقربه تلك الطيور اللعينة، إذا أقبل أبناء بورياس مع المجدفين الأغارقة ، ومن ثم، عندما سمع ذلك الهرم المسن بوصول سفينة الأرجو، غادر غرفته، فما حتى وصل إلى بحارة الأرجوحتى سقط من الإعياء والتعب على الأرض.

عندما أبصر الأبطال ما حل بزائرهم، التفوا حوله وقد هالهم منظره، فلما سمعهم حوله، استجمع قواه، وتحدث إليهم متوسلا بقوله: "أيها الأبطال الأشراف، أستحلفكم بالآلهة العظام، حتى تساعدوني لوكنتم حقا أولئك الذين تنبأت بهم النبوءة، إذا ربة الانتقام لم تجردني من ناظري فحسب، بل سلطت علي كذلك طيورا لعينة تحرمني طعامي، وافهموا أنكم لن تقدموا معونتكم لأجنبي، فأنا إغريقي مثلكم ومن مواطنيكم.. أنا فينيوس بن أجينور، وكنت فيما مضى ملكا على تراقيا وابنا يورياس اللذان يجب حتىقد يكونا شريكين لكم في ذلك المسعى، واللذان يتحتم عليهما إنقاذي".

وما حتى أيم فينيوس كلامه حتى ارتمى زيتيس بن يورياس بين ذراعيه وأخذ يقبله في شوق، ووعده بأن يقوم هووشقيقه بتخليصه من الطيور التي توشك حتى تقضي على حياته، ثم أعد الأبطال له وليمة حافلة بشتى صنوف الطعام، بيد أنه ما كاد يلمس الطعام حتى انقضت الهاربييس هابطة من السماء، وهجمت على الطعام تلتهمه في جشع زائد حتى أتت على ما في الصحاف، فصاح الأبطال صياحا عاليا، ولكنها لم تبدي لهذه الصحاف التفاتا، بل ظلت تأكل كأن لا شئ يحدث.. ثم طارت من حيث أتت بعد حتى خلفت وراءها رائحة كريهة جدا.

اقتفي زيتيس وكاليس أثر الطيور، شاهرين سيفيهما، وقد أعارهما زيوس أجنحة كبيرة قوية، وهذا ما كان في أمس الحاجة إليه لأن الهاربييس كانت تطير في سرعة كبيرة جدا.فظلا يتعقبانها، وكاد يمسكان بها ويقضيان عليها، لولم تظهر في الجوفجأة ايريس Iris رسولة زيوس وخاطبت البطلين قائلة: "أي ولدي بورياس، يجب ألا تقتلا الهاربييس، ولكن أقسم لكما، حتى هذه الطيور لن تزعج ابن أجينور أبدا منذ هذه اللحظة".

عندئذ كفا زيتيس وكاليس عن مطاردة الطيور، وعادا أدراجهما إلى السفينة.. في نفس تلك الفترة كان الأبطال الأغارقة يبذلون جل اهتمامهم نحوفينيوس العجوز، فأعدوا له وليمة ودعوه إليها حيث الطيور مشغولة بمطارديها، فراح الشيخ يأكل في نهم زائد من الطعام النظيف الوافر.

أقبل الليل، فأوقد الأبطال المشاعل، وجلسوا يتحادثون مع الملك انتظارا لرجوع ابنا يورياس، واعترافا بفضل الأبطال، أخذ فينيوس يتنبأ لهم بنبوءة ويسدي إليهم النصح بما يجب عليهم حتى يعملوه فنطق: "ستصلون أولا وقبل جميع شئ إلى سومبليجاديس في مضايق بحر يوكسيني، إنهما جزيرتان صخريتان لا ترتكزان إلى قاع المحيط، بل طافيتان على مياهه.. وكثيرا ما يجرفهما التيار فتقتربان بعضهما من بعض، وعندئذ يرتفع تيار الماء بينهما إلى ازدياد شاهق، فإذا أردتم حتى تتجنبوا تحطيم سفينتكم وهلاككم، عمليكم حتى تجدفوا خلالهما بسرعة اليمام، ثم تصلوا إلى بلاد المارياندوني التي تفخر على جميع البلاد بأنها مدخل العالم السفلي، ولسوف تمرون بجبال كثيرة داخلة في البحر، وبأنهار وسواحل عديدة، وبأمة الأمازونيات وبلاد الخالوبيس الذين يستخرجون الحديد من باطن الأرض بتعبهم وبكدهم، وأخيرا ستمضىون إلى ساحل خولكيس حيث يصب نهر فاسيس الواسع في البحر، وسترون معقل الملك أيتيس حيث تجدون الأفعوان الضخم الذي يسهر ليل نهار على الجرة المضىية المعلقة على أغصان إحدى أشجار البلوط، ليحرسها من أيدي المعتدين.

لم يستطع الأبطال إخفاء رعبهم وهم يصغون إلى الشيخ المسن، وما كادوا يوجهون إليه بعض الأسئلة حتى هبط ابنا يورياس بينهم فأشاعا السرور في قلب الملك والأبطال بإعلانهما رسالة ايريس.

أثينا تنقذ الأبطال من الموت

ودع فينيوس محرريه الأبطال بنفس تفيض بالشكر الجزيل، وتمنى لهم حظا سعيدا، ثم هجره الفرسان وأقلعوا بسفينتهم عبر الخضم المترامي الأطراف إلى مغامرة جديدة، وبينما الأبطال يجدفون بعزيمة وقوة، إذ بصوت رعد قاصف يصم الآذان يصل إلى مسامعهم.. كان ذلك الصوت هوزئير السومبليجاديس، فوقف تيفوس مدير الدفة، كما وقف يوفيموس في مكانه حاملا يمامة في يده اليمنى، لأن فينيوس كان قد أبلغهم أنه لوطارت يمامة بسلام من بين الصخور، فإنهم يستطيعون حتى يمروا بالمضيق آمنين، فهجر يوفيموس اليمامة تطير، وأخذوا يراقبوها، مرت اليمامة طائرة ولكن الصخرتين كانتا تقتربان من بعضهما وارتفعت الأمواج في المضيق، ثم إذا بالصخرتين تلتقيان وتطبقان على ريش ذيل اليمامة، ولكنها مع ذلك مرت دون حتى صيبها أذى، ومن ثم شجع تيفوس المجدفين بصوت مرتفع حتى يسرعوا في التجديف بكل ما أوتوا من قوة.

انفصلت الصخرتان، فإذا بالتيار الجارف بينهما يسحب السفينة في اندفاعه، فكان الأبطال عندئذ مهددين بالهلاك من جميع جانب، ثم أقبلت موجة قوية تجاههم، عندئذ أمرهم تيفوس بالكف عن التجديف، فمرت الموجة العنيفة أسفل السفينة، وإذا بالسفينة تُحمل فوق الصخرتين وهما تقتربان لتطبقا الواحدة على الأخرى.. فضغط المجدفون بقوة على المجاديف، ثم حملتهم الدوامة من حديث وهبطت بهم إلى أسفل بين الصخرتين حتى كادت السفينة تتحطم، إلا حتى الربة أثينا، حامية البحارة الأبطال، أقبلت بسرعة دون حتى يراها أحد، ودفعت السفينة إلى الأمام، فأنقذت الأبطال من الهلاك والسفينة من التحطيم المؤكد، فمرت السفينة بسلام ولم تصب بسوء إلا في طرف ذراع الدفة.

كادت السفينة حتى تتحطم وأيقن الأبطال أنهم هالكون لولا تدخل الربة أثينا، فلما أبصر الأبطال الشمس تضئ في السماء، ورأوا البحر الفسيح أمامهم مرة أخرى، ذرفوا دموع الفرح وراحوا يستنشقون الهواء في عمق، إذ أحسوا كأنهم قد صعدوا من العالم السفلي وخطت لهم أعمار جديدة..

استمر الأبطال في إبحارهم بعزيمة لا تعهد الملل أوالتعب، وسقم تيفوس مدير الدفة المخلص، ثم اشتد به السقم ومات، فحزن الأبطال حزنا شديدا، حتى أفاقوا من غشيتهم وأخذوا يعدون العدة ليدفنوه في شاطئ قريب، فأوفدوا سفينتهم على أول يابسة ظهرت أمامهم، وخرجوا بالجثة إلى البر فواروه بالتراب، ثم ركبوا السفينة واختاروا أقدرهم في فن القيادة ليحل محل تيفوس في قيادة الدفة، ولم يكن هذا سوى البطل الشجاع أنكايوس ولكنه رفض حتى يقوم بمهام ذلك المنصب، حتى أقبلت الربة هيرا وملأته بالشجاعة والثقة، فقبل بعد تردد، واحتل مكانه عند الدفة وقاد السفينة كما كان يعمل تيفوس من قبل، قاد أنكايوس السفينة بمقدرة وكفاية، ثم شقوا طريقهم صوب البحر.

وبعد عدة مغامرات أخرى في البحر وصل الأبطال إلى شاطئ جزيرة أرتيا المرتفع عن البحر، فوجدوا هناك أصدقاء ورفقاء لوقد يكونوا يتسقطون رؤيتهم، فما كادوا يصلون إلى الجزيرة ويتقدمون بضع خطوات حتى أقبل إليهم أربعة من الشبان في ملابس رثة بالية، يشير مظهرهم على احتياجهم الشديد إلى جميع شئ، فتقدم أحدهم ونطق: "سادتي الأمجاد أيا كنت شخصياتكم، نرجوحتى تساعدوا قوما تحطمت سفينتهم، وبرح بهم الجوع والعري كما ترون".

وعد جاسون أولئك الشبان بأن يقدم لهم الطعام واللباس وسألهم عن أسمائهم ونسبهم وموطنهم، فأجاب الشاب: "لابد أنكم قد سمعتم عن فريكسوس بن أثاماس، إنه هوالذي حمل الجرة المضىية إلى كولخيس، لقد زوجه أييتيس كبرى بناته، إننا أبناؤه، واسمي أرجوس.. لقد توفي أبونا فريكسوس منذ مدة قصيرة، وإطاعة لرغبته عندنا وافته المنية، ركبنا البحر بحثا عن الكنوز التي هجرها في مدينة أورخومينوس".

استأنف الشبان حديثهم وراحوا يقصون على مسامع بحارة الأرجوكيف من الممكن أن تحطمت سفينتهم في عاصفة شديدة، وكيف وصلوا إلى هذه الجزيرة وهي جزيرة من يلتجئ إليها جائع وضائع ووصفوا الأبطال ما لاقوه فيها من البؤس والحرمان. رثى الأبطال لحال الشبان وأفهموهم بأمرهم، وما هم قدموا من أجله، وطلبوا منهم الانضمام، فلم يتردد الشبان قط، وأبدوا استعدادهم لمرافقتهم في رحلتهم.

بعد ذلك أقام الأبطال وليمة فاخرة للشبان الجياع، ولما أصبح الصباح ركب الجميع السفينة، واستمرت الأرجوفي رحلتها لا يعكر صفوها أمواج ولا رياح، وبعد حتى جدفوا يوما وليلة، رأوا جبال القوقاز الشامخة، وصلت الأرجوفي نفس الليلة إلى مصب نهر فاسيس، فأنزل الأبطال حبال السفينة، وكان على يسارهم جبال القوقاز العالية، وكوتا عاصمة كولخيس، وعلى يمينهم قبر أريس المقدس حيث الأفعوان الضخم ذوالعيون الحادة التي لا تغفل عن حراسة الجرة المضىية المعلقة على الأغصان المورقة لإحدى أشجار البلوط.

تقدم جاسون إلى جانب السفينة وهويحمل في يده كأسا مضىية مملوءة خمرا، وقدم سكيبة للنهر وإلى الأرض الأم، وإلى أرباب ذلك القطر وإلى الأبطال الذين قضوا نحبهم أبان الرحلة، وتوسل إليهم جميعا حتى يمنحوه المساعدة القيمة، ويراقبوا مراسي السفينة.

عندما ألقوا مراسيهم وثبتوا السفينة إلى الشاطئ، نطق مدير الدفة: "ها قد وصلنا سالمين إلى كولخيس، وحان الوقت الآن لنقرر هل يجب علينا حتى نبدي رغبتنا إلى الملك أييتيس بطريقة ودية، أونلجأ إلى طرق أخرى للحصول على ما قدمنا من أجله؟". فنطق الأبطال المتعبون: «غدا، نستطيع حتى نعمل ما نريد». فصاح جاسون بإلقاء المراسي في أحد الخلجان الظليلة في النهر، ثم راحوا في سبات عميق، ولكن راحتهم لم تطل إذ سرعان ما أقبل الفجر فأشرق عليهم وأيقظهم.

جاسون في قصر أييتيس

اتى الصباح، فتشاور الأبطال فيما بينهم عما سيتبعونه، فنهض جاسون ونطق: "أيها الأبطال العظام، أنني أسدي إليكم رأيا لوعملتم به لعشتم في سلام ، ولتجنبتم اللجوء إلى السلاح، سأتوجه أنا وأبناء فريكسوس واثنان من الزملاء إلى قصر الملك أييتيس، ولسوف أحاول أولا طرق باب الكياسة والود، واطلب منه حتى يعطينا الجرة المضىية، ولوأنني لا أشك إطلاقا في أنه من فرط ثقته بقوته، سيرفض الطلب.. ولكننا بهذه الطريقة سنفهم من شفتيه ماذا يجب علينا حتى نعمل، فقد يحدث لكلامنا أثر طيب في نفسه".

لقيت هذه الحدثات موافقة من جميع الأبطال، ومن ثم حمل جاسون في يده عصا السلام، وغادر السفينة بصحبة أبناء فريكسوس وزميليه تيلامون وأوجياس.. كانت مدينة كولخيس زاخرة بالسكان، وحماية لجاسون وصحبه من بطشهم ومن شكوك الملك أييتيس، لفت هيرا- حليفة البحارة- المدينة في غلالة كثيفة من الضباب، طالما كان الأبطال في طريقهم إلى القصر، حتى إذا ما بلغوه، تبدد الضباب وصفا الجوكأن شيئا لم يحدث.

وقف جاسون ومن معه في ساحة القصر.. فعبروا عتبة الساحة الأمامية في صمت وهدوء، من هذه الساحة ولج الأبطال إلى الساحة الوسطى المنبسطة إلى اليمين واليسار، مؤدية إلى مسالك وحجرات، وفي الجهة اللقاءة مباشرة كان الجناحان الرئيسان للقصر، أحدهما مسكن الملك أييتيس، والآخر مسكن ابنه ابسورتوس، أما باقي الحجرات فكانت للخدم ولابنتي الملك: خالكيوبي وميديا.. وكانت ميديا صغرى الابنتين، ومن النادر جدا حتى ترى هنا أوهناك، لأنها كانت تقضي معظم وقتها في معبد هيكاتي إذ كانت كاهنة ذلك المعبد، لكن تلك الليلة كانت ميديا في القصر، فما كادت ميديا تخرج من حجرتها وهى في طريقها إلى حجرة شقيقتها، حتى أبصرت فجأة الأبطال الأغارقة وحينها أوفدت صرخة مدوية في القصر، وأسرعت إليها شقيقتها خالكيوبي.. ثم إذا بخالكيوبي نفسها تصيح صيحات الفرح والسرور، وتحمل يدها إلي السماء شكرا وحمدا، لأنها عهدت من بين الأبطال، أولادها الأربعة أبناء فركسوس، وفي نفس الوقت ارتمى الشبان في أحضان والدتهم قي شوق جارف، وظل خمستهم يبكون في حرقة وسرور إذ اكتمل ضمهم من جديد.

ميديا وأييتيس

كان الملك أييتيس في مخدعه مع زوجته إيديا، فسمع أصوات الفرح والبكاء في البهو، فخرج هووزوجته يستطلعان الأمر، فوجدا الساحة الأمامية قد امتلأت بالصخب. ارتفع إروس عاليا في الجو، دون حتى يراه أحد وانتقى سهما جلابا للآلام، ثم هبط إلى الأرض وجلس خلف جاسون، وأعد قوسه وصوب السهم إلى ميديا.. فانطلق يطير في الفضاء بسرعة دون حتى يراه أحد ولا حتى ميديا نفسها، واخترق القوس صدرها، وكانت من وقت إلى آخر، تأخذ نفسها عميقا كمن يعاني آلام سقم، وصارت بعد ذلك تسدد نظرات جانبية إلى جاسون الذي بدا لهم، شابا يافعا طويل صلب العود، أنيق، مفتول الساعدين، فأحست عينيها تغرقان في صفاء عينيه، فوسط جميع هذه الفوضى التي سادت الساحة، لم يلحظ أحد ما كان يجري في أعماق قلب ميديا، ولكن الجميع كانوا مشغولين.

جلس حفدة الملك أييتيس إلى جانبه على المائدة، وإبان الوليمة أخذوا يقصون عليه كيف من الممكن أن تحطمت سفينتهم، وماذا ألم بهم من مصائب ومتاعب، وجوع وعري، وكيف ساعدهم هؤلاء الأبطال الأمجاد ثم جرهم الحديث إلى التعرض لشخصيات الأغراب، فبدأ الملك يتحرى منقد يكون هؤلاء،يا ترى؟ فخفض أرجوس صوته وهمس إلى جده قائلا: "لن أخفي عنك الأمر يا جدي فقد اتى هؤلاء الأبطال من بلاد الإغريق البعيدة، وقاسوا المتاعب والأهوال، وتعرضوا للمخاطرة عدة مرات، ليطلبوا منك الجرة المضىية التي لفريكسوس أبينا.. إذا ملكا يريد حتى يسلبهم ممتلكاتهم، وينفيهم خارج بلادهم، قد بعثهم في هذه المخاطرة الجسيمة آملا ألا ينجوا من غضب زيوس وانتقام فريكسوس. إذا أثينا نفسها قد ساعدتهم في بناء سفينتهم التي من النوع الذي لا يستخدم في كولخيس، وقد اجتمع على ظهر تلك السفينة عدد غفير من أبطال الأغارقة". ثم ذكر لأييتيس أسماء البحارة واحدا واحدا.

فلما سمع الملك هذه الأنباء، غلى غضباً، وحنق على حفدته لأنه افترض أنه بواسطتهم اتى هؤلاء الأغراب إلى ساحة قصره.. كانت النيران تشتعل في عينيه، ثم انفجر بصوت مرتفع: "إليكم عني واغربوا عبر وجهي أيها الكذابون المتآمرون، إنكم لم تحضروا إلى هنا بحثا عن الجرة، ولكن سعيا وراء عرشي وصولجاني، لولا أنكم ضيوفي وعلى مائدتي لنكلت بكم شر تنكيل.

كان تيلامون بن أياكوس أقرب الجالسين إلى الملك بعد حفدته، فسمع كلامه، فاستشاط غضبا ونهض من مكانه ليرد على الملك بألفاظ أشد عنفا، ولكن جاسون أمسك به وأخذ يجيب هوفي صوت هادئ: "هون عليك واملك زمام نفسك يا أييتيس، فإننا لم نجئ إلى مدينتك لنسلبك ملكك، فمن من الناس يكابد متاعب مثل هذه الرحلة عبر البحار المملوءة بالأخطار الجسام من أجل الاستحواذ على ممتلكات فرد آخر،يا ترى؟ إذا ما أرغب فيه قد أملاه علي القدر بأمر من ملك شرير، فلتمنحنا ما نطلب ليس إلا، وبعملك هذا ستعترف لك جميع بلاد الإغريق بجميلك وبفضلك.

هكذا تحدث جاسون لكي يرضي أييتيس الغضب، ولكن الملك لم يكن قد وصل إلى قرار بعد، هل يأمر بقتلهم، أويطلب منهم أولا إظهار قواهم،يا ترى؟ وبعد تفكير تراءت له فكرة، فأجاب في هدوء: "لمَ جميع هذه العروض التي أعدها ضربا من الجبن،يا ترى؟ إذا كنتم حقا أبناء الآلهة، ولا تطمعون في

ممتلكات الغير، فخذوا الجرة المضىية، فأنا لا أمنع عن الأبطال شيئا، ولكن أولا وقبل أي شئ، يجب عليكم حتى تنجزوا مهمة أقوم أنا بها برغم أنها تتضمن خطرا كبيرا، فلدي ثوران يرعيان في حقل أريس، حوافرهما من البرونز، وتنبعث من أنفيهما ألسنة من اللهب، إنني استخدمهما في حرث الأرض الصلبة، وبعد تقليب تربتها، لم تبذر الأرض حبوب ديميتير الصفراء، بل أنياب أفعوان ضخم، فينبت منها محصول من الرجال يخرج لمهاجمتي من جميع جانب، بيد أنني اقتلهم جميعا، إنني أضع النير على رقبة الثورين في الفجر الباكر، فلا يأتي المساء حتى أكون قد استرحت من حصادي.. فيوم تقومون بما أقوم به أنا، تستطيع أيها القائد حتى تأخذ الجرة المضىية معك إلى مملكتك، ولكنك لن تستطيع الحصول عليها قبل ذلك".

جلس جاسون صامتا في مكانه دون حتىقد يكون حدد رأيه، ثم أعمل فكره بسرعة وأجاب: "حقا إنها لمهمة جدا شاقة، ومع ذلك فسأقوم بها مع فهمي بأنني يفترض أن ألقى حتفي أثناء انجازها، ولكن المرء لا يستطيع حتى يلتقي بما هوأسوأ من الموت، وعليه فسأطيع القضاء الذي أوفدني إلى هذا المكان".

فأجاب الملك: "حسنا أيها الشاب، امضى الآن إلى رجالك وفكر مليا في الأمر، فإن أردت التنحي عن هذه المهمة، فاهجرها لي وارحل مع رفاقك عن بلادي".

نصيحة أرجوس ومساعدة ميديا للبحارة

نهض جاسون والبطلان اللذان رافقاه من مقاعدهم، ولم يتبعه سوى واحد فقط من أبناء فريكسوس وهوأرجوس.. وبينما كانت ميديا تعاني العذاب عندما تتصور ذلك المصير السيئ الذي ينتظر من استولى على فؤادها بهذه السرعة ودون سابق إنذار.

كان الأبطال في طريقهم إلى السفينة، وقد أخذ أرجوس يتحدث إلى جاسون بقوله: "رفيقي العزيز، لابد لي من إبداء النصيحة لك، إنني أعهد فتاة ذات خبرة واسعة ومهارة فائقة في صناعة السحر، وقد درست ذلك الفن عن هيكاتي ربة العالم السفلي، فلواستطعنا حتى نستميلها إلى جانبنا، فإني على يقين من أنك ستخرج من المعركة منتصرا، فإن وافقتني على هذا الرأي، مضىت إليها وحاولت الحصول على رضاها بما فيه مصلحتنا". فنطق جاسون: «لك حتى تمضى إذا شئت، فلا أمنعك من ذلك.. ولكن ما أشقى رحلتنا، لوكانت تعتمد على النساء!».

أخذ أرجوس يقنع جاسون بأن لا ضير عليهم إذا استخدموا طرقا غير طرق القوة ة والشجاعة، ووصلا إلى رفاقهما في السفينة، فقص عليهم جاسون ما عرضه الملك عليه، وكيف وعده بإنجاز تلك المهمة، فجلس الأصدقاء يتبادلون وجهات النظر، وأخيرا نهض بيليوس ونطق: "لوكنت تعتقد أنك قادر على إنجاز ما وعدت به، فأعد نفسك للأمر، أما إذا لم تكن واثقا جميع الثقة من النتيجة، فابتعد ولا تتسقط من هؤلاء الرجال حتى يساعدوك، فلن يدخر لهم غير الموت".

وقام أرجوس قائلا: "لا حاجة بنا إلى خوض طريق الأخطار، فإنني أعهد شخصا خبيرا بالسحر، إنها خالتي شقيقة والدتي، دعوني أمضى إلى أمي وأطلب إليها حتى تحدث شقيقتها على حتى تنضم إلينا حتىقد يكون النصر حليفنا، وإلا فلا فائدة من قيام جاسون بالمهمة التي وعد بإنجازها".

أفاريوس تسحر الحيوانات مع صوت القيثارة.

ما كاد أرجوس ينهي حديثه حتى منحتهم السماء علامة تبين لهم مآلهم، إذ أقبلت يمامة يقتفي أثرها صقر كاسر، فهبطت إلى حجر جاسون تحتمي به من مطاردها، على حين تراجع الطائر المفترس إلى الخلف وسقط على سطح السفينة قريبا من الدفة.. عندئذ تذكر أحد الأبطال النبوءة التي تنبأ بها فينيوس، من حتى أفروديتي يفترض أن تساعدهم في العودة إلى وطنهم، ومن ثم وافق الجميع أرجوس على اقتراحه ما عدا البطل إيداس بن أفاريوس. بعد رفض إيداس للفكرة وافقه كثير من الأبطال ولم يؤيدوا خطة أرجوس، ولكن بالرغم من ذلك عضد جاسون اقتراح أرجوس ومشورته، فربطوا السفينة إلى الشاطئ، وانتظروا عودة رسولهم.

مضى أرجوس إلى أمه، وأخذ يتوسل إليها، حتى تحث شقيقتها على حتى تقوم بمساعدة جاسون ضد كيد أييتيس، فامتلأ قلب خالكيوبي بالشفقة نحوالأغراب، ورحبت بمطلب ابنها بالتوسط لدى ميديا لمساعدة الأبطال.

كانت ميديا قد عزمت على حتى تمضى إلى جناح شقيقتها وتخبرها بما تشعر به تجاه جاسون لكنها أثناء ذهابها وهي واقفة في بهوالقصر، ترددت في حتى تصارح أختها بما تكتمه في صدرها، ورجعت إلى حجرتها مرة أخرى، أثناء ذلك رأتها إحدى خادماتها وهي على هذه الحالة المذرية، فمضىت إلى خالكيوبي وأبلغتها بما رأته من حال ميديا، فأسرعت خالكيوبي إلى غرفة شقيقتها، فوجدتها تضع كفيها على خديها، والدموع تنهمر من عينيها، فهالها حتى ترى أختها ميديا على هذه الحالة، وسألتها باهتمام: "ماذا وقع يا أختاه،يا ترى؟ أي حزن هذا الذي يعذب روحك جميع هذا العذاب،يا ترى؟ إنني لا أقوى على احتمال حتى أراك على تلك الصورة من الكآبة والحزن؟".

أحمر وجه ميديا عند سماعها أسئلة شقيقتها، وألجم الخجل لسانها فلزمت الصمت، وبعد عدة محاولات للكلام شجعها حبها حتى تتحدث وتروح عن نفسها، فنطقت في مكر ودهاء: "أي خالكيوبي، إذا قلبي لينفطر حزنا وألما على مصير أبنائك، إذا أخوف ما أخافه حتى يقتلهم أبونا عم والأبطال الغرباء، لقد أنبأني بهذا حلم أرقني، فأحزن فؤادي واكتأبت له نفسي.

وسقطت هذه الألفاظ على نفس خالكيوبي، مسقط السهام، وتملكها خوف وذعر، نطقت: "لقد أتيت من أجل هذا الأمر، فقد شغل بالي منذ حتى طلب أبي من جاسون حتى يضع النير على الثورين المتوحشين، وإني لأتوسل إلك يا ميديا حتى تمدي لنا يد المساعدة ضد أبينا الذي أصبح قلبه كالصخر.. وبعد حتى تفوهت بهذه الألفاظ، أمسكت بركبتي ميديا بيديها ودفنت رأسها في حجرها، تبكي وتنتحب، فاختلطت دموع الشقيقتين.

نهضت ميديا من فراشها، وجففت عينيها، ونطقت: "لمَ تتحدثين عن ربات القدر أيتها الأخت العزيزة،يا ترى؟ إنني أقسم لك بحق السماء والأرض، إنه يسعدني حتى أقوم بالمساعدة، غير مدخرة أي مجهود في سبيل إنقاذ أولادك، فإنه ليعز علي جدا حتى يصاب أبناؤك بسوء كما لوكانوا أبنائي

تماما غدا في الصباح الباكر، سأمضى إلى معبد هيكاتي، وهناك سأعد للغريب سحرا يروض له الثورين ويجعلهما أليفين طوع أمره".

فهجرت خالكيوبي حجرة أختها، وانطلقت إلى حجرتها حيث كان أبناؤها في انتظارها، تزف إليهم البشرى وتعدهم بمساعدة ميديا لهم في إنسان جاسون.

جاسون وميديا

تمثال ميديا.

أسرع أرجوس برسالته إلى السفينة ، وما كاد الفجر ينبثق نحيلا في صدر السماء، حتى قفزت ميديا من فراشها، فمشطت شعرها، وارتدت أجمل ثيابها، وتزينت بحليها وجواهرها.. وبينما كانت الخادمات يقمن بإعداد العربة، أخذت ميديا من صندوقها مرهما كانوا يطلقون عليه اسم "زيت بروميثيوس"، كان جميع من يدلك جسمه بهذا الزيت بعد تقديم الصلاة لربة العالم السفلي، لا تؤثر في جسمه السيوف طيلة ذلك اليوم، ولا تستطيع نار مهما بلغت شدة سعيرها حتى تحرقه أوحتى تجعله يشعر بأقل حرارة، كما أنه يؤتى من القوة ما تمكنه من هزيمة أي عدو.

أُعدت العربة وأحضرتها الخادمات، فأسرعت ميديا باعتلائها، ولما عبرت الحقل الفسيح، ووصلت إلى المعبد، قفزت في خفة من العربة، وبينما أخذن الفتيات يتفرقن في المعبد، أقبل أرجوس وصديقه جاسون.. وفي الوقت نفسه كانت ميديا تنتظر في المعبد مع خادماتها.

لم يمضي وقت طويل حتى أقبل جاسون ودخل المعبد ممشوقا جميلا، وأظلمت الدنيا أمام ناظريها، وإذا بالدماء الساخنة تصعد إلى خديها تجعلها كالورود الناضرة الجميلة، وعندئذ هجرتها خادماتها وانصرفن يتوارين في شتى أنحاء المعبد، فظل الفتى مع ابنة الملك مدة طالت دون حتى يشعرا وهما يقابلان بعضهما البعض في صمت وسكون.

كان جاسون هوالبادئ ببتر ذلك الصمت الطويل فسألها قائلا: "لمَ تخافينني وقد صرت الآن وحدي معك، لا تخجلي أوتترددي في حتى تبوحي بما يأمرك به قلبك، ولا تخدعيني بكلام معسول، فقد حضرت كمتضرع أطل التعويذة التي وعدت شقيقتك بأنك ستعطينني إياها".

هجرت ميديا جاسون يتم كلامه، ثم نظرت إليه نظرة تنم عما يكنه فؤادها من حب وغرام وتزاحمت الألفاظ عند شفتيها، ومن ثم اكتفت بإخراج الصندوق الصغير من طياته المعطرة، وقدمته إليه، ونطقت له: "انتبه إلي، فسأقول لك ماذا يجب عليك حتى تعمل، بعد حتى يعطيك أبي أسنان الأفعوان المخيف لتغرسها، استحم في مياه النهر، وارتدي ملابس سوداء، واحفر في الأرض حفرة مستديرة وألق بداخلها كومة من الحطب، ثم أذبح نعجة صغيرة السن، وأحرقها إلى حتى تصير رمادا. بغد ذلك قدم سكيبة من العسل لهيكاتي، ساكبا إياها من كأسك، ثم اهجر كومة النار، ولا تنظر خلفك مهما سمعت خطوات أوسقط أقدام أونباح كلاب وإلا ضاع مفعول الذبيحة كأن لم تكن، وفي الصباح التالي ادهن جسدك بهذا الزيت السحري فيهب لك قوة عظيمة وتشعر بأنك لست من البشر ولا تساويهم في قوتهم.

ويجب عليك كذلك حتى تدهن سيفك ودرعك، وعندئذ لا يستطيع أي لهيب تنفثه النيران السحرية حتى تؤذيك أوتقاوم هجماتك، وافهم حتى هذا المفعول لا يدوم إلا يوما واحدا، ولكني مع ذلك سأقدم لك معونة أخرى، فبعد حتى تضع النير فوق الثيران الضخمة، وتحرث الحقل وتبذر أسنان الأفعوان، وبعد حتى تخرج هذه البذور ثمارها، اقذف بحجر كبير وسط الرجال النابتين من الأرض، تجدهم يتقاتلون عليه كما تتقاتل الكلاب، وبينماقد يكونون منهمكين في عركهم، تستطيع حتى تهجم عليهم وتبيدهم عن آخرهم.. بعد ذلك تستطيع الحصول على الجرة المضىية وأن تأخذها معك بعيدا عن كولخيس دون حتى يقف في طريقك أي معترض، وأن ترحل إلى حيث تشاء".

في ذلك الوقت، كانت الخادمات ينتظرن سيدتهن، في صمت وقلق لأن ميعاد عودتها قد فات وطال عليه الأمد، وكادت هي نفسها تنسى الذهاب إلى بيتها من فرط سرورها، إلا حتى جاسون الذي كان أكثر منها حرصا، ذكرها بأن الوقت قد أزف، ومع ذلك فإنه لم يفكر في ذلك إلا متأخرا فنطق: "لقد حان ميعاد الافتراق، وألا غابت الشمس ومازلنا نحن هنا، وقد يفكر الآخرون في خطة ما، فلنلتق مرة أخرى فيما بعد في نفس هذا المكان".

جاسون ينفذ أوامر أييتيس

عاد جاسون إلى السفينة فتلقاه رفاقه متلهفين، وكأنه تبدوعلى وجهه سمات الغبطة والمرح.. وأخذ يشرح لزملائه كيف من الممكن أن أعطته ميديا الدهان السحري، ثم أخرجه لهم، فاجتاح الجميع موجة من السرور والجذل ما عدا إيداس الذي انتحى جانبا يطحن أسنانه من شدة الغيظ، لأنه كان تواقا إلى القتال واختبار قوته.

ولما أصبح الصباح في اليوم التالي، أوفدوا رجلين إلى الملك أييتيس ليتسلما منه أسنان الأفعوان، ولم يتردد أييتيس في إعطائهما الأسنان، لأنه كان يعتقد تمام الاعتقاد، حتى جاسون لن يتمكن بأي حال من الأحوال، حتى يخرج من القتال حيا.

مر النهار ومالت الشمس إلى المغيب، فاغتسل جاسون وقدم ذبيحة لهيكاتي كما أمرته ميديا.. وعاد جاسون إلى السفينة، وما هي إلا سويعات حتى تألق الفجر. ارتدى أييتيس درعه، ووضع على رأسه خوذته، وبالرغم من حتى أييتيس كان سيحضر الحفل كمتفرج ليس إلا، فقد أراد حتى يظهر في تام عدته الحربية كما لوكان هوشخصيا ذاهبا إلى القتال. أطاع جاسون تعليمات ميديا، فدهن حربته ودرعه وسيف بالزيت السحري.

جدف الأبطال حتى وصلوا بقائدهم إلى حقل أريس حيث وجدوا أييتيس وشعبه الكولخيين ينتظرونهم، فلما رست السفينة، قفز جاسون إلى الشاطئ حاملا رمحه ودرعه، عملق سيفه على كتفه وتقدم إلى الأمام، وما حتى ألقى نظرة إلى الحقل، حتى اكتشف سريعا النير موضوعا فوق التربة وإلى جانبه المحراث وسلاحه.. بعد ذلك تقدم إلى الأمام، باحثا عن آثار الثيران، ولكن سرعان ما هجم عليه فجأة وعلى حين غرة، ثوران أقبلا من الجانب الآخر، وكلاهما ينفث

النيران من أنفه، بيد حتى جاسون نفسه وقف بسقيه متباعدين يحمل درعه أمامه منتظرا هجومهما، فلما وصلا إليه مسددين قرونهما، لم تستطع هجمتهما حتى تزحزحه عن مكانه، هكذا زأر الثوران بصوت عالي جدا، وضاعفا من الهجمات، نافثين نيرانهما طول الوقت، لكن السحر حفظه من جميع سوء وأذى وجذبه إليه بكل ما أوتي من قوة حتى سحبه إلى حيث النير الحديدي، وهنا ضرب الأقدام البرنزية، وأجبر الثور على افتراش الأرض، وبنفس الطريقة أخضع الثور الآخر.. وهنا عثر أييتيس نفسه مرغما على الإعجاب بقوة البطل الخارقة، وعلى حسب خطة، سابقة قدم له كاستور وبولوديوكيس النير، فربطه إلى عنقي الثورين بيديه.

مضى جاسون بعد ذلك إلى حيث الخوذة التي بها أسنان الأفعوان وأمسك برمحه، واستطاع حتى يجبرهما على جر المحراث، فإذا بقوتهما الهائلة، تحدث بالأرض أخاديد عظيمة، ثم سار بخطوات ثابتة وأخذ يبذر الأرض المحروثة بالأسنان، وكان بين اللحظة والأخرى يتطلع إلى الوراء ليرى: هل قد نبت حصاد رجال التنين، وهل هم يلحقون به! مضى أكثر من نصف النهار وكان الحقل كله قد تم حرثه، فلما انتهى جاسون من الحرث، حمل النير عن رقبتي الثورين، ولوح لهما بأسلحته مهددا، فجريا مذعورين عائدين من حيث أتيا، وعندئذ عاد البطل نفسه إلى السفينة إذ حتى الأخاديد لم تكن قد دبت فيها الحياة بالحصاد بعد.

بعد ذلك امتلأ الحقل كله بالمحصول المطلوب، فإذا بحقل أريس كله يتلألأ بالدروع والرماح، عندئذ تذكر جاسون حيلة ميديا، فأمسك بصخرة ضخمة، وقذف بها بعيدا وسط المحاربين النابتين من الأرض.. تكالب المحاربون الذين نبتوا من حقل أريس على الصخرة، وأخذ جميع منهم يقتل زميله، ومن شدة ما أصابهم من الرماح، كانوا يتساقطون فوق الأرض، ولما بلغ القتال أشده، هجم جاسون وسطهم يضربهم جميعهم، حتى امتلأت الحلبة بالدماء وغطيت أرضها بجثث القتلى والجرحى، في جميع جانب.

رأى أييتيس نجاح جاسون الباهر، فغلى دمه من شدة الغيظ وتجهم وجهه وصار يزفر زفرات قوية كالبحر المضطرب، ولكنه لم يشأ حتى يظهر غيظه أمام شعبه، فكظم أييتيس غيظه الدفين، وهجر الشاطئ دون حتى يتفوه ببنت شفة، وعاد إلى المدينة وهولا يفكر إلا في طريق الخلاص من جاسون وفي إيذائه.

استغرقت هذه الأحداث النهار بأكمله، وأقبل الليل فخرج جاسون من ساحة القتال وقد انتصر على الثورين وجيش المحاربين فوزا مبينا، لم تشهد البلاد له مثيلا، ثم خلع درعه وعاد إلى السفينة، وقد عم الفرح والسرور جميع الطرقات واختلطت هتافات البحارة بهتافات الكولخيين.

ميديا تأخذ الجرة المضىية

كان أييتيس على يقين تام من حتى جميع ما وقع في ذلك اليوم لم يكن في استطاعة أحد القيام به دون مساعدة ابنتيه، ورأت هيرا ملكة الأرباب، الخطر المحاط بجاسون، فملأت قلب ميديا بالهواجس والشكوك، وفي الحال أحست حتى أباها قد اكتشف الحقيقة، فاحترقت الدموع تحت جفون ميديا، وضاقت الدنيا في وجهها بما رحبت.. استردد ميديا سيطرتها على أعصابها،

وصممت على الهرب.. غمرت ميديا فراشها وأبواب مقصورتها بالقبلات، ثم لمست حوائط حجرتها لآخر مرة، وقصت خصلة من شعرها ووضعتها فوق فراشها، لكي يتذكرها أبوها وأمها، وفرت ميديا من بيتها العزيز.. لم يلاحظ الحراس ميديا وهي تتسلل في ظلام الليل وسرعان ما اجتازت حدود المدينة وبلغت معبدا قريبا من طريق غير معروف، ومضىت ميديا تسعى في طريقها ثم عرجت إلى الشاطئ حيث ساعدتها النار العظيمة التي أشعلها بحارة الأرجو، فلما بلغت الشاطئ وأصبحت في لقاءة السفينة، نادت فرونتيس ابن صغرى شقيقاتها، فإذا هووجاسون يتعهدان على صوتها ويجيبان.. بدت الدهشة على وجوه الأبطال عندما سمعوا صوتها، ولكنهم سرعان ما جدفوا للقائها والترحيب بها، وقبل حتى ترسوالسفينة، قفز جاسون، وتبعه فرونتيس وأرجوس.

وما حتى أبصرت الفتاة حبيبها وابني أختها يهرعون إليها، حتى ركعت أمامهم وأمسكت بركبهم وهي تصيح: "أنقذوني، أنقذوا أنفسكم! أنقذوني من أبي وانتقامه! لقد أفشى سر جميع ما عملت من أجلكم، ولا سبيل إلى عمل شئ أوالصمود أمام غضبه، هيا بنا بهرب بالسفينة قبل حتى يستطيع اعتلاء ظهر جواده السريع.. سأحصل لكم على الجرة المضىية التي قدمتم من أجلها متحملين الأخطار والمتاعب، بأن أتلوتعويذة تجعل الأفعوان الضخم الذي يحرسها يغط في نوم عميق، وأنت أيها الحبيب، أقسم لي بآلهتك وفي حضرة أصدقائك، أنك لن تنال من كرامتي عندما أصير غريبة وحيدة في بلادك".

نطقت هذا والدموع تنهمر من عينيها، ولكن جاسون ربت على ظهرها بلين ورفق، وحملها واحتضنها قائلا: "أي حبيبتي! ليشهد علي زيوس وهيرا حليفة الزواج، بأنني يفترض أن آخذك إلى بيتي كزوجتي الشرعية بمجرد عودتنا إلى بلاد الإغريق، وسوف تكونين معززة مكرمة".

أمرت ميديا المجدفين الأبطال حتى يسرعوا بالتجديف بشدة حتى يبلغوا الحقل المقدس ويأخذوا الجرة المضىية، فانطلقت السفينة، فوصلت قبل طلوع الفجر، فهجرها جاسون ومعه ميديا، فمشيا بسرعة إلى حتى أبصرا شجرة البلوط التي علقت على قمتها الجرة المضىية، تتلألأ وسط الليل، وكان يجلس قبالتها أفعوان هائل لا يغمض له جفن، حاد البصر.

مد الأفعوان عنقه الطويل صوب القادمين، ثم وثب من مكانه مندفعا نحوالقادمين بسرعة كبيرة، بيد حتى ذلك لم يخف الفتاة، فسارت إليه في خطوات سريعة وبجرأة نادرة، منشدة صلاة جميلة اللحن بصوتها العذب، لرب النوم حتى يسلط على ذلك الأفعوان نوما يشل حركته ويغمض عينيه، فتبعها جاسون يقتفي خطواتها، وقد بدأ الخوف يتطرق إلى نفسه، ولكن التنين كان يغالبه النعاس ، حتى كومه حيث هو، فاقد الحركة والوعي، وراح يغط في سبات عميق ملء جفونه.

وبأمر من ميديا، التقط جاسون الجرة المضىية من فوق شجرة البلوط، ثم أسرعا راجعين أدراجهما وسط الحقل الكثيف يحملان الجرة المضىية، ينبعث منها بريق ينعكس على شعر جاسون الأشقر.

حمل جاسون الكنز المتألق فوق كتفه اليسرى، ووصلا إلى السفينة وقد بدأ الصباح يتنفس، ألتف البحارة حول قائدهم وأبدوا إعجابهم بالجرة ، واجتاحت كلا منهم رغبة ملحة في حتى يلمس الجرة بيديه، ولكن جاسون لم يسمح لهم بذلك وكان بخفيها تحت عباءته.

جلست ميديا عند دفة السفينة، ووقف جاسون يقول لزملائه: "والآن يا أصدقائي الأعزاء، هيا بنا نسرع بالرحيل إلى وطننا قبل حتى يطاردنا الملك الظالم عندما يكتشف أننا حصلنا على ما كنا نهدف إليه بمساعدة ابنته التي لا يمكننا حتى نمجد فضلها في إنجاز مهمتنا وإنقاذ بلاد الإغريق وأبطالها، كما أنه لا يمكنا حتى نوفيها حقها من التقدير وعهدان الجميل، وفي لقاء ذلك سأتخذها زوجة شرعية لي واصحبها إلى بيتي لتكون سيدته".

نطق جاسون هذا، ثم بتر بسيفه الحبال التي تربط السفينة بالشاطئ، وارتدى تام عدته الحربية متسلحا بالرمح والسيف واحتل مكانه على ظهر السفينة بالقرب من ميديا، وما هي إلا برهة حتى ضربت المجاديف السريعة الأمواج، فانزلقت السفينة إلى مصب النهر.

فرار البحارة مع ميديا وعودتهم إلى الوطن

فرار البحارة مع ميديا وعودتهم إلى الوطن.

لقد فهم أييتيس هووجميع الكولخيين بسيرة غرام ميديا مع جاسون كاملة، كما فهموا بما قامت به من مساعدة مكنته من الفوز في اليوم السابق، ثم بما هوأمر وأدهى، بهروبها مع الغريب بعد سرقة الجرة المضىية، فجن جنون الملك، واجتمع برؤساء قومه في السوق العامة وأمر بتسلح جميع الفرسان، وساروا جميعا بعد ذلك إلى شاطئ البحر، يتوسطهم أييتيس، وقد ركب إلى جانبه ابنه أبسورتوس، ممسكا بأعنة الخيول.

وما حتى وصل القوم إلى مصب النهر، حتى كانت السفينة قد بلغت البحر الفسيح، فسقطت الشعلة والدرع من أصابع الملك، ثم أنذر رعاياه بأنهم إذا لم يلحقوا بابنته في البحر ويحضروها إليه صاغرة لكي يشفي غليله بالانتقام منها، فإنه يفترض أن يبتر رءوسهم أجمعين.

خاف الكولخيون تهديد ملكهم ووعيده، فجمعوا عددا كبيرا من السفن على وجه السرعة، وأقلعوا ليلحقوا بسفينة الأرجو، وكان أسطولهم هذا تحت قيادة أبسورتوس بن أييتيس.. أما سفينة الأرجوفقد واتتها الرياح فملأت أشرعتها ودفعتها بقوة حتى وصلوا إلى مصب نهر استير، الذي يصب مياهه العذبة في البحر الأيوني، رغم ذلك لم يكف الكولخيون عن المطاردة، ولما كانت سفنهم خفيفة تستطيع الإبحار بسرعة تزيد على سرعة الأرجوفقد وصلوا إلى مصب نهر استير قبل بحارة الأرجو، وتفرقوا بين الخلجان والجزر المتنوعة ينتظرون قدوم الأبطال حتى يباغتوهم، ويسدوا عليهم طريق العبور إلى البحر.

أبصر بحارة الأرجوسفن الأعداء، وتولتهم الدهشة، فأرسوا الأرجوعلى شاطئ إحدى الجزر واحتلوها، فتبعهم الكولخيون، وبدا وكأن معركة توشك حتى تنشب بين الفريقين، وبدأ الأغارقة في المفاوضة، وأخيرا اتفق الطرفان حتى يحمل بحارة الأرجوالجرة المضىية، أما عن ميديا ابنة الملك أييتيس فكان لابد من هجرها على جزيرة أخرى في معبد الربة أرتميس، حتى يقرر أحد الملوك المجاورين المشهور بعدالته، هل عليها حتى تعود إلى أبيها أوترافق الأبطال إلى بلاد الإغريق.

عندئذ قدمت ميديا نصيحتها إلى جاسون بإتباع خطة، فنطقت: "لقد وقع ذات يوم أنني تخليت عن واجباتي، وأقدمت على عمل شرير، كانت نتيجته أنني لا أستطيع العودة، إذن فلابد من الاستمرار في إجرامي مهما كلفني، ومن ثم فسألاطف أخي حتى يضع نفسه بين يديك.. أعد له

وليمة فاخرة، ولسوف أحاول إغراء الحراس بأن يهجروه وحده معي، وعندئذ تستطيع حتى تقتله، فيصبح الكولخيون بدون قائد، فيمكن القضاء عليهم في سهولة ويسر".

هكذا وضع الحبيبان خطة الفتك بأبسورتوس، فأوفدا إليه الهدايا الكثيرة، وبعد حتى أفلحت ميديا في خداع رسل السلام، ركب أبسورتوس سفينة، مخدوعا بوعود شقيقته، وتوجه إلى الجزيرة المقدسة، ولما التقى بميديا، حاول بمفرده حتى يسبر غور مكنونات صدرها، وبينما كان الشقيقان منهمكين في الحديث، خرج جاسون من كمين أعد له من قبل، وهجم على أبسورتوس بسيفه، فأطاح رأسه عن جسده، وكانت ميديا قد خبأت عينيها بخمارها حتى لا ترى أخاها وهويُقتَل.. فتلطخ رداء ميديا بدم أخيها، ولكن ربات الانتقام اللواتي لا تخفي عليهن خافية، كن لها بالمرصاد، فتطلعن من مسكنهن السري، بعيون ملؤها الغضب، وشاهد ما جرى من عمل فظيع في ذلك المكان المنعزل.. نظف جاسون نفسه من دماء أبسورتوس، ودفن الجثة وغطاها بالتراب، ثم أعطت ميديا إشارة بواسطة الشعلة إلى بحارة الأرجوتبعا لخطة موضوعة، فاتى هؤلاء بسفينتهم إلى جوار المركب الذي جاء فيه أبسورتوس إلى تلك الجزيرة، فانقضوا على أعوانه، فأبادوهم على بكرة أبيهم، ولم ينج منهم رجل واحد، وعندما أقبل جاسون لمساعدة رفاقه لم تكن هناك حاجة إليه، فقد انتهت المعركة وبان مصيرها.

استمر بحارة الأرجوفي طريقهم مارين بسواحل عدة وجزر كثيرة، لاقوا فيها من المتاعب والأهوال والمخاطر، ما كانوا لينجوا منها لولا مساعدة الربة هيرا وعنايتها لهم، فأبحروا آمنين إلى حتى بلغوا ساحل كارباثوس بالصخري، ومن هناك قرروا الذهاب إلى جزيرة كريت الجميلة.. وما كادوا يهجرون جزيرة كريت، حتى قابلتهم مغامرة جديدة خطرة، فقد وجدوا أنفسهم وسط ظلام دامس يخيم على الكون، لا أثر فيه للقمر، ولا يتلألأ فيه نجم واحد فيبعث ولوضوءا خافيا ينير الطريق أمامهم، بل كان الفضاء حالكا كما لوكانت جميع ظلمة الدنيا هجرزت في ذلك المكان.

لم يعهد الأبطال: هل كانوا يسيرون على صفحة الماء في البحر، أوجرفتهم تيارات تارتاروس في خضمها المتلاطم، فحمل جاسون يديه وتوسل إلى أبوللوحتى يخلصهم من ذلك الظلام المقيت، وكانت دموع الفزع تنزل على خديه، وقدم نذره إلى الرب ذبائح لا تقدر بثمن، فاستجاب رب الشمس لنادىئه، وهبط من الأوليمبوس، فأمسك بقوسه المضىية وصوب سهامه فوق المنطقة، فأضاءت السماء، واستطاع البحارة بمساعدة ذلك الضوء المفاجئ، حتى يروا جزيرة صغيرة، فجدفوا صوبها حيث ألقوا مراسيهم وانتظروا هناك حتى مطلع الفجر..

كانت هذه هي آخر مغامرة للأبطال الأغارقة بحارة الأرجو، وسرعان ما وصلوا إلى جزيرة أيجينا، ومنا هناك جدفوا صوب وطنهم، وساروا بسفينتهم داخل ميناء أيولكوس، وفي مضيق كورنثة، كرس جاسون السفينة لبوسايدون، فلما تحولت إلى رماد، وضعتها الآلهة في السماء فراحت تتلألأ في القبة الجنوبية كأنها نجم متألق.

نهاية جاسون

وصل جاسون إلى وطنه يحمل الجرة المضىية بعد حتى لاقى الأهوال والأخطار، ولكنه لم يتمكن من اعتلاء عرش أيولكوس، الذي من أجله قام هووأشهر أبطال الإغريق بهذه الرحلة الشاقة المليئة بالمغامرات الخطيرة، ولما كان قد أخذ ميديا من أبيها، وقتل أخاها أبسورتوس بالخداع، فقد اضطر إلى هجر العرش لأكاستوس بن بيلياس، والفرار مع زوجته الشابة الفاتنة إلى كورنثة، حيث عاشا في سعادة ما بعدها سعادة عشر سنوات، أنجبا خلالها ثلاثة أبناء أكبرهم توءمان سمياهما ثيسالوس وألكيمينيس ، والثالث تيساندر.

لكن بعد هذه المدة عصف الدهر بسعادتهما وألقى بحبهما في مم الريح، فقد سقط جاسون في حبائل غرام فتاة جميلة صغيرة تدعى جلاوكي ابنة كريون ملك كورنثة، إذ كانت فتاة خارجة الأنوثة، بارعة الجمال، وفوق ذلك كله كانت فتاة لعوب، رنت إليه بلحظها فسقط في الشرك، وصار يتردد عليها خلسة دون فهم زوجته، وسرعان ما فهم والد الفتاة بأمرهما، فوافق على زقابلما وحدد يوما للزفاف.. عند ذلك فقط أبلغ جاسون زوجته وطلب منها حتى توافق على زقابل بجلاوكي.. استقبلت ميديا رغبة جاسون بحقد ثائر، وبغضب هائل، ولكن جاسون تجاهل ثورتها وصمم على المضي فيما هومقدم عليه.

مضى الملك كريون إلى ميديا، وهي ثائرة تحوم في حجرات القصر وساحاته، ونطق لها: "أنت يا ذات العيون الخابية، يا من تصبين جُل غضبك على زوجك، إنني آمرك حتى تأخذي أولادك وتغادري بلادي فورا في هذه اللحظة، فلن أعود إلى قصري إلا بعد حتى أكون قد أقصيتك خارج حدود بلادي".

استدعت ميديا جاسون- بعد حتى أعملت خطة محكمة للتخلص من جلاوكي وأبيها- وتظاهرت بشيء من الرقة واللطف وبحلوالكلام قائلة: "أي جاسون، لقد قدمنا إلى هذه البلاد لاجئين معدمين، وبزواجك الجديد هذا، تتسقط حتى تسد حاجة نفسك وحاجة أولادك، وحتى حاجتي أنا، وعندما نبتعد عنك فترة وجيزة، ستتذكر أبناءك، وترسل تستدعيهم ليشاركوك الثروة، تعالوا يا أبنائي وتناسوا شكواكم من أبيكم كما عملت أنا".

انطلى البهتان على جاسون، وصدق أنها خلعت من فؤادها جميع حقد وضغينة، فسر سرورا عظيما، وبالغ في الوعود لها ولأطفالها ثم رحلت ميديا لتزيد في إقناعه بإخلاصها، ولكي تحظى بحب جلاوكي وأبيها، أخرجت ثيابا ثمينة موشاة بالمضى، وقدمتها لجاسون كي يأخذها هدية لعروسه، فتردد جاسون في بادئ الأمر، ولكنه قبل بالأخير.

كانت هذه الثياب الجميلة مصنوعة من منسوج نقع في السم، وعندما ودعت ميديا زوجها، ظلت تنتظر قلقة عودة الرسول الذي حمل الملابس، ليخبرها كيف من الممكن أن استقبلت هداياها.. وأخيرا أقبل وناداها قائلا: " أسرعي يا ميديا، واركبي سفينتك وانجي بحياتك وحياة أولادك، فقد ماتت غريمتك هي وأبوها، وقد وقع عندما ولج أبناؤك القصر إلى جانب أبيهم، حتى هللنا بانتهاء الصراع، وتلقت الأميرة زوجك بابتسامة، ووجه يتهلل بهجة وسرور، ثم قدم جاسون إليها الهدايا، فملأ منظر الثياب الجميلة قلبها فرح وسرور، فلما هجرها زوجك وأولاده، وضعت

الوشاح المضىي على كتفيها، وتوجت رأسها بإكليل المضى، ثم جعلت تمشي بعد ذلك في ساحات القصر فخورة بتلك الثياب، غير أنه سرعان ما تغيرت ملامحها وامتقع لونها، وارتعشت أطرافها، وقبل حتى تستطيع الوصول إلى مقعد، سقطت على الأرض بلا حراك، وغارت عيناها، ودوى القصر بالصراخ والعويل، فأسرع بعض الخدم إلى الملك ينبئونه، كما هرع البعض الآخر إلى زوجها يخبرونه، وفي نفس الوقت اشتعل إكليل النار السحري حول رأسها، وراح السم والنيران يتصارعان على لحمها، وكان أبوها قد جاء فارتمى عليها ليخلصها مما هي فيه، ولكنه لم يجد إلا جثة مشوهة، وفي نوبة من اليأس ألقى بنفسه فوقها، فأعمل فيه السم مفعوله، فتردى حيث هو.. أما جاسون فلست افهم عنه شيئا".

كان يجب حتى يخف حدة حقد ميديا عند سماع تلك الأنباء، ولكنها على العكس تماما زادتها حقدا، وأشعلت نيران الكره في قلبها، فخرجت لتصوب الضربة القاضية إلى زوجها وإلى نفسها.

كان الليل قد أقبل، فأسرعت إلى حجرتها حيث كان أولادها نائمين، وتمتمت قائلة: "تجلد يا قلبي، لمَ ترتجف من عمل الشر الذي لا بد منه،يا ترى؟ امح من مخيلتك حتى هؤلاء أولادك الذين حملتهم، انس ذلك لمدة ساعة فقط، وبعد ذلك فلتبك عليهم أبد الدهر.. إنك تقدم لهم خدمة جليلة، فبيدي لا بيد أعدائي".

أسرع جاسون إلى بيته يطلب قاتلة عروسه لينتقم منها، فسمع صيحات أبنائه، فجرى مسرعا إلى حجرتهم ليجدهم غارقين قي دمائهم وقد ذبحوا كما تذبح القرابين للآلهة، ولم ير ميديا في أي مكان.. غير أنه عندما هجر بيته، سمع صوتا مقبلا من فوق، فحمل بصره فإذا هويراها في عربة يجرها تنين ضخم، استطاعت بفنها السحري حتى تحصل عليها، فركبت الريح بعيدا عن مسرح انتقامها. لقد نجت ميديا من انتقام زوجها، الذي امتلأ قلبه باليأس وتذكر كيف من الممكن أن اغتال أبسورتوس، فاستل سيفه، وقتل نفسه على عتبة داره.

مصادر

  1. "جاسون وبحاروالأرجووالصوف المضىي" (باللغة الإنجليزية). campfiregraphicnovels. مؤرشف من الأصل في 28 سبتمبر 2018. اطلع عليه بتاريخ أربعة أغسطس، 2013.
  2. ^ Apollonius Rhodius, Argonautica, 1. 23 - 228

مراجع

  • Apollonius Rhodius, Argonautica I, 23–227
  • Pseudo-Apollodorus, Bibliotheca (Pseudo-Apollodorus) I, ix, 16.
  • Ken Inglis, This is the ABC: The Australian Broadcasting Commission 1932–1983, 2006

وصلات خارجية

  • معلومات وصور
  • تعريف "أرغوناوت".
تاريخ النشر: 2020-06-02 05:28:55
التصنيفات: بحارو الأرجو, شخصيات أسطورية إغريقية, صفحات بأخطاء في المراجع, صفحات بها مراجع بالإنجليزية (en), مقالات تحتوي نصا بالإنجليزية, صفحات بها وصلات إنترويكي, وصلات إنترويكي بحاجة لمراجعة, صفحات تستخدم خاصية P244, بوابة علم الأساطير/مقالات متعلقة, بوابة ملاحة/مقالات متعلقة, جميع المقالات التي تستخدم شريط بوابات, قالب تصنيف كومنز بوصلة كما في ويكي بيانات

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

جانتس: نتنياهو مسؤول عن المشادة الكلامية بين الوزراء الإسرائ

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:23:10
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

قيمة صفقة انتقال وسام أبو علي إلى الأهلي بالأرقام

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:24
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 35%

محمد صلاح يهدى قميص منتخب مصر للرئيس السيسى.. صورة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:29
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 35%

الرئيس السيسى: تطوير 70 % من 4500 مركز شباب فى كافة أنحاء البلاد

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:08
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 49%

الصحة” توافق على تشغيل مستوصف الطابية الطبي في الإسكندرية”

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:21:35
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 70%

الصحة فى غزة: 12 مجزرة إسرائيلية خلال 24 ساعة أدت لاستشهاد 122 فلسطينيا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:33
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 42%

الصحة” توافق على تشغيل مستوصف الطابية الطبي في الإسكندرية”

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:21:32
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 55%

الحرب والطقس يدفعان شركات الشحن البحري للتأهب في 2024

المصدر: صحيفة الإقتصادية - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:23:10
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 44%

الأمم المتحدة: غزة أصبحت مكانا للموت والعالم يراقب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:23:03
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 52%

الحكومة بغزة: الاحتلال نبش 1,100 قبر بغزة وسرق منها 150 جثما

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:47
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 69%

البنتاجون يعلن نقل وزير الدفاع الأمريكي للمستشفى

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:38
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 56%

انفجار نافذة طائرة ركاب يجبرها على الهبوط اضطراريا في أمريكا

المصدر: صحيفة الإقتصادية - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:23:06
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 37%

استقرار حالة الطقس في الإسكندرية مع فرص ضعيفة لسقوط الأمطار

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:21:29
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 67%

شاهد أجمل أهداف وسام أبو على صفقة الأهلي المنتظرة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:10
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 50%

"المقاومة الإسلامية في العراق" تواصل قصف قواعد للجيش الأمريك

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-06 12:22:55
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

تحميل تطبيق المنصة العربية