بوابة:تاريخ الشرق الأوسط

عودة للموسوعة

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط

الثقافة الأعلام والتراجم الجغرافيا التاريخ الرياضيات العلوم المجتمع التقنيات الفلسفة الأديان فهرس البوابات


  بوابة تاريخ الشرق الأوسط

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/مقدمة

 منطقة مختارة

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/منطقة مختارة

 صورة مختارة

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/صورة مختارة

 فهماء

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/فهماء

 هل تفهم...

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/هل تفهم

 فروع تاريخ الشرق الأوسط
لمسقط HPG

تنفذ من قبل قوات الدفاع الشعبي الكردستاني HPG عبد الله أوجلان / الدفاع عن شعب الدفاع عن شعب عبد الله أوجلان

الفصل الأول 




  الهروب من الحقيقة الاجتماعية أصعب مما يُظَن، وخاصة فيما يتعلق بمجتمع النَّسَب الذي ينتمي إليه الفرد. إذا الولوج في فترة السباق الاجتماعي مع الأم منذ حوالي السن السابعة، إنما يستمر على هذا المنوال حتى سن السبعين، على حد التعبير الشعبي. فقد أُثبِت فهمياً حتى الأم هي القوة الأساسية للمجتمعية. ويكمن جرمي الأول بالنسبة لشخصيتي في تشكيكي بحق الأم هذا، واتخاذي قراري بمجتمعيتي بمفردي في سن مبكرة. وتُعَد جرأتي على العيش لوحدي بلا أم أوسيد موضوعَ درس وتدقيق بحد ذاته ضمن المجتمع الإنساني، الذي ما سوى إبداع خاص للغاية على كوكبنا الذي عَمَّر عشرين مليار سنة – على أقل تقدير – حسب الحقائق الفهمية المثبتة مؤخراً. ولوأنني أخذت تنبيهات أمي الكبرى لي ومحاولاتها في خنقي على محمل الجد، لربما ما انفتحَت طريق التراجيديات التي عشتُها. لكن أمي لم تكن سوى رمزاً للبقايا الأخيرة الخائرة القوى لهيبة الربة المعمِّرة آلافاً من السنين، والموشكة على الانقراض. ورغم صغر سني، إلا إنني لم أتردد في الشعور بأني حر حينما لا أهاب هذا الرمز، بقدر عدم شعوري بالحاجة إلى حبها. ولكني لم أنسَ، ولوللحظة واحدة، حتى الشرط الوحيد لحياتي يمر من شرفها وكرامتها وصوني إياها. كان عليّ حتى أصون كرامتها، ولكن على النحوالذي أرتأيه. وبعد هذا الدرس الذي استخلصتُه لذاتي، كانت أمي معدومة بالنسبة لي. وبينما مُحِيَتْ حيثيات الربة تلك من محور اهتماماتي، لم أرَ داعياً قط لمحاسبة أحاسيسها تجاهي. لقد كان فراقاً مجحفاً، ولكن تلك هي الحقيقة. وأضحيتُ أستذكر أقوالها – بل هل أقول تنبؤاتها أم لعناتها عليَّ – دوماً في أحلك اللحظات المأساوية. إنها الحقائق التي يعجز حتى أمهر الحكماء عن تحديدها. لقد كان مفاد إحدى أعظم حقائقها هو: "إنك شديد الثقة بأصدقائك، ولكنك ستبقى وحيداً". أما قناعتي أنا، فكانت تتجسد في أنني سأقيم المجتمعية وأكوِّنها مع أصدقائي. هكذا تبدأ سيرة حياتي. لم تكن أمي تملك مجتمعاً تمنحني إياه – حتى وإن رغبتْ في ذلك – لأن مجتمعها كان قد تشتت منذ زمن غابر. وما شاءت عمله، كان منحي حفنة من حياة، لم تقدر – حتى هي – على امتلاكها. وحكاية الأب مشابهة، وإن كانت بشكل مختلف. منذ حتى فتحتُ عيني على النور نظرتُ إلى عائلتي على أنها تفرض ذاتها على أساس حيثيات قوة الكلان، وأنها خائرة القوى، مفككة، وليست سوى ميراثاً سقيماً وبسيطاً متبقياً من الأجداد. أما مجتمع القرية ومجتمع الدولة المبتدئ رسمياً بالدراسة الابتدائية، فلم أستسغْهما، ولم أفهم منهما شيئاً يُذكر. فظاهرياً كنتُ قد صعدت إلى السنة الأخيرة في دراستي في كلية العلوم السياسية – الأقدم والأشهر في هجريا – بتفوق بارز، لكن النتيجة كانت إلحاق الضربة القاضية بمهارات التفهم. أما المدرسة الثورية التي اخترتُها فيما بعد، فكانت مسنناً في طاحونة أكثر سحقاً للحياة. ولوأنني كنتُ اتَّبعتُ هوسي للذهاب إلى الجبال منذ البداية، لربما مزَّقتُ هذه التراجيديا. إلا حتى مخاوفي من أجل إنقاذ رفاقي وتنشئتهم وإعدادهم لم تهجر مجالاً لسلوكٍ كهذا. وعندما ارتميتُ أمام باب أوروبا الشرقية والغربية، باعتبارها الممثل الأخير لحضارتنا، كان مقدراً عليّ حتى أرى نفسي مجرداً من جميع شيء في أوساط رأس المال وحسابات الربح الجليدية. لم يعد ثمة أية قوة تسيِّرني في هذه النقطة، ولا حتى عاصفة أنجر وراءها. بل ولم يعد يهمني ذلك أصلاً. وفي هذه الأثناء أضرَمَ بعض رفاقي النار بأبدانهم لتأكلهم ألسنتها. وكان الكثير من الشباب والشابات اليافعين الأباسل مستعدين للتضحية بكل ما يملكون. لا يمكن إنكار ذلك أبداً، فقد أبدوا أسمى آيات المقاومة, وأعظم أشكال الارتباط الذي لا يصدَّق. إلا إذا جميع ذلك لم يسفر سوى عن تعزيز وحدتي وتجذيرها. عندما أمسكتْ بي القوى السيدة على كافة القارات بوحدة متراصة كقبضة اليد، وأوفدتني معتقلاً إلى إمرالي بالمؤامرة المحاكة وفق حساباتها ومزاعمها؛ كان أول ما خطر ببالي حينها هوالملحمة اليونانية التي تتحدث عن إله اليونان زيوس، الذي ربط نصف الإله بروماتوس إلى الصخر في جبال القفقاس، وصار يُطعِم كبده للنسور ويجدده جميع يوم. إنه بروماتوس الذي سرق النار والحرية من الآلهة لأجل الإنسانية! وكأن هذه الملحمة تتحول إلى حقيقة تتجسد في شخصيتي. قد يخطر بالبال تساؤل عن العلاقة الموجودة بين سيرة الحياة الموجزة هذه، وبين المرافعة المقدمة إلى الهيئة العامة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية. وأنا أود تسليط الضوء على هذه العلاقة عبر مرافعتي هذه. وبهذه الوسيلة، سيكون من أبرز أهدافي هوإثبات حتى العلاقة بين رأس المال والربح أشد ظُلماً من أظلم الحكام الأرباب، وأفتك سحراً من أفتك الساحرين المشعوذين. إذ لم تُسفَك الدماء، ولم يَسُدْ الظلم والإجحاف في قرن ما، بقدر ما كان عليه في القرن العشرين. وأنا كنت وليد هذا القرن، وكان لا بد لي من فك رموزه. إلا إذا صياغة التحليلات الواضحة والمفهومة بحق هذه الحقيقة هوأمر عصيب، ضمن هذه الضبابية التي خلقتها الحضارة الغربية بثقل أيديولوجيتها الساحق. كما حتى التخلص من قيود الساحر وشباكه ليس بالأمر السهل. ستُلحَق الخسائر الفادحة بالظاهرة المسماة بالأتراك في اللعبة الأخيرة، ولربما تتبقى رواسب إنسانية لا يطاق العيش فيها. إذن، والحال هذه، من المهم بمكان أخذ الهيئة العامة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية على محمل الجد، وتقديم مرافعة كهذه إليها؛ ما دامت هي سلطة قضائية بحق. يتخبط الشرق الأوسط في القرنين الأخيرين ضمن عجلة مراقبة الحضارة الأوروبية له. وما يشهده يومنا ليس سوى الفوضى والتراجيديات المأساوية اليومية، بكل ما للحدثة من معنى. فالأسياد كانوا هم القضاة على الدوام، وقراراتهم كانت أحادية الجانب باستمرار. ويبدوالقانون في أيديهم وكأنه آلية تقيس الحقوق في ميزان العدالة وتُوَزِّعُها. بيد حتى ما يوزَّع حقاً، ليس سوى القيم المسلوبة، والعقاب لقاء الربح. شكلت الحضارةُ الأوروبيةُ الاتحادَ الأوروبيَّ، وأسست سلطته القضائية المتمثلة في معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، تجاه الإجحاف والحروب السائدة في القرن العشرين الظالم، الذي ليس سوى أثراً من آثار تلك الحضارة. وإذا كانت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية لا تود البقاء شكلية، فمن الضروري حتى تحدد على نحوسليم ما يراد محاكمته حقاً في شخصيتي. ويجب الفهم منذ البداية حتى اللطف المرسوم بحدود الحقوق الفردية الضيقة، لا يمكن حتىقد يكون لقاءاً لعزلة ثقيلة الوطأة، وصلتْ عامها السابع منذ الآن. فتَوَجُّهٌٌ كهذا سيكون عقاباً حقيقياً لذاتي وللشعب الذي أمثله على السواء. سأحاكم هذا العقاب في مرافعتي هذه. من الساطع أنني أبدي سلوكاً بعيداً جميع البعد عن القوانين الرسمية السارية، وعن منطق الدفاع التقليدي. وهذا أمر لا بد منه لتسليط الضوء – بأقل تقدير – على مآسي الشعوب المسحوقة تحت وطأة أوروبا، وليكون ذلك جواباً لكل ما يعاش، ومساهمة في إيجاد ولونبذة من الحلول لها. وسيكون سد الطريق أمام مآسي جديدة محتملة، أمراً مرتبطاً بشكل خاص بقوة المرافعة وكيفية الرد عليها. لهذا الغرض، شعرتُ بالحاجة لتناول ظواهر التاريخ الاجتماعي والشرق الأوسط والكرد. إذ تتبدى مدى عظمة وأهمية الإتيان بتفسير وشرح حديث معتمد على تقديم النقد الذاتي ومستنبط العبر اللازمة من التاريخ القريب لحركة PKK، باعتبارها عاملاً حديثاً يتوجب النظر فيه بجدية؛ ولحل القضية الكردية الذي – إذا حصل – سيمهد الطريق لتأثيرات متعاقبة في منطقة الشرق الأوسط. لقد وُضِعت لَبَنات تراجيديا الصراع العربي – الإسرائيلي بمظهرها الحديث مع اتفاقية سايكس بيكوفي عام 1916، والتي يمكن اعتبارها "مشروع الشرق الأوسط" الخاص بذاك الوقت. حيث تبدووكأنها لا تستهدف أياً من المستجدات المريعة الحاصلة بالتوجه نحوحاضرنا. وكذلك اعتُبِرت الكيانات السياسية المؤسَّسة حينها بأنها أدوات حل. أما ما حصل حقاً، فكان إضفاء صبغة "حديثة" على تنطقيد المجتمع الدولتي السلطوي في الشرق الأوسط؛ بحيث باتت تلك الصبغة تزول في يومنا الراهن وتتساقط إرباً إرباً، لتكشف النقاب عن قوة التنطقيد العشائرية والإثنية المعمِّرة منذ خمس آلاف سنة على الأقل، وعن حيثيات تنطقيد الدولة السلطوية الجوفاء الخائرة القوى. وبزوال هذه الصبغة (القناع) لم يبقَ ثمة فرق أوجانب مختلف يميز اليمينيين أواليساريين، القوميين المتطرفين أوالإسلاميين، والمدَّعين بأنهم مثقفين أومتنورين أوساسة، عن هذه الحقيقة الاجتماعية والسياسية القائمة. أما الشرق الأوسط، فكان نصيبه من الأزمة العامة التي عاناها نظام المجتمع الرأسمالي الذي مر بأقوى حملات العولمة، هو– وبحدثة واحدة فقط – "الفوضى". لمراحل الفوضى سماتها الخاصة بها، إذ تمثل الفترة "البينية" الحساسة والحرجة التي تنحل فيها القوانين المعنية بالبنى القديمة، في حين تبدأ الجديدة منها بالظهور للتو. وما سيتمخض عن هذه المساحة البينية الخلاقة، ستحدده مساعي قوى الحياة الجديدة في البناء وقوة المعنى لديها. وعادة ما تسمى تلك المساعي في مجال الأدب بالنضال الأيديولوجي والسياسي والأخلاقي. يدخل الكرد فترة الفوضى على الدوام وهم مثقلين بوطأة تنطقيد ثقافة المجازر السلبية الساحقة، يحسونها تطأ رقابهم في الأزمات المتفاقمة. وإذا لم يوجَّهوا بسلوك بَنَّاء ونبيهٍ للغاية ومفعم بالمعاني السامية، فقد يتحولون – وبكل سهولة – إلى عنصرِ صراعٍ واشتباك يفوق في حدته ما هي عليه مأساة الصراع العربي – الإسرائيلي. فخصائصهم الاجتماعية المشوهة والمشلولة والمتمزقة إرباً إرباً تحت وطأة الدول السلطوية الاستبدادية، تجعلهم قابلين للتأثر بأي عامل خارجي. وقد باتوا يفهمون توجيههم على هذا المنوال بأنه قدَر تقليدي محتوم، أوبراديغما ثابتة لا تتغير. إلا حتى الفترة تزداد حساسية وحرجاً مع بدء إدراج الولايات المتحدة الأمريكية – كقوة حاكمة تترأس وترود حملة العولمة الجديدة – الكردَ في جدول أعمالها كعنصر أساسي في مشروعها الجديد المتعلق بالشرق الأوسط. وكأن الولايات المتحدة الأمريكية بسياساتها الانعطافية والملتوية الفظة تلك، تفرض حدثاً مجهول النهاية – سواء بوعي أوبدونه – مثلما فتحت الطريق لمآسي متعاقبة في جميع خطوة خطتها في المجتمع الشرق أوسطي. ولا يتبقى أمام الاتحاد الأوروبي خيار سوى اقتفاء هذه الفترة ببطء شديد وبعقلانية أكبر، حسب متطلبات الربح والمنفعة. ذلك حتى مفهوم الدولة التسلطية الاستبدادية لا يحتوي تنطقيد النظر إلى الكرد بعين الصداقة أوكظاهرة منفردة بذاتها. فالسياسة الوحيدة الراسخة في الأذهان هي: "اسحقه إذا حمل رأسه". هذا إلى جانب وجود تنطقيد الكرد الغائرين حتى حلوقهم في الخيانة والتواطؤ وتأجيجهم النزعة "العائلية" على الدوام. ومن ضرورات سماتهم تلك حتى يؤازروا مفاهيم الدولة السلطوية المحلية، بقدر ما يتواطئون مع الأسياد الإمبرياليين الجدد بشكل غير مبدئي، ودون أي تردد. لم يتبقَّ في الواقع سوى ظاهرة كردية مشتتة إلى أشلاء ومحدودة إلى أبعد الحدود. ظاهرة ليست سوى تعبير عن عناصر عائلية تعرضت لمجازر في الذهن والبنية، جعلتها تتجاوز حدود الجهالة المألوفة. لم يَعُدْ هذا العنصر الكردي يميز "كيف يصبح ذاته"، بحيث يمكن الاستفادة منه لأجل أي هدف كان، في خضم الفوضى السائدة في الشرق الأوسط. فبقدر ما يمكن استغلاله بأسلوب وحشي، يُعَدُّ في نفس الوقت وسيلة مساعدة ومساندة قصوى في بناء الشرق الأوسط بما يستحق العيش فيه. وإذا ما فلح الكرد في إعطاء الجواب على سؤال "كيف أكون ذاتي؟" بمضمون ديمقراطي، فسيكونون – بلا شك – أحد أبرز القوى الريادية في النفاذ من الفوضى العارمة بتفوق ونجاح. وحينها لن يتغلبوا على سوء طالعهم فحسب، بل وعلى جميع تهاويات شعوب المنطقة ومساراتها المقلوبة. وسيتمكنون عندئذ من وضع حد للإحصائيات الدموية الناجمة عن تنطقيد الحضارة الظالمة القائمة منذ خمس آلاف سنة. وسيجتثون جذور أسياد الحضارة، الذين طالما مهدوا الطريق لظهورهم، وخدموهم بكل عمى سابقاً؛ ليقدموا أبرز المساهمات في نمووازدهار عصر حرية الشعوب. وفي حال العكس، أي إذا فشلوا في ذلك، وطال عمر حملات الأسياد الإمبرياليين وتجذرت في المنطقة؛ فلن ينجوا حينئذ من لعب دورهم كقوة إشارة في سياسة "القتل والاقتتال" في عموم المنطقة، بما يفوق حدة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ولن تعني الأحداث المعاشة حينئذ سوى شرارات تضرم نيران الاشتباكات الأشد والأفتك ذرعاً. وإذا ما ألقينا نظرة على الألاعيب الممارسة في الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، فإن التنبؤ بمستقبل ألاعيب "الدولة الكردية" لن يحتاج من المرء حتىقد يكون كاهناً. من الضروري التمييز جيداً للفرق المبدئي الموجود بين جميع من الدفاع المشروع المسلح من جانب، والعنف الهادف إلى الدولة كأداة حل من جانب آخر. لذا يعد اعتماد طراز الحل الواقعي "بأساليب ديمقراطية وسلمية" أمراً مصيرياً، بحيث لا يتمركز حول الدولة، ولا يقبل إطلاقاً البقاء في الفوضى العمياء كطراز حياة طويلة الأمد. ويبدوحتى أسمى المحاولات تتجسد في التفكير العميق والسامي حول بُناه الخلاقة ومعانيه العميقة، والكفاح لأجلها بحماس وشغف. سأجهد في هذه المرافعة للتخفيف من حدة الآلام الكبرى المنبثقة عن مسؤولية PKK من جهة، وللإسهاب قدر المستطاع في شرح خيار الحل المرتقب، بعد استنباطي الدروس اللازمة في موضوع تقديم نقد ذاتي حقيقي من جهة أخرى. إنني أنظر بعين الصواب إلى تقييمي لفترة محاكمة إمرالي كفترة درس عن السلام الديمقراطي ودعوة إليه، وإن كنتُ أعيش ضمن ظروف عصيبة للغاية. حيث تميزت تلك الفترة بقيمة تحولية نوعية بارزة، تكاثفت خلالها ضرورة التخلي مبدئياً عن التطلع إلى المجتمع الهرمي والدولتي، سواء على مستوى الوعي أوالجهد. وأنا على قناعة باستنباطي درساً تعليمياً من هذه الأوقات الحرجة والصعبة. فقد قاومتُ بذاتي طراز المقاومة الفظة وطراز الخنوع والاستسلام السافل على حد سواء. إذا دفاعي هنا سيساهم بدرجة مهمة في تحول هجريا، إلى جانب استثمار الكيان السياسي المسمى بـ"حزب العدالة والتنمية AKP" إياه بوعي تام. ورغم جميع محاولاتي، إلا إذا العجز عن دفع القوى اليسارية – التي يجب حتى تكون ديمقراطية – للاستفادة منه بمنوال مشابه، يعتبر خسارة هامة. فاليمين – لا اليسار – هوالذي كان يناضل في سبيل الديمقراطية. وبالطبع كان اليمينيون سيكونون الطرف الرابح. كان الهدف الأساسي من مرافعتي المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية هوالمقايسة بين الحضارتين الأوروبية والشرق أوسطية، ووضع الخيار الديمقراطي إزاء المستجدات المحتملة، وخاصة المتعلقة بالكرد منها. وما انسحاب PKK إلى الجنوب (أي إلى كردستان العراق) سوى ضرورة من ضرورات هذا التقرب. وقد بينَتْ التطورات والاحتلال الأمريكي صحة هذا الموقف. وقد أسهبتُ في هذه المرافعة في التطرق الكامل إلى النقاشات الدائرة على المستوى العالمي بشأن منطقة الشرق الأوسط، مما تبرز أهميتها وتزداد مع مرور جميع يوم. إذ لم أتَّبعْ في موقفي العداوة الفظة تجاه الحضارة الغربية، ولا الاستسلام والخنوع المعتاد عليه. بل توخيتُ الحساسية التامة في سلوك موقف خاص وخلاق وهجريبي قيِّم. لقد تناولتُ في مرافعتي المقدمة إلى محكمة أثينا كيفية معالجة مسألة أكثر ملموسية، وأشرتُ بمهارة إلى الحال التي أَقحَم فيها الأوليغارشيون الشعوب. كما وبذلتُ قصارى جهدي لإبراز حياتية النظر إلى القضايا التاريخية مرة أخرى من وجهة نظر الشعوب. أما مرافعتي الأخيرة هذه، فتتسم بكونها متممة لسابقاتها، وهي تأخذ بعين الاعتبار ولوج هجريا وآسيا الصغرى في فترة مذكرة الالتحاق بالاتحاد الأوروبي حقوقاً وسياسةً. وستلعب القضية الكردية دوراً رئيسياً في تطور هذه الفترة بنجاح. بالإمكان اعتبار المعايير السياسية والديمقراطية ومعايير حقوق الإنسان مقياساً أساسياً في حل هذه القضية. إلا إذا هجريا، بدولتها وحكومتها، تنظر إلى هذا القرار على أنه ضرورة مفروضة، بدلاً من تداولها إياه برغبة داخلية. وموقفي هذا يشير إلى قلق هجريا التقليدي بشأن الغرب، بالإضافة إلى إشادته بأن سلوك موقف صادق وتحرري إزاء القضية، دعك من إلحاقه الخسائر، سيضفي المعاني القيِّمة على المكاسب العظمى. من المهم بمكان وضع حد فاصل لألعوبة استثمار الورقة الكردية تجاه أوروبا، والتي ابتدأت بمسألة الموصل وكركوك منذ تأسيس الجمهورية الهجرية. ذلك حتى ثورات الجمهورية لم تسفر عن نتائج سوى بقائها تابعة، وتعرضها للانحلال والتشتت الأوليغارشي، وللتحولات النوعية أيضاً في حاضرنا. إذا التوجه نحوالحل عبر تناول هجريبة "الجمهورية الديمقراطية – المواطَنة الكردية الحرة" الجديدة بأهمية كبرى، سيؤمِّن الالتحام والتكامل والدمقرطة الحقيقية. هذا ولا يتيح الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان للحضارة الأوروبية المجال أمام أية فرصة للتقرب بشكل مغاير. عندما أضع مقاييس القانون الإيجابي نصب عيني، لا أعطي احتمالاً كبيراً لحصول البحث الجدي في حقوقي. هذا علاوة على حتى متانة الأرضية السياسية والاقتصادية التي ترتكز إليها دعواي، وكذلك قوة حقيقة المؤامرة؛ إنما تفوق كثيراً قوة القانون. بيد حتى القانون بذاته ليس سوى سياسة مرتبطة بقواعد ومؤسسات على المدى الطويل. وهذا الأمر سليم بالنسبة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية أيضاً. ومع ذلك، فاستخدام حق الدفاع عن الذات يعد مهمة أخلاقية وسياسية وحقوقية. وأنا على قناعة تامة بأن كفاحي الدفاعي المتواصل منذ ست سنين، أسمى معنىً ويفوق في بَنَّائيته وخلاقيته دفاعي الأيديولوجي والعملي السابق. على من يرغبون محاكمة الغير والحكم عليهم بالموت حتى يتمكنوا من محاكمة ذاتهم أيضاً. ومن يود الدفاع عن غيره، عليه فهم كيفية الدفاع عن ذاته. ومن يسعى لتحرير غيره، عليه أولاً فهم كيف من الممكن أن يحرر ذاته. بهذا فقط قد نستطيع تحويل حق الولادة الحرة لأطفالنا الذين لا يلدون أحراراً، إلى حقيقة واقعية ملموسة.               الفـصـل الأول           بينما أمرُّ، كفرد، بمحاكمة ضمن شروط عزلة ثقيلة الوطأة، وبمفردي من جهة، أواصل الدفاع عن ذاتي قانونياً من الجهة الثانية. وهاأنذا في السنة السادسة منها. من العصيب جداً رؤية مثال مشابه في التاريخ، لقضية سياسية ثقيلة الوطأة، طالت جميع هذه المدة. ولا يزال غامضاً كم ستدوم بعد. إلا إنه ثمة حُكم عنيد في النظر إلى القضية من زاوية شخصية، وغض النظر عن مؤثراتها الاجتماعية والسياسية. ومن الساطع تماماً حتى تَوَجُّهَ محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بهذا الشكل، يتضمن نواقص جدية، ويمهد السبيل لمحاكمة غير عادلة. فعندما أُدرِجَت القضية – بحساسية واضحة – في جدول أعمال محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، هُمِّشَت جميع جوانبها السياسية والاجتماعية. ومن الجلي حتى هذا السلوك كان يرى ضرورة إخفاء جانب هام من الحقيقة. إذا الموضوع الهام، الذي يتوجب تسليط الضوء عليه، هوذاك الموقف الذي يفصل الفرد عن المجتمع تحت شعار "إنني أزوده بحقوقه"؛ ليُدَّعى فيما بعد بمحاكمته وفقاً لذلك. إنه يشكل جوهر الحضارة الأوروبية. وقد أعددتُ مرافعتي الأولى بكليتها، على وجه التقريب، في سبيل الكشف عن هذه الحقيقة. لن أدخل في التكرار، إلا إنني أرى حاجة للإيجاز مرة ثانية. تعد المجتمعية الشرط الأولي لوجود الجنس البشري. ومن أحدث الحقائق المتجلية في فهم الاجتماع، المتطور بذهول تماشياً مع تطور المجتمعية، هي حتى أنسنة الإنسان تحققت بانفصاله عن فصيلة الثدييات البدائية السابقة له (وهي الفصيلة الأقرب إلى الإنسان). لكن، ومهما كثرت محاولات الفصل والعزل بين الفرد والمجتمع، اللذين يشكلان حالة الحياة، لا يمكن برهنة ذلك على الصعيد النظري. إذ ما من فرد يعيش بمفرده. قد يحدث ثمة فرد تحطم مجتمعه، إلا حتى هذا الفرد يواصل وجوده – على الأقل – بذكريات مجتمعه المتحطم ذاك. وبتلك الذكريات تصبح مجتمعيته مسألة آنية. يرتبط اكتساب الجنس البشري للقوة بمستوى علاقاته الاجتماعية. ومن أفظع أساليب إضعاف الفرد واستعباده، هوفرض العزلة عليه. حتى العبيد والأقنان القرويون والعمال المدينيون المتواجدون على شكل جماعات، يكوِّنون مجتمعاً بحد ذاته، بحيث يتذكرون أنفسهم عبر تمرداتهم بين الفينة والأخرى. ومن جانب آخر، فالوحدة أفضل معلِّم على الإطلاق. وفترة الانزواء التي مر بها جميع عالِم وحكيم ونبي بارز في التاريخ، إنما تعكس هذه الحقيقة بكل جلاء. الفردانية مصطلح مشحون بالتناقضات إلى أبعد الحدود. وهي بوجهها الآخر، طليقة حرة؛ وكأنها تحررت من قيودها للتو، على حساب مصلحة المجتمع. إننا نسمي الحياة المضبوطة – دون رادع أوعنف – في المجتمع، بالأخلاق. ولكن الفردانية تضيق الخناق على هذه الأخلاق. أوبالأحرى، فالفردية في الحضارة الغربية تتطور ضمن سياق إضعاف الأخلاق وتهشيشها. وبينما يعد الفرد أساساً في الحضارة الغربية،قد يكون المجتمع هوالأساس في الحضارة الشرقية. نستخلص من هذا التعريف نتيجتين متباينتين: بينما يسموالفرد الاستعماري الحاكم إلى الطبقة الإمبراطورية، يحيا الفرد المستعمَر والمظلوم أشد درجات العبودية والذل. وليس مصادفة حتى يظهر الوجه الوحشي الفظيع للقرن العشرين من بين أحضان العبودية المتفشية والمتجذرة في عموم المجتمع، على يد النظام الرأسمالي. إذ ما من طيش أوتهور يستعصي على هذا النظام السيادي المنتشر لهذا الحد، بغرض الربح والمنفعة، بعد حتى فقد قيمه المعنوية الأساسية. وما الوحدة والعزلة والحكم الصادر بحقي، سوى ظواهر تمتُّ بِصِلة كثيبة بالبنية العامة لهذا النظام. فإذا ما أُخرِج مجتمعك أوشعبك من كونه "ذاته"، فمعناه الحكم عليك بالوحدة الهزيلة منذ لحظة الولادة. وبمقدار ما تخرج من كونك "ذاتك" وتغترب عنها، بمقدار ما تلتحم بمجتمع آخر. لكنك ستغدوحينها لست "ذاتك". فإما حتى تعاني من وحدة موحشة، أوحتى تستسلم لواقع آخر. وهذا ما كانت عليه المفارقة المذهلة التي أسميتُها بـ"الشِّرك الكردي". وكأنه عليك اختيار نوع الموت الذي يعجبك. يكثر الجدل في راهننا حول التعددية والمشاطرة مع "الآخر". والموقف الذي مفاده حتى خلْق الغنى المجتمعي التعددي الكامل الأبعاد، والطوعي، يمر من مشاطرة "الآخر"؛ إنما هوموقف صائب. لكن سياسة النظام القائم التخطيطية في التطابق (خلق نمط واحد من الأشخاص)، تختلف عن ذلك. فهي تفضي إلى مسح الإثنيات، والمجازر، والصهر والذوبان، والخروج من "الذات". والسياسة المتفشية بكثرة في الظاهرة الكردية، هي من هذا النوع؛ والتي تنبع من البيوسلطوية والعرقية والفاشية، ومن كافة مفاهيم السلطة التوتاليتارية التي كانت سائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. فبينما يُستَهدَف خلق عِرق وقوموية وطيدين، تكون المحصلة تعبير عن حروب وهجومات مستعرة. لا ريب في حتى جذور ذلك تمتد لتصل إلى الفترة الأولى لتأسيس المجتمع الهرمي، في حين حتى تَحَوُّلها إلى سياسة منظمة ومخططة متفشية في الدولة، خاص بالقرن العشرين. لم تتلمس الحضارة الغربية ضرورة الوحدة والاتحاد كشرط لا يستغنى عنه، حسب المبادئ المسماة بمعايير الاتحاد الأوروبي، إلا بعد مرورها بالحربين العالميتين والحروب الأهلية. وما تحياه أوروبا في حاضرنا، ليس إلا نقداً ذاتياً لها إزاء البشرية جمعاء. إذ ما من سيئة إلا ويرتكبها الفرد المتحرر من قيوده، وكذلك سلطة الدولة المتصاعدة كنقيض للقيم المعنوية، وبالذات بعد ما تستند في ذلك إلى جشع الربح والمنفعة بتراكم رأس المال. لقد استلزمَت محاكمتي في ظل هذه الظروف أشد أنواع العقاب، بسبب محاولاتي تحفيزَ مجتمع فقدَ أمله وخارت عزيمته، على المناشدة بمطاليبه؛ وبسبب كونها عملية جذرية تجاه النظام المنجر وراء القوة وجشع الربح المنفعي. هذا لوهجرنا المؤامرة المستترة تحتها جانباً! وهذا ما يتم فرضه. فأينما يندلع تمرد يشرع بالمساءلة: "أين مجتمعي،يا ترى؟ أين ثقافتي،يا ترى؟ أين لغتي الأم،يا ترى؟ أين حريتي؟"؛ يغدوممهوراً بالانفصالية وخيانة الوطن. لم يكن ثمة جرم من هذا القبيل في الإمبراطورية العثمانية. بل وليس موجوداً في عموم نظام الأمة الهجرية. إنه من مبتكرات الأنظمة البيوسلطوية والعرقية والفاشية ونظم السلطات التوتاليتارية الأخرى للحضارة الأوروبية، حيث صدَّرته إلى نظام الدولة الهجرية في القرن العشرين. وقد أخذ العالم برمته نصيبه منه. إن كنتُ ارتخطُ جرماً ما، فهوإصابتي – أنا أيضاً – بهذا الجرثوم نوعاً ما، والمتأتي من ثقافة السلطة والحرب. إذ كنتُ انزلقتُ في هذه اللعبة، لدى اعتقادي بأن مبدأ "الحرية تستلزم سلطة الدولة، وهذا ما يستلزم بدوره الحرب" هوبالنسبة لنا كما الأمر القرآني بالنسبة للمؤمن. إنه السقم الذي يكاد جميع المناضلين الناطقين باسم المسحوقين – على وجه التقريب – أصيبوا به ولم ينجوا منه. بناء عليه، فأنا مذنب، ليس تجاه النظام المهيمن فحسب، بل وتجاه النضال التحرري، الذي بذلتُ جميع ما في وسعي في سبيله أيضاً. وسأستمر في تقديم النقد الذاتي بشأن ذلك حتى الرمق الأخير، ليس على الصعيد النظري وحسب، بل وفي الممارسة العملية السامية لوحدتي أيضاً. لكن، كيف من الممكن أن سيدفع النظام القائم فاتورة ذنوبه في تغريب مجتمع (أوشعب) عن ذاته جبراً ومكراً؟! لذا، إذا كانت المحاكمة ستكون عادلة، فمن الضروري وقتئذ الإصغاء لانادىءات الأطراف المعنية على السواء، واتخاذ القرار وفقاً لذلك. ولكن، لا يمكن لقضاءٍ بَتَر روابطه بالفهم حتىقد يكون عادلاً بتاتاً. جلي حتى فهم الاجتماع سيكون السلاح الأساسي الذي سأتسلح به. فالسير في الدرب السليمة، بقدر تنوُّري وإلمامي به، هومن ضرورات حتى أكون إنساناً مكرَّماً. لا يمكن البتة غض النظر عن التخريبات التي ألحقها بالطبيعة ذاك النظام السائد المهيمن على المجتمع لهذه الدرجة. إذا الموقف الأيكولوجي والفاميني لديه من القدرة ما يخوِّله لتعريفنا على الحياة الاجتماعية الطبيعية المفقودة. ومن أشد المواضيع أهمية هي التعريف السليم للديمقراطية، كخيار سياسي للشعوب، وإبداء قدرتها على الحل. فبينما تزركش موجةُ العولمة الجديدة مزايدات السوق الحرة للبضائع، وتزخرفها بعد حتى تحولها إلى فَتَشيّة* بكل معنى الحدثة، وتَعرِضها على أنها الخيار الوحيد؛ سنقوم نحن بالإسهاب في شرح خياراتنا الأيكولوجية والديمقراطية، وسنحملها كراية علياء ترفرف فوق سماء حياتنا الجديدة، متسلحين بالإدراك التام بأن تلك الموجة، إنما تَعرِض للعيان حقيقة المختلِس والمغتصِب القديم. إلى غير ذلك سنبرهن، بعَصرَنَتِنا للآمال والطموحات المتطلعة إلى الحرية والمساواة على مر التاريخ، وإحيائنا إياها؛ حتى أي خطوة خطوناها في هذا السبيل لم تمضى سدى. فمثلما أنه ما من شيء في الطبيعة يفنى، فأي قيمة موجودة في المجتمع، لا يمكن حتى تفنى أوتزول. تتعلق إعادة معالجتي للواقع الاجتماعي في مرافعتي، بمدى العمق الفلسفي المحرَز. إذ على الفلسفة، كفهم اجتماع، حتى تلعب دوراً في راهننا يطابق ما كانت عليه في ميلادها. وتُعَد العودة إلى الفلسفة، لقاء الفهم المتسلط، المبدأ الأولي لظهور المجتمع الحر. وقد تبين من خلال أعداد لا حصر لها من الأمثلة، عبر التاريخ وفي حاضرنا؛ حتى الديمقراطية غير المرتكزة إلى الفلسفة، ستعاني الانحطاط والتردي بكل سهولة، وستغدوالآلة الدنيئة على الإطلاق في يد الديماغوجيين، لكي يُديروا الشعوب بها. والسبيل الوحيد لعرقلة ذلك، هوتسيير الكفاح الذي تتوحد فيه السياسة والتنطقيد والأعراف، لتشكل كلاً متكاملاً لا ينفصم، بحيث يشكِّل الفهم جانباً منه، لتكون الإثنية جانبه الآخر. وبروح المسؤولية العليا هذه، سنبدأ مسيرة الحياة الأكثر حرية، والمعتمدة على المساواة، وسنخلق عالمها من أحشاء أزمة النظام القائم.       آ – المجـتمـع الطبـيعـي     تعد العلاقة القائمة بين المجتمع والطبيعة، الساحة التي يتكاثف هجريز فهم الاجتماع عليها. ورغم جلاء مدى تأثير البيئة على المجتمع، إلا إذا البحث الفهمي في ذلك، وتشكيلها موضوعاً بحد ذاته في الفلسفة، يُعتبَر أمراً حديث العهد. حيث ازداد هذا الاهتمام مع بروز مدى تأثير النظام الاجتماعي على البيئة بأبعاد كارثية. وإذا ما تغلغلنا وتمحَّصنا منبع هذه المشكلة، يتبدى أمامنا النظام الاجتماعي المهيمن والمناقض للطبيعة لدرجة خطيرة. يتجلى مع مرور الأيام، وبماهية فهمية متصاعدة، حتى الاغتراب عن البيئة الطبيعية هومصدر التناقضات الداخلية للمجتمع، والممتدة على طول آلاف السنين. وأنه بقدر تزايد الحروب والتناقضات الداخلية في المجتمع، ازداد الاغتراب عن الطبيعة والتضاد معها. لقد أضحت حدثة السر في حاضرنا تتمثل في الهيمنة على الطبيعة، والاستيلاء على مواردها، واستغلالها بلا هوادة أورحمة. كما يكثر الجدل عن وحشية الطبيعة. لكن هذا الاعتقاد خاطئ بكل تأكيد. إذ يتبين من خلال مشاكل البيئة المعاشة، حتى الإنسان المستوحش تجاه أبناء جنسه، يغدوفي حالة وحشية جد خطيرة إزاء الطبيعة أيضاً. وما من موجود (أوفصيلة) قضى على فصائل النباتات والحيوانات، مثلما عمل الإنسان بها. هانحن أمام معضلة إنسان لن يفلح في النجاة من التحول إلى نوع ديناصوري منقرض، فيما إذا واظب على عمله في عملية الإبادة تلك بوتيرته الحالية. إنْ لم يوضع حد للتضخم السكاني المتزايد بسرعة، وللتخريبات التي يُحدِثها الإنسان بتقنياته المتطورة بشكل مذهل، والمستخدَمة بكل سوء؛ فستبلغ حياة الإنسان فترة لا يطاق العيش فيها، خلال فترة ليست ببعيدة أبداً. وستتضخم هذه الحقيقة وتصبح عملاقة كالديناصور في بنى المجتمع الداخلية، لتتبدى على شكل حروب متزايدة، وضروب من الإدارات السياسية تعد الأخطر على الإطلاق، وتَفَشٍّ البطالة، وافتقار المجتمع للمعنويات، وظهور بشرية مسيَّرة كالروبوت الآلي. وبدون تحديد بواعث تقدم المجتمع في هذا الاتجاه بشكل سليم، فمن المحال صياغة شروح نظرية سليمة، أوإيجاد دروب الحل الصائبة بشأن المدنية التقليدية والصراعات الطبقية والقومية. إن عجز السوسيولوجيا عن إيجاد الحلول لمشاكلنا الراهنة، ولوبقدر الدين، يحتِّم ضرورة محاكمة فهم الاجتماع، وبالتالي محاكمة كافة البنى الفهمية القائمة. فما دام الفهم بتر جميع هذه الأشواط من التقدم، لما إذاً جميع هذا الطيش والتهور،يا ترى؟ ذلك أنه معلوم حتى الإحصائيات الدموية للقرن العشرين بمفرده، تضاهي ما شهده التاريخ البشري برمته منها أضعافاً مضاعفة. وهذا ما مؤداه حتى البنية الفهمية أيضاً تتضمن نواقص وأخطاء في غاية من الأهمية. قد لا تكون تلك الأخطاء كامنة في التثبيتات الفهمية، بل من الممكن تتواجد في طراز إدارتها وشكل تطبيقها. لكن ذلك لا يزيل عبء المسؤولية عن كاهل الفهم برجاله ومؤسساته. إن الغوص في النقاش على هذه النقاط ليس من شأننا هنا. ولكني على يقين بأن حالة رجال الفهم ومؤسساته الحالية أكثر رجعية ولامبالاة من حالة التبعية التي كان عليها الرهبان في المماليك المصرية والميزوبوتامية سابقاً؛ سواء على الصعيد الأخلاقي أوالعقائدي. فالأديان المنبثقة من التنطقيد الإبراهيمية، ورُسُلها، لعبت دوراً عظيماً في تطور البشرية من الناحيتين الأخلاقية والعقائدية، لدى تمردها على أنساب الفرعون والمَلك نمرود. يشكل هذا الدور الوجه الإيجابي لتنطقيد الرهبان. في حين حتى ما عمله رجال الفهم المؤتمِرين بإمرة السلطة، لم يكن سوى تزويد المتهورين المتسلطين بوسائل الإبادة، ووضعها بين أياديهم على الدوام، لينتهي بهم الأمر بتفجير القنبلة الذرّية على رأس البشرية. وهذا ما مؤداه أنه ثمة خطأ فادح في العلاقة القائمة بين الفهم والسلطة. بمقدورنا تقييم الفهم واستثماره كثمرة من ثمار المجتمع، وكمكسب ثمين وقيِّم. في حين لا يمكن التذرع بأية حجة لبواعث هذا الكم من الكوارث الناجمة عنه. لذا، لا يمكننا تَقَبُّل رجال الفهم ومؤسساتهم بجانبهم هذا، بل ولا حتى الصفح عنهم. وسيكون أمراً مفهوماً تماماً مدى الحاجة الماسة لقيامنا بمحاكمة السوسيولوجيا وكافة العلوم الأخرى، طالما لم تُفَسَّر دوافع وماهية هذا التناقض الأولي. أين حَبَك النظام القائم لعبته الكبرى،يا ترى؟ أين حث على ارتكاب الأخطاء الرئيسية،يا ترى؟ متى، وكيف أقحم مستقبل البشرية في فترة مشحونة بالضبابية الكثيفة،يا ترى؟ من دون القيام بمساءلة ومحاسبة كهذه، لن ننجومن "سحب الماء إلى رحى النظام الاجتماعي المهيمن" مرة أخرى في نهاية المطاف؛ مهما حاولنا صياغة نظريات التحرر والحرية والمساواة، أوتطبيقها عملياً. ستَنْصَبُّ معظم جهودي في الكشف عن الدور الذي لعبه هذا التناقض الرئيسي الكامن في أساس الحضارة الأوروبية، لتأخذ بذلك حيزاً مهماً من عزمي في مرافعتي هذه. إذ، وبدون تسليط الضوء على هذه الخاصية، ستبقى دراسة ومعالجة الأخطاء الفادحة الأخرى لذاك النظام تعاني من النقصان. والنظام الغربي يستر نفسه ويتخفى في أكثر النقاط حساسية وحرجاً، وبدرجة تزيد على كافة الأنظمة الاجتماعية الأخرى. ذلك أنه النظام الأكثر تطويراً للتحريفات الذهنية والمعنوية بنادىياته المتواصلة. ودعك من كونه يمثل أكثر العصور حرية، بل لنقد يكون من الصعب علينا البرهان على أنه العصر الشاهد لأشد أشكال العبودية تقدمية. لهذا السبب ارتأيتُ ضرورة صياغة فرضيات جديدة للأشكال الاجتماعية، حسب معتقداتي. وأظن أنني بذلك سلكتُ درباً إيضاحياً أسمى معنى. أقصد بمصطلح "المجتمع الطبيعي" نظام الجماعات البشرية، الذي دام فترة اجتماعية طويلة تبدأ بانفصال الموجود الإنساني عن فصيلة الثدييات الرئيسية البدائية، وتنتهي بظهور المجتمع الهرمي. وعادةً ما تطلق تسمية الفترة الباليوليتية (العصر الحجري القديم) والنيوليتية (العصر الحجري الجديد) على هذه الحقبة من التاريخ البشري، والتي شهدت ظهور تلك الجماعات الإنسانية المسماة بـ"الكلان" التي يتراوح عدد أفرادها بين العشرين والثلاثين شخصاً. تعود هذه التسمية إلى استخدام تلك الجماعات الأدوات الحجرية. كانت تلك الجماعات تتغذى على الصيد وجمع الثمار المتوافرة في الطبيعة. أي أنها تعيش على النتاجات والثمار الجاهزة في الطبيعة. إنها كيفية تغذية شبيهة بما تسلكه الفصائل الحيوانية القريبة منها في قُوتِها. لذا، لا يمكن الحديث هنا عن وجود معضلة اجتماعية ما. فـ"الكلان" تكون في درس متواصل عن القُوت. وعندما تجده، إما حتى تجمعه أوتصطاده. وباكتشاف النار وازدياد خلق الآلات والأدوات، تزداد نتاجات الكلان، ليتسارع بالتالي تقدمها كجنس بشري، وتزداد الهوّة الفاصلة بينها وبين أسلافها من الثدييات البدائية. والقوانين الطبيعية للتطور الطبيعي هي التي تحدد سياق التطور ووجهته. يمكننا التطرق إلى معضلة العقلية والتعبير، فيما يتعلق بالمجتمع الطبيعي، وشرحها. إذ لا تزال مسألة تحديد المستوى العقلي الذي تكوّن فيه الإنسان وتأهّل، تحافظ على حيويتها. ارتباطاً بذلك، هل يجب إيلاء الأولوية للعقل، أم للبنية والأدوات،يا ترى؟ الرد على هذا السؤال هام للغاية. وتكمن هذه المفارقة في أسس كافة التيارات الفلسفية، المثالية منها والمادية، البارزة عبر التاريخ. أما الحدود الأخيرة التي توصل إليها الفهم مؤخراً بشأن الكوانتوم والكوسموس، فتزودنا بمواقف بالغة الغرابة والعجب. فالكوانتوم، الذي هوتعبير عن الجزيء الأصغر من الذرّة، وفيزياء الموجة، يفسح لنا مساحات مختلفة جميع الاختلاف. حيث تم الوصول فيه إلى حقائق وإثباتات عديدة، بدءاً من النُّظُم الحدسية والتفضيلية (الانتقائية) الحرة، والتعبير عن شيئين مختلفين في نفس اللحظة، وحتى قاعدة عدم تخطي الغموض والهلامية أبداً بسبب بنية الإنسان الموجودة. ويُترَك مفهوم المادة الفظة والجامدة على الرف كلياً. بل، وعلى النقيض من ذلك، فنحن هنا وجهاً لوجه أمام كَوْنٍ لا نهاية لحيويته وحريته. يكمن اللغز الأصل هنا في الإنسان، وفي حالته العقلية على وجه التخصيص. إننا لا نتحدث عن السقوط في المثالية أوالذاتية. ولا نَلِج في الجدالات الفلسفية المثيلة، والمُعمَل بها كثيراً. بل نفهم من ذلك بكل جلاء، حتى جميع هذا الكم من التنوع والتعدد السائد في الكون، إنما ينبثق من حدود الكوانتوم. إذن، أصبحنا نشاهد ما أبعد من جزيئات الذرّة. إنها المجريات التي تحدث في فضاء الجزيء والموجة، والتي تشكل جميع أنواع الموجودات، وفي مقدمتها خاصيتها "الحيوية". وهذا بالذات ما نعنيه بحدسية الكوانتوم. حقاً إذا تنوعاً طبيعياً بهذا الكم الضخم غير ممكن، إلا بالذكاء الخارق والانتقاء الحر. فكيف يمكن للمادة الفظة والجامدة حتى تنتج هذا الكم من النباتات والأعشاب والزهور والكائنات الحية، بالإضافة إلى ذكاء الإنسان،يا ترى؟ مهما ينطق بأن الجزيئات ذات الأَيْض* الحيوي هي التي تتكون في الأساس، إلا أنه من غير الممكن تقديم تعليل قدير وكفؤ للتنوع الطبيعي، ما لم نعلل أولاً نظام الذرّات في الجزيئات، والجزيئيات الصغرى في الذرّات، والجزيئيات والموجات في الجزيئيات الصغرى؛ ونشرح ما يحصل فيما وراءه. بإمكاننا اتباع نفس السلوك من التحليل والتعليل بشأن الكوسموس أيضاً. ذلك حتى ما يجري في الحدود القصوى للكون المترامي الأطراف – هذا إذا وُجدت حقاً حدود قصوى له – شبيهة بما يجري في مساحة الكوانتوم أيضاً. ويتبدى أمامنا هنا، مفهوم كَونٍ حيوي ونشيط. أفلا يُعقَل حتىقد يكون الكون بذاته كياناً حيوياً بعقليته ومادته،يا ترى؟ إنه سؤال سيدور الجدل حوله تصاعدياً في فهم الكوسموجيا (فهم نشأة الكون). نسمي الإنسان الواقف في المنطقة الوسط بين الكوانتوم والكوسموس بـ"الكوسموس المِجهَريّ". النتيجة المفضى إليها هي: إذا كنتَ ترغب فهم كَونَي (فضاءَي) الكوانتوم والكوسموس، حلِّلْ الإنسان! فالإنسان – حقاً – فاعلُ جميع المعارف ومبتكِرها. ذلك حتى جميع معلوماتنا هي من نتاج الإنسان. وكل المعلومات المتوفرة عن كافة الساحات، بدءاً من الكوانتوم وحتى الكوسموس، قد طُوِّرَت بشرياً. إذن، فالذي يستدعي التمحيص والتدقيق أساساً هوفترة الفهم لدى الإنسان، والتي تعني فيما تعنيه تاريخ سياق التطور الطبيعي المقدَّر حتى الآن بعشرين مليار سنة على وجه التقريب. إذن، فالإنسان – حقيقةً – كوسموس مجهري. فنظام الكوانتوم يسري فيه. إننا نشهد فيه تاريخ تطور المادة، بدءاً من الجزيئيات الصغرى في الذرّة، والموجات، وحتى جزيئات الدانا (DNA) الأرقى على الإطلاق. علاوة على أننا نلاحظ فيه أيضاً تاريخ مراحل التطور بأجمعها، بدءاً من الدورة السفلى لتطور النباتات والحيوانات، وحتى تطور الإنسان. ويُرى بعين اليقين فهمياً حتى الجنين البشري يكبر وينمومكرِّراً كافة أطوار التطور البيولوجي. ويأتي المجتمع ومراحل التطور الطبيعي بعدها، لتُكمِل نضوجه. وقد تمكن الفهم من بتر هذه الأشواط الإشارة، عبر التطور الاجتماعي الطبيعي. لذا، يُعَد اعتبار الإنسان مختزَل الكون واختصاراً له، حُكماً فهمياً مجمَعاً عليه. إذا ما أسهبنا في تفسيرنا للإنسان، يمكننا سرد الفرضيات الآتية: لولا خاصيات الحيوية والحدسية والحرية التي تتسم بها كافة المواد المكوِّنة للإنسان، لما تطورت حيوية وحدسية وحرية الإنسان، باعتباره يمثل مجموع تلك الخصائص. ذلك أنه ما من شيء يولد من العدم. هذه الحقيقة المثبتة تدحض مفهومنا في المادة الجامدة وتُبطِله. ما من شك في أنه لولا وجود مجتمع ونظام من قبيل الإنسان، لما تطور الكيان المعلوماتي. ومن جانب آخر، لولا الخصائص المعهدية والحدسية والفهمية والطلاقة الحرة للمواد التي تلعب دورها وتنشط في ذاك المجتمع وذاك النظام (الإنسان)؛ لكان من الجلي واليقين حتى المعلومة، أوالفهم، لن تجد لذاتها مكاناً أوتتكون بتاتاً. فلِمَ تُخلَق أوتُبتَكَر، إذا كانت لا تتضمن شيئاً،يا ترى؟ من غير الواقعي النظر إلى هذه الدراسة (أوالتعليل) على أنها مجرد انعكاس سهل للطبيعة الخارجية، أورؤيتها كمعلومة استحوذ عليها الإنسان بنمط تفكير ديكارتي. أما الرأي الأدنى إلى الصحة، فيتمثل في حتى الخاصيات التكوينية في فضاء الكوسموس والكوانتوم تحيا وتسري في الإنسان أيضاً. وبالطبع، فهذه القوانين تسري وفاقاً لخاصيتها هي. إذاً، فالأكوان تعبِّر عن ذاتها في الإنسان. الخلاصة المستنبطة هنا هي حتى الفهم القدير للكون يمر من الفهم القدير للإنسان. والحُكم الشهير جداً في الفلسفة، والذي مفاده: "اعهدْ نفسك!"، إنما يشيد بهذه الحقيقة. ذلك حتى فهم الذات هي لَبَنة وركيزة جميع المعارف. وكل المعارف المكتسبة من دون فهم الذات، لن تمضى أبعد من الانحراف والضلالة. لهذا السبب بالذات، لا مناص من حتى تتقمص جميع المؤسسات والسلوكيات البارزة في المجتمع الإنساني دوراً انحرافياً ومشوهاً، طالما افتقارها إلى فهم الذات. وكل الأنظمة الاجتماعية، بخاصياتها غير الطبيعية، المتناقضة، الدموية، الاستعمارية، والمنبثقة من المعارف غير المرتكزة إلى فهم الإنسان ذاته؛ إنما هي متمخضة من تلك المعارف الضلالية. إذن، والحال هذه، عندما نقول بحتمية انبعاث فترة التطور الطبيعي المعقول والمقبول للمجتمع الإنساني من الفهم الخاصة بالإنسان؛ فإننا بذلك نضع البنان على القاعدة الكونية، وبالتالي الاجتماعية، الأولية على الإطلاق. بناء على هذه الفرضية، ما الذي يمكن قوله بشأن جوهر بنية فهم الإنسان في المجتمع الطبيعي،يا ترى؟ عملى الأقل، يمتثل الإنسان المنتمي إلى المجتمع الطبيعي لقاعدة إحياء ذاته مع بقية أعضاء الكلان التي يعيش ضمنها، ككل متكامل لا يتجزأ، وكقانون أولي لا مناص منه. ولا يمكن لعضوفي الكلان حتى يفكر في حياة امتيازية تميزه عن غيره، كالحياة خارج نطاق الكلان. بمقدوره ممارسة الصيد، بل وحتى القيام بالياميامية (أكل لحوم البشر)، ولكن بشرط حتى تكون بهدف إعالة الكلان. القاعدة السائدة في حياة الكلان هي: "إما الكل أواللاشيء". وكل المعطيات الاجتماعية تشيد بخاصية الكلان هذه. إنها كتلة واحدة، وشخصية واحدة. ولا يمكن التفكير بوجود شخصية أوحكم مغاير لذلك بالنسبة للأفراد. تتوارى أهمية الكلان في كونها الطراز الأول والأساسي لوجود الإنسان. إنها شكل المجتمع الخالي من الامتيازات والطبقات، واللاهرمي، والجاهل للاستعمار والاستغلال. وقد امتدت طيلة ملايين من السنين. ما نستنبطه من ذلك، هوحتى تطور الموجود الإنساني كمجتمع، يعتمد لفترة طويلة على مبدأ التعاضد والتكافل، لا على علاقات الهيمنة والحاكمية. وينقش الطبيعةَ في ذاكرته كـ"أم" نشأ وترعرع في أحضانها. التكامل بين أفراد المجتمع من جهة، وبينهم وبين الطبيعة من جهة ثانية، شرط أساسي. الطوطم هورمز وعي الكلان. ولربما يُعتَبَر الطوطم أول نظام اصطلاحي تجريدي. يشكل هذا النظام، الذي يعتبر دين الطوطمية، التقديس الأول ونظام المحرمات (المسلَّمات) الأول. أي حتى الكلان تقدس ذاتها بقدر تقديسها لرمز ذاك الطوطم. من هنا تم الوصول إلى أول اصطلاح للأخلاق. حيث يعي الجميع أنه يستحيل مواصلة الحياة من دون جماعة الكلان. إذن، والحال هذه, فوجودها المجتمعي مقدس، ويُرمَز إليه بأسمى المعاني والقيم لتُعبَد. من هنا تتأتى رصانة ومتانة العقيدة الدينية. فالدين هوالصياغة الأولى للوعي المجتمعي. وهومتكامل مع الأخلاق. ومع مرور الزمن يتحول من كونه رمز الوعي إلى عقيدة متصلبة، ليتبدى الوعي المجتمعي على شكل تطوير لصياغة الدين. الدين بخاصيته هذه، يُعتَبَر المنبع العين لأول أشكال الذاكرة والتنطقيد والأعراف الجذرية والأخلاق الأساسية في المجتمع. ومهما سما مجتمع الكلان بوعيه عبر ممارساته العملية، فإنه يُرجِع ذلك – على الدوام – إلى الطوطم، وبالتالي إلى مهاراته وقدراته. أما ما يتجلى في حقيقة الطوطم من الناحية الرمزية، فهوأنَّ تَواصُل فوزات ونجاحات الجماعات البشرية أسفر بالتوازي عن تصاعد التقديس أيضاً. ويغدوالتقديس بذلك قوة للرمز المقدس، لتمثِّل القدسيةُ بدورها قوةَ المجتمع. تعبِّر قدسية القوة المتشكلة مع المجتمع عن ذاتها بجلاء أكبر، في الشعوذة والسحر. فالشعوذة هي تجربة تعزيز المجتمع لذاته. فمستوى الوعي الموجود لا يمكن إدراجه حيز التطبيق إلا على شكل شعوذة وسحر. الشعوذة هي أم العلوم أيضاً. أما المرأة التي تراقب الطبيعة عن كثب، وترى فيها الحياة، وتعهد الخصب والإنجاب؛ فهي الحكيمة العالِمة بطراز هذا المجتمع. وما كون أغلب السحَرة من الإناث سوى تعبير عن هذه الحقيقة. فالمرأة هي أفضل الواعين لما يجري حولها في المجتمع الطبيعي، بحُكم ممارستها العملية في الحياة. تُشاهَد آثار المرأة على كافة المنحوتات واللُّقى الأثرية المتبقية من تلك الحقبة. فالكلان هي اتحاد متألف ومتكوِّن حول المرأة الأم. في حين حتى إنجابها الأطفال وتنشئتها إياهم، قد دفعها لتكون أفضل جامع للثمار، وخير معيل للأطفال. وباللقاء، فالطفل لا يعهد أحداً غير أمه. أما الرجل، فلم يكن ذا تأثير واضح بعد في النظر إلى المرأة كمُلك له. وبينما لا يُعرَف الرجل الذي حمِلت منه المرأة، تكون الأم المنجبة للوليد معروفة. هذه الضرورة الطبيعية تشيد بمدى قوة المجتمعية المرتكزة إلى المرأة. وكون الحدثات الاصطلاحية البارزة في تلك الحقبة ذات خاصية أنثوية، يُعَد برهاناً آخر على صحة هذه الحقيقة. في حين حتى سمات الرجل القتالية والتحكمية، التي كانت تطورت فيما بعد، تعود في أصولها إلى خاصيته في صيد الحيوانات الوحشية في تلك الحقبة. فمزاياه الجسدية وقواه العضلية دفعته بالأغلب إلى البحث عن الصيد في الأقاصي البعيدة، أوإنقاذ الكلان من المخاطر المحدقة بها، والدفاع عنها. هذه الأدوار غير التعيينية توضح مسببات بقاء الرجل هامشياً وقتذاك. لم تكن قد تطورت بعد العلاقات الخاصة داخل الكلان. فالمكاسب المستحوذ عليها من جمع الثمار وصيد الحيوانات هي مُلك الجميع. والأطفال مُلك للكلان برمتها. ولم تبرز الحياة الخاصة بعد لدى كلا الجنسين. هذه السمات الرئيسية هي الباعث وراء إطلاق تسمية "المجتمع المشاعي البدائي" على هذا الطراز من المجتمع. خلاصة، تُشكِّل الكلان – شكلاً وصياغة – الأرضية الخصبة لولادة المجتمع وذاكرته الأولى، ولتطور مصطلحات الوعي والعقيدة الأولية. وما يتبقى من الأمر ليس سوى حقيقة ارتكاز المجتمع السليم إلى البيئة الطبيعية وقوة المرأة، وكَون تَواجُد البشرية قد تحقق في داخله بشكل خالٍ من الاستعمار والاستغلال والقمع، بل ومفعم بالتعاضد والتكافل الوطيدين. والإنسانية، بإحدى معانيها، هي مجمع هذه القيم الأساسية. لكن الاعتقاد بزوال وفناء هذه التجربة المجتمعية الممتدة على طول ملايين السنين، ليس سوى ضرباً من الهذيان والهراء. فمثلما لا يفنى شيء في الطبيعة، فإن هذه القاعدة تواصل قوتها في طراز التكوين المجتمعي بشكل أقوى. من أبرز النقاط التي توصَّل إليها الفهم هي حتى جميع تطور لاحق يتضمن سابقه بالتأكيد. ذلك حتى الاعتقاد بأن الأضداد تتطور بإفناء بعضها، ليس بسليم. ما يجري في هذه القاعدة الدياليكتيكية هوحتى الأطروحة والأطروحة المضادة تواصلان وجودهما ضمن كيان (هجريبة) حديث أكثر غنى. وسياق التطور الطبيعي برمته يؤكد صحة هذه القاعدة. يتواصل تطور قيم الكلان داخل الهجريبات الجديدة أيضاً. وكون مصطلحات المساواة والحرية ما تفتأ تشكِّل أسمى القيم في راهننا، فهي مَدينة في ذلك إلى واقع حياة الكلان. ذلك حتى المساواة والحرية مخفيتان في نموذج حياة الكلان بحالتيهما الطبيعية، قبل حتى تتحولا إلى مصطلح. وحدثا غابت الحرية والمساواة، نجد هذين المصطلحين المستترين في الذاكرة الاجتماعية الحية يعبِّران عن ذاتهما، وبوتيرة متصاعدة، ليفرضا وجودهما مرة أخرى كمبدأين أوليين في مجتمع أكثر تطوراً ورقياً. وحدثا توجه المجتمع في سياقه الطبيعي نحوالهرمية ومؤسسة الدولة، نجد هذين المصطلحين يقتفيان أثر هذه المؤسسات بلا هوادة أورحمة. ولكن ما يقتفي الأثر هنا أساساً (مضموناً)، إنما هومجتمع الكلان بذاته.                             ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة المجتمع العبودي     بالإمكان تقسيم تاريخ المجتمع الإنساني بأشكال مختلفة، وفقاً للمعايير التي تتخذ تقسيم الزمن أساساً. أما إذا اتُّخِذَت أشكال العقلية أساساً، فسيحتلُّ عصر الميثولوجيا، والفهم الميتافيزيقي والإيجابي بخطوطه العريضة حيزاً هاماً من التقسيم. في حين إذا اتُّخِذَت المعايير الطبقية أساساً، نجد أنها طالما تبدت على الشكل التالي: المجتمع المشاعي البدائي، العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي، الاشتراكي وما بعده. هذا وقد عُمِل كثيراً بالتقسيم حسب المدنيات الثقافية الأساسية عبر التاريخ. أما المعيار الأساسي للتقسيم المرحلي الذي ارتأيتُ اعتماده، فيتميز بماهية تغلب عليها القيم الفلسفية والفهمية، ويتخذ من مبدأ آلية الكون العامة أساساً له. بمعنى آخر، إنّ جعْلَ ثلاثية "الأطروحة – الأطروحة المضادة – الهجريبة الجديدة" قابلة للتطبيق كأساس للنظام القائم – مثلما عَمِل به هيغل بكثرة وحوَّله إلى فلسفة أولية لديه – سيسلط الضوء بجلاء أكبر على المراحل المعاشة. فكل الكيانات الموجودة في الكون تجعل الحركة ممكنة بامتلاكها بنى ثنائية متناقضة. وبالطبع، فهذه الحركة ليست حركة ميكانيكية فظة، بل هي حالة حركية خلاقة تشكل التغيير والتنوع في مضمونها. عملى سبيل المثال، يمكننا البدء بالكون من ثنائية الوجود – العدم. حيث تُشكِّل لقاءة الوجود والعدم لبعضهما البعض كياناً جديداً، ألا وهوالحركية بعينها. وبدون وجودهما لا يمكن لذاك الكيان حتى ينفتح أويتحرك. والتكوين بمضمونه ليس سوى مقاومة الوجود تجاه العدم. فبينما يحاول الوجود إفناء العدم، والعدم إفناء الوجود؛ ينتج في المحصلة تيار ثالث، ويظهر الكون على شكل كيان أشبه بالهجريبة الجديدة. شبيه بذلك أيضاً ثنائية الجزيء الأصغري – الموجة. حيث لا يمكن حتى يوجد أحدهما دون الآخر، وإنما يشكلان مع بعضهما الحركة، وبالتالي يقومان بتكوين كيان ما كهجريبة جديدة. ثنائية التطابق – التنوع أيضاً تفضي إلى نتائج مشابهة. إذ لا يمكن للتطابق حتى يبرهن وجوده إلا عبر التنوع، الذي بدونهقد يكون التطابق ضرباً من العدم والفناء. وسنرى الوضع ذاته إذا ما تداولنا أية ظاهرة أخرى. الاختلاف الأكثر وضوحاً يكمن في ثنائية الحيوية – الجمود. ففي كوكبنا الأرضي، وبشكل مغاير لما يجري في الكون الحيوي العام، يتولَّد وسط حيوي بالتزامن مع التطور الوافر للحركة، من داخل وسط مادي مختلف من حيث الماهية، وفي نقطة محددة ينطلق منها، ليُكوِّن ذاته ويطورها عبرالتغييرات الكيميائية المسماة بالأَيْض. وهنا تمثِّل حقيقة التطور الذي لا يعهد الحدود في الكون قفزة خارقة (فوق عادية) لا يزال الفهم عاجزاً عن تحليلها تماماً. لذا ستشكل ظاهرة الحيوية وتعليلها الكامل الموضوعَ الرئيسي الهام للفهم تصاعدياً بعد الآن. أما خارطة الدانا (DNA) وعملية الاستنساخ، فلا تعني حتى هذه الظاهرة قد حُلِّلت كلياً. هذا ولا يمكن لعملية تصنيف الجزيء المتسبب في الحيوية حتى تعلِّل هذه الظاهرة بمفردها. إذ ما من جدل في لزوم وجود وسط خارجي مناسب (غلاف جوي، محيط مائي)، ونظام جزيئات ملائم لحصول الحيوية. لكن جميع هذا ليس سوى اللَبَنات الرُّكْن للحيوية ونظامها المادي. الأهم من ذلك هوارتباط هذا النظام المادي بواقعة لا مادية من حيث المعنى، كالحيوية. ويكمن الخطأ الأولي للفلسفة المادية في اعتبارها حتى الفاعلية، أي الحيوية وظاهرة المعنى، هي عينها الترتيب المادي. فحتى في فيزياء الكوانتوم تنهار هذه العينية (التطابق) وتتحطم. لذا، ثمة ضرورة حتمية لطراز تعليلي أشبه بالحدسية. تتميز حالة الذكاء (العقل) لدى الإنسان من بين الكائنات الحية الأخرى، بوضعية أكثر غرابة. إذ يمكن تعريف الإنسان بأنه الطبيعة التي تفكر في ذاتها على نحوأكفأ. لكن الأهم من ذلك، لما تشعر الطبيعة بالحاجة إلى التفكير في ذاتها،يا ترى؟ وإلى أين يمتد المنبع الأصلي لمهارة وكفاءة المادة في التفكير،يا ترى؟ بالطبع، نحن لا نهدف بطرح مثل هذه الأسئلة إلى ابتكار معضلة البحث عن إله جديد. بل إنها تشير إلى الحاجة الماسة لتحليل الظواهر المسماة بالكون والوجود والطبيعة، كمصطلحات أوسع نطاقاً وأبعد بكثير من تعليلنا إياها بالعين المجردة. ذلك أننا وجهاً لوجه أمام مفهوم (براديغما) للكون كثير الغنى، مثمر ومعطاء، متنوع ولا يعهد حدوداً في التطور. فالمفاهيم المتعلقة بالكون، والبارزة في مختلف مراحل تطور البشرية، كالبراديغمائيات الميثولوجية والميتافيزيقية والفهمية الإيجابية؛ إنما تضع بين أيدينا اصطلاحات وسلوكيات معيشية شديدة الاختلاف مع ما ذكرناه آنفاً. فبينما يتواجد إله لكل شيء في الميثولوجيا، يغلب على الميتافيزيقيا الرأي القائل بإلهِ أوسببِ أول حركة. في حين يُعمَل على تعليل جميع شيء بالمادية الفظة في الفهم الإيجابي، ليطوِّر بذلك فلسفة السببية الكثيفة والتطور ضمن مسار مستقيم. بالطبع، إذا ما أُدرِكَت ماهية السلوكيات في عالم الحيوانات من المراتب الأدنى، فستكون أكثر غرابة. تُرى كيف، وبأي حس تنظر الزواحف والطيور والثدييات إلى الوسط الخارجي،يا ترى؟ كم هوغريبٌ التشبيه المتداوَل بين الشعب، والقائل: "كما ينظر الثور إلى القطار". فكيف هي – إذاً – نظرة الحجارة والذرّات الرملية،يا ترى؟ ذلك حتى لها أيضاً سلوكياتها الخاصة. فالكون والطبيعة بشكل متكامل، يعبِّران عن سلوك معين. بل إنه سلوك في حالة حركية لا نهاية لها. إنني أقوم بهذا الإيضاح الاصطلاحي للإشادة بأن حالة الدنيا ووجودها أيضاً، هي ظاهرة بحد ذاتها. وإذا ما قمنا بتقييم تجريدي عام، نرى أنها ستواصل وجودها كظاهرة، من بداياتها وحتى الأخير. السؤال الهام الذي يطرح نفسه أمامنا بهذا الصدد هو، كيف من الممكن أن يمكننا تأليف أطروحة هذه الظاهرة، وأطروحتها المضادة وهجريبتها الجديدة،يا ترى؟ فإذا ما عرَّفنا الإنسان (ومجتمعه) بأنه الوجود (الكيان) الأرقى في قدرته الفهمية والمعهدية، فإن تثبيت الثنائية الأساسية في هذه الظاهرة، بالإضافةالى هجريبتها الجديدة الأخيرة، إنما يعني بلوغ الاصطلاح الأكثر فهمية. إذن – والحال هذه – كيف من الممكن أن يسير سياق الجدلية ما دمنا أناساً، ونهتم بالإنسان لهذه الدرجة،يا ترى؟ ونحوأية هجريبة جديدة يتجه،يا ترى؟ أوإلى أي منها يتحول،يا ترى؟ على العلوم الاجتماعية القيام أولاً، وكنقطة بداية، بتحليل هذا الاصطلاح. إذا لم يقم سلوك الإنسان – الذي يتسم بحالة وجودية هي الأغرب أطواراً على الإطلاق في الكيان الكوني العام – بهذا التحليل الاصطلاحي الأساسي، فلن يتمكن من بلوغ فهم اجتماعٍ صائب وسليم. وفي هذه الحالة، لن يبقى خيار أمامه سوى الغرق في عالم الظواهر اللامتناهية. وهذا هوأحد الأسباب البارزة للتشوش والخلط بين الأمور في فهم الاجتماع. إن الاصطلاحات والفرضيات والنظريات المتعلقة بالظاهرة الاجتماعية، والتي ابتدأت منذ العصور الميثولوجية، لتأخذ حالة أكثر تعقيداً وتشابكاً مع الأديان التوحيدية والفلسفة الميتافيزيقية، وتغدوعقدة كأداء مع الفهم الإيجابي؛ لا تكتفي بتضمنها النقصان في تعليل المجريات والتطورات، بل وأُدخِلت فيها أخطاء فادحة جداً. ولهذه التعاليل بشأن الظاهرة الاجتماعية دور بارز في بلوغ البشرية إلى حالة تسودها وتهيمن عليها الفترة الرأسمالية الأكثر دموية واستغلالاً على الإطلاق. وإذا لم تحلِّل البشرية ظاهرة المجتمعية بشكل سليم (كشكل للوجود الجوهري)، فمن الجلي حتى مآلها سيكون الديناصورية. ورغم البحوثات البارزة بهدف التحديث من قِبَل فهماء الاجتماع بعد الحربين العالميتين، إلا إنها ليست سوى محاولات سقيمة وواهنة، لا تتعدى إطار تثبيت بعض الحقائق المحدودة جداً. فحتى المدارس الأكثر عزماً وطموحاً كالماركسية، وإلى جانب مساهماتها المحدودة في صياغة الحلول؛ قامت بإتْباع عالم المسحوقين والمستعمَرين الذين مثَّلَتهم وتحركت ناطقة باسمهم على وجه الخصوص، ببراديغمائيات ومفاهيم سياسية جديدة، بحيث لم يتعدَّ دورها جعْلَهم قوة احتياطية للنظام الاجتماعي المهيمن. والأصح أنها لم تتمكن من تحقيق مآربها وطموحاتها. بمقدورنا الاستيعاب حتى الكثير من المدارس والفروع الأخرى في ميدان فهم الاجتماع، لم تستطع إحراز نجاحات أكثر مما أحرزته المجموعات الفلسفية والدينية التي سادت العصور القديمة والوسطى. ويتجلى ذلك بكل سطوع من خلال التدقيق في أدوارها تجاه المتغيرات الحاصلة. ذلك حتى نصيب فهم الاجتماع ومؤسساته ذوأولوية هامة في أبعاد الحروب التخريبية والمبيدة، وجشع الربح والمنفعة الذي لا يمكن كبح جماحه، والأيكولوجيا المدمَّرة. فهم الاجتماع ومؤسساته هم المسؤولون الأساسيون عن ذلك، لأنهم غدوا في خدمة الحروب والسلطة السياسية بدرجة لا مثيل لها في أي فترة من مراحل التاريخ الأخرى. وما العجز عن إيقاف تنامي السلطة السياسية والحروب، وعن نصب السدود في وجه جشع الربح والمنفعة اللامحدودة؛ سوى برهان قاطع، ليس على إفلاس فهم الاجتماع ومؤسساته فحسب، بل وعلى خيانتهم المرتكبة بحق الإنسانية جمعاء. من هنا، يتحتم تناول ودراسة مفهوم حديث وكامل لفهم الاجتماع، ومعالجته ببنية جديدة وطيدة، وطرح ذلك في جدول الأعمال الأولية كنشاط رئيسي وثمين للغاية؛ إزاء المعضلات الأساسية التي تعانيها البشرية. وبناء على ذلك فقط، بإمكان العملية والتنظيم حتى يجدا لذاتهما مكاناً ومساحة وافية. يجب النظر إلى مفهوم فهم الاجتماع – الذي نريد تطويره – ضمن هذا الإطار. واعتبار الاصطلاحات والفرضيات ضرباً من التجارب والاختبارات وفق هذا السياق. بإمكان هذه المساعي التي ستتزايد تصاعدياً، حتى تتمأسس لتزيد من فرص الحل. ويجب النظر إلى اختبارنا الاصطلاحي الأعم من هذه الزاوية. سعينا في البند السابق لرسم وشرح إطار التعريف الذي استندنا إليه في تسمية أول حالة جماعية للبشرية باسم "المجتمع الطبيعي". وطرحنا فيه براديغمائيتنا في كيفية تناول الكون. فانتشار التنظيم الاجتماعي من نمط الكلان، وتوسعه زماناً ومكاناً، واكتسابه بُعداً تنوعياً وحجمياً متزايداً مع الوقت؛ هومن بواعث طبيعته. ومن خلال المعطيات المتوفرة في حوزتنا، يمكننا الوصول إلى حتى الضيق والسخط قد تطورا مع الزمن على صعيد الرجل، في الجماعة المتمحورة حول المرأة الأم، والمتزايدة حجماً، والقديرة هويةً. فالكَمّ المتراكم من الأطفال الملتفين حول المرأة الأم، والرجال المتعاملون معها بغرض مساعدتها بالأرجح، أسفرا عن حسد الرجال الآخرين وتأجج نقمتهم عليهم. الأهم من ذلك حتى المرأة الأم تطوِّر النظام الأهلي المستقر وتوطده، بحيث تؤمِّن فيه طعامها ورداءها وبقية الوسائل والأدوات اللازمة. وبتميزها بمراقبة ما حولها، بلغت مرتبة المرأة الساحرة، لتكتسب مزية الحكمة مع الزمن. وبمقدار إلحاقها كماً أكبر من الأطفال والرجال الأصدقاء (المقربين) بهذا النظام الأهلي المستقر، بقدر ما تغدوالمرأةَ الأم القوية المهابة. نشاهد هنا تطور هيبة المرأة، بحيث لا يمكن كبح جماحها. والبراهين التي بحوزتنا هي أمارات واضحة تشير إلى رجحان انتشار النظام الديني للإلهة الأنثى، والعناصر المؤنثة في اللغة، وبروز قوة المرأة الأم المتصاعدة في المنحوتات الأثرية. إذا النسبة الكبرى من الرجال على مسافة بعيدة من هذا النظام بطبيعة الحال. وقد يبقى من لا تجد فيه المرأة الأم نفعاً – يتكونون بالأغلب من المسنين العجائز – فتطرده خارج نطاق هذا النظام. ومع الزمن، يتأجج هذا التناقض، الذي كان باهتاً في البداية. فعندما كشف تطور الصيد عن قوة الرجل القتالية، صعَّد باللقاء من وعيه ومعهدته. وبناء عليه يشرع العجائز المطرودون من ذاك النظام في التوجه صوب أيديولوجية يهيمن عليها الرجل. نخص بالذكر هنا الديانة الشامانية* التي تضع هذه الظاهرة أمام أعيننا بشكل ملفت للنظر. والشامانيون (الكهنة) يمثلون بالأرجح نموذجاً مصغراً للرهبان الذكور. وهم يسعون إلى تطوير حركة ونظام أهلي مناهض للنساء، وبشكل منظَّم بدقة. إلى غير ذلك يشكلون عبر الشامانية الذكورية نظاماً أهلياً مستقراً تجاه النظام الأهلي المتطور سابقاً حول المرأة الأم النواة؛ بحيث اتسم نظامهم ذاك بشبه الوحشية، يسكنون فيه الأكواخ البسيطة. ويحدث الاتفاق والتحالف بين الشامانيين وبين العجائز وذوي الخبرات والتجارب، كتطور ذي أهمية كبيرة. وتتجذر مكانتهم وتتعزز تدريجياً داخل جماعتهم، عبر القوة الأيديولوجية التي مارسوها وطبقوها على بعض الشبان الذين احتووهم فيما بينهم. يتميز اكتساب الرجل للقوة هنا بماهية ذات أهمية أكبر، حيث تتميز ممارسة الصيد وحماية الكلان تجاه الأخطار الخارجية بماهية عسكرية معتمدة على القتل والجرح (الذبح). إنها بداية ثقافة الحرب. وعندما يغدوالأمر مسألة حياة أوموت، يستلزم حينها ربط الشؤون بالسلطة والهرمية. هكذا يرتقي الشخص الأكفأ والأمهر إلى المنزلة العليا بحديثه ونفوذه. إنها بداية لثقافة مختلفة يتزايد تفوقها تجاه قوة المرأة الأم. تُشَكِّل هذه المستجدات في بروز السلطة والهرمية قُبَيل ظهور المجتمع الطبقي، إحدى أبرز المنعطفات التاريخية. فهي مغايرة في مضمونها لثقافة المرأة الأم، التي ترجح فيها عملية جمع الثمار، ومن ثم اكتشاف النباتات وإنتاجها. أي أنها أنشطة لا تستلزم الحرب، في حين حتى ممارسة الصيد الراجحة لدى الرجل تعد نشاطاً مرتكزاً إلى ثقافة الحرب والسلطة القاسية. والمحصلة كانت حتى تجذرت السلطة الأبوية (البطرياركية) وتوطدت. إن البنية الهرمية والسلطوية هي الأساس في المجتمع الأبوي (البطرياركي). ومصطلح الهرمية يشير في معناه على أول مثال بارز لمفهوم الإدارة السلطوية المتحدة مع السلطة المقدسة للشامان. ولدى ازدياد تكاثُف تقدُّم هذه المؤسسة السلطوية المتعالية على المجتمع، وتَوَجُّهِها مع الوقت نحوالتمايز الطبقي؛ تحولت إلى سلطة الدولة. لكن السلطة الهرمية هنا فردية بالأرجح، حيث أنها لم تتمأسس بعد. لذا فهي لم تكن ذات نفوذ على المجتمع، بقدر ما هي عليه مؤسسة الدولة. والتوافق والانسجام هنا شبه طوعي. ويتحدد مستوى الارتباط وفقاً لمنافع المجتمع. لكن هذه الفترة المبتدئة قابلة لتوليد الدولة من بين أحشائها. يقاوم المجتمع المشاعي البدائي تجاه هذه الفترة حقبة طويلة من الزمن. فمَن يتراكم لديه الإنتاج الفائض في ذاك المجتمع المشاعي، لم يكن بمقدوره فرض الاحترام تجاه سلطته والامتثال لها، إلا عندما يشاطر ما يدّخره مع أفراد جماعته. حيث يُنظَر إلى الادخار والتكديس بعين الجُرم الأكبر. والشخص الأفضل هوذاك الذي يوزع ما يدخره من إنتاج. ويرجع مفهوم "الكرم والسخاء"، الذي ما يزال سائداً في المجتمعات القبائلية، في أصله إلى هذه التنطقيد التاريخية الراسخة. وحتى الأعياد ابتدأت بالظهور كمراسيم لتوزيع الفائض. فالجماعة في بداياتها ترى في الادخار والتكديس أفدح خطر يهدد وجودها، فتجعل من المقاومة تجاهه أساساً للمفاهيم الأخلاقية والدينية لديها. وليس من الصعوبة ملاحظة آثار هذه التنطقيد في كافة التعاليم الدينية والأخلاقية، وبشكل قوي للغاية. لم يصادِق المجتمع على الهرمية، إلا عندما رأى فيها الفائدة والسخاء والمكاسب. تلعب الهرمية بجانبها هذا دوراً إيجابياً نافعاً. هذه الماهية للهرمية المعتمدة على المرأة الأم، تشكل الأساس التاريخي لمصطلح "الأم" الذي مافتئ يُعتَرَف به بإخلال، ويُنظَر إليه كسلطة قديرة في كافة المجتمعات. ذلك حتى الأم هي العضوالرئيس، المنجب الخصيب، والمنشئ المعيل في أحلك الظروف وأقساها. ما من شائبة في حتى ثقافةً وهرميةً وسلطةً متشكلة بناء على ذلك، ستلقى الامتثال الأعظم لها. وتشكيلها لأساس الوجود المجتمعي هوإشارة حقيقية لقوة مصطلح "الأم"، الذي لا يزال يحافظ على منزلته في راهننا أيضاً. وهولا يتأتى من خاصية الإنجاب البيولوجية المجردة، مثلما يُظَن. بل يجب رؤية "الأم، الأم الإلهة" على أنها الظاهرة والمصطلح الاجتماعي الأهم على الإطلاق. حيث تكون منغلقة كلياً تجاه ظاهرة الدولة، ومتسمة بكل المزايا التي لا تولّد تلك الظاهرة. من الواقعي النظر إلى المجتمع الطبيعي كأطروحة لبداية الوجود، ضمن إطار هذا التعريف. فالإنسانية باشرت بوجودها اعتماداً على هذه الأطروحة. ما قبلها كانت الحياة الحيوانية سائدة. وما بعدها يأتي سياق التطور على شكل المجتمع الهرمي والدولتي المتطور بموجب مناهضتها. وبالأصل، تنبع سمات هذه الفترة كأطروحة مضادة من قمعها الدائم للمجتمع الطبيعي، وحسرها إياه. ومثلما انتشر وساد المجتمع الطبيعي كأطروحة في كافة أماكن استيطان الإنسان واستقراره، فهومن حيث المدة أيضاً يعتبر نظاماً اجتماعياً مؤثراً يضم الفترة النيوليتية بشكل رئيسي، والممتدة قرابة أربع آلاف سنة قبل الميلاد. ولا يزال يواصل وجوده حتى حاضرنا في كافة المسامات الاجتماعية، ولكن بشكل مكبوت. يظهر هذا التواصل صريحاً في المصطلحات الاجتماعية أيضاً. فالعائلة، القبيلة، الأم، الأخوّة، الحرية، المساواة، الرفاقية، السخاء، التعاضد، الأعياد، البسالة، القدسية، وغيرها من الكثير من الظواهر والمصطلحات؛ هي من بقايا هذا النظام الاجتماعي. لقاء ذلك، يتسم المجتمع الهرمي والدولتي برجحان كفة خاصيته في قمع هذا النظام وقهقرته، ومواصلته إياها بالأغلب. من هنا تنبع خاصيته في كونه أطروحة مضادة. أما تداخل هذين النظامين الاجتماعيين، فيتوافق لأبعد الحدود مع دواعي القوانين الدياليكتيكية الأساسية. النقطة الهامة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا، هي تطوُّر الأطروحة والأطروحة المضادة في اصطلاحنا الجدلي وفق خاصية "القمع والحَسْر"، لا إفناء إحداهما للأخرى. فالنظم الاجتماعية تحتوي بعضها البعض عندما تصبح في حالة أطروحة وأطروحة مضادة، طبقاً لما هي الحال في الطبيعة برمتها. لا ريب في حتى المقاومات والنضالات الجارية فيما بينها تنمُّ عن مستجدات مهمة. لا يمكن للأطروحة حتى تظل على حالتها القديمة بتاتاً، ولكن الأطروحة المضادة أيضاً لا تهضم سابقتها كقادر مقتدر مطلق. بل إنها تتطور بالتغذي عليها. ثمة فائدة في شرح الدياليكتيك قليلاً بشأن هذه النقطة. حيث فُسِّرَت الأطروحة والأطروحة المضادة على أنها ظاهرة إفناء إحداهما للأخرى في المجتمع، في عهد الماركسية الدوغمائية. يعد هذا النمط من التعليل أصلاً أحد أبرز الأخطاء النظرية فيها. ذلك حتى السمة المتَّبَعة في كافة العلوم، وعلى رأسها البيولوجيا، هي الأهمية البارزة لجانب التغذية المتبادلة للظواهر في تطوراتها وتحولاتها. أما حالات الإفناء وما شابهها، فهي استثناء. أما الغالب فهوتغذية الأطروحات والأطروحات المضادة بعضها البعض. والتعبير الأكثر شفافية لذلك هوثنائية الطفل – الأم. إذ ينموالوليد في حالة من التناقض مع الأم. ولكننا لا يمكننا حتى نستخلص من ذلك حتى الطفل يفني أمه. ولا يمكن تقييمه إلا بكونه تغذية متبادلة لتأمين سيرورة النسل ودوامه. وثنائية الأفعى – الفأر تعد نقطة الذروة. فما يجري هنا هوتحقق التوازن بين التكاثر المفرط للفأر، والتكاثر النادر للأفعى. فلولم تكن الأفعى، لربما كانت الفئران ستلعب دوراً تخريبياً يضاهي دور الديناصورات. ومع مرور جميع يوم يتجلى بسطوع أكبر حتى الموجودات في الطبيعة ليست خالية من المعنى أوبلا فائدة، بل لكلٍّ منها معنى أيكولوجي محدد. لكن، ورغم ذلك، قد يسري مفعول مصطلح "النقطة الذروة" أو"الحدود المطلقة"، كمصطلح على الأقل، في مساحة محدودة للغاية. لقد غدت مسألة تطوُّر قانون الطبيعة الأساسي على شكل الارتباط والترابط المتبادل، السمة التي تنبهت إليها كافة العلوم. يتعلق التغيير الذي رغبتُ إحداثه لدى دراسة أنظمة المجتمع، بالتقربات المتبعة فيما يخص الضرورة والمصادفة. إذا مفهوم النسبية الكثيفة والتطور وفق خط مستقيم بلا تقاطع، والذي تمتد جذوره إلى مفهوم القانون الإلهي، وينتشر في نظام التفكير الغربي؛ قد بطُل مفعوله، بعدما أوضحنا في بداية كلامنا المستجدات الجارية في فيزياء الكوانتوم والكوسموس. ذلك حتى "مساحة الفوضى البينية" تُبرِز وجودها في جميع ظاهرة في دياليكتيك التطور. فالتغيرات النوعية تحتِّم وجود هذه المساحة البينية. وهذا ما يشير بوضوح إلى حتى التطور اللامنبتر، والتقدم الدائم على خط مستقيم في جميع زمان، ليس سوى تجريداً ذهنياً وتقرباً ميتافيزيقياً. إذ من غير الممكن حصول التقدم على خط مستقيم، انطلاقاً من هذه المساحة البينية. فالكثير من المؤثرات بعلاقاتها القائمة في تلك المساحة البينية، قد تمهد السبيل لإحداث تطورات كثيرة كمياً، وفي اتجاهات متعددة. تسمى هذه المساحات البينية في المجتمع الإنساني بـ"منطقة الأزمات". ولكن، ما هي ماهية التطورات الاجتماعية التي ستخرج من الأزمة،يا ترى؟ هذا ما سيحدده مستوى النضال الذي تخوضه القوى المتأثرة بتلك الأزمة. قد تتمخض عنها أنظمة عديدة. ومثلما قد تكون أكثر تقدمية، فربما تكون أكثر رجعية أيضاً. بيد حتى اصطلاح "تقدمي – رجعي" أمر نِسْبي. فالتقدم المستمر لا يتواءم والنظرية الكونية. ولوحتى هذا المبدأ كان سليماً، لكانت المزاعم الميتافيزيقية سارية المفعول. لا ينسجم الحديث عن الحقائق المطلقة مع مبدأ التكوُّن الكوني. فالطبيعة لا تتطور مع المطلقيات. ذلك حتى المطلقية تعني اللاتغيير، التطابق. وطراز وجودنا برهان قاطع على عدم وجود أمر كهذا. يمكن الاستخلاص من خصائص القانون في العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية حتى تطور القانونية في الطبيعة صوب الإنسان، واعتماداً على مساحات الفوضى البينية؛ إنما يحصل بحالة في غاية من المرونة. في حين حتى القانونية في المجتمع الإنساني تتسم بالمرونة لأبعد الحدود. معنى ذلك إمكانية إحراز عدد كبير من القوانين تطوراً ملحوظاً وكثيفاً في مساحات القانون البينية. ارتباطاً بذلك، فكون مستوى الحرية رفيعاً، إنما يسفر عن تعددية عظمى في المجتمع الإنساني. فالمرونة تولِّد الحرية، والحرية تولِّد التعددية. بهذا المعنى، يُعَد الإنسان كائناً خارقاً في الطبيعة بصياغته الكثيفة والكثيرة على الإطلاق للقانونية. وبالتالي فالمجتمع الإنساني أيضاً يصوغ قوانين نظامه بنفس الغنى والكثافة. أود عبر هذه الفرضيات الأساسية البرهنة على أنه لا أصل من الصحة للزعم القائل بتطور المجتمع الهرمي والدولتي كضرورة لا بد منها، من أحشاء المجتمع الطبيعي. قد تكون ثمة ميول في هذا الاتجاه، ولكن الافتراض بأنها ضرورة لا انقطاع فيها، ومستمرة إلى نهاية المآل، خاطئ تماماً. ومثلما سأوضح في الفصل اللاحق بين الفينة والفينة، يُعَد التحديد الذي وصلَت إليه الماركسية (باسم المسحوقين والمستعمَرين)، والذي يفيد بضرورة ظهور المجتمع الطبقي لأجل التقدم؛ أحد أفدح الأخطاء المرتكبة التي تَرَكَت الاشتراكية – مسبقاً – عُرضةً للهيمنة الطبقية. هذا الخطأ هوالباعث الأولي لبلوغ الماركسية حالة قوة احتياطية للرأسمالية، خلال تاريخها الممتد على طول قرن ونصف تقريباً. فالنظر إلى الدولة والطبقات والعنف كأطوار لا مفر من حدوثها على مسار التقدم، يعني الاستهزاء بالمقاومة العظمى التي أبداها المجتمع الطبيعي حتى راهننا، واستصغارها، بل وحتى إنكار وجودها، وإهداء تاريخها تلقائياً إلى القوى المهيمنة التسلطية. أما رؤية وجود الطبقات كقدر محتوم لا مناص منه، فيعني التحول إلى آلة بيد أيديولوجيي الطبقات المهيمنة، وربما دون الانتباه إلى ذلك. أي أنه يعني لعب أخطر الأدوار باسم المسحوقين والمستعمَرين من هذه الزاوية. وكأن التاريخ تُرِك عُرضة لاستيلاء مثل هذه التيارات الأيديولوجية والسياسية. لقد أبدت الهرمية والطبقية تطوراً. لكن هذا التطور ليس بضرورة. ذلك حتى الهرمية، والدولتية المرتكزة إليها، قد رسختهما القوى المطبِّقة للظلم والاستبداد والكذب والرياء بأقصى الدرجات. وقد أبدت قوى المجتمع الطبيعي الرئيسية مقاومة لا تعهد السكون والنضب تجاه ذلك. ولكنها حوصِرت وحُدِّدت بأضيق المناطق والمساحات البينية، بل ولم تُقحَم بتاتاً في بعض المناطق والمساحات البينية الأخرى. لقد ترسخت الرؤية التي تَعتَبر المجتمع برمته تعبير عن طبقات وهرميات للدولة، عبر السياسات والنادىيات الأساسية للنظام المهيمن. أما اللعبة المسماة بـ"القدر"، فهي عنوان لهذه الممارسة الميتافيزيقية. ويكاد لم ينجُ من عدوى هذه اللعبة أي دين أوممضى أومدرسة فلسفية أوفهمية. وهي – أي اللعبة – حصيلة القمع الجسدي والفكري الفظيع، والسياسات والنادىيات المريعة التي طبقتها أيديولوجية الرهبان ودولة الإله المَلك قبل آلاف السنين. ومن شاء سمَّى هذه اللعبة "ميثولوجيا" أو"فلسفة"، وإلا، فسمَّاها "مدرسة فهمية". النقطة المبلوغة هي حالة حاضرة من تدوُّل الأيديولوجيات والعلوم بشكل كلي. ومهما تم الهجريز على نصيب الماركسية في هذا الاتجاه، سيكون أمراً في محله. سأعمل على إنارة هذه الألاعيب ونصيب جميع واحدة منها، خطوة خطوة. كان النظام الأهلي للمرأة الأم أولَ ضحية للمجتمع الهرمي. من الممكن تصدرت المرأة قائمة الشرائح المسحوقة في نظام المجتمع. وعدم تواجد تلك الحقبة المعاشة بشكل واسع النطاق فيما قبل التاريخ في العلوم الاجتماعية؛ إنما يتأتى من القيم المترسخة للمجتمع الذكوري المهيمن والمتجذر في الأغوار. يُعَد جَرُّ المرأة إلى المجتمع الهرمي خطوة خطوة، وافتقاده لكافة سماتها المجتمعية الراسخة، الثورةَ المضادة الأهم على الإطلاق، والمطبقة على المجتمع. حتى إذا تمعّنّا في حالة المرأة في عائلة كادحة فقيرة في راهننا، فلن نتمالك أنفسنا من الذهول إزاء أبعاد القمع والخداع المطبَّقين عليها. وما كون جنايات الشرف والعشق حِكْراً على الرجل، وبدوافع تافهة للغاية، سوى مؤشرات وميضة لما يجري حولنا. إذا ربط تلك الحقبة بالفوارق البيولوجية سيكون من أبرز الأخطاء المقترَفة. إذ لا يمكن حتى تكون الأدوار (أوالقوانين) البيولوجية سارية المفعول في العلاقات الاجتماعية. ولا يمكن دراسة تلك العلاقات، إلا بموجب العلاقات المتبادلة بين الخصائص الذكورية والأنثوية. وهذا ما ينطبق على كافة الأجناس والأنواع. لقد أُقحِمَت قوة المرأة الأم تحت الهيمنة والتسلط، بدوافع اجتماعية في أساسها. والقمع والأيديولوجيات المطب‍ّقة، إنما هي لهذا الغرض تماماً. أما تعليل ذلك بالغرائز الجنسية والبسيكولوجيا (فهم النفس)، فهوتحريف وخيم. إن الرجل المعزِّز لقواه بممارسة الصيد، والمنظِّم مجموعته في أطرافه، أَدرَج نظام المرأة الأم الأهلي تحت مراقبته رويداً رويداً، بعد حتى تنبه لقواه جيداً، وفرضها على من حوله. استمرت هذه الفترة حتى تأسيس مراكز الدول الأولى. ونرى أروع توضيح لها في مدن الدول السومرية. تشرح اللُّقى واللوحات المدوَّنة هذه الحقيقة بلغة شعرية رائعة وملفتة للأنظار. فملحمة إينانا، إلهة مدينة أوروك، والبادئة في تأسيس مدينة الدولة السومرية؛ ملفتة للأنظار جداً. تتطرق هذه الملحمة، التي تصوِّر تلك الحقبة التي لا تزال فيها قوة المرأة والقوة الأبوية البطرياركية متكافئتين، إلى ذكريات تلك الفترة المشحونة بالاحتدامات الضارية للغاية. حيث حتى ذهاب إينانا، كإلهة لمدينة أوروك، إلى قصر "أنكي"، إله مدينة أريدو، واستحواذها هناك على الـ"ما"ءات التي يبلغ عددها (104)، والتي كانت تمتلكها فيما قبل، وحظْيُها بها بشتى الأساليب والوسائل، لتُهَرِّبها معها إلى أوروك ثانية؛ إنما يلعب دور المفتاح الأساس في تنوير هذه الفترة وإيضاحها. المقصود هنا بالـ"ما"ءات هوالاكتشافات الحضارية الأساسية. تُصِرُّ إينانا على التذكير بأن هذه الاكتشافات تعود إلى المرأة "الإلهة الأم"، وأنه لا دور لأنكي، الإله الرجل، فيها بتاتاً. وأنه سرقها منها عنوة ومكراً. إذا جميع محاولات ومساعي إينانا تلك، تمثلت في استعادة قوة الإلهة الأم مجدداً. يمكننا التخمين بأن هذه الملاحم ذُكِرَت في أعوام 3000ق.م. وهي حقبة لا تزال قوة المرأة الأم في حالة توازن أثناءها. هذه الثقافة والقوة المنحسرة تدريجياً بعد هذا التاريخ، تتعرض لإجحاف كبير، لدرجةٍ وَجَدَت فيها المرأة ذاتها لاحقاً في بيوت النادىرة المسماة بـ"مصاقدين" في مدينة نيبور، مركز الحضارة في تلك الأوقات (مثل نيويورك اليوم). فبينما يؤسس الرهبان السومريون حَرَماً نسائياً لذاتهم في الزقورات من جهة، يقومون بتأسيس بيوت النادىرة لأجل الشعب أيضاً من الجهة الثانية. بذلك غدت الإلهة تيامات في ملحمة "أنوما أليش"، المدوَّنة في أعوام الألفين قبل الميلاد، مومساً فاجرة وقبيحة، وتمثِّل المرأة الواجب تمزيقها إرباً إرباً. إنه لفظ مريع، ولكنه يصوِّر الحكم الصادر بحقها والمطبق عليها. وفيما بعد، تُكمِل الصورةَ المرأةُ ذات الصوت البديع والشكل المزركش الجميل، والمحبوسة في القفص على يد نظام المجتمع البورجوازي والديانات التوحيدية. وقد أَحرَز إلحاق المرأة المقحَمة في حالة ثابتة عبر نادىيات أيديولوجية متكاثفة، تقدماً هائلاً في النظم التاريخية والاجتماعية، لدرجة غدت عقلية المرأة بالذات تقول فيها بأن هذا قدرها، وتَعتَبِر تأدية مستلزماتها المطلوبة منها من دواعي ذاك القدر المحتوم. وأضحت تنظر إلى الديانات التوحيدية على أنها أمر الإله، في حين نرى حتى الفلسفة اليونانية تشير إلى المرأة كمؤثر باعث على الضعف والوهن، وأنها مجرد كومة مادية محضة، وحقل يحرثه الرجل، وغيرها من المواقف المُحِطّة من شأنها. لا يمكن شرح أوإيضاح الدولة، ولا بنى المجتمع الطبقي الذي تستند إليه، بدون تحليل الحالة التي أُقحِمَت فيها المرأة مع بدء النظام الهرمي. ولنفس السبب لن نتخلص حينئذ من أبرز المغالطات. فالمرأة ليست مجرد "جنسية"، بل هي "إنسان" مبتور من المجتمع الطبيعي، ليُحكَم عليه بأشد أنواع العبودية. تتطور كافة ضروب العبودية الأخرى ارتباطاً بعبودية المرأة. من هنا، فبدون تحليل عبودية المرأة، من المحال الفلاح في تحليل العبوديات الأخرى. وبدون تخطي عبودية المرأة، يستحيل تخطي العبوديات الأخرى. فحتى المجتمع الطبيعي قد شهد قوة المرأة كإلهة أم على مر آلاف من السنين. والقيمة المتسامية على الدوام، كانت الإلهة الأم. إذن، كيف من الممكن أن قُمِعَت ثقافة مجتمعٍ، هوالأطول والأضم،يا ترى؟ وكيف حُوِّلَت في راهننا إلى بلبل جميل وديع محبوس،يا ترى؟ قد يَهيم الرجال بهذا البلبل، ولكنه مجرد أسير. وبدون تخطي هذا الأسر الطويل العمر والغائر العمق، لا يمكن لأي نظام اجتماعي التحدث عن المساواة والحرية بتاتاً. فالحُكم القائل بأن مستوى حرية المرأة ومساواتها يُحدِّد مستوى المجتمع بهذا الصدد، إنما هوصائب. لم يُكتَب تاريخُ المرأة بشكل يُذكَر حتى الآن. ولم تُحدَّد مكانة المرأة الحقيقية في أي فهم اجتماعي. فحتى الأكثر زعماً باحترامه للمرأة، يُحدِّد سلامة حُكمه هذا وسريان مفعوله ارتباطاً بمدى تحول المرأة إلى آلة لنزواته وأطماعه. وفي حاضرنا، لا يَعتَرف أي رجل بالمرأة كإنسان صديق له، اللهم فيما عدا بُعدها الجنسي. فالصداقة سليمة فيما بين الرجال ذاتهم. أما انادىء صداقة المرأة، فلا يعني سوى الفضيحة الجنسية المخزية في اليوم الثاني. لذا، يجب النظر إلى مسألة إيجاد أوخلق رجل متجاوز لمثل هذه المواقف، كإحدى أبرز خطوات الحرية الأساسية. وسأعمل على تجذير تحليلي لهذا الموضوع تماشياً مع تقدمي فيه. يجب التحدث، وبأهمية بالغة، عن القمع والتبعية التي طبقها العجائز الخبيرون في المجتمع الهرمي على الشبان اليافعين. فهذا الموضوع المدرَج في العلوم الأدبية المسماة بـ"الجيرونتوقراطيا Jerontokrasi"*، إنما هوحقيقة واقعة. لكن، وكيفما تعزِّز الخبرةُ صاحبَها العجوز من جهة، فإنَّ كِبَر سنه يُضعِفه تدريجياً من الجهة الثانية. فرضت هذه الخاصيات على العجائز المسنين حتى يُسخِّروا الشبان في خدمتهم. فقاموا بغسل أدمغتهم ليطوروا هذه الآلية، ويربطوا جميع حركات الشبان بأنفسهم. تستمد البطرياركية قوة عظمى من هذه الظاهرة. فهم يستثمرون القوى الجسدية الغضة، ليحققوا من خلالها آمالهم وطموحاتهم. استمرت هذه التبعية المحيقة بالشبان حتى راهننا، مع تجذرها المتواصل. ليس من السهل هدم عُلوية وتفوق الأيديولوجيا والخبرة. يتأتى مصدر تطلع الشبيبة إلى الحرية من هذه الظاهرة التاريخية. إذ لا تُزَوَّد الشبيبة بالأقسام الحساسة والحرجة من المعلومات الاستراتيجية. والحال هكذا منذ عهد الحكماء المسنين القدامى، وحتى رجال الفهم ومؤسساتهم في راهننا. بل ما يُمنَح إياها ليس سوى معلومات مخدِّرة ومؤمِّنة لسيرورة تبعيتها. وحتى إذا مُنِحَت المعلومات، فلا تُمنَح أدوات تطبيقها. فالتسويف والإمهال الدائم هوتكتيك إداري ثابت لا يتغير. هذا علاوة على حتى الاستراتيجيات والتكتيكات وأنظمة القمع والاضطهاد والنادىية السياسية المطبقة على المرأة، سارية المفعول على الشبيبة أيضاً. تنبع رغبة الشبيبة وطموحها الدائم إلى الحرية من حالة القمع الاجتماعي الخاصة تلك، وليس من حدود عمرها الجسدي. أما مصطلحات "الثمِل، السكران، المراهق الغِرّ القليل التجربة"، فهي ألفاظ نادىئية أساسية مبتَكَرة للحط من قدر الشبيبة. كما حتى ربطها بالغرائز الجنسية على الفور، وجذبها إلى التمرد والعصيان، وإتْباعها بالدوغمائيات الحفظية والمتصلبة؛ يرتبط بعملية إعاقة تَوَجُّه طاقاتها الكامنة نحوالنظام القائم، بغرض توطيده وتجذيره. من الصعب ضبط الشبيبة المتوجهة نحوالحرية. فهي تتصدر الشرائح التي تُبلى بها الأنظمة السائدة. ولأن هذا معروف يقيناً على مر التاريخ، فقد أُلحِقَت الشبيبة بممارسات وتطبيقات لا تخطر على البال أوالخاطر، لتكون الضحية فيها تحت قناع التدريب والتعليم. وقد لعب إسقاطها في هذه الحالة – بعد إسقاط المرأة – دور المفتاح في تفوق المجتمع الهرمي. لم يكن هباء حتى يَعتَبِر النظام المسيطر على الشبيبة والمراقِب إياها، نفسَه بأنه الأقوى على الإطلاق. واستمرت نظم المجتمع الدولتي فيما بعد بتطبيق ممارسات مماثلة عليها. إذ حتى شبيبةً غُسِلَ دماغها على هذه الشاكلة، يمكن تحفيزها للهرع إلى أي عمل كان، وجعلها تمتهن أي مهنة شاقة – بما فيها الحرب – وتَنجَرُّ وراء كافة الأعمال العصيبة، بل وتكون في المقدمة أيضاً. باختصار، إذا علاقة المسنين مع الشبيبة بإتباع الأخيرة وربطها بهم حصيلة نقاط ضعف المسنين وقوتهم في آن معاً؛ لم تفقد من وتيرتها وكثافتها شيئاً – ولوبمثنطق ذرّة – بمواصلة النظم المهيمنة إياها بأقوى الأشكال. عليّ التذكير ثانية بأن الشبيبة ليست حدثاً جسدياً، بل اجتماعي. طبقاً لما هي عليه المرأة التي تشكل ظاهرة اجتماعية، لا جسدية. وتتمثل المهمة الأولية لفهماء الاجتماع في الغوص في منابع هذه التحريفات المحيطة بهاتين الظاهرتين، وكشف النقاب عنها وفضحها. هذا ويجب تناول الأطفال أيضاً ضمن هذا الإطار. فمن يأسِر المرأة والشبيبة، يُعتَبَر مُدرِجاً الأطفالَ أيضاً في نطاق نظامه كما يشاء، وإن بشكل ملتوٍ. يحظى تسليط الضوء على الجوانب الانحرافية المفرطة لتقربات المجتمع الهرمي والدولتي إزاء الأطفال بأهمية قصوى. فالعجز عن تدريب الأطفال وتنشئتهم على نحوسليم وسليم، بسبب تربية الأم، يجعل سياقهم الاجتماعي اللاحق برمته منحرفاً، وضرباً من الكذب والخداع. ويتأسس نظام تعليمي معني بالأطفال، مرتكز إلى القمع والمخانادىت الأعظمية. وتُبذَل المحاولات من قِبَل النظام السائد لتطبيق التبعية عليهم بشتى الأساليب المتنوعة، منذ المهد. المقولة التي مفادها "ما تكون عليه في السابعة، هوأنت في سن السبعين"، إنما تشيد بهذه الحقيقة. إذ يُترَك التقرب الحر للمجتمع الطبيعي كمجرد خيال ووهم لدى الأطفال، بحيث لا يُؤذَن لهم إطلاقاً بإحياء خيالاتهم تلك. إذا تنشئة الأطفال وفقاً للخيالات الطبيعية من أسمى المهام وأنبلها. ننوه مرة أخرى للضرورة: لا يمكن رؤية اكتساب العلاقة البطرياركية للقوة بعين الضرورة الحتمية. علاوة على أنها ليست انطلاقة شفافة، وكأنها من دواعي القانون. بل تستلزم هذه العلاقة الهجريز عليها بدقة وعناية، باعتبارها تشكل الفترة الأساسية على الدرب المؤدية إلى التمايز الطبقي والتدوُّل. إذا كون العلاقات الملتفة حول المرأة الأم على شكل تعاضد منسق ومنظم، أكثر مما تكون علاقة قوة وسلطة؛ إنما يتطابق مع جوهر المجتمع الطبقي، ويتواءم وإياه. وهي لا تشكل انحرافاً، كما أنها منغلقة إزاء سلطة الدولة. وانطلاقاً من تكوينتها التنسيقية التنظيمية، فهي لا ترى حاجة للجوء إلى العنف أوالرياء. توضح هذه النقطة أيضاً مسببات كون الشامانية ديناً ذكورياً. وإذا ما تفحصنا الشامانية عن كثب، سندرك أنها مهنة يغلب عليها إظهار القوة والتضليل. حيث تُجهَّز القوة والميثولوجيا بدقة حاذقة، بغرض السلطة التي سيتم بسطها بمكر ودهاء على شفافية المجتمع الطبيعي. ويغدوالشامان امرؤً يتجه ليكون راهباً ورجل دين. وتتجه العلاقات مع الأسلاف المسنين إلى تكوين التحالف معهم. ذلك أنها بحاجة ماسة لرجال الصيد الأشداء في سبيل بسط الهيمنة التامة. وتكون المجموعة الأكثر ثقة واعتداداً بقوتها وكفاءاتها هي القابلة للتحول إلى النواة العسكرية الأولى. وتتراكم القيم والمهارات تدريجياً في يد هذا الثلاثي. وتُفرَّغ أطرافُ المرأة الأم رويداً رويداً، بكل مكر ودهاء. ويدخل النظام الأهلي دائرة الرقابة بالتدريج. فبينما كانت المرأة تمثل القوة المؤثرة على الرجل، وصاحبة القول الفصل؛ تندرج بعدئذ – وبالتدريج – تحت نفوذ السلطة الجديدة. ليس مصادفة حتى تُبسَط أول سلطة قوية على المرأة بالذات. فالمرأة قوة المجتمع التنسيقي، والناطقة باسمه. وبدون تجاوزها، سيكون محالاً على البطرياركية إحراز النصر. بل وأبعد من ذلك، لن تنتقل إلى مؤسسة الدولة. لذا، فتخطي قوة المرأة الأم يحظى بأهمية استراتيجية. وبموجب المعطيات والمعلومات التي بين أيدينا، ندرك حتى تلك الفترة شهدت مشقات عصيبة للغاية، تماماً مثلما شوهد في الدلالات والبيِّنات السومرية. ما ينعكس على الديانات التوحيدية هوحتى عامل المرأة الممثَّلة في "ليليت – حواء" يصوِّر سمات تلك الفترة بأكثر الأشكال لفتاً للنظر. فبينما تكون "ليليت" المرأة الأبية التي لا تخنع، تصوِّر "حواء" المرأة المستسلمة. ووصل الأمر مرتبة غدت فيها مزاعم خلق المرأة من ضلع الرجل معياراً تقاس به تبعيتها. ومن جانب آخر، فإغداق المرأة بالكثير من اللعنات والافتراءات (ممثَّلة في ليليت)، ونعتها بالجنّيّة الشريرة والمومس، وبرفيقة الشيطان وغيرها مما شابه من الشتائم والمسبات الكبرى الموجودة؛ جميع ذلك برهان قاطع على وجود احتدامات ومنازعات ضارية آنذاك، ومؤشر على تلك الثقافة والأفكار والعقائد التي سادت آلافاً من السنين. لا يمكننا استيعاب السمات الأولية لثقافة المجتمع الذكوري المهيمن اللاحق لتلك الفترة، أوتفهمها على نحوسليم، ما لم نحلل الانقلاب الاجتماعي الحاصل إزاء المرأة. وحينها يستحيل حتى التفكير بكيفية حصول التكون الذكوري الاجتماعي أيضاً. وبدون إدراك التكون الاجتماعي للرجل، من المحال تحليل مؤسسة الدولة، أوصياغة تعريف سليم لثقافة "الحرب" و"السلطة" ارتباطاً بالدولة. إذا الدافع وراء هجريزنا المكثف على هذا الموضوع هوتسليط الضوء على حقيقة الشخصيات الربانية (الإلهية) الفظيعة، وعلى جميع حدودها واستعماراتها ومذابحها المرتكبة؛ والتي لم تكن سوى حصيلة لكافة التمايزات الطبقية الظاهرة بعد تلك الفترة. فإذا ما نظرنا إلى لعنة الإنسانية (السلطة السياسية، الدولة) بعين براديغمائيتها المقدسة، ستتحقق حينها أقذر ثورة مضادة للعقلية الإنسانية. وهذا ما حصل عملاً. أما تسمية ذلك بالمؤثر الضروري لأجل التقدم، فتُعَد أخطر الثورات المضادة، بما فيها الماركسية أيضاً. لذا، إنْ لم نمرِّر التاريخ من مصفاة النقد بشكل أكيد، ولم نصحح مساره من هذه الزاوية؛ فإن أية ثورة ستقوم، لن تنجومن التحول إلى ثورة مضادة، وخلال فترة وجيزة. مع انهيار عالم المجتمع الطبيعي للمرأة أولاً، ومن ثم الشبيبة والأطفال، وتأسيس الهرمية المعتمدة على القوة والخداع (الميثولوجيا)، وتسليطها عليهم؛ يتحول ذلك إلى شكل مهيمن للمجتمع الجديد. في حين يتزامن ذلك مع تصاعد ثورة مضادة جذرية أخرى، حيث تبدأ فترة التضاد مع الطبيعة، والتوجه نحوتدميرها وتخريبها. إذا الاعتقاد باستحالة العيش والتطور من دون وجود أنموذج القتال وممارسة الصيد، ليس بفرضية ذات أصل. فالحيوانات غير المتغذية على اللحوم أكثر عدداً بآلاف الأضعاف من تلك التي تقتات على اللحوم. أي حتى عدد الحيوانات آكلة اللحوم قليل جداً. وإذا ما تمعنا في أغوار الطبيعة، سنجد حتى غطاء وفيراً من الأعشاب والنباتات تَكَوَّن أولاً لتلبية احتياجات الحياة الحيوانية. والتطور الحيواني هومحصلة للتطور النباتي. هكذا هي العلاقة الجدلية. ذلك أنه ما من وجود لحيوان يأكله الحيوان الأول الظاهر. فهويقتات على الأعشاب. إذن، يتوجب النظر إلى التغذية على اللحم بعين الانحراف. فلوأكلت جميع الحيوانات بعضها بعضاً، لما تكوَّن نوع حي منها. إنه تطور مناقض ومنافٍ لقوانين التطور الطبيعي. تظهر الانحرافات من الميول الأساسية المتواجدة في الطبيعة في جميع الأزمان، ولكن إذا ما عملنا على اعتبارها أساساً، وأسقطناها على نوع ما في الطبيعة، فسينقرض ذاك النوع وينضب. والتعبير الأكثر إشادة بهذه الظاهرة – بشرط ألاقد يكون اجتماعياً – هوالحالة المعاشة في الذين يتميزون بجنسية ثنائية (أخنث). فإن أضحى جميع الناس أخناثاً، أي ذوي جنسية ثنائية (وهذا ما يعني ممارستهم علاقة اللواط)؛ فسينضب نسل الإنسان تلقائياً. إذا هذا التعليل المقتضب كفيل بما فيه الكفاية للإشارة إلى التشوه والضلال الناجم عن التطور الاجتماعي المرتكز إلى ممارسة الصيد والقتال. لثقافة القتل نتائج معنوية أشد وطأة مما هي عليه من الناحية المادية. فالجماعة التي تحوِّل اغتال الحيوانات وأبناء جنسها إلى طراز في حياتها – عدا الدفاع الاضطراري عن الذات – ستقوم بتأسيس جميع أنواع الأنظمة الآلاتية أوالمؤسساتية في سبيل تطوير آليات الحرب. ولدى إعداد الدولة كقوة أساسية، ستُختَرَع سهام الحرب، ورماحها وفؤوسها، وستُطوَّر على أنها أثمن الأدوات والوسائل. إذا تطور المجتمع الأبوي من أحشاء المجتمع الأمومي الطبيعي، وتناميه كأخطر انحراف في التاريخ، إنما يعبر عن مضمون أشكال القتل والاستعمار الفظيعة الممارسة على مر التاريخ وحتى راهننا. هذا التطور، دعك من حتىقد يكون قدراً محتوماً أوشرطاً ضرورياً لأجل التقدم، بل هوانحراف وضلال، بكل ما للحدثة من معنى. إنه أشبه بمَلَكية الأُسُود. كما يشبه الجدلية القائمة بين الأفعى والفأر. إنَّ نعت نظريات الدولة – منذ هذه اللحظة – بنظرية "الأفعى – الفأر" سيكون تفسيراً أدنى إلى الصواب. فأغلب الرجال تكون كنيتهم "الأسد"، حيث ثمة تَحَسُّر وتَوق كبير لأنقد يكونوا كذلك. ولكني أتساءل: "كي يفترسوا من؟". إلى جانب ندرة المعلومات لدي، إلا إنني فهمتُ في الآونة الأخيرة حتى الفيلم الأخير لمسلسل "سيد الخواتم – عودة المَلِك" قد حاز على إحدى عشرة جائزة أوسكار. يتلخص مضمون الفيلم في إضاعة الخاتم، رمز السلطة. إنه تَصَوُّر (افتراض) منتَظَر من أمريكا. ولربما يمثل ذلك فترة تمهيدية لاتخاذ التدابير اللازمة وغسل الأدمغة، لتطبيق الكثير الكثير من الممارسات العالمية عليها، بعد حتى سقط القناع عن السلطة. إنها فترة تكوين البراديغمائيات الجديدة، ويبدوأنها – أمريكا – تستعد لذلك. إنهم أناس متعقلون، إذ يدركون يقيناً أنه ما من قوة ستبقى على حالها، طالما ظهور الوجه الحقيقي والخفي للسلطة الكلاسيكية. فالقوى المهيمنة والمشرفة على كافة العالم، تَعتَبِر تأدية مستلزمات ألوهيتها وتطويرها بكل دقة ودون أي قصور؛ من أبرز وظائفها الأولية. فكل شيء يحدث بفهم منها. ألا يقولون في القرآن بقُرب الإله من مخلوقاته بقدر قُرب شَعرهم منهم! يمثل التنظيم العسكري الذروة التي تبلغها ثقافة الصيد والحرب. ويتطور هذا التنظيم حدثا تبعثر المجتمع الطبيعي والإثني. وبينما يُطوِّر التنظيم الملتف حول المرأة الأم علاقات النَّسَب والجِينات والقرابة، يتخذ التنظيم العسكري من الرجال الأشداء المنبترين عن هذه العلاقات أساساً له. وغدا يقيناً أنه ما من شكل للمجتمع الطبيعي يمكنه الوقوف في وجه هذه القوة، حيث تدخَّل العنف الاجتماعي – يمكن تسميته أيضاً بالعلاقة المدنية – في العلاقات الاجتماعية. والقوة المعيِّنة هي أصحاب العنف. هكذا تُفتَح الطريق أمام المُلكية الخاصة أيضاً. يمكن الاستيعاب حتى العنف يتخفى في أساس المُلكية. والاستيلاء بالعنف وسفك الدماء، يعزِّز عاطفة الـ"أنا" بشكل مفرط. إذ لا يمكن تطوير وسائل العنف وتطبيقها، دون وجود التحكم والهيمنة على العلاقات. أما الهيمنة والتحكم، فمنوطان بدورهما بالتملُّك. وهي علاقة جدلية. والتملك هولُبُّ جميع الأنظمة المُلكية. شُرِعَت الأبواب أمام فترة يُنظَر فيها بعين المُلك للجماعات والمرأة والأطفال والشبيبة، ولمناطق الزراعة والصيد المعطاءة أيضاً. ويقوم الرجل القوي بانطلاقته الأولى بكل هيبته وجبروته. بقي القليل على تحوله إلى الإله المَلك. وما برح الشامانيون الرهبان يشرفون على الشؤون لتكوين ميثولوجيا العهد الجديد. وما يلزم عمله هو، ترسيخ هذا التكوين الجديد في عقل الإنسان المستحكَم على أنه تطور عظيم ومهيب. فحرب إضفاء المشروعية عليه، تستلزم تفنُّناً ومهارة في الجهود، بقدر تطلبها العنف الفظ بأقل تقدير. يجب توطيد عقيدة في عقل الإنسان، وكأنها القانون المطلق. جميع المعطيات السوسيولوجية تشير إلى أنه تم بلوغ مصطلح "الإله الحاكم" في هذه الفترة. لم يكن ثمة علاقة تحكم في العقيدة "الطوطمية" المرافقة للمجتمع الطبيعي. فهي علاقة مقدسة ومسَلَّم بها كرمز للكلان. وكيفما تكون حياة الكلان، هكذا يُصوَّر اصطلاحها الرمزي. لا يمكن التفكير بإمكانية العيش دون الامتثال الصارم لحياة وضوابط التنظيم الكلاني. وبالتالي سيُعتَبَر الطوطم مقدساً ومحصَّناً، باعتباره التصوير الأسمى والأرقى لوجود الكلان، ويجب احترامه وتبجيله. أما المادة التي يتكون منها، فيتم اختيارها من أكثر أنواع الحيوانات أوالنباتات أوالأمور نفعاً. فأي مادة في الطبيعة تزوِّد الكلان بالحياة وتؤمِّنها له، سيُعتَقَد بها، وستُعتبَر رمزاً (طوطماً) لذاك الكلان. إلى غير ذلك فديانة المجتمع الطبيعي في تكامل واتحاد مع الطبيعة. وهي ليست مصدر خوف أوورع، بل عامل تعزيز وتوطيد، تُكسِب المرءَ الشخصية وتمده بالقوة. في حين حتى الإله المُعلى من شأنه في المجتمع القديم تخَطَّى الطوطم وموَّهه. فقد بُحِث له عن مكان يقطنه في ذرى الجبال، وقيعان البحار، وفي كبد السماء. وبدأ الحديث عن القوة الحاكمة. كم يشبه ذلك طبقة الأسياد المتولدة حديثاً! فأحد أسماء الإله في كتاب "العهد القديم" – وبالتالي في الإنجيل والقرآن – هو"الرب"، أي السيد. أي حتى الطبقة الجديدة تنشأ وهي تؤلِّه ذاتها. ومن الأسماء الشهيرة الأخرى "أل، ألوهيم"، ويعني "العلو". وهويُبَشِّر بالسَّلَف (أوبالشيخ) المتسامي على قبائل الصحراء. تتسم ولادة البطرياركية (نظام السلطة الأبوية) وولادة الإله الجديد بتداخل مثير للغاية، في كافة الخط المقدسة. هكذا هي الحال في "إلياذة" هوميروس، وفي "رامايانا" الهند، وفي "كالاوالا" الفينليين. وبدون تأمين مشروعية المجتمع الجديد وتوطيدها في العقول، من الصعب له حتى يجد فرصته في الحياة. ذلك أنه من المحال إدارة أية وحدة في المجتمع الموجَّه، ما لم يتم إقناعها بالمطلوب. فتأثير العنف في شؤون الإدارة لحظي، ولا يؤمِّن القناعة الراسخة. ومثال السومريين في التاريخ مثير حقاً، ويستحق التمحيص والتدقيق، لتضمنه ذلك كأول أصل مدوَّن في حوزتنا. فخلْق الإله لدى السومريين خارق للغاية. نخص بالذكر هنا انهيار الإلهة الأم، ونفوذ الإله الأب محلها، حيث يشكل صُلْب كافة الملاحم السومرية. فالصراعات المضطرمة بين إينانا وأنكي، بين ماردوخ وتيامات، تحتل مكانها في ملاحمهم، من البداية وحتى النهاية. والإمعان السوسيولوجي في هذه الملاحم، التي انعكست على جميع الملاحم والخط المقدسة اللاحقة؛ يزودنا بمعلومات عظمى. ليس هباء حتى يتم البدء بالتاريخ من السومريين. فتحليل الأديان، الملاحم الأدبية، القانون، الديمقراطية، والدولة اعتماداً على لوحات ولُقى السومريين المدوَّنة؛ قد يحدث أحد الدروب الأقرب إلى الصواب، والمحفِّزة على إحداث الانطلاقة اللازمة لفهم الاجتماع. ربما تُعَد هذه الثورة المضادة، التي أقامتها العقلية الأبوية السلطوية، أكبر تحريف وتضليل شهده التاريخ. فقد أوغل الإنسانُ جذوره في عقلية المجتمع لدرجة لا نفتأ اليوم عاجزين حتى عن التفكير بتخطي تأثيراتها. الرهبان السومريون لا يزالون يحكموننا. فمؤسسات الدولة التي أوجدوها، والآلهة التي صوَّروها وكوَّنوها كتعابير مشروعة، لا تنفك تحكمنا اليوم بهيبة لا يسعنا فتح عيوننا أمامها. وتتحكم بوجهات نظرنا وبراديغمائياتنا الأساسية كلها. وكأن مقولة "آلبرت آينشتاين": "إن قوة التنطقيد والعادات تضاهي ما يلزم لتفكيك الذرّة" قيلت بشأن هذه العلاقات على الأرجح. أفلا تستمر أضرس أشكال الحروب والاستعمار، بما لا تعهد السكون ولا الهوادة، وبما لا يتطابق وأي معيار إنساني، منذ ذاك الوقت وحتى الآن، في العراق، بلاد ما بين الرافدين دجلة والفرات، مهد الدولة وموطن الزقورات، وقصور الرهبان السومريين المقدسين! أَوَليست تلك المقولة تشيد بذلك،يا ترى؟ إذن، دعك من حتىقد يكون المجتمع الأبوي السلطوي وتدوُّله لخير البشرية وصالحها، إنه أكبر بلاء مسلَّط عليها. فهذه الوسيلة الجديدة ستدمر ما حولها كي تكبر وتتضخم، كالكرة الثلجية حيناً، وكالكرة النارية أحايين أخر؛ لتحوِّل كوكبنا الأقدس على الإطلاق إلى حالة لا يطاق المكوث فيه. يشبِّه كتاب "العهد القديم" ظهور الدولة بظهور "اللوياثان"* من أعماق البحر. وهذا ما مؤداه حتى الكتاب المقدس قد ثبَّت أعظم حقيقة، في جانب من جوانبه. ويتم التطرق فيه على الدوام إلى المخاوف الكبرى للتغلب على "اللوياثان"، فيقول: إذا لم نتحكم به ونكبح جماحه، فسوف "يفترس الجميع!". يمكننا رؤية النادىئم والمقومات الجغرافية والتاريخية لهذه الثقافة الاجتماعية – التي حاولتُ إبرازها بشكل شمائي – بأفضل صورها، على حواف سلسلة جبال زاغروس وطوروس، وفي السهول الممتدة منها. حيث نصادف فيها، وبكثافة، الآثار والبقايا القوية للمجتمع المتمحور حول المرأة الأم، والذي بدأ بالنمووالتطور اعتباراً من أعوام 20000ق.م، وهوتاريخ نهاية العصر الجليدي الأخير. ونجد في جميع الهياكل والمنحوتات، والنظام الأهلي، وآلات الحياكة والنسيج، والرحى اليدوية البارزة أمامنا، آثارَ المرأة واضحة المعالم تماماً. فالبنية اللغوية فيها أنثوية. والأرباب الأوائل كانوا إلهات إناث تتحلى بآثار قوية للمجتمع الطبيعي المعتمد على الأم. يلاحَظ حتى السلطة البطرياركية (السلطة الأبوية الحاكمة) قد سارعت من تقدمها في الألف الرابع قبل الميلاد (4000ق.م). حيث اكتسبت الحاشية العسكرية قوتها في المجتمع، ورافقها ظهور الصراعات القبلية المتعاقبة والمحتدمة. كما نلاحظ آثار ممارسات الإبادة والإخناع والتذليل أيضاً. ومواصلة العشائر في وجودها حتى الآن، إنما يشهد لنا بمدى الضراوة التي شهدتها تلك الحقبة. وقد انتشرت السلطة الأبوية هناك لتتمخض عن ظهور التمايز الطبقي والتدوُّل. شهدت أعوام الألف الثالث قبل الميلاد (3000ق.م) ولادة أول مدينة للدولة، حيث حتى أشهر أمثلتها هي مدينة أوروك. وما ملحمة كلكامش في مضمونها سوى ملحمة تأسيس مدينة أوروك. يمكن القول بأن أعظم ثورة شهدها التاريخ حصلت ضمن نطاق ثقافة هذه المدينة. فالتصورات المشيرة إلى صراع إينانا وأنكي، إنما تعكس لنا الصراع القائم بين مجتمع المرأة الأم والمجتمع الأبوي الذكوري، بلغة شعرية بارعة حقاً. وملحمة كلكامش تتطرق إلى أول وأروع نموذج أصلي لوحظ في جميع مجتمع آنذاك، في عصر البطولة والأبطال. كما نلاحظ فيها أيضاً الصراعات الأولى القائمة بين المدنيين والبرابرة الوحشيين. والمرأة لا تزال فيها بعيدة عن الهزيمة والفشل. لكن الرجل القوي ما برح يُعَوِّد المجتمع ويُمَرِّنُه على سلطته خطوة خطوة، عبر حاشيته العسكرية. إنه يتجه نحوإشراقة المجتمع الحضاري وبزوغ فجره، عبر تصوراته الأيديولوجية ومؤسساته الدينية وقصوره الفخمة وسلالاته الأولى.       ج – المجتمع الدولتي وتكوُّن المجتمع العبودي     يشكل المجتمع الهرمي الحلقة الوسطى بين المجتمع الطبيعي والمجتمع الدولتي المرتكز إلى الطبقات. وتُعتَبَر الماهية الشخصية للسلطة، وانحصار الحاشية العسكرية بالأشخاص، السمة المثلى لهذه الفترة. في حين يعبِّر تمأسس السلطة عن التحول النوعي. فالدولة في أساسها سلطة متميزة بالسيرورة عبر تمأسسها. وبينما تُعتبر مؤسسة الدولة الأداة الأخطر – من الممكن – في التاريخ، فهي لا تزال تصون خاصيتها كظاهرة لم تُستَوعَب إلا قليلاً. وتلعب الثقافة التي تتضمنها، وتنوع المنافع التي تفيها، الدورَ الرئيسي في ذلك. فكل شيء مكتوب أومُنطق عنها، إنما يزيد من لغزها غموضاً، ويساهم في استعصاء فهمها أكثر. وبقدر ما تُعتَبر رؤية الدولة بأنها مجرد أداة عنف رؤية خاطئة، وتتضمن المغالطة؛ فإن النظر إليها كسلطة مقدسة، واصطلاحها على هذا النحو، يفيد بنفس القدر في مواراة ما يجري فيها حقاً. تشكِّل التحليلات المرتبطة بالدولة الموضوع الأولي الذي لم يفلح فهم الاجتماع في النوء عن عبئه حتى اللحظة. ولكن، لا يمكن القيام بأي تحليل لأي ظاهرة أومعضلة اجتماعية، ما لم نبلغ التحليل الشمولي للدولة. في هذا التحليل الذي سأعرضه، سأبيِّن فيه قناعتي المتمثلة في أنه، حتى ثوري بارز مثل لينين، يكمن خطأه الأولي في كيفية تحليله الدولة. إن ما سأطرحه هنا محدود جداً للقيام بتعريف كافٍ ووافٍ لظاهرة الدولة. يجب إغناؤه أكثر. نحن مضطرون لأخذ المثال السومري نصب العين دائماً، باعتباره المثال الأصل الذي وصلت وثائقه المدوَّنة إلينا. ولدى تعريفنا لمؤسسة الدولة وفكرها، علينا تجنب المفاهيم التي تشير إلى تأسيس دولة ما وانهيار أخرى، وحلول دولة محل أخرى. بالإضافة إلى حتى الحديث عن الأشكال المتنوعة للغاية منها، أوعن الكثير الكثير من الدول بالنظر إلى المسافات الكائنة بين الجماعات التي ظهرت فيها، إنما يحمل مهالك خطيرة بين طياته. باللقاء، قد يحدث من الأنجع اصطلاح الدولة على أنها مجتمع ضمن المجتمع، أومجتمع ثانٍ داخل المجتمع الأول. وبتعبير آخر، هي مجتمع فوقي للمجتمع السفلي. قد يحدث السلوك الناجع الثاني متجسداً في تناول الدولة – اصطلاحاً ومؤسسة – كظاهرة متميزة بالسيرورة، ومعانية للتشتت والتفكك بينما هي على رأس المجتمع السفلي. السلوك المتمم الآخر، والأكثر واقعية، هواعتبار الدولة أساساً سلطة عسكرية وسياسية بالذات، وليست أية سلطة أخرى. إن تعاريف رجال الدين والفلاسفة والفهماء – على اختلافهم – للدولة، بعيدة جميع البعد عن الموضوعية، لارتباطها بطراز منافعهم ووجهات نظرهم المصلحية. علاوة على أنهم ينشغلون دائماً بجانب منها دون الآخر. ولدى تضررهم منها، يقعون في ذاتية ثقيلة – كإغداق الشتائم واللعنات عليها – تاركين الواقعية الظاهراتية جانباً. أما سلوك الثوريين، فمنفتح حتى الأخير أمام مفهوم منفعي – أخلاقياً – كإظهارها بأسوأ الأشكال لدى هدمها، وبأمثل الأشكال وأفضلها لدى تأسيسهم إياها. إذا ظاهرة الدولة أداة اجتماعية، لا مؤسِّس مسؤول عنها بالتحديد، ولا فيلسوف لها. هذا من جهة، ومن الجهة الثانية فهي تُبدي خصائصها الأولية في كونها تصيب جميع من يحاول امتلاكها وينجرّ وراء جاذبية سلطتها التي لا تقاوَم، بالدوار والثمالة، لتحمله بعدها، إما إلى مرتبة الألوهية، أوإلى الإبادة والزوال. التسميات المطلقة على الدولة بشكل رائج لدى تعريفها، من قبيل الدولة المَلَكية، الجمهورية، الديمقراطية، المونارشية، الأوليغارشية، الديكتاتورية، الاستبدادية، العبودية، الإقطاعية، الرأسمالية، القومية، المركزية الأحادية، الفيدرالية وغيرها؛ إنما تعقد المسألة أكثر، وتصعِّب مهمة فهم مضمونها. ما قام به الرهبان السومريون لدى توجههم نحوبناء تمأسس أشبه بالدولة، يزوِّدنا بمعلومات، من الممكن تكون الأكثر واقعية من أجل فهم الدولة. حيث قاموا أولاً بتشييد معابدهم المسماة بالزقورات، وسمَوا بشأنها إلى السماء، وقاموا بإعداد العبيد في الطبقة السفلى لتسخيرهم في خدمة الإله في الطبقة العليا. وهجروا المساحات الوسطى مفتوحة أمام ممثلي الطبقة الوسطى. والبيوت والأراضي المحيطة بالمعبد، لم تكن سوى ملحقاً به. كانوا يُودِعون تكنولوجيا الإنتاج في قسم من المعبد، ويقومون بحسابات الإنتاج المثمر بكل دقة وعناية. جلي حتى هذا التكوين هومجتمع جديد. بل وحتى إنه كاختصار لعناصر المجتمعين الهرمي والطبيعي السابقَين له. حيث يأخذون من هذين المجتمعين ومن المجتمع الجديد ما يمكن حتى يفيدهم في تأسيسه، ويهمِّشون ما ضارٌّ أومعيق لهم من الأجزاء. إنهم ناشطون وكأنهم يبنون مجتمعاً مقدساً. وبعد تكوين الوسيلة والأداة،قد يكون الجميع سعداء وممنونين في البداية، وكأنهم في عيد. لقد صُنِعَت عجلة ضخمة، وكأنهم بتدويرها في مياه دجلة والفرات يخلقون، ولأول مرة، أوفر النتاجات والمحاصيل في التاريخ. وهل ثمة عيد أفخم من هذا لأجل الإنسانية،يا ترى؟ وإذا لم يكن هذا الإجراء هوالقدسية العظمى، فما هوإذن؟ ما من شك في حتى هذا الكيان يقتات أساساً على المجتمع الطبيعي النيوليتي، الكيان الرائع على حواف سلسلة جبال طوروس وزاغروس. فأدوات الإنتاج، الأعشاب، النباتات، وأنواع الحيوانات المتنوعة، قد تحولت إلى ثقافة بحد ذاتها امتدت آلافاً من السنين على يد مجتمع المرأة الأم. وتكمن مهارة الراهب في إعادة ترتيبه لتلك العناصر على نحويخوِّله لبناء مجتمع علوي، وذلك بنجاحه في إيجاد نمط إنتاجي حديث في الحوض السفلي لما بين نهري دجلة والفرات، عبر تقنيات الري. هكذا هومضمون الاكتشاف المذهل في التاريخ. أما المراحل اللاحقة، فلم تقم سوى بإضافة طوابق جديدة إلى البناء الموجود، أوتكرار هذا البناء، ولكن بأسس جديدة. مكان هذا المجتمع العلوي هوالمدينة. ومثلما هي الحال بالنسبة للعقلية الإنسانية، فقد أحدث هذا المكان – المسمى أيضاً بالمجتمع المديني أوالمدني أوالحضاري – تغييرات ثورية عظمى مماثلة في البنية المادية للإنتاج. أوبالأحرى، إنه شكَّل ركيزة ثورة مضادة كبرى تجاه المجتمع الطبيعي. ما برحَت عقلية المدينة والدولة بعيدة عن التحليل. لقد طوَّرت نظام العقل، الكتابة، والكثير من الحِرَف والصناعات، ولكن بأي ثمن،يا ترى؟ لا تزال ضرورة التفكير الشمولي الجاد على الحُكم: "هل هي ثورة المدينة أم ثورة مضادة؟" تحافظ على أهميتها. يجب ألا نتناسى حتى الكثير من الانطلاقات البارزة في التاريخ، وفي مقدمتها الأديان التوحيدية الكبرى، صُعِّدت لمناهضة هذه التكوينة. إذا المِكبَس الذي أَقحَمَت فيه الإنسان أشبه بجهنم، لا الجنة. بل والأصح أنها جلبت له حياة تندر فيها الجنة، وتكسحها جهنم. والأمثلة المستمرة حتى راهننا ذات ماهية إيضاحية كافية. يتكون مجتمع المدينة الدولة بمضمون يدعوإلى الحاكمية والمُلكية والقمع، من جميع النواحي. لذا، لم يكن سهلاً تعويد إنسان المجتمع الطبيعي على هذا النظام وأقلمته به. ويتمثل الشرطان الأوليان اللذان لا غنى لهذا النظام عنهما في: التحكم بعقلية أناس المدينة برمتهم بوساطة الآلهة المرعبة من جانب، وعرض المرأة كأداة مثيرة ومغرية (أوفحوش) من جانب آخر. فالإقناع بالعبودية وهضمها غير ممكن، سوى بهاتين المؤسستين الجذريتين، إلى جانب المراقبة اليومية بالطبع. وكلا المؤسستين تتسمان بالمزايا المخدِّرة كلياً، كالأفيون. تم تجذير البنية العقلية والبنية الإنتاجية، المتكونتين في أطراف هذا النموذج الأصلي لمجتمع المدينة الدولة، وتوطيدهما لاحقاً في كافة المناطق. أي أنهما لم تتولّدا وتزولا في سومر. إنهما البنية والعقلية البالغتان راهننا على شكل حلقات متسلسلة. فالأمثلة المشهودة في المدن المصرية والحثية واليونانية ليست سوى نُسَخاً معدَّلة قليلاً عن الأصل. تبرهن الوثائق التاريخية مع الأيام حتى هذه البنى الثلاثية اتخذت من الأصل السومري أساساً لها، كحلقة أولى. أما الحلقات المضافة إليها، ألا وهي الصين والهند وروما، فبلغت بها إلى المرتبة العالمية. وكون حتى غرضنا هنا ليس تدوين التاريخ، فلن ندخل في تفاصيل هذه المراحل. لكن ما أردنا برهنته هووحدوية الدولة وسيرورتها. فالوحدوية، بمعنى الوجود، والسيرورة من الناحية الزمنية، بارزتان جداً في الدولة. أما القول بأن النماذج المتكررة والمستَنسَخة هي دول مختلفة عن بعضها، فلن يفيد في التحليل والحل كثيراً. فتحليل ذات المضمون مراراً وتكراراً لا يطوِّر في المعنى شيئاً، بل يكرره فقط. إذا ما أمعنا النظر في المثال السومري عن كثب، فسنرى وجود آليتَين متداخلتين في مجتمع الدولة، منذ بداياته. الأولى هي الدولة كأداة قمع وسلطة، والثانية هي الدولة كنظام إنتاج عام (عمومي) يغذي جميع المدينة. وستَشْغِل هذه الماهية الثنائية الناسَ دائماً كتناقض أساسي للدولة. لا بدونهاقد يكون الوجود ممكناً، ولا معها. فهي المؤسسة التي يستعصي تحملها كأداة قمع وتسلط، ولكنها الوسيلة التي لا غنى عنها كأداة إنتاج وأمن عام. وهنا تكمن المشكلة الأولية منذ البدايات: هل يحتاج الإنتاجُ والأمن العام (من أجل مصلحة المجتمع المشهجرة) وجودَ القمع والسلطة، أم لا،يا ترى؟ ألا يمكن تأمين الإنتاج والأمن المشهجر للمجتمع بدون الدولة،يا ترى؟ إذا كان ذلك ممكناً، فلا داعي إذن للدولة كجهاز عنف. وهنا يكمن مربض الفرس. لقد جُعِلت الدولة كمؤسسة تحولت إلى وسيلة المنفعة الكبرى بِذَرِّها مقداراً من المنوِّمات داخل الطعام الشهي. والراهب يسعى لتمهيد السبيل لبروز شريحة استعمارية طفيلية، بمواراته تفاصيل نظام الدولة تلك. حتى رجل مثل "باكونين"، المنظِّر الفوضوي الذي يرى في الدولة "السوء" المطلق؛ نطق: "إنه سوء ضروري واضطراري". وقيَّمتها الماركسية أيضاً بأنها فترة ضرورية. بيد أنني سأبدي في التحليل التالي حتى الدولة ليست بأداة تقدم اضطرارية (لا بد منها) ولا سوء اضطراري. بل هي منذ بداياتها أداة بلاء، لا ضرورة لها، وليست اضطرارية إطلاقاً. لكنها تحولت مع الزمن إلى عصابة من قطاع الطرق النهابين، بكل معنى الحدثة. سيكون التعريف الأصح للدولة بجانبها هذا، بأنها ورم اجتماعي خبيث يجب استئصاله منذ اليوم الأول لظهوره، وعزله وفضحه. أما بجانبها الآخر كأداة إنتاج وأمن مشهجر لأجل المجتمع، فسيكون من الأنسب والأكثر واقعية تسمية هذا النمط من الكيان الاجتماعي بـ"الديمقراطية". من الممكن النظر إلى الهرمية المفيدة في المجتمع الطبيعي كنموذج مصغَّر عن الديمقراطية. فسواء كانت المرأة الأم، أوكان الرجل المسن الخبير، إنهما يُعتَبران العناصر الرئيسية الضرورية لأبعد الحدود والنافعة جداً في تأمين الأمن العام للجماعة وإدارة شؤونها، دون الارتكاز إلى الادخار والمُلكية. وتقدير الجماعة لتلك العناصر طوعي ومرتفع النسبة. لكن، لدى استثمار هذا الوضع، وتحوُّل الالتزام الطوعي إلى سلطة، والنفع إلى منفعة؛ يظهر جهاز عنف لا ضرورة له، مسلَّط دائماً على رأس المجتمع. ومواراة جهاز العنف نفسه تحت غطاء الأمن المشهجر وأدوات الإنتاج المشهجرة، إنما تشكل مضمون كافة النظم الاستعمارية والقمعية. هذا هوالكيان المشؤوم على الإطلاق من بين الابتكارات الحاصلة. إنه ابتكار سيجلب معه فيما بعد جميع أشكال العبودية، الصياغات الميثولوجية والدينية المخيفة، الإبادات المنظمة، النهب والسلب المنظم، وعمليات الدمار والهدم. لدى قيام الماركسية بتحليل وإيضاح ولادة هذه الفترة، فإنها تُنيط "العنف" بدور الحاملة لولادة المجتمع الأرقى من رحم المجتمع القديم المتخلف. لكن هذا السلوك الذي نتشاطره جميعاً، يُفسِد كافة مفاهيمنا بشأن الدولة والثورة والديمقراطية، وكافة ممارساتنا التنظيمية والعملياتية، ويُعطبها من جذورها. أعتقد حتى تجاوز هذا السلوك كجملة انتقادية للذات، لم يصبح بهذه الشمولية من نصيب أي تيار ينادي بالحرية والمساواة حتى الآن. فكل التيارات والطرائق المصوَّرة والمصوغة باسم الشعوب والمسحوقين، وكل الدول والحركات السياسية المؤسسة؛ لم تنجُ من تمهيد السبيل لظهور نتائج مناقضة كلياً لطموحاتها ومآربها، بسبب هذا المفهوم الفاسد والمعطوب. إن تنطقيد الدولة كأداة تسلط، ومثلما يُفهَم من تشبيهها بحيوان ، هي – حقيقةً – وحش لا يشبع من الدماء والاستعمار والنهب. إنها كيان تتغذى جميع خلية فيه على الدم. ومثلما سنرى في الكثير من الأمثلة، فحتى الأشخاص المتظاهرون بتبنّيهم إياها، لن يتوانوا أويتورعوا أبداً عن إبادة أعز من لديهم والتضحية به، وسحق كافة تنطقيد المجتمع الأخلاقية وكسحها، دون حتى يرف لهم جفن. فأحد السلاطين العثمانيين عندما خنق سبعة عشر أخ له في ليلة واحدة باسم "سلامة الدولة"، كان يعي يقيناً حتى ما عمله كان من دواعي قاعدة الالتزام بالأداة التي يمتلكها. فكل التواريخ الرومانية والإيرانية، وتواريخ الدول كأداة عنف مزاجي، كانت ستُبدي وحشية لا عد لها ولا حصر، كوظيفة أولية لها، بفضل أيديولوجيات التمويه. يحظى البحث والتدقيق في أغوار العقلية والتمأسسات الاجتماعية التي شكلتها ظاهرة الدولة، بأهمية قصوى. فاغتراب العقلية عن الطبيعة، التمايزات الطبقية التي لا يحتملها العقل، الكثير من التنظيمات الخاصة، والتمأسسات العسكرية؛ ما هي سوى بُدَع ابتكرها جهاز العنف ذاك على الدوام. وبدءاً من الثقافة التي تزدري العمل وتحتقره كلياً، وتُعلي من قدْر الغنيمة والنهب والسلب، وحتى عالم الطفيليين المبتدئ بمفهوم الإله الآمر بالقيام بما تشاء نفوسهم وتهوى، والممتد حتى يوتوبياتهم الزائفة بشأن الجنة والنار؛ جميع ذلك تم الإعلاء من شأنه إلى مرتبة الإله الأعلى، ممثَّلاً في صورة السلطان، القيصر، الشاه، الرَّاجا (الأمير الهندي)، والإمبراطور. وسيول الدماء المسفوكة على مر آلاف السنين، كانت تُراق دائماً باسم هذه المقدسات الجوفاء. لا فرق إطلاقاً بين تضمين الجهاز التسلطي بمضمون ثوري، وبين إناطة الأسد بدور ثوري. وبينما تَطَوَّر تعريف الدولة بجانبها هذا، فإنكار تأثيراتها على التشكيلات الاجتماعية يفضي بنا إلى الفوضوية. فالدولة ظاهرة بكلا هذين الوجهين، وكانت الحدثة الحسم دائماً هي المحدِّدة لديها. فإذا لم نسرد جوانبها هذه أمام العيان، سنفتح المجال لتعريف بالغ النقصان. ما علينا القيام به هوالفصل بين جوانبها اللازمة والأخرى غير اللازمة. إذ لا يمكننا تناول هذه الظاهرة كسوء اضطراري وضروري، ولا ككيان مقدس. ويرتبط اقتراف الأخطاء الفادحة في لحظات الإنسان بهذه السلوكيات الأحادية الجانب، بروابط كثيبة. ساطع سطوع النهار أننا بقولنا ببقاء الخاصية الأولية للدولة على حالها، لا نقصد عدم إطراء التغييرات الشكلية عليها. بل على النقيض، فبقاء المضمون عينه يستدعي بالضرورة تغييرات الشكل. وهذا المبدأ الجدلي سليم بالنسبة لكل ظاهرة على السواء. ومراقبة الدولة المتجذرة في المجتمع العبودي الأطول مدة، سيُغْني معلوماتنا أكثر. إننا نلاحظ أكثر حالات الدول العبودية شفافية في المجتمعين الأوليين السومري والمصري. فصياغة الدولة العبودية السومرية والمصرية قد وطدت تغييرات جذرية على التطور الاجتماعي بنماذج تمأسساته العقلية والاجتماعية والاقتصادية. عالم العقل للمجتمع الطبيعي كان يعتمد على مفهوم الطبيعة الحيوية، حيث لكل ظاهرة في الطبيعة روحها. ويُعتَقد بأن هذه الأرواح هي الخاصية التي تؤمِّن الحيوية. لم يكن قد تطور في مفاهيم ديانتهم الطوطمية حينذاك، مفهوم الإله الخارجي المختلف عنهم، والحاكم عليهم. بالإضافة إلى توخي الدقة والحساسية في التفاهم مع أرواح الطبيعة، أي قواها. وأي تضاد معها يعني الموت بعينه. ولما كانت هذه هي وجهة النظر الرئيسية إلى الطبيعة، يبرز بالتالي ضرورة التلاؤم والتأقلم الخارق معها. إننا هنا وجهاً لوجه أمام حياة تسير بموجب المبدأ الأيكولوجي الأولي. فمناقضة الحياة الاجتماعية لقوى الطبيعة هي أُولى المواضيع المحذَّر والمحتَرَس منها. ولدى تطوير دينهم وأخلاقهم،قد يكون المبدأ الأكثر امتثالاً له والتزاماً به، هومبدأ التواؤم والانسجام مع البيئة وقوى الطبيعة. وقد نُقش في العقول لدرجة احتل فيها الزاوية الركن كتقليد ديني وأخلاقي أولي. إنه في الحقيقة ترسيخ لمبدأ التدفق العام للحياة العامة في المجتمع الإنساني. ما من كيان لا يتخذ البيئة المحيطة به أساساً. والانحرافات القصيرة المدى البارزة، تلتحم مع الفترة المتدفقة في ظل الشروط الداخلية والخارجية الجديدة. وفي حال العكس، تظل خارج دائرة النظام تماماً، لتفقد وجودها إلى الأبد. وتنبع أهمية المبدأ الأيكولوجي في المجتمع الإنساني من هذا المضمون (الفاعلية) الأساسي للطبيعة. يفسح تكوُّن المجتمع العبودي الدولتي المجال لظهور انحراف حقيقي عن هذا المبدأ المصيري. إذ ثمة أواصر وطيدة بين تَكَوُّن المشكلة البيئية والأيكولوجية، وبين بدايات الحضارة والمجتمع المتكون في هذا الاتجاه. فحضارة المجتمع الطبقي هي مجتمع مناقض للطبيعة. والسبب الرئيسي وراء هذه المشكلة الظاهراتية متعلق بعالم وبراديغما العقلية العبودية لهذا المجتمع الجديد، والمتكونة بالثورة المضادة الجذرية. في حين حتى كافة أعضاء الجماعات في المجتمع الطبيعي يحتلون أماكنهم المنظمة والمنسقة ضمن تكامل مع الحياة. فكل فرد منهم جزء صادق ومخلص للمجتمع، وهومنه. معتقداتهم وانطباعاتهم الذهنية مشهجرة. لم تتطور قط مصطلحات الكذب والمخادعة فيما بينهم. وكأنهم ينطقون بنفس اللغة الطفولية مع الطبيعة. أما التحكم بالطبيعة أواستثمارها بشكل سيء، فهوأفظع خطيئة (محرَّمة، طابو) وسيئة تُقتَرَف إزاء أخلاقهم ودياناتهم التي تُعتَبر قوانين في المجتمع المطوِّرين إياه حديثاً. أما في مجتمع الدولة العبودية الجديد، فما تم قلبه رأساً على عقب، هوهذا المفهوم الديني والأخلاقي الأساسي. ولإضفاء المشروعية الاجتماعية على ذلك، تتبدى الحاجة إلى الكذب والرياء، بقدر ما تتطلب ممارسة العنف أيضاً. إذ من المحال إدارة شؤون النظام العبودي بالعنف المحض. ولا يمكن تأمين سيرورة النظام، دون ربط المجتمع بمعتقدات جذرية وطيدة. إنها محصلة طموحات الذهنية وبحوثاتها. إنها فترة جذرية من الذكاء التحليلي. والموضوع الذي عُني به هذا النموذج من الذكاء بالأغلب، هوإيجاد القواعد المساعدة على إدارة العبيد، وإبرازها لهم كتعاليم الإله الخالد. تتأتى عظمة الرهبان السومريين والمصريين من الأهمية القصوى التي يتسم بها هذا الموضوع في تاريخ البشرية. فذكاءاتهم المنبترة عن المجتمع الطبيعي وحياته، ابتدعت نظاماً تصورياً ميثولوجياً مدهشاً وكاملاً. ولكي يُقنِعوا العبيد بكل ذلك، أسسوا الأنظمة المدرسية (الأكاديميات) والمعابد والهياكل على نحوأكثر إثارة للدهشة وأكثر سلباً للعقول. وبإحلالهم الديانات التي يغلب عليها الإله الحاكم المقتدر، محل الديانات الروحانية غير الخطيرة، والتي كانت سائدة في المجتمع الطبيعي؛ طوروا الخنوع والإذعان على الدوام. وأَفهَموا العبيد بدقة لا متناهية دوافع ضرورة خوفهم من الآلهة الجديدة – بتحريفهم لماهية مشاعر الخوف – وماذا ستكون مكافآتهم طالما امتثلوا لأوامرها حرفياً. ولأول مرة في التاريخ، أوجدوا اليوتوبيات المتضمنة مصطلَحَ الجنة والنار. إنهم بذلك يطورون أصلاً النظام الأيديولوجي اللازم للامتثال التام لطبقة الأسياد الجدد، وإطاعتها. أما كون طراز تفكيرهم ميثولوجياً، فهويتناسب وروح عصرهم. في الحقيقة، إذا الديانة الأرواحية (Aminism)* تنادي بالحرية والمساواة. في حين حتى الدين الجديد ذا الميثولوجيا الغالبة، هودين الطبقة، دين العبودية واللامساواة. ويأمر بالاعتماد أساساً على الإذعان المطلق للآلهة (الأسياد). هذه الثورة الذهنية المضادة المتحققة في تاريخ البشرية، هي بحق إحدى أعظم انطلاقات الذكاء التحليلي. إنها تَطوُّر العقل الطبقي. وغدا واجباً إعادة صياغة التاريخ والآداب والفن والقانون والسياسة، وفقاً لهذه الذهنية الطبقية. نرى أكثر حالات هذه الفترة أصالة وقوة، في الميثولوجيا السومرية والمصرية. لقد شرعت الأيديولوجية الطبقية المهيمنة الاستعمارية فيها بولوج الدرب اللازمة لتغدومجتمعاً فوقياً ودولتياً. وكل خطوة ستُخطى على هذه الدرب، ستكون باسم المجتمع برمته، وستكون مُلكاً له. أما أيديولوجية المرأة الإلهة، المتبقية من المجتمع الطبيعي، فستُستعمَر وتُستغَل تدريجياً، وستُفرَغ من محتواها وتذاب، لتُحفَّز بالتالي على خدمة نظام الرجل الإله. تماماً مثلما تحفَّز المرأة على خدمة الرجل (أي على الفحوش والنادىرة العامة والخاصة). وسيتحول كافة أعضاء المجتمع الطبيعي، الأحرار والمتساوين، إلى طبقة عبيد جديدة. ثمة ملحمة سومرية تذكر حتى الناس خُلقوا من "بُراز" الآلهة وقاذوراتهم. ومسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، يمر ذكرها – أول مرة – في ملحمة سومرية. حقاً، لقد أنجزت الميثولوجيا السومرية نجاحاً باهراً وخارقاً، بحيث أثرت على جميع الميثولوجيات اللاحقة لها، وشكلت عيناً أصيلة للأديان التوحيدية والآداب والقانون. وقد انعكست خاصية كلكامش المذكورة في الملحمة، بتأثيرات مشابهة، على كافة الملاحم الأخرى في العالم. باعتبار حتى صياغة الحل الشمولي للبنية العقلية السومرية ليست موضوع عرضنا هنا، لذا، وباختصار نقول أنه ما من جدل في أنها تشكل المنبع الرئيس للبدء بالتاريخ (وبالتالي الحضارة)، ليس بقمعها فحسب، بل وبذكائها التحليلي أيضاً. علينا البحث عن جذور الفكر الميتافيزيقي الظاهر لاحقاً، في هذا الذكاء بالذات. فما يجري في الأعلى ليس مجرد عيش حفنة من الأسياد أيامهم العابرة في حياة القصور الأشبه بجنات النعيم. بل إنهم يضعون فيها اللبنات الأولية لعالَم الملاحم واليوتوبيات التي ستُلهي البشرية بها. أي حتى ما يجري هوتجذر "كذبة المجتمع العظيم" في ذهنية البشرية جمعاء، والوصول بها إلى مستوى المؤسسات، عبر كافة أنواع الميثولوجيات والملاحم والمعابد والمدارس. إن الثورة المضادة المتحققة في المجتمع السومري على شكل تحول عقلي، هوالأوطد والأكثر جذرية في التاريخ؛ إنما غيَّرَت براديغما الإنسانية – وجهة نظرها الأولية تجاه الطبيعة والكون – من جذورها، وفي مقدمتها المجتمع الشرق أوسطي. فمفهوم "الطبيعة والبيئة" الحيوي في المجتمع الطبيعي متنوع ومثمر. لا يرى الطبيعة كظالم أوغول شبح، بل يراها كالأم. فلفظ "أماركي Amargi" الذي يرمز إلى الحرية في اللغة السومرية، إنما يعني في الوقت نفسه العودة إلى الأم. وحتى هذا اللفظ لوحده يسلط الضوء بكل جلاء على الذهنية الثورية المضادة المتحققة. في حين حتى وجهة النظر الميثولوجية الجديدة مليئة بالآلهة الذكور المتحكمين في الطبيعة والبيئة، والمعاقِبين إياهما. وكأن الآلهة – الذين هم في الحقيقة الاستبداديون القمعيون والاستعماريون – المرفوعين إلى ما فوق وخارج المجتمع، مع مواراة أنفسهم تدريجياً؛ قد جففوا الطبيعة وأصابوها بالقحط. ثمة تصعيد لمفهوم الطبيعة الميتة، الطبيعة المادة. ومثلما هي حال العبيد المخلوقين من بُراز وقاذورات الآلهة، فسيُحَط من شأن كافة الكائنات الحية مع مرور الزمن. يجب النظر إلى هذه البراديغما المتجذرة تصاعدياً، على أنها المسبب الرئيسي في حالة الإغماءة التي يعاني منها مجتمع الشرق الأوسط اليوم، وعجزه عن الصحو، بعد حتى شُلَّت ذهنيته بالكاد. في حين حتى المجتمع الأوروبي لم يتمكن من دك نادىئم هذه البراديغما وتحطيمها، إلا بقيامه بثورته الكوبرنيكية*، بعد إطرائه الإصلاحات على ديانته المسيحية. وداهية تنويرية مثل جيوردانوبرونو**، أُحرِق حياً، بسبب دفاعه الصارم عن مفهوم الطبيعة الحية. ولأن هذه البراديغما لم تجد انعكاساتها في مجتمعات بعض الدول، مثل الصين واليابان، فقد تميزت تلك المجتمعات بتأقلمها الأسرع مع المستجدات الإيجابية. ولمفاهيم البيئة الحية النصيب الأوفر في حدوث ذلك. يلعب تخطي الميثولوجيات ذات الأصول السومرية والمصرية في طراز التفكير الفلسفي، وكذلك الاعتماد أساساً على التطورات الميتافيزيقية والجدلية الدياليكتيكية بدلاً منها، دوراً مشابهاً في تطور الحضارتين الإغريقية والرومانية. بينما تشكلت الدولة، مصطلحاً وإطاراً، في أحشاء رحم معابد الرهبان؛ كان البالغ بها إلى مستوى المؤسسة والقوة السلطوية بالأصل، هومجلس الشيوخ وحاشية الرئيس العسكري في المجتمع الهرمي. تُحدَّد سلطة الدولة بين زوايا هذا المثلث ضمن علاقات وتناقضات كثيفة وطويلة المدى. فبينما كان الراهب المَلك هوالمهيمن في البداية، أخلى مكانه بالتدريج لمجلس الشيوخ (المسنين) – الديمقراطية البدائية – أولاً، لتتطور فيما بعد حاكمية الرئيس العسكري وهيمنته كقوة حسم نهائية. تنعكس هذه الفترة على ملحمة كلكامش بلغة شعرية ميثولوجية. فكلكامش بذاته يمثل الرئيس، البطل العسكري. أما الرهبان والراهبات الأقوياء القدامى، فلا أثر لهم. ينتصب أنكيدوأمامنا كأول مثال عن الجنود الانكشاريين – المعروفين- المجموعين من القبائل البربرية، خارج نطاق الإثنيات. أي حتى تنظيماً خارج نطاق القرابة يتطور هنا. يؤدي التأثير السحري للقوة، ولأول مرة، إلى فرض الخنوع والإذعان من جهة، وإلى إبراز الذات في صورة المَلك الإله، صاحب الإنتاج الفائض من جهة ثانية. ويبدأ عصر، تُعلِن فيه "أنا" الإنسان بأنها الأعظم والأقدر. وينعكس المجتمع والطبيعة بعد ذلك كأثر من آثار المَلك الإله. تُولي جميع الميثولوجيات الأولوية الأولى لهذا السرد. يعود مفهوم "الإله، صاحب جميع شيء" في أصوله إلى الميثولوجيات السومرية والمصرية. ومن هذا المنبع سينعكس ذاك المفهوم على الخط المقدسة. هكذا ستغدوسلطة الدولة خالدة أبدية. من هنا يتأتى المفهوم القائل بـ"الدولة الأبدية"، الذي لا يزال يُهتَف به. فلوحتى الدولة لم تتطور، وبالأخص لوأنها لم تُزيَّن أوتجهَّز بالميثولوجيا، لما تعدت إطار كونها مؤسسة بسيطة أوتنظيم هزيل لقطاع الطرق الأشقياء. ولكنّ كون سلطة الدولة شديدة النفع والنجوع في تلك الحقبة، أدى إلى تصويرها كمؤسسة مقدسة خارقة، وإلى ترسيخها بهذا الشكل في كافة الأذهان. إذن، ومن هنا يمكننا الإدراك أنها تنظيم النهب والسلب الأكثر دقة ومكراً. في هذه النقطة بالذات، تبرز أمامنا قوة الأيديولوجيا. إنها تؤمِّن تعريف تنظيم النهب والسلب الأكبر، بأنه مؤسسة مقدسة بأمر إلهي. علينا حتى نفهم جيداً أنه بمقدار ما يُعلى من شأن سلطة الدولة، وتُزركَش بالزخارف في مكان ما، فهذا معناه حتى السلب الأكبر والمصالح الكبرى موجودان في ذاك المكان. وعندما يعكس الملوك الآلهة ذواتهم على هذه الشاكلة، يتمأسسون بوعي تام منهم لهذه الحقيقة. القصور الفخمة، الحاشيات العسكرية المؤلفة من أشجع الجنود وأقواهم، الاستخبارات الجيدة، قصر الحريم المؤثر والمثير، السلالة الذائعة الصيت والشهرة، الأشجار المتأتية من أصول إلهية، أصول النَّسَب وسجلاتها، الوزراء المتملقون والعبيد العابدون؛ جميع أولئك هم أعضاء لا غنى عنهم في هذا التمأسس. أما قبور الأهرامات، فهي في الحقيقة قصرٌ في عالَم أكثر ديمومة. فالثياب، الصَّولجان، والمُهر؛ هي إكسسوارات لا تنقص الموتى المدثورين فيها. وما يتبقى أمام كافة أعضاء المجتمع وعبيده، ليس سوى التعبد الدائم والشكران المتواصل لهذا الكيان المقدس. وما المصطلحات الكثيرة الكثيرة بشأن صفات الإله في الخط المقدسة، سوى صُوَر مكرَّرة نسبياً، ومعدَّلة بنسبة أخرى، لصفات الآلهة الملوك الأوائل في سومر ومصر. فإذا ما توفي أولئك الآلهة الملوك – أوبالأحرى رحلوا إلى العالم الآخر – تُدفَن وإياهم حاشياتهم برمتها، وهي حية ترزق. ذلك أنه لا يمكن التفكير في حاشية منفصلة عن جسد المَلك. الغرض الأساسي من دفنهم مع الجثة، هوقيامهم على خدمة ملوكهم في العالم الآخر. أما ذُرِّيَّتهم الباقية على قيد الحياة في الدنيا، فهي مكلفة بمواصلة سيرورة وجودهم. بهذه الشاكلة – نوعاً ما – نشأ مصطلح "الخلود". إننا نرى في هذا المثال، وبما يثير الأنظار، كيف من الممكن أن قام الذكاء التحليلي بتحويل المجتمع، بعد انقطاعه عن الحقائق الواقعية. فبناء هرم واحد من تلك الأهرامات يحتاج العملَ المميت من مئات الآلاف من العبيد. إذا سلطة الدولة المؤسسة، هي زلزال دائمي مدمِّر، يتفجر على رأس الجنس البشري. وتبدأ اصطلاحات الظلم، المحشر، المنقذ بالتكون في لغة البشرية. وفي ظل هذه الظروف تتشكل الشخصية النبوية، كمقاتلة في سبيل الحرية. ويبرز الأنبياء كمنقذين من هذه الكوارث الكبرى. المنبع مرة أخرى، هوالمجتمع السومري. المرأة هي الشريحة المتضررة كثيراً جراء ذلك، إلى جانب المجتمع الطبيعي. والميثولوجيات السومرية أشبه بالأناشيد الشجينة الباكية على المرأة المهزومة. فقوة إينانا تتضمن الآثار المتأتية من المجتمع المتمحور حول المرأة، والكامن في العهود الغابرة من ناحية، وتعكس صراعاتها الضروس تجاه المجتمع الرجولي المهيمن من ناحية ثانية. وبينما كان أرباب أول مدينةٍ إلهات إناث بنسبة بارزة، راحت بعد ذلك تُخْلي مكانها كلياً للأرباب ذوي الهوية الذكورية بالتدريج. مرة أخرى تبرز المعابد في صدارة المؤسسات المسَرِّعة من سقوط المرأة. ففي البداية يتم الاستيلاء خطوة خطوة على المعابد المنتشرة في كافة الأراتى، والمُدارة من قِبَل الراهبات باسم الإلهة الأم إينانا، لتُحوَّل بعد ذلك إلى بيوت للنادىرة. إن النظام الأهلي الملتف حول المرأة الأم في المجتمع الطبيعي، هومؤسسة مختلفة عن ذلك. فمثلما لا يوجد وصي على المرأة، فالمرأة بذاتها هي مديرة شؤون أطفالها والرجل الذي تشاء. لم تكن مؤسسة الزواج قد تطورت بعد بمعناها الكلاسيكي. لكن، ومع تشكل المجتمع الذكوري المهيمن، في ظل مؤسسة الدولة، تتفشى العائلة الأبوية (البطرياركية) تحت إدارة وإشراف الرجل. وتتغير ماهية مؤسسة العائلة، لتكتسب تكوينتها الأولى التي ستدوم حتى راهننا. ومثلما غدا الرجل وصياً عليها، فالأطفال أيضاً مُلكه هو. وبالتدريج، تُجرَّد المرأة من قوتها لتصبح مُلكاً. إذا العائلة المتكونة هي في حقيقة الأمر "قفص". لقد أجمع فهماء النفس البارزون على أنه ما من نوع من أنواع العبودية تجذر واكتسب صفة الديمومة، مثلما هي الحال في العائلة التي يديرها الرجل. لا يمكن تحليل مستوى العبودية في المجتمع، إلا بتحليل مستوى عبودية المرأة – بالتأكيد – بجوانبها المتعددة. فما هومتحقق في المرأة، ليس مجرد تبعية ذهنية وعملية فحسب، بل إذا جميع عواطفها ومشاعرها، حركاتها الجسدية، نبرة صوتها، وثيابها مرتبطة عن كثب بنمط العبودية. ووُضِعَت الحلقات المدورة في أنفها، في أذنيها، في معصم يدها ورِسْغ قدمها، كرموز تشير إلى نير العبودية. ويترسخ مفهوم شرف وأخلاق أحادي الجانب. وتُهمَّش المرأة أيديولوجياً. وتُسلَب منها جميع قيمها، لتغدوبذاتها مُلكاً. ويُقدَّر "ثمنها" بمقدار مهرها. إن عبودية المرأة النابعة أصلاً من المجتمع السومري، موضوع لم تمسه الأيادي بعد. فالتبعية المبتدئة في المجتمع الهرمي، تُمرَّر من معبد الراهب، ثم تُحبَس في كوخ الرجل، وتُقحَم في أشد أنواع الحالات وأكثرها وطأة، لتكتمل بذلك وتنتهي. ومن حينها تطورت هذه الحالة الثابتة إلى يومنا. وغدا الموضوع الأساسي، والشغل الشاغل للآداب ومدارس التعليم والأخلاق، مُنصَبَّاً في توجيه المرأة وتحديد كيفية خدمتها لرَجُلها بكل عواطفها وأحاسيسها وتصرفاتها، مع إسقاط قوتها الفكرية إلى الحد الأصغري بالطبع. من جانب آخر، اكتسب الرجل العبد مكانة معينة بتأمينه الإنتاج الفائض، واستخدامه قوته العضلية. أي حتى عبودية ذات مضمون اقتصادي هي الراجحة هنا. أما المرأة، فتُستعبَد كلياً، ببدنها وروحها وفكرها. إذا ما أطلقتم سراح العبد الرجل، فقد يصبح إنساناً حراً. أما إذا أطلقتم سراح امرأة، فهي تصبح موضوع عبودية أشد سوءً. حتى هذه الحقيقة تعكس مدى عُمق العبودية المطبقة. وإذا ما نظر مراقب حَذِق إلى المرأة، فلن يرى صعوبة في التنبه إلى أنه تم تكوينها، بكل ما فيها، حسب مشيئة الرجل، وبشكل عديم الرحمة، بدءاً من نبرات صوتها وحتى مشيتها، من نظرتها وحتى جلوسها. وكأن جميع شيء فيها يقول "لقد قُضي علي". يكمن الدافع الأهم في عدم تطوير التحليلات المعنية بعبودية المرأة، في شهوات الرجل الشبقية، وروحه الديكتاتورية في نزواتها. فالنموذج المصغر للمَلك الإله في المجتمع، هوالرجل، سيد المرأة في البيت. إنه ليس زوجاً وحسب، بل هو"الزوج الإله". تُواصِل هذه الحقيقة تأثيرها حتى راهننا، دون حتى تفقد من مضمونها شيئاً. يتبدى مجتمع الدولة العبودية ظاهرياً كمعمل ضخم، من الناحية الاقتصادية. ولكنه مختلف عن المعامل الحديثة بتقنياته وكيفية تبنيه. فالعبيد يُدفَعون فيه إلى العمل كسرب القطيع. يمكن استيعاب مدى استثمار كدح العبيد المروِّع والفظيع في الأرض ومناجم الفحم الحجري والعَمار، من خلال الآثار التي لا تزال باقية من هذه الحقبة الأثرية. فإدارة العبيد أعتى حتى من إدارة الحيوان. وما العبد سوى حيوان عامل. إنه مُلك، ومجرد أداة إنتاج. العبيد هم خارج دائرة القانون. وكأنهم "أشياء" لا عواطف لها. إذا الشكل الذي بلغه الذكاء التحليلي في الرجل ضارب للنظر ومثير أكثر في حقيقة العبيد. تحقق مؤسسة المُلكية أيضاً بداية سليمة في مجتمع الدولة العبودية. إذ يعتمد جوهر النظام على امتلاك المجتمع الفوقي للمجتمع التحتي، بكل ما فيه. فالملوك الآلهة ومساعدوهم هم أصحاب جميع شيء. وتبني الأمور هوالثمرة الطبيعية للحاكمية والهيمنة. و"أنا" الإنسان إذا ما وجدت الفرصة لبروزها، فهي تتسم بخصائص لا تعهد الحدود. أسفر انعدام المؤثرات المحدِّدة في عهد تأسيس النظام، عن بروز القوة المَلكية الإلهية. يتسلل نظام المُلكية، التي لم يشهدها المجتمع الطبيعي، إلى جميع مؤسسة، بدءاً من مُلكية الدولة وحتى العائلة. وتُخلَق لدى الجميع عاطفة التملك. تُعد المُلكية نادىمة الدولة، وتقدَّس وتبجَّل. لم يبقَ سوى استملاك جميع العالم بعد ذلك. وتُنقَش حدود المُلكية في جينات البشرية بأشكال وأغطية متنوعة، من قبيل: حدود الدولة، أراضي السلالة، تخوم الوطن؛ لتمتد إلى يومنا الراهن وكأنها ضريبة إلهية. في الحقيقة، إذا المُلكية تعني السلب الحقيقي، باعتبارها مصدر السمسرة. فهي المؤسسة الأكثر إفساداً وتعطيباً لتعاضد المجتمع الجماعي. لكنها من جانب آخر المؤسسة الأهم على الإطلاق، ولا غنى عنها لتغذية المجتمع الفوقي. لقد سعينا لتعريف المجتمع الطبيعي بأنه الحالة التلقائية للمجتمع الأيكولوجي. كما حتى تقهقر المجتمع الأيكولوجي خطوة خطوة، عمقاً واتساعاً مع تطور مجتمع الدولة، يُعد أحد التناقضات الاجتماعية الأولية المستمرة حتى يومنا الراهن. بقدر ما تصاعدت التناقضات الداخلية للمجتمع، تزايدت تناقضاته مع المحيط الخارجي. والتحكم بالإنسان يفضي إلى التحكم بالطبيعة. إذ جلي تماماً حتى النظام الذي لا يرأف بالإنسان، لن يتورع عن ارتكاب أسوأ السيئات إزاء الطبيعة. وبالأصل، تحتل "الحاكمية" و"الفتح" مكانة مرموقة كظواهر مثلى في أخلاق الطبقة الحاكمة. إذ يُنظَر إلى التحكم بالطبيعة على أنه أخلاق نبيلة وسلوك راقٍ، بقدر التحكم بالإنسان. وتُدحَض حيوية وقدسية الطبيعة، التي تعود للمجتمع الطبيعي. بل و"تُفتَح" الطبيعة وتُغزى، وكأنها العدواللدود. ولدى هيمنة هذه المصطلحات على ذهنية وسلوكيات المجتمع الدولتي، فهذا ما معناه فتح الأبواب على مصاريعها أمام الكوارث البيئية، التي وصلت أبعاداً ضخمة في أيامنا هذه. تُعتبر هذه التقييمات كافية بصدد تعريف المجتمع الدولتي في فترة نشوئه. قد يحدث الموضوع الملفت للنظر هوالتساؤل الذي قد يُطرح: لما استخدمنا مصطلح "مجتمع الدولة العبودية" وليس المجتمع العبودي،يا ترى؟ إنني على قناعة بأنه إذا ما تناونا الدولة كمجتمع فوقي، فإن هذا الاصطلاح سيكون أكثر تشخيصاً، وسيخدم أغراضنا على نحوأفضل. إذ لا يمكن التفكير في العبودية دون وجود الدولة. أي حتى الشرط الأولي هووظيفة الدولة. فالدولة ليست مؤسسة مجرَّدة، بل هي التنظيم المشهجر للمستولين على أدوات الهيمنة من قمع واستعمار. ويجب النظر إلى الخدمات العامة، من قبيل الأمن العام اللازم للجميع، وغيرها على أنها الخدمات المساعدة على مواراة ماهية التنظيم الحقيقي، لإفساح المجال لإضفاء المشروعية عليه أمام أنظار المجتمع. الباعث الثاني الهام لقولنا بالمجتمع الدولتي، هواكتساب صياغات المجتمعين الإقطاعي والرأسمالي أيضاً وجودها بالاعتماد على الدولة، لتأمين سيرورتهما. وما المؤسسات المشهجرة التي لا غنى عنها بالنسبة لمجموعات القمع والاستعمار، سوى تنظيمات على شكل دولة. إذ ما من مؤسسة تميزت بتأثيرها وإثمارها في القمع والاستعمار، مثلما هي الدولة. بينما يُعد المثالان السومري والمصري الصياغة الأصل لمجتمع الدولة العبودية، فإن الأمثلة الحثية والصينية والهندية، المتكررة كحلقة ثانية من السلسلة، تتميز بماهيتها التكرارية. فالمؤسسات ذاتها مضموناً قد كونت نفسها مجدداً مع إطراء التغييرات على شكلها. أما المثالان الإغريقي الروماني والإيراني، الأكثر خاصية، فقد حققا تحولاً ملحوظاً في المجال العقلي، بإحرازهما تطورات بارزة على درب أخلاق الحرية، ضمن إطار الفكر الفلسفي. هذا وشوهدت مرونات محددة في مؤسساتهما العبودية. اتخذ النظام أشكاله الكلاسيكية في الفترة المتراوحة بين 1000ق.م و300ق.م. في حين شهد عهد نضوجه في الفترة ما بين 2000ق.م و1000ق.م. أما الفترة من 3000 ق.م إلى 2000ق.م فكانت فترة التأسيس البدائي له. لا جدال في حتى البشرية استمرت في تطورها في العهد العبودي، النظام الأساسي لمجتمع الحضارة الطبقية. فمحدِّد الأمور كلها ليس النظام العبودي، إذ لا يمكننا رؤية ثورة المدينة كأثر من آثار العبودية. فقد تتطور المدينة دون وجود العبودية والدولة. ولطالما نصادف مدناً لم تتدول. إذا اعتبار ظواهر الكتابة، الرياضيات، العلوم الأخرى، مختلف الحِرَف، العَمار، والفن بكافة فروعه، والتي تطورت بالترافق مع التمدن؛ بإنها ضرورة من ضرورات النظام العبودي، إنما هوخطأ فادح. يكمن الخطأ الحقيقي المتجذر في آراء وأفكار الكثير من التيارات، بما فيها الماركسية أيضاً، في اعتبارها تلك الظواهر كرافعات على طريق تقدم العبودية؛ بل إنها – أي تلك التيارات – تبرهن بذلك على حتى الفهم والفن لا ينفصلان عن السلطة. ذلك حتى أولى القيم التي تتحكم بها سلطة الدولة وتمسك بزمامها في يدها، هي الفهم والفن. فهي بحاجة ماسة وملحّة لذلك لغرضين: إعاقة تقدمهما الحر أولاً، وتسخيرهما في ضوء مصالحها ثانياً. إذن، دعك من حتىقد يكون تطور الفهم والفن من ثمار النظام العبودي، بل إنه يشير إلى كونه يشكل عائقاً حقيقياً على دربه. فالاكتشافات والاختراعات الحاصلة في الأعوام التي لم تنشأ فيها الدولة العبودية، أي ما بين 6000ق.م – 4000ق.م، لا يمكن مقايستها إلا بتلك الحاصلة فيما بين أعوام 1600م و1900م. أي حتى الاختراعات كانت محدودة للغاية في الفترة الوسطى ما بينهما، طيلة 5000 عاماً. ومثلما هومعلوم، فالعلوم البارزة فيما بين القرنين السابع عشر والعشرين (1600م – 1900م)، هي بالأرجح من أثر الأفراد. أما ما قامت به الدولة، فهوإدراجها في دائرة احتكارها، مثلما يحصل في جميع مرة. إذا كان التفكير التحليلي أيضاً مرتبطاً بقوة بتكون المدينة، فإن الذي حرَّفه في ضوء مصالحه ومنافعه هومجتمع الدولة العبودية، مرة أخرى. وإلا، فالعبودية لم تطوِّر الفكر التحليلي. إذا ما قام به النظام العبودي هو، خلق عالم عملاق من الكذب والرياء عبر هذا النمط من التفكير، وتسليطه على ذهن الإنسان كالكابوس المرعب. وإذا ما أردنا ربط تطور العلوم والفنون والثقافة المشهجرة للبشرية جمعاء، بالعبودية وبأشكال المجتمع الطبقي الأخرى؛ فلا يمكننا حينئذ سوى ربطها بظاهرة "السلطة والتفهم"، أوتعليلها بهيمنة الدولة على الفهم والفن. وإذا كان القيام بمثل هذه التقييمات والدراسات باسم أيديولوجية الحرية والمساواة وحركاتها، يتحقق عن غير وعي وإدراك؛ فإن هذا حصيلة الارتباط بحلف السلطة. وقتئذ، لن يتغير هذا الحكم، حتى بظهور النظرية الماركسية اللينينية. سأعمل على الإسهاب بشمولية في الأقسام الآتية بشأن كون الماركسية اللينينية لم تتمكن من إنقاذ نفسها كلياً من حلف "السلطة – التفهم"، مما كان ذلك باعثاً أولياً لانهيار الاشتراكية المشيدة. نرى بشكل عام حتى شكل المجتمع العبودي للدولة ولج فترة الأزمة في الأعوام ما بين 250م – 500ق.م، لتنتهي تلك الأزمة بهيمنة المجتمع الإقطاعي كشكل أرقى. وقد لعبت الهجمات الخارجية لـ"البرابرة" المتسمين بمزايا المجتمع الطبيعي من جانب، وبالتردي والانحطاط الداخلي، وبتأثير النضال الذي ابتدأته الديانة المسيحية من جانب آخر؛ الدور المصيري في ذلك. لكن ما انهار هنا ليس الدولة، بل شكلها العبودي. أما الدولة، فستعزز نفسها أكثر، لتبلغ شكل الدولة الإقطاعية.   د – المجتمع الدولتي الإقطاعي ومجتمع العبودية الناضجة     إن النظر إلى الدولة كتدفق ذهني ومؤسساتي عبر التاريخ، يحظى بأهمية عظمى. أما تعريفات الدولة كظاهرة تنشأ وتضمحل، تتأسس بسرعة وتنهار، لتتأسس مجدداً على يد طبقة أومجموعات معينة، بالاعتماد على اصطلاحات دينية أوقومية؛ إنما تُقحِمنا في مفهوم ذي مظهر مبهم وعَكِر ومتبتر، أكثر من حتى تُقرِّبنا من حقيقتها الظاهراتية. بل قد يحدث تشبيه الدولة بـ"الكرة الثلجية والكرة النارية" المتعاظمة تصاعدياً، والمجمِّدة حيناً، والمدمِّرة الحارقة لأطرافها أحياناً أخرى، أكثر تعليماً؛ باعتبار حتى الدولة تشكل النظام الاصطلاحي الأساسي للمجتمع، وتمثل الحقيقة المؤسساتية المتواصلة دون انقطاع. فهي منذ نشوئها وتكوّنها، وحتى يومنا الراهن، تكاثرت وتعددت دون حتى يطرأ على مضمونها أي تغيير، ودون أي انقطاع في سياقها. إنها لَحقيقةٌ أكيدة بحيث لا يمكننا الحديث عن حصول انقطاع فيها، ولولمدة ثانيتين فقط. ذلك أنها تلج فترة الزوال بمجرد حصول الانقطاع. إنه أشبه بحالة انفصال الروح عن الجسد. فإذا ما هجرت الروحُ البدن خلال ثانية واحدة، يستحيل على الأخير مواصلة وجوده بعدها. كما أننا، وبعد ثانية فقط، لا يمكننا مناجاة الروح وإعادتها مجدداً إلى البدن. الدولة أيضاً كيان حي من هذا القبيل. أما تنوعها وتضخمها، فيمكننا تشبيهه بأنواع الفصيليات الوراثية. فقد يتشكل من نفس فصيلة نبات أوحيوان ما، أنواع عديدة ومجموعة أحجام مختلفة، ولكن الخاصيات الأساسية تظل ذاتها. والحديث عن الأنواع الأفضل أوالأسوأ لا يدحض هذا النمط التعليلي. عندما نطق لينين بـ"الدولة البروليتارية تجاه الدولة البورجوازية" كان يظن أنه صاغ تعريفاً سليماً وأميناً. بيد أنه لا وجود لـ"بروليتارية" الدولة كشكل اجتماعي. وقد جرَّب الكثيرون ذلك، منذ أيام سبارتاكوس، ولكن جهودهم جميعاً مضىت سدى. حتى التجربة السوفييتية، التي كسحت ثلث العالم وغطّته، لم تنجُ – مع ذلك – من الانهيار من تلقاء ذاتها. ومثلما سنسرد تفاصيل مسببات ذلك في القسم المعني به، فإن الدافع كان شكل حياة المجموعات والطبقات القمعية والاستعمارية، والذي يُعد الشكل الأساسي للدولة. هكذا أُسِّست. لا يمكن لمجموعات وتمايزات طبقية معرضة للقمع والاستعمار، حتىقد يكون لها شكلها الحر والمتساوي. فمثلما حتى جوهرها لا ينسجم مع ذلك، فإن شكلها أيضاً مناقض للحرية والمساواة. تعاظمت تدريجياً كرتنا النارية الثلجية المنطلقة من عند السومريين. والكثير من المعطيات، بما فيها مثالا الصين وأفريقيا الجنوبية، تبرهن على أنها اقتاتت من هذا النموذج، ولكن مع التغذي على لوازم المناطق ذاتها، بلا شك. لكن المثال المستوحى منه بنسبة كبرى، فكراً ومؤسسة، هودولة الرهبان السومريين. يُجمَع فهمياً على العموم على حتى هذا الأنموذج لعب دور الملهم الإلهي، بشكل مباشر وملتوٍ. إذا البحث والتدقيق في هذه الحقبة اعتماداً على المعطيات الفهمية، هومن شأن المؤرخين. وما علينا القيام به هو، القراءة السليمة والإيضاح السليم لصُلب الموضوع وروحه. يبدأ الأنموذج العبودي البدائي للدولة من سومر ومصر، لينتشر بين الحثيين، الميديين، إيران، الهند، الصين، الإغريق، الرومان، والآزتكيين، حسب الزمان والمكان، وبمستويات أدنى؛ ويبلغ فترة نضوجه – بعد تعاظمه وتكاثره مثل الفصيليات – باتخاذه الشكل الإقطاعي. وحتى بلغ هذه الفترة، سعى للتسلل إلى كافة خلايا المجتمع الطبيعي، وشكّل الكثير من المساحات الجديدة، واستطاع تحويل الإذعان والخنوع والاستعمار إلى فن مبهر يشير على عظمته. في الحقيقة، ما جرى عمله باسم "فن السياسة والعسكرية"، لم يكن سوى فن القتل المنتظم للإنسان، وقمعه، وتسخيره في كافة الأعمال الاستعمارية، على اختلافها. أما الفنون التي احتُمِي بها أثناء إعداد الأرضية المشروعة لذاك الفن، فكانت أساساً: الميثولوجيا، الملاحم، مضمون الخط المقدسة نسبياً، التماثيل، الرسوم، الموسيقا، وغيرها من الكثير من النشاطات. لا ريب في حتى ولادة هذه الفنون ليست من ابتكار طبقة الأسياد. لكن الحقيقة الأخرى المعروفة يقيناً، هي المهارة والكفاءة العظمى التي أبدتها تلك الطبقة في أقلمة تلك الفنون وفق مصالحها هي. إنه فن تغيير ذهنية الإنسان من جذورها، بالانتفاع من وسائل الحياة المادية والمعنوية الأولية، التي كوَّنتها الإنسانية بجهودها العظيمة وكدحها المرير، طيلة آلاف من السنين. من هذه الزاوية بالذات، فإن لفت الأنظار – ولوبتكرار – إلى الشروحات والتفسيرات الخاطئة الجارية، بل وباسم الحرية والمساواة؛ إنما يُعتَبر واجباً إنسانياً يهدف إلى الحرية والمساواة، ويتوجب تأديته في جميع زمان. فلنلفت الأنظار، وبإيجاز، إلى ما أُدخِل على مؤسسة الدولة، لدى بلوغنا فترة الدولة الإقطاعية. ففي عهود الملوك الآلهة السومريين والمصريين، دفنوا الآلاف من النساء والرجال الخدَم – وهم على قيد الحياة – مع أولئك الملوك الآلهة لدى وفاتهم، كي يخدموهم في حياتهم الآخرة أيضاً. وشغَّلوا مئات الآلاف من العبيد لبناء قبر واحد من تلك القبور، حتى قضوا نحبهم عليها. وبينما تُبنى زاوية من جنات النعيم لأجل حفنة من أصحاب السلطة، عومِل الآخرون معاملة أسوأ من القطيع. وعَرفوا إبادة الكيانات الاجتماعية المتمردة على العبودية، كالكلانات والقبائل، سياسةً أولية لديهم. واعتَبروا نسج القلاع والأسوار من جثث الناس عملاً مجيداً. ولأول مرة أوجدوا فن القتل المنظم للإنسان، والذي يخلومن أي جانب طبيعي، داخل المجتمع الإنساني. واتخذوا من الألاعيب والمراسيم المعتمدة على اغتال الناس أساساً لهم، حتى في أوقات لهوهم ولعبهم. هذا وتفوقوا بمهارة في حبس النساء داخل الأقفاص. وقاموا بطلاء جميع أحلام الأطفال الطبيعية بالنشاء. وأكرهوا الناس على اللجوء إلى أعماق البراري وذرى الجبال وقلب الغابات الموحشة، باسم الحرية. أما العبيد، فقد حُوِّلوا إلى أداة إنتاج اقتصادية، ليس بكدحهم فحسب، بل وبأبدانهم بكل ما فيها. وألَّفوا من الذكاء التحليلي ميثولوجيا مهيبة تعتمد على الكذب والزيف. وكأن العنف المحض الذي يمارسه الأسياد لا يكفي، فجعلَ الرهبان – إضافة إلى ذلك – من القمع والاستعمار المعنوي لعالَم الآلهة، عنصر عقيدة وعبادة أساسي؛ ونقشوه في ذهن البشرية. واتخذوا من إعلاء الأخلاق والفن من شأنهم وقدرهم هم، وإضفائهما صفة الجمال عليهم باستمرار؛ عملاً أولياً. وعوضاً عن مفهوم الكون الحي المؤلف من البيئة الطبيعية والمجتمع البشري، وطدوا مفهوم آلهة السماء وآلهة الأرض، التي لا روح لها، والتي تحاسِب وتعاقِب. وبينما يستحيل التفكير بالعَوَز والفاقة لأجل زمرة الأسياد، عانت المجموعات الأخرى من التصدع والتخدش باستمرار، بسبب المجاعة وتفشي الأمراض. يمكن توسيع هذه اللوحة أكثر. لكنه واضح أمام أعيننا وفي وعينا حتى الدولة العبودية مُلِئت على هذا النحوبكل ذكرياتها وبقاياها. لم تتوانَ جميع الدول التي ظهرت في جميع الفترات الزمنية، على اختلافها، ومن أصغرها إلى أكبرها، عن القيام بمتطلبات هذه اللوحة العامة، وإضافة بعض الأمور الأخرى التي ارتأتها هي، واعتبار ذلك من دواعي الفن السياسي والعسكري. وإذا ما وضعنا نصب أعيننا ما عمله الأباطرة الروم والبيزنطيون فقط، وإذا ما استذكرنا ما لا يطيقه ضمير الإنسان ولا يحتمله عقله إزاء متوسط ما يظهر في اللوحة المذهلة البارزة إلى الوسط جراء ذلك؛ سنكون بذلك سلَّطنا الضوء، ولوقليلاً، على الحقيقة المستترة. وحين نعت الكتاب المقدس ظاهرة الدولة العبودية بـ"اللوياثان"، فإنه بذلك صاغ تعريفاً صائباً لها. إن التدقيق في انهيار هذا الشكل الاجتماعي للدولة، ليس محط دراستنا. لكننا على فهم بأن قواها خارت وتفككت حصيلة مقاومات وهجومات القبائل الخارجية المسماة بـ"البربرية"، والتي لا تزال تتحلى بخصائص المجتمع الطبيعي. أدت مقاومات وهجومات مختلف الأقوام والقبائل، وفي مقدمتها الجرمانيون والخونيون والإسكيتيون في الشمال، والبرابرة والعرب في الجنوب؛ إلى إقحام الإمبراطوريات الصينية والهندية والإيرانية في الشرق، والرومانية في الغرب – والتي تُعرَف بأنها مراكز الحضارة العبودية – في حالة عجزت فيها عن مواصلة وجودها بأشكالها القديمة. أما تسمية تلك المجموعات بـ"البرابرة"، فهي من دواعي الآداب العبودية. ومن الأكثر واقعية تسميتها بالقوى الثورية الأساسية المؤدية إلى حدوث تطورات أقرب في مضمونها إلى الحرية والمساواة. يتسم تقييم تقليد زعماء القبائل ورؤساء الأقوام لأسيادهم العبوديين، وتشبههم بهم، على نحومنفصل من الجماهير الساحقة؛ بأهمية قصوى حقيقية. وفي الداخل، عملت التيارات الدينية الغنوسطية* (أي الروحية) المعتمدة بالغالب على الفقراء والمتطلعين إلى الحرية والمتوجهين إليها، وفي مقدمتها الديانات المسيحية والمانوية والإسلامية؛ عملت على حفر قعر نظام المجتمع العبودي، وشلَّته عن مواصلة وجوده. ورغم صعوبة الزعم بأن هذه الحركات اعتمدت على تيارات متطلعة بوعي إلى الحرية والمساواة، فمن المؤكد بما لا شائبة فيه، أنها سعت في مضمونها للخلاص من العبودية. "الخلاص" و"المنقذ" مصطلحان بارزان للعيان هنا. فالاسم الآخر لسيدنا عيسى هو"المسيح" أي "المنقذ". و"ماني" بذاته هوكالحواري الذي ينادي بالسلام والتعددية، بكل معنى الحدثة. والإسلام، بمعنى الحدثة، يعني "التسليم بالسلام". والمطاليب الأولية التي لعبت دورها في انهيار النظام هي السلام والتحرر، أي الخلاص. أما طراز صياغتها على نحوديني، فلا بد منه، لأنه من دواعي البنية الذهنية السائدة الذي تلك الحقبة. من هنا، يمكن استيعاب تمهيدها السبيل لاستتباب السلام والتحرر (الخلاص) بشكل محدود. واضح حتى هذه المدارس الدينية والممضىية والفلسفية الغنوسطية المتعاظمة في ظل الإمبراطوريات، ستتأثر بالنظام من النواحي العقلية والسياسية والعسكرية على السواء. إنها لا تسعى لبناء عبودية كلاسيكية أخرى مجدداً، بل وهي تلعنها بكل حدة، لأنها تعهدها جيداً. لكنها من ناحية أخرى عاجزة عن حسم ما ترغب بناؤه، وكيف. بيد حتى الكثير من الشخصيات المتقبلة للنظام العبودي على الصعيد الفني، قبلت بهذه الديانات سياسياً، بحيث لم ترَ صعوبة في تحويلها إلى أرضية مشروعة لها من هذه الناحية. فـ"قسطنطين" الأكبر مثلاً اعتنق الديانة المسيحية في 312م، ودخل روما على إثرها، ليعلن نفسه إمبراطورها الجديد، وينقل عاصمتها إلى المدينة المسماة اليوم بـ"إسطنبول"، ويعلن المسيحية ديناً رسمياً في عام 325م. أي حتى الدين الذي حارب ضد العبودية طيلة ثلاثة قرون، قد ولج في وفاق مع النظام العبودي. و"ماني" بذاته ولج في حماية "شابور"، الإمبراطور الكبير الثاني للسلالة الساسانية. في حين حتى سيدنا محمد الأكثر راديكالية، رسخ أسس نظامه على ميراث جميع من النظرية اللاهوتية (الثيولوجية) اليهودية والمسيحية بنسبة عظمى من جهة، وميراث الإمبراطوريتين البيزنطية والبرسية من جهة أخرى. جميعهم تحدوا النظام الكلاسيكي للعبودية عن وعي وإدراك، وأبدوا قدرتهم على تخطيه. لكن القوالب التي دخلوها كانت من إيجاد دولة الرهبان السومريين. فقاموا بتمرينها قليلاً، ليحولوها إلى أداةٍ تَقْدِر الإنسانية على تحملها. وإلا، فتحديث المجتمع الطبيعي ضمن الظروف الجديدة، لا يخطر ببالهم بتاتاً. بل إنهم يدحضون هذا النظام، بذريعة أنه "وثني" أكثر من النظام العبودي ذاته! هذه الجوانب المذكورة كافية لوحدها لتبين لنا حتى ظاهرة الدولة الجديدة التي ستظهر أمامنا ليست سوى حالة معدَّلة لشكلها القديم. أما إذا أتينا على ذكر الجماعات البربرية الأقرب إلى المجتمع الطبيعي؛ فهي أيضاً لم تنجُ من الرضا بشكل الدولة الجديد الممكن احتماله، وذلك بوساطة رؤسائها الفخورين بالنظام العبودي، والمكرَّمين من قِبَله منذ أمد بعيد. تحصل هذه الفترة، التي شهد التاريخ الإنساني خلالها انقلاباً جذرياً رأساً على عقب، في الفترة ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين. وقد شهد التاريخ فترة مماثلة لها في الانطلاقات الأخلاقية والفلسفية، التي قام بها جميع من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت وسقراط، تجاه العقلية العبودية الكلاسيكية، في القرنين السادس والخامس ما قبل الميلاد. المحصلة كانت حتى برزت صياغات وأشكال أكثر تقدمية، في الأنظمة الاجتماعية لدى الإغريق وروما وإيران والهند والصين. تُولي الماركسية الدور البارز إلى أدوات وعلاقات الإنتاج في حصول هذه التطورات التاريخية، في حين تنيط الصراع الذهني بدور ثانوي. هذا إلى جانب عدم إيلائها الوزن الكافي لكفاحات المجموعات الإثنية والدينية. يبرز هنا الاستيعاب البعيد عن التكامل بشأن التاريخ، عبر هذه المواقف، التي ليست سوى تعاليل دوغمائية للأسلوب الجدلي. ذلك أنه لا مناص من الفهم المحدود للحقائق عبر التعليل الاقتصادي، دون رؤية التحركات العظمى للمجتمع، والتي تفيد في ماهيتها بالعقلية والسياسة. إذا الهجريز على البنية التقنية والإنتاجية كقوة دافعة للتطور، دون إيلاء المعنى اللازم لتحركات الجماعات العظمى؛ إنما يفضي إلى البقاء ضمن إطار الدولة دون الإحساس بذلك. من جانب آخر، فتفسير التاريخ دون تحليل الحركات الكبرى للأديان والإثنيات (واقع القبائل، العشائر، والأمم)، يمهد السبيل لأخطاء وخيمة والتغاضي عن الكثير من الأمور؛ سواء من ناحية الأسلوب، أوالمضمون. ولهذه الحقيقة النصيب الأوفر في بقاء التفسيرات التاريخية الجارية بالأسلوب الماركسي، سقيمة وعقيمة، وإفساحها المجال لنتائج خاطئة. ذلك أنها، وبينما ناشدت بتخطي المثالية المعتمدة على السموبالمجتمع الفوقي التقليدي، سقطت – على النقيض من ذلك – في المادية الفظة، بحلولها المعتمدة على البنية الطبقية والاقتصادية المحدودة جداً. المعضلة التاريخية والاجتماعية الأخرى، التي تستلزم إنارتها، هي ما يجب فهمه من المناداة بتخطي الماضي. يتمثل قانون التغيير في الطبيعة، والتحول الذي برهن عليه سياق التطور الطبيعي في البيولوجيا، في استمرارية الظاهرة السابقة ضمن أحشاء اللاحقة لها. على سبيل المثال: إذا ما التحمت ذرّتان من الهيدروجين تتحولان إلى الهيليوم. إذا الهيدروجين مستمر في الهيليوم. فإذا ما تفككت ذرّة الهيليوم يظهر الهيدروجين ثانية. لكن هذه الحقيقة تُعتَبر ظاهرة مختلفة في التغير النوعي الحاصل على شكل ذرة الهيليوم. وتراكم الحلقات فوق بعضها في البيولوجيا، إنما هوفترة مشابهة. فالحلقة السابقة مندمجة مع اللاحقة لها. ثمة تغير مشابه في المجتمع أيضاً. فالمجتمع الفوقي يحمل السفلي في أحضانه. لكن العكس غير سليم. أي حتى المجتمع السفلي لا يتضمن العلوي. ذلك أنه ما من ظاهرة جديدة هنا. بالتالي، يتشكل المجتمع الإقطاعي بتطور النظام العبودي وتَضَمُّنِه تحميلات جديدة، حصيلة الهجمات الآتية عليه من الداخل والخارج. ويتضمن في أحشائه الكثير من قيم النظام العبودي، ولكن ليس بأشكالها القديمة. بل يحملها بأشكال جديدة تتشكل حصيلة الهجريبة الجديدة المؤلَّفة مع القيم الجديدة. أي حتى القيم القديمة لا تزول، بل تستمر في وجودها بتعديل شكلها. بيد حتى النظام الروماني العبودي عثر في نفسه القدرة على تجديد ذاته بدماء البرابرة والمسيحيين الطازجة المسفوكة. لا يمكننا تطبيق الديالكيتيك على الفترة التاريخية، والخروج منه بفهم سليم، إلا بهذا الشكل، بشرط عدم خنق الدياليكتيك في الدوغمائية. يتجذر التحول العقلي تجاه المجتمع الطبيعي، ليستمر في نظام المجتمع الإقطاعي أيضاً. لقد تحققت انفتاحات عظمى عن طريق الذكاء التحليلي. وألَّف شكل التفكير الديني والفلسفي على السواء، الذهنيةَ المهيمنة للمجتمع الجديد. ويهيمن هذان الشكلان من التفكير مجدداً في العناصر المتحولة للمجتمع القديم. وكيفما قام المجتمع السومري بتشكيل هجريبة جديدة مع قيم المجتمع النيوليتي داخل نظامه الجديد؛ كذلك قام المجتمع الإقطاعي بتشكيل هجريبة جديدة مؤلفة من القيم المعنوية الموجودة في البنى الداخلية للنظام القديم من جهة، ومن القيم المعنوية للطبقات المسحوقة والإثنيات المقاوِمة، الموجودة في الجوار الخارجي من جهة ثانية. إنَّ تدفق السياق العملي هوالمحدِّد في هذه الفترة. فالسياق العملي، بمعنى من معانيه، هوالوجود المشكِّل للزمان كقوة بحد ذاتها. والزمان هوالسياق العملي المتكون. تقوم العقلية بتحديث الخصائص الميثولوجية عبر الاصطلاحات الدينية والفلسفية. فعوضاً عن وجود آلهة متعددة، هزيلة وخائرة القوى؛ تنعكس قوة الإمبراطورية المتسامية على صورة تطور طبيعي يتجه نحوالاعتقاد بإله واحد عظيم، يمثل القوة العالمية. إذا أحداث الحياة اليومية ومجرياتها تجد مرادفاتها في الذهنية أيضاً. ثمة تغذية وتعزيز متبادل بينهما. يتعلق إحلال الإله الواحد محل تعدد الآلهة في الأديان، بهذه الفترة. ذلك حتى الممارسة العملية للدولة على مر آلاف السنين، قد أبطلت مفعول مصطلح المَلك الإله، وأصابته بالعطب. نخص بالذكر هنا ظهور هجريبة "الشرق – الغرب" الجديدة كفترة هامة ابتدأت مع عصر الإسكندر. فهذا الأخير، الذي تلقى تعليمه وترعرع بعقلية أرسطو، منتبه تماماً لفكرة المَلك الإله، ومدرك إياها. ويقوم بذاته بإشعار المحررين الملتفين حوله بزيف هذه الفكرة. باللقاء، يستمر في الانتفاع من ذلك لصون سلطته، فيعلن إلهيته هو. ويفرض ذلك عنوة على أثينا المتحدية إياه. وغدت قوة المَلك الإله تعيش أيامها الأخيرة في عهد الأباطرة الروم. نلاحظ اتساع الهوة في الفروقات، مع القول: "سما الإمبراطور إلى طابق الإله" لدى موت أحد منهم. أسفرت الخاصية الثلاثية للألوهية لدى سيدنا عيسى، عن ارتجاجات عنيفة في التاريخ. إذا هذه الثورة الذهنية المبتدئة مع سيدنا عيسى، تعتبر تطوراً عظيماً. إنها تشكل فترة انتنطقية كبرى بين المَلك الإله والمَلك الإنسان. فبينما كان الملوك يعلنون أنفسهم آلهة حتى ذاك اليوم، يتحرك سيدنا عيسى بتأثير من ذاك المفهوم، وهويتطلع إلى مَلَكية القدس، بناء على أنه ابن الرب، وإن لم يكن الرب ذاته. في الحقيقة، يتسم مصطلح "ابن الرب" الوارد في الكتاب المقدس، بمعناه السوسيولوجي العميق. فعوضاً عن حتىقد يكون الربَّ ذاته،قد يكون ابنه. إنه تطور جديد. والروح القدس، إنما تعني نسل الرب. حاول سيدنا عيسى إطراء الإصلاحات على البنية العقلية التي نشأ فيها. بالتالي فقد مهَّد السبيل لظهور الفروقات في القوة الدينية لدى جميع من الروم واليهود على السواء. وما تواطؤ مَلَكية يهوذا ووالي روما على صَلب سيدنا عيسى، سوى بدافع من الخصائص الثورية للانطلاقة الحديثة العهد. تميل الكتلة الإنسانية الفقيرة والعاطلة عن العمل، المتعاظمة في ذاك الزمان، وكذلك رجال الدين وموظفوالدولة من المستويات الدنيا؛ إلى سيدنا عيسى. وبالأصل، لم يظهر سيدنا عيسى بين ليلة وضحاها. إذا ظهوره مرتبط بطريقة "الأسنيين" الدينية ذات الأهمية الإشارة في تلك الأثناء. هذا وقد استلم الخلافة من سيدنا يحيى، الذي طالما كانت ذكراه حية كنبي. قُطعت رأس سيدنا يحيى قبل صلب سيدنا عيسى. وكانت جماهيره العاطلة عن العمل والفقيرة، تتعاظم بوتيرة عليا ودائمية. باقتضاب، كان النظام العبودي يشهد أزمة حقيقية. والثورة الذهنية البارزة في صورة الديانة المسيحية، ما هي سوى ثمرة سياق التطور الطبيعي على مر قرون عدة. إنها، بمعنى من معانيها، أشبه بالحركات الماركسية المسيحية والديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية البارزة في الماضي القريب. أبدت الديانة المسيحية انتشاراً يقتفي أثر روما ويطاردها، وكأنه ظلها. ويمكن رؤيتها كأول حزب تام معني بالفقراء في التاريخ. وقد اتخذ الفلسفة الإنسانية المثالية* أساساً، لا الإثنية. أي أنه حذا حذوكوسموبوليتية روما بجانبه هذا. تمثلت أبرز مزاعمه في تحديده لأباطرة روما، في قوله باستحالة حتىقد يكون أولئك الأباطرة آلهة. حيث أنه ثمة الرب الأب، وسيدنا عيسى هوابنه. يكمن تفكيك وتشتيت الذهنية الإمبراطورية الرومانية في هذه الجملة أساساً. والحرب الدينية ظاهرياً، ليست في مضمونها سوى حرباً سياسية. يتحقق "فتح" الذهنية المعنوية لروما، عبر التضحيات الجسام التي أبداها الحواريون أولاً، وأعقبهم في ذلك الكثير من القدّيسين والقدّيسات والرهبان والراهبات. ومع قسطنطين الأكبر يكتمل هذا "الفتح" السياسي. وغدت المسيحية الأيديولوجية الرسمية للدولة الجديدة بيزنطة. لقد شهدت هذه الفترة صراعاً ممضىياً ضارياً من بداياتها وحتى نهايتها. إنها رقابة ومنافسة، لا تزال مستمرة في يومنا الراهن. لكنها – مضموناً – تعبير عن حرب المصالح لمختلف الطبقات والبنى الإثنية. كثيراً ما نشاهد في الميثولوجيا مواضيع تقول بأن المسيحية تطورت كممضى من مذاهب المُوسَوية، وأن الموسوية تنبع في أصلها من النبي إبراهيم، الذي يعد من أقوى التنطقيد النبوية المتمردة على الملوك الآلهة السومريين والمصريين؛ وأنها – أي الموسوية – أصبحت انطلاقة مع سيدنا موسى، لتستمر في وجودها مع سيدنا عيسى، بعد مرورها بحلقات كبرى أخرى، كسيدنا داوود، وسيدنا أشعيا. وآخر ممضى لها هوالإسلام. إلى جانب طغيان الجانب الذهني في تنطقيد النبوة، فهي أيضاً حركات تتسم بقوة ورصانة جانبها المجتمعي السياسي. وهي تتطلع إلى نظام مناهض للعبودية بشكلها الأولي (الملوك الآلهة)، بحيثقد يكون أكثر مرونة، وأكثر تحملاً. كما أنها تأثرت حتى النخاع بالميثولوجيات السومرية والمصرية. لكنها تَعتَبر حتى الكثير من التصورات ومفاهيم الألوهية التي تتضمنها الميثولوجيات لم تعد ناجعة؛ وذلك بتأثير من الفارق الزمني. إنها ترى استحالة تحمل العبودية مثلما هي عليه في شكلها البدئي الأصلي. هذا علاوة على مآربها في إفساح المجال أمام تشكل التجار والحِرَفيين ليلتقطوا أنفاسهم، وتأمين مساحات خاصة (ذاتية) لتطورهم الطبقي. لهذا الغرض فهي تجد اللوازم الأيديولوجية اللازمة لها في الميثولوجيات القديمة. وبما حتى العاملين عليها يتأتون من الشرائح السفلية للمدينة، فإن لهم مكانتهم في المجتمع الطبيعي في المنطقة الجبلية. إنهم يشبهون بذلك الشرائح البورجوازية الصغيرة الراهنة. إذ من غير الممكن حتىقد يكون لهم أيديولوجيات مستقلة بهم، انطلاقاً من طبيعة بناهم. ومن المنتَظَر امتلاكهم أيديولوجيات متمفصلة. إذا الذهنية التي صوَّروها أشبه – بمعنى من معانيها – بأيديولوجية الطبقة الوسطى. إنها أيديولوجية "انكشارية" مجمَّعة من الشريحتين العُلوية والسفلية معاً. أي أنهم حوَّلوا أنظمة ذهنيتهم إلى تنطقيد بحد ذاتها بإضافتهم مصطلحات الحرية والمساواة للمجموعات الإثنية من الطبقة السفلى، إلى المصطلحات الإدارية للطبقة الإدارية العليا؛ ونجحوا بذلك في تحويلها إلى ثقافة مغايرة. يولي الشكل الإسلامي للتنطقيد حيزاً واسعاً للذكاء التحليلي. أي، ثمة انقطاع تام عن مزاعم "الملوك الآلهة". ويُعرَّف فيه سيدنا عيسى بأنه رسول الإله، لا ابنه. ويتطرق بشكل قوي وقدير إلى الفارق بين الإنسان والإله. إذا ما يدَّعيه الكتاب المقدس هنا – أي القرآن – ويعتقد به أساساً، هومفهوم الإله الكوني. ثمة تصوير تجريدي للغاية للإله هنا. وينظر إليه نظرة أشبه بطاقة الكون. لكن الجانب الكاسح في هذا المصلطح هوعنايته بالواقع الاجتماعي القائم. نجد هنا أواصر كثيبة بين وحدوية مصطلح الدولة المجرَّدة والمتمركزة، وبين مفهوم الإله المجرَّد. يبلغ تَطَوُّر اصطلاح "أل" ذروته ومنزلته المرموقة مع مصطلح "الله". لقد بلغت النظرية اللاهوتية (الثيولوجيا) السومرية مرحلتها الأخيرة هنا. فمغامرة الآلهة الناشئة كموجودات ميثولوجية في بداياتها، وصلت نهايتها مع وجود "الله" الذي يُعد جميع حُكم رسمي منه قانوناً مطلقاً. إذن، والحال هذه، يمكننا استيعاب دوافع انادىء سيدنا محمد بأنه آخر الأنبياء والرسل، لدى إمعاننا فيها. ذلك حتى الميثولوجيا السومرية أُفرِغت من محتواها بنسبة لا يمكن الإفادة منها بعد ذلك لأجل أديان جديدة. وستتطور بعد ذلك ميتافيريقية الفترة. فالسياق العملي المتزايد أصبح يدرك الطبيعة أكثر فأكثر، وشرع بتعريف المراحل الطبيعية بعين فهمية. بالتالي، بلغت البنية الذهنية للنظام الإقطاعي نقطة، تتخذ فيها من مقولة "عمل الدنيا شيء، وعمل الدين شيء آخر" أساساً لها. واصطلاحات "رُسُل الإله على وجه الأرض، ظل الإله" غدت الأنسب من أجل ذهنية البشرية. فإقناع الإنسان بكون بني جنسه آلهة، هوأمر شاق. النتيجة الأخيرة التي توصلت إليها كافة الأديان التقدمية هي، استحالة حتىقد يكون الإله إنساناً، أوالإنسان إلهاً. وستتطور بعدها مصطلحات العقل، لا المصطلحات الإلهية، في إيضاح الطبيعة وتفسيرها. وستُفصَل الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة بشكل قاطع. لكن، لا يزال مفهوم الإله المراقِب لكل تصرفات الإنسان، والمعاقِب أوالمكافئ إياه على أعماله؛ يصون وجوده بشكل وطيد آنذاك. لقد تداخل هنا مصطح الإله مع مؤسسة الدولة المجرَّدة المركزية، كانعكاس لها، وتشابَكا بشكل معقد. ينوِّه "هيغل" إلى هذه الحقيقة على نحوأكثر جلاء، عندما نطق في القرن التاسع عشر: "الدولة هي الحالة المجسَّمة للإله على وجه الأرض". إذ ثمة أواصر وطيدة وكثيبة بين مصطلح الدولة المنبترة تماماً عن الملوك الشخصيين، والمجردة، والمستحوذة على بنية مركزية راسخة ومتينة من جهة؛ وبين مفاهيم الدين المتحولة من الآلهة المتعددة إلى الإله الواحد ذي المكانة المركزية الراسخة والمتينة من الجهة الثانية. والإسلام والمسيحية على السواء، طوَّرا بجانبهما هذا نظرية الدولة المركزية. بيد حتى هذه النظرية دخلت حيز التطبيق العملي، وسيدنا محمد كان لا يزال على قيد الحياة، لتظهر الدولة الإسلامية المتنامية، وتظهر إلى جانبها الدولة البابوية الإلهية. تداخلت التحديثات التي قامت بها الذهنية الإقطاعية في الكثير من المواضيع الأخرى، مع الميثولوجيات ذات الدوغمائيات القديمة، ومع الفلسفة والأخلاق اليونانية والزرادشتية. إنها متمفصلة من ثلاثتها. فبدءاً من تصويراتها حول الجنة والنار وحتى مفهومها حول الكون، ومن عالَم الخير والشر إلى تصويراتها بشأن الجِن والملاك، ومن أشكال عبادتها حتى أحكام قوانينها؛ مصادرها الرئيسية جميعاً هي: الميثولوجيا السومرية، الفلسفة الإغريقية، وأخلاق الحرية لدى زرادشت. لعبت هذه الذهنية دوراً أيديولوجياً بارزاً منذ قرابة القرن الرابع الميلادي وحتى القرن الخامس عشر، لتبسط نفوذها على المناطق الحضارية الأساسية، وتنتشر في كافة القارات، وعلى رأسها أوروبا. ومع بدء شرارة الثورة الذهنية الجديدة بالتزامن مع النهضة المبتدئة في القرن الخامس عشر، بدأت تعيش فترة التراجع والجزر. لكن من غير الممكن الانادىء بتخطي ذهنية العصور الوسطى تلك، بشكل كلي. حيث أنها تسعى لمواصلة وجودها، وبمظاهر جديدة، في الكثير من المناطق، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط. جسَّد مجتمع الدولة الإقطاعية أيضاً فترة مماثلة في نضوجها من حيث تمأسسه السياسي والعسكري. الدولة واثقة من نفسها ومعتَدّة لأبعد الحدود. فهي أقدس ما أنزله الإله على وجه البسيطة. وجنودها هم جنود الله. أي حتى قناع القدسية متوطد تماماً. القوة الأولى فيها هي القوة السياسية، والثانية هي المفوضية الدينية، والثالثة هي العسكرية. في حين حتى البيروقراطية تشكل القوة الرابعة. لقد ترسخت مؤسسات الدولة، كلٌّ في مكانها. ولا تفقد الدولة من قيمتها المؤسساتية إلى جانب توالي السلالات في استلام دفة الحكم. الأساس هنا هوالمؤسسات، لا السلالات. والأمر عينه على مستوى الأشخاص أيضاً. ويُرى في وجه الأرض – مرة أخرى – أنه هبة منحها الإله لحكامه عليها. وعلى العبيد حتى يُبدوا رضاهم بذلك، بل وأن يشكروه دائماً على هبته تلك. غُلِّفَت الحروب بهالة من القدسية، فهي تُشَن باسم النظام الإلهي. ورغم أنها تناشد الإنسانية جمعاء وتنادي بالحرية والمساواة، إلا إذا جباية الضرائب وجمع الغنائم هما المؤسستان الاستغلاليتان الأساسيتان فيها. أي أنها تواصل العبودية القديمة بجانبها هذا. في حين يتم إعداد جيوشها على نحوأكثر نظاماً ودائمية. لقد انتقلت منذ زمن بعيد من المحاربين المشكِّلين لحاشية الأمير إلى الجيش كمؤسسة بحد ذاتها، بحيث اعتمدت أنظمة الجيوش البرسية والهيلينية والرومانية أساساً، مع تأسيسها جيوشاً أضخم عدداً وعُدّة في العصور الوسطى. يشكِّل الخَيل والسيف رمزَي الجيش لهذه الحقبة، حيث تشهد مؤسسة الفرسان أوج ازدهارها، بكل أُبَّهَتها وعظمتها وأهميتها. لم تتمأسس البيروقراطية بعد. إنما حُدِّدَت مكانة الوزراء والموظفين، وعُيِّنَت أحوالهم. وفُصِلت الطبقات العسكرية عن رجال الفهم. وأُلحِقت الجبايات بأسس وأحكام صارمة. وشاعت الاستخبارات والمراسلة كمؤسسة بحد ذاتها. يُنظَر إلى الحروب كشكل من أشكال الإنتاج. ذلك حتى الفتوحات هي موارد كسب وفير وهام. بمعنى آخر، ففتح الأراضي الجديدة يعني إنتاجات فائضة أخرى. والدولة الأقوى هي الدولة الأفضل في حربها وفتحها. التغذي على الدماء المراقة والاستغلال لا يأبه بأية حدود. فالجهاد في سبيل الله لا يمكن حتى يكتمل، إلا بفتح العالم أجمع. وهذا بدوره ما مؤداه الجهاد الكوني والأبدي. لا يمكن حتى ينفتح النظام الدولتي، وبالتالي حتى ينتعش وينضج؛ أكثر من ذلك. لقد بلغ حدوده الأخيرة في التضخم والتعاظم. هذا ما معناه بلوغ مؤسسة الدولة عهد النضوج ضمن سياق المراحل التاريخية. وما بعدها، لا يمكن حتىقد يكون ثمة شيء، سوى الأزمة. تُعتَبر العبودية هنا حالة طبيعية متأتية من الله، في الحياة الاجتماعية. أي حتى اصطلاح "العبودية" هوحالة فطرية منذ بداية الحياة، وليس حالة مكتسبة فيما بعد. فالناس يولدون ويموتون وهم عبيد. ويستحيل التفكير في شكل حياة أخرى عدا العبودية. إذ، ثمة الله، وثمة عباده. أما الملائكة والأنبياء، فهم الرسل المبلِّغون بأوامر الله. إذا ما حوَّلنا ذلك إلى اللغة السوسيولوجية، فالله هنا يمثل سلطة الدولة المجردة المتمأسسة. في حين ترمز الملائكة إلى جيوش الموظفين، ويشير الأنبياء والملائكة الأساسية إلى الوزراء وزمرة البيروقراطية العليا. أما إدارة شؤون المجتمع، فتتم عبر نظام "رموز" مريع حقاً. ثمة أواصر وطيدة بين الإدارة الظاهرية والإدارة الرمزية. وبدون فك رموز العلاقة الكائنة بين جانبَي الإدارة الملموس والرمزي، يستحيل بلوغ فهم وإدراك سليم للمجتمع. بمعنى آخر، إذا كنا نود استيعاب ماهية إدارة المجتمع بوجهها الحقيقي، عملينا نزع الستار البانتيوني* (النظام الألوهي). وحينها سنرى حتى الوجه الظالم والقبيح للقمعيين والاستعماريين الاستغلاليين مستتر تحت غطاء القدسية منذ آلاف السنين. إن العبودية الاجتماعية ليست مجرد ظاهرة طبقية. فالطبقات والشرائح الاجتماعية برمتها مُلحَقة بها، عدا الاستبداديين (وهم أيضاً في الحقيقة أسرى النظام). ما من نظام تَبَعي مستتر بعمق أكثر من النظام العبودي. والمرونة فيه مرشد على مدى تجذر النظام وتوغله. البراديغما الأساسية للمجتمع هي، نظام عبودي أزلي وأبدي، لا بداية له ولا نهاية. فالنظام سيستمر إلى الأبد كيفما هوعليه منذ الأزل. يعود هذان المصطلحان (الأبدية والأزلية) بالأرجح إلى دولةِ عهدِ النضوج. الامتحان وتبدُّل المكان متعلقان بالدنيا الآخرة. لذا، فمناهضة النظام، حتى على الصعيد الفكري أوالروحي، تُعد أكبر ذنب. فما بالك بالتمرد العملي عليه! العبودية المثلى هي الفضيلة والقُدرة الكفؤ عينها، بالنسبة لكل من يعهد كيف من الممكن أن يذعن له ويطيعه بشكل مطلق. وغدا المبدعون المبتكرون القائمون على خدمة الجماعة بأفضل الأشكال في عصر البطولة والبطولات، في المجتمع الطبيعي وعهد الهرمية الإيجابية؛ يمثلون الشخصيات الشيطانية الأخطر على الإله (الأسياد) في عصر العبودية، بحيث تستحق العقاب واللعنة. وقد طُوِّرت "الشيطانية" كاصطلاح، تجاه مجموعات الناس الرافضة للعبودية. أُطلِق هذا المصطلح ذوالجذور الشرق أوسطية، على المجموعات الشعبية المتنافرة مع النظام. من هنا، يُطلَق اسم "عُبّاد الشيطان" على الشرائح الكردية المتشبثة بتنطقيد الحياة الطبيعية لديها، وغير المعتنقة للأديان التوحيدية. إذا تقديس تلك الشرائح الكردية للشيطان، ذومعاني عظيمة. 'لدنيا الدنيا في عين النظام العبودي لعصر النضوج، هي مكان مفتوح لارتكاب الآثام في جميع لحظة. لذا، يجب تجنب الحياة الدنيا. وبقدر ما تود العيش فيها فإنك تقترف الذنوب. الشكل الأمثل والأكمل للحياة، هوإعداد الذات للموت، بكل جوانبها. وبينما يرى هذا التقرب في الطبيعة مجرد مادة ميتة يفضل عدم الدنومنها أبداً، فهوباللقاء يَحكُم باستحالة الخلاقية والإبداع مسبقاً. إذ يستحيل التفكير بمفهوم الطبيعة الحية من أجل العبيد. في الحقيقة، ثمة آثار مروعة من القمع والاضطهاد والاستعمار في ولادة هذا الانتظام والترتيب. يكمن السبب الروحي الأولي في عدم لملمة المجتمع الشرق أوسطي أشلاءه وقواه حتى اليوم، في هذا النواع من التقرب إزاء الطبيعة. لقاء ذلك، ثمة عالَم بَرّاق ومبهر على وجه البسيطة بالنسبة لدنيا الأسياد، بحيث لا يذكِّرهم بالبحث عن جنات نعيم أخرى. إنهم، وآلهتهم الملقبة بنفس اللقب – الرب – (مصطلحات الإدارة) يعيشون حياة رغيدة ومحظوظة للغاية، إلى أنْ تبلغ "حكايات ألف ليلة وليلة"، التي ما هي سوى سرود ميثولوجية لنظام الدولة الناضجة (المزدهرة) في العصور الوسطى. أما حالة المرأة المحبوسة في القفص، فثمة تغييرات طرأت عليها، بما يفيد بتمرين صوتها وتطوير زينتها، لا غير. ثمة عبودية غائرة ومتوارية بأبعاد لا تصدق. لقد تعرضت امرأة العصور الوسطى للانكسار الثقافي الكبير الثاني الجاري للمجتمع الجنسوي. فبينما نشاهد حصول الانكسار الثقافي الكبير الأول في ثقافة الإلهة إينانا – عشتار – في فترة ولادة الدولة العبودية؛ يمكننا مشاهدة الانكسار الثقافي الذي عاناه النظام الناضج (المستوي) إزاء المرأة، متمثلاً في مثال "ماريام" الأخت الكبرى لسيدنا موسى، وفي "مريم" أم سيدنا عيسى، و"عائشة" زوجة سيدنا محمد؛ بشكل ضارب للنظر. بالتالي، ومثلما لم يَعُد هناك أي أثر للألوهية الأنثوية، بات يُنظَر إليها ككائن أدنى إلى الشيطان. وأي اعتراض سهل من المرأة، قد يجعلها الشيطانَ بعينه. وقد تبيع روحها إلى الشيطان في أية لحظة. وقد تُضِل الرجل وتحرفه عن هُداه. وفي حالة سوء أخلاقها، يتوجب حرقها وهي حية، لتلتهمها الألسنة الحمراء. ثمة ثقافة مجازر تمتد إلى حد وأد البنات وهن صغيرات، ورجمهن بالحجارة حتى الموت، واتهامهن بأنهن مخلوقات مثيرة للشهوات الجنسية لدى الرجال وسالبة عقولهم. لقد تسللت حالة العبودية الغائرة في الأعماق، داخل المجتمع منذ آلاف السنين، إلى حتى بلغت أبعاداً لا تطاق. حقيقةً، لا يمكن استيعاب أبعاد مستوى عبودية النظام، ما لم تحلَّل المرأة. فما الحلقات المدورة* المعلقة في جميع طرف فيها والمهر وأشياء الزينة، سوى انعكاس لثقافة العبودية. وقد حُرِمَت من التفكير وكأنها خرساء مبتور لسانها. إنها أُمٌّ جافة مجدبة، وحقل يستطيع الرجال استخدامه وحرثه كما يشاؤون. كما خرجت من كونها "جوهر، ذات" منذ أمد بعيد، فغدت "مادة، شيء". لم يعد هناك أثر من الألوهية الأنثوية للمجتمع الطبيعي. لم يعد ثمة أي أثر للمرأة الحكيمة، مديرة شؤون الأطفال واليافعين؛ المرأة التي يلتف حولها الرجال ويدورون في مدارها. لم تكن حال الأطفال والشبيبة اليافعين مغايرة لحال المرأة، بل شبيهة بها. وكأن نظام العبودية العام بتَر روح الطفل الطبيعية، قبل حتى يطأ عنقوده السابع. أما فترة الشباب والمراهقة، فهي تنتج شخصية مصطنعة كلياً، عبر أساليب النظام التعليمية الخارقة، بحيث ضُبِطَت جميع تصرفاتهم وسلوكياتهم سلفاً. ولا يمكن التفكير بالحرية بتاتاً، حتى على مستوى الألفاظ. Jمكننا يمكننا اعتبار هذه الفترة بكاملها، فترة محوالمجتمع وإفنائه، فكراً وروحاً. إذ لا يوجد سوى صوت المجتمع الفوقي الصاخب بصوت "الله" وقرقعة "السيوف" وطقطقة "النعال". جميع الملاحم تتميز بالدراما المبنية على الاقتتال والفتح. قد تكون هذه اللوحة مبالَغ فيها. لكن الحقيقة الروحية لتلك الفترة، تنعكس بما يتناغم وجوهرَ هذه اللوحة. لقد احتل النظام العبودي الكلاسيكي الأكثر استقراراً وثباتاً، محله بدل العبودية بشكلها البدائي الأولي. تعيش الدولة هنا، والمجتمع الذي تمثله، ذروة مراحلها، فترة النضوج التام. هذا ووُطِّدَت كافة المصطلحات والمؤسسات الأساسية المعنية بالنظام، بحيث تُعلِن الجوامع والكنائس والكنيسد* واجب تقديس النظام جميع يوم، عبر الأذان ودقات الأجراس. وما يأتي بعد ذلك، ليس في مضمونه سوى المدة الأخيرة من فترة الأزمة العامة، التي سيلجها المجتمع، وإن بدى ظاهرياً بأنه قوي ومتماسك؛ لتبدأ الدولة الرأسمالية بإبداء قدرتها وكفاءتها في التطور. فمن المعلوم حتى أكثر المراحل عظمة وأبّهة، إنما هي فترة الانحلالات والتفككات المتأزمة، والمتوالية. يسري مفعول هذا القانون العام للطبيعة أكثر فأكثر بالنسبة للمراحل الاجتماعية أيضاً. لم نلجأ كثيراً إلى مصطلحات "القنانة، القرية، المدينة، العصور الوسطى" كاصطلاحات أخرى لهذه الفترة. ولم نعمد إلى تكرار الأسلوب المسمى بالتحليل الطبقي ونتائجه، لأنها أمور معروفة. لا ريب في أنه بالإمكان إبراز بعض الحقائق بهذا الأسلوب، بحيث تُصطَلَح مختلف شرائح المجتمع على نحو: القن، القروي، التاجر، المديني، المِهَني، والمعنيون بالفن والفهم. كما حتى الأرض كأداة إنتاج، وعلاقات المُلكية المبنية عليها، والقانون المتطور؛ كلها تستلزم المعالجة الشمولية. فكون الأرض أبرز وسيلة للإنتاج، وكون الحروب والفتوحات والنزاعات والصراعات اتخذت الأرض أساساً لها، وأن الطبقة الوسطى تنامت وتوطدت بما يؤهلها للعب دورها الهام في التطورات الاجتماعية؛ جميع هذه الأمور تستحق الدراسة بعناية ودقة. لكن، وبما حتى هدفنا هنا قد اتخذ من التعريف العام للدولة أساساً، فكان من الأنسب طرح الجوانب المعنية باللوحة، بخطوطها العريضة. إن العوامل المؤدية إلى انهيار نظام الدولة العبودية للعصور الوسطى، داخلية بالأساس. ولا داعي لوجود هجمات إثنية جديدة من الخارج، أوظهور أديان جديدة من الداخل لأجل انهياره. ذلك حتى طاقات الكُمُون لأجل الانهيار متراكمة في الداخل بما فيه الكفاية. فالمستوى الراقي للإثنيات المدرَجة داخل حدود الدولة، الشريحة البورجوازية الوسطى المتصاعدة حديثاً، المذاهب الدينية، والشرائح المتمردة باسم مختلف الأقوام؛ إنما هي القوى الأساسية المتمردة على المونارشية، والتي تُعتَبر بأنها دولة مطلقة. ولدى تطابق مطاليب الحركة الإثنية في الدولة القومية، مع مطاليب الطبقة الوسطى المدينية، وخاصة البورجوازية التجارية، في الحدود القومية؛ تمخضت عنه ولادة الدولة القومية والمجتمع الرأسمالي كإحدى أبرز المنعطفات وأعظمها في التاريخ. ستشكل هذه الفترةُ المبتدئة منذ القرن الخامس عشر الميلادي – على وجه التقريب – وحتى يومنا الحالي، الفترةَ الأخيرة للدولة بصفتها المجتمع البنيوي الفوقي. ذلك حتى المستوى الذي بلغته الذهنية وأحرزه التطور التقني المادي، سيَعتَبِر حتى طراز التنظيم على شكل دولة – على الأقل بشكلَيها البدائي الأولي والكلاسيكي – لم يعد ذا نفع أوجدوى بالنسبة للمجتمع، بل وسيعتبرها فترة مؤسساتية مكبِّلة للأرجل ومقيِّدة إياها.         هـ الدولة الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي، أزمة الحضارة     كان لينين محقاً عندما نطق: "الدولة والثورة هما المسألة الأساسية في مراحل الأزمة العامة". كان منتَظَراً منه القيام بصياغة تعريف سليم للدولة والمجتمع، حيث اعتقدَتْ به جميع الشرائح المسحوقة والمستعمَرة في القرن العشرين، ورأته كانطلاقة نبي. كان صادقاً في أفكاره وعملياته، قديراً ماهراً، وقريباً جداً من التعريف السليم لهما. لكن الدولة – مرة أخرى – عهدت كيف من الممكن أن تواصل نفسها، لدى لينين أيضاً، كوجود سحري محال التعريف، لتُفرِغ جهوده من محتواها. لقد تبدت الدولة كحالة أشبه بـ"ثنائية كوانتوم" بالنسبة لكل الأنبياء والحكماء والفلاسفة ورجالات الفهم في راهننا. هذه هي الثنائية التي مفادها: "إنْ عهدتَ مكان الظاهرة، فلن تعهد زمانها. وإنْ عهدتَ زمانها، فلن تعهد مكانها". بعض الفلاسفة يسمونها "مبدأ الغموض". قد يحدث مبدأً من أجل "الفهم"، كأكثر أنواع الإدراك رقياً. وأنا أيضاً أؤمن – أوأعهد – بأن "المرء يتكون في لحظة الفهم". أي، ولأن الفهم والتكون يحصلان في ذات اللحظة، فإنني لم أجد سبيلاً للخلاص من نصف الفهم، رغم انشغالي بها كثيراً. لكنها ثنائية تجري في الحدود الأصغرية والأعظمية للكون، وتُشعِرنا بوجودها في كيانات (تكوينات) الكون الخارقة. لا أعتقد بأن الدولة ظاهرة كهذه. ومثلما نوَّه أنجلز بحدسه الداهية، فـ"الدولة" لا يمكن حتى تكون شيئاً عدا إحدى لوازم التحف القديمة، التي سيأتي يوم وترمى فيه في مزبلة التاريخ، كأداة مهترئة لا نفع منها. ويكمن سوء الطالع بأكمله في صعوبة فهمها، بسبب الجهل بهوية صاحبها الحقيقي، وأين وكيف تكونت، وهذا من دواعي مضمونها. حتى إذا برز صاحبها، فهي تتحول إلى حقيقة مختلفة جميع الاختلاف. هكذا يسود منظر، وكأنها "ثنائية كوانتوم". إننا نعيش الرأسمالية. وأمريكا، القوة المحركة للرأسمالية، لا تتوانى عن شن حرب التحجيم على الدولة، على الصعيد الكوني. فعندما يضيع الخاتم في فيلم "سيد الخواتم"، الذي نوهنا إليه سابقاً، إنما تكون بذلك – في الحقيقة – انتقدَت السلطة المفرطة المتحولة إلى عائق حقيقي. لكنها من جانب آخر، لا تتورع عن لف العالم واستيعابه (احتضانه) كدولة. وهذا ما يفضي إلى حتى الظاهرة المُشْكِلة مستمرة في ذروة المجتمع الفوقي أيضاً، وبكل حدة. أظن حتى حالة الدول الأخرى، التي يجب حتى تكون على شكل ولايات منفردة بذاتها، لم تُحلَّل بشكل برَّاق. وبالكادقد يكون ما من حكومة لم تفكر بالإصلاحات في موضوع الدولة. لكن الغريب في الأمر حتى جميع إصلاح لا يسفر سوى عن تأزيم الأزمة. فهدف المجازفة الشرق أوسطية الأخيرة، إنما هو"مشروع الشرق الأوسط الكبير الإصلاحي". إنه حديث الساعة في العالم أجمع. ولكن، هل المسافة المقطوعة فيه هي نحوالأمام أم الخلف،يا ترى؟ هل هوالحل، أم تجذير للعقم واللاحل،يا ترى؟ هذا ما لم يُجزَم به بعد. حسب قناعتي، تتأتى جميع هذه التحديدات والغموض أساساً من ذات المشكلة، ألا وهي عدم تجاسُرنا على تعريف الدولة. فحال فهماء الاجتماع، الذين يجب عليهم صياغة ذاك التعريف، ليس أكثر تقدمية من حال الرهبان السومريين الساعين لفهم قدر الإنسان من خلال تحركات النجوم. فبينما تضاهي إحصائيات القرن العشرين بمفرده ما هي عليه إحصائيات الحروب والعنف على طول التاريخ البشري أضعافاً مضاعفة؛ فإنهم لا يتخلفون عن كتابة المجلدات المليئة بالكذب والرياء حول "إرهابية الفرد والتنظيم"، اللذين ليسا سوى ثمرة جانبية من النظام ذاته. وكأن جميع ما يعملونه، كعنف منظَّم، هوتأمين عدم فهم الدولة. حتى ذووالنوايا الحسنة منهم، فإن تعاريفهم لا تتعدى في مستواها مسألة تعريف الفيل عبر شعر جلده! فقد مزَّقوا الواقع الظاهراتي المتكامل إلى أشلاء متناثرة تحت اسم الأسلوب، لدرجة لم يعد بالإمكان معهدته أوقراءته. ومن ثم يتصرفون وكأنهم غير عالمين بما اقترفت أيديهم بهذا الشأن. الغريب في الأمر هو، وكأن عدم التعريف السليم للدولة أصبح بلاء مسلَّطاً عليها هي أيضاً. لقد غدت الدولة تشكل أزمة مجتمعية أساسية، بمواراة ذاتها حيناً، وبجاذبيتها أحياناً أخرى، وبإخافتها وترويعها ومعاقبتها الغير في أغلب الأحيان؛ بحيث جعلت من ذاتها حالة مبهمة يكتنفها الغموض. وغير وارد ألا نرى ماهيتها هذه في جميع زاوية وبقعة من العالم. فالمجريات الحاصلة حالياً في ميزوبوتاميا السفلى، مهد ولادة الدولة، كافية بحد ذاتها لنراها وكأنها تنتقم لذاتها من ماضٍ لعين. تماماً كيفما تلدغ الأفعى الطويلة ذنَبَها. أوكما قيل بلغة الكتاب المقدس: مثل حيوان اللوياثان الذي يعض على ذنَبه في نفس مكان ولادته، ليقضي بذاته على حياته، ويصارع لإنهائها بيده. ومثلما جرى في جميع نظام مجتمعي قمعي واستعماري، فولادة الرأسمالية أيضاً لا تكون بدون الدولة. كانت دوغمائية النظام الإقطاعي ذات نوعية دينية، في حين كانت ميثولوجية في العبودية البِدْئِيّة. وبينما تجسَّد الإله في إحداهما في إنسان المَلك وسلالته بالذات، كان الإله في اللاحقة منهما يمثل ذاته في الوجود المجرد للدولة، بمواراة ذاته وتستره. فعصور الذهنية البشرية كانت تستلزم ذلك. لدى وصولنا إلى نهايات القرن الثاني عشر الميلادي، نلاحظ في البنية الذهنية للدين الإسلامي، حتى الفهم والفلسفة سينهزمان أمام الدوغمائية الدينية. حيث ستُغلَق أبواب الاجتهاد رسمياً، لتلف القوالب الدوغمائية ذهنية المجتمع الشرق أوسطي كشِباك الجهالة. في حين أنه في القرن الثاني عشر الميلادي، ستبدأ في أوروبا فترة وضع اللبنات الأساسية لثورة ذهنية تاريخية، عبر جمعهم بين الميراثين الشرقي والإغريقي وتهجينهما. ورغم كافة الجوانب القمعية للديانة المسيحية آنذاك، إلا إنها لم تتوانَ عن استثارة وتحريض فضولها في الفهم، بجانب من جوانبها. لذا، إذا تجاوز الدوغمائيات المنفتحة بأبعاد واسعة أمام التفسير في الديانة المسيحية، من خلال ذكريات المجتمع الطبيعي وبقاياه المتبقية، والتي لا تزال تنبض بالحياة والحيوية؛ لنقد يكون أصعب مما هوعليه لدى الأمة الإسلامية. فمثلما لم تنهزم الذكريات الغضة والطازجة للمجتمع الطبيعي – في وقت من الأوقات – أمام الإمبراطورية الرومانية، فإنها لن تنهزم أمام دوغمائية الديانة المسيحية أيضاً. بل وستبلغ وجهة نظر الطبيعة النابضة بالحياة والأمل، تجاه مفهوم المادة الميتة السائد في المسيحية بصدد مفهومها إزاء الطبيعة. ثمة نظريات كثيرة تتداول دوافع بلوغ الرأسمالية النصر المظفر في أوروبا الغربية. لكن الدافع الرئيسي لذلك – حسب قناعتي – هوعدم تجذر الدوغمائية فيها، وعدم السماح لها بالتوطد بقدر ما هي الحال عليه في الشرق الأوسط. لقد عاقبت محاكم التفتيش الكاثوليكية (engizisyon) ثلاث شرائح: الهراطقة (المنشقون عن الممضى)، الكيميائيون (رواد الفهم)، والساحرات الجِنِّيّات (بقايا النساء الحكيمات). فوجود ثلاثتهم هوترياق الدوغمائية، وعلاجها الناجع. وفيما بعد، كان مقدراً حتى تتولد الذهنية النهضوية من رماد آلاف الجثث المحروقة من هؤلاء. لم يكن ميلاد نظام المجتمع الرأسمالي قدراً محتوماً، ولم تشتمل المطلقيةُ موضوعَ الرأسمالية في هذه الفترة التي شهدت إحدى أعظم الثورات الذهنية. ولكن، كيف من الممكن أن حصل حتى صارت النظامَ المهيمنَ بالانتفاع من هذه الثورة؟ إن النوع الفكري والعقائدي الذي يستوجب الهجريز فيه بإمعان ودقة، هوتأسيس الأواصر البترية ورسم الخطوط المستقيمة بين الثورات الذهنية والأنظمة الاجتماعية البارزة على مر التاريخ. إنه الشكل المنعكس على التفكير الفهمي لمفهوم "اللوح المحفوظ" في الكتاب المقدس. والمعتقد الدوغمائي الذي يقول "ما هومكتوب على الجبين، يفترض أن تراه العين"، على حد التعبير الشعبي؛ إنما يشير إلى مدى تفشي مثل هذا النوع من التفكير والمعتقدات. والنقطة التي نوهنا إليها بكل عناية ضمن التحليلات التي سعينا لطرحها، هي الروابط الكامنة بين هذا المفهوم والمفهوم الإداري للإرادة الهرمية الدولتية. إنه تقرب يتخذ من إقناع المجتمع بكون نظام "الأوامر" هوقانون إلهي، أساساً له، ويفرض التفكير فيه كقانون ومخطط للأحكام القانونية. وتتبدى تنطقيد آلاف السنين من هنا "من العصر المضىي"، لترسم سياقاً من التطور المستقيم المنتهي باصطلاحات "المحشر" و"الجنة والنار". فكرة القدَرية أيضاً هي من دواعي هذا المفهوم. إنه جدل محتدم بين أصحاب ممضى الاعتزال، وأصحاب ممضى اللوح المحفوظ، في العالم الإسلامي. وأساس هذا المفهوم، الذي لا يرى أي معنى في ضرورة النقاش الحر أوفي تفضيل الإرادة الحرة ذات الخيارات المتعددة؛ إنما هوأكثر قِدَماً. حيث يمتد ليصل حتى العصور الميثولوجية المعتقدة بأن الآلهة الفَوطَبيعية (فوق الطبيعية) هي التي خلقت جميع الحوادث والمجريات، وهي تدير شؤونها؛ ليواصل وجوده مع المثالية الفلسفية. في حين حتى شكله المبتدئ مع عصر النهضة في الحضارة الأوروبية، والمستمر حتى راهننا، هومفهوم ذوسياق تقدمي مستقيم الخط. هذا ويرتكز الإيمان القوي بـ"التقدم"، والسائد في الفترة التنويرية، وكذلك المعتقد القائل بـ"ضرورة التوجه صوب الشيوعية" في الماركسية؛ في جذورهما إلى هذا السلوك الفكري الدوغمائي. لقد حَطَّمَت الظواهر التي برهن عليها الجزيء الأصغر من الذرّة، أي فيزياء كوانتوم؛ القوةَ التي تميز بها هذا التفكير. ذلك حتى إحدى أعظم الثورات الفكرية التي تظهر أمامنا تشير إلى الحقيقة القائلة بأن التطور الطبيعي والمجتمعي لا يحصل في خط مستقيم متواصل، بل في مساحات الفوضى البينية، وفي عالم الجزيء ما تحت الذرّة، وعلى نحومنفتح لتفضيلات وانتقاءات متعددة ذات اختيارات حرة. وبالأصل، يمكننا بلوغ هذا الطراز الفكري من الطريق الحدسي والتصوري، دون الحاجة إلى اللجوء إلى فيزياء الجزيء الأصغر من الذرّة. حيث لا يمكننا تعليل النتيجة الظاهرة للعيان، والمتمثلة في التنوع اللامحدود للكون والطبيعة، من دون وجود قوة التطور التي تهجر المجال مفتوحاً أمام الاختيار (الانتقاء) الحر في عالم كافة الظواهر والحوادث الموجودة. ذلك حتى التنوعية تستلزم الحرية، في حين حتى التقرب بخط مستقيم يفرض التطابق، وبالتالي اللااختيار. ولأجل تأمين إمكانية التقرب بخلاقية وإبداع، نلجأ إلى هذا التفكير الفهمي الفلسفي، وإلى الفترة المتسارعة بوتيرة أكثر اعتباراً من القرن الخامس عشر، والمنتهية بفوز الرأسمالية المظفر. باقتضاب، كان من الممكن ألاقد يكون فوز الرأسمالية قدراً محتوماً. يجب تناول بواعث فوز الرأسمالية بنحوأقرب إلى الصحة. إذا الماركسية التي أثرت علينا كثيراً، وبإعلانها حتى الرأسمالية وكافة أشكال المجتمع الطبقي السابقة لها "خط اضطراري وضروري لتقدم التاريخ"؛ إنما قدمت بذلك أعظم مساهمة منها – دون حتى تفهم، وخلافاً لمعتقداتها وآمالها وطموحاتها – إلى الرأسمالية، التي طالما كافحت ضدها بحدة. يكمن في صُلب الأفكار التي ذكرتُها في هذه المرافعة، قناعتي التي تشير إلى أنه "لا وجود لمبدأ الضرورة والاضطرار في أنظمة المجتمع، مثلما نطقت به أشكال الفكر الأساسية، بما فيها الماركسية". أي حتى المزاعم القائلة بـ"التطور الضروري والاضطراري"، سواء بالنسبة لأشكال المجتمع الفوقي أوالدولة؛ تحمل آثار النادىيات الرسمية الممتدة على طول آلاف السنين. بمعنى آخر، فمفهوم "القدر" القديم، متواصل في راهننا تحت غطاء فهمي، وباسم "قوانين المجتمع الضرورية والاضطرارية". تعمل ديناميكيات التحول المجتمعي بشكل مغاير، بحيث لا يمكن تعليلها بالاعتماد على البنى الفوقية والتحتية فحسب. ذلك حتى التحولات تحدث بتأثير عوامل متشابكة ومعقدة. نخص بالذكر هنا حتى التفسير الدوغمائي للمادية الدياليكتيكية المؤثرة على قسم كبير من المتنورين المعاصرين، ومثلما بُرهِن عليه في انهيار الاشتراكية المشيدة؛ بدا غير واقعي، بل وتسبب في خيبات الأمل الكبرى لكل من عقدوا آمالهم عليه. إن ربط الأنظمة التاريخية للمجتمع بطراز النضال المتبع في السلوكيات الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية للمراحل، سيكون تحليلياً أكثر من ربطها بمحصلة القوانين الضرورية الاضطرارية. فالقانونية في ظاهرتَي الفرد الإنسان والمجتمع الإنساني، إنما هي مرنة للغاية، وتتسم بخاصيات تخولها لإحداث التحولات السريعة. أما القانونية الصلبة المشاهَدة في الظواهر الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، فهي سارية المفعول ضمن حدود الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا فحسب. وما يتبقى، فتحدِّده بنية العقل لدى الإنسان، وظاهرة المجتمع. لهذا الغرض، يستحوذ عدم ربط الإنسان والمجتمع بالمفاهيم القدرية على أهمية قصوى، من حيث إمكانيات وفرص التحرر. وسواء كانت الأحكام المسبقة، أوالأحكام القدرية، فهي تطلي ديناميكيات الإبداع الحر بالنشاء. وعندماقد يكون فهم الاجتماع موضوع الحديث، عملينا حتى نضع نصب العين، في جميع زمان ومكان، حتى القسم الساحق مما قيل وينطق فيه يعود إلى الأنظمة الاجتماعية المهيمنة والمتسللة منذ آلاف السنين متخفية وراء أقنعة متغايرة في جميع فترة. وأنه يلعب دوراً انحيازياً في يومنا الراهن، تحت غطاء الفهمية. إن دراسة العلاقة القائمة بين المجتمع الرأسمالي والثورة الذهنية النهضوية المتسارعة والمتجذرة بنسبة كبرى اعتباراً من القرن الخامس عشر، ضمن هذا الإطار؛ ستكون منوِّرةً أكثر. لقد أثرت خاصيتان في ميلاد الذهنية النهضوية في مجتمع أوروبا الغربية. فضُعف وهزل ثقافة الدولة من ناحية، والذكريات الطازجة الحية لذهنية المجتمع الطبيعي من ناحية ثانية؛ كوَّنتا الأرضية الخصبة لظهور الفكر الحر الخلاق. وقد عجزت دوغمائيات الديانة المسيحية الصلبة عن منع تكوُّن شروط هذه الأرضية. وبات بالإمكان تخطي دوغمائية المسيحية، لدى التحام تلك الشروط المساعدة مع التأثير المشهجر لثقافة المعلومات المتأتية من الشرق الأوسط حصيلة الحروب الصليبية من جهة، ومع الثقافة الإغريقية الرومانية من الجهة الثانية. تلعب فترة التممضى (الممضىية) في الديانة المسيحية في القرن الثالث عشر، دور السبب والنتيجة على السواء في هذه المستجدات. إذا الممضىَين الدومينيكاني والفرنسيسكاني يُعَدان تطورَين يستحقان الالتفات إليهما. وقد قُمِعَت مذاهب مماثلة في الديانة الإسلامية في هذه الفترة، من قبيل المعتزلة، والإشراقيون. وهنا تبرز أهمية المساهمات التي قدمتها الاكتشافات الجغرافية، بما أمَّنَته من مراقبات وترصدات عالمية جديدة. أسفرت هذه المستجدات الثنائية الاتجاه (الهجريبة الجديدة)، أي، ضعف ثقافة الدولة، وذكريات المجتمع الطبيعي من جهة، والميراث الإيجابي للديانتين الإسلامية والمسيحية – الموسوية هنا مؤثرة كثقافة أكثر جذرية – والثقافة الإغريقية الرومانية، والكشوفات الجغرافية من الجهة الأخرى؛ عن ولادة الذهنية النهضوية. يمكننا النظر إلى عصر النهضة بأنه القوة الإدراكية الثالثة الكبرى في التاريخ البشري. ذلك حتى القوة الأولى هي حقبة الذهنية النيوليتية، التي بلغت أَوجَها في الحوض الداخلي لسلسلة جبال طوروس وزاغروس في أعوام الألف الرابع (4000ق.م) قبل الميلاد. حيث نشاهد حتى جميع الآلات التقنية اللازمة لانتنطق الإنسانية إلى الحضارة، قد تشكلت في هذه الفترة. فالعجلة، آلة الحياكة، آلات الحراثة المزدوجة، القرى الضخمة، اللغات البارزة، البنى الإثنية، والملاحم البطولية؛ كلها تخلق المعجزات والخوارق الملتفة حول القوة الإبداعية العظمى للمرأة الأم. وما دين الإلهة الأنثى في حقيقة الأمر سوى سموعظيم بالذهنية، وتقديس لإنتاجية المرأة. جميع اللُّقى المتبقية من هذه الحقبة تؤكد صحة هذه الحقيقة. فحدثة "ستار" التي لا تزال تعني "النجمة"، تعني في اللغة الآرامية – التي كانت اللغة والثقافة المهيمنة في ذاك العصر – الإلهة الأنثى. والأهمية التي تتميز بها حدثة "يا ستار" في راهننا أيضاً في اللغة الكردية – لغة الوطن الأم – والتي تعني "يا الله"؛ إنما تعبر عن الحيرة والعظمة والقوة العقائدية الكبرى. هذه الحدثة هي إيجاد غائر القِدَم، لدرجة أنها تواصل وجودها في كافة اللغات ذات الأصول الآرية، وإن بأشكال متغايرة. يمكننا القول حتى جنة الدنيا قد خُلِقَت أولاً في هذا الحوض. حيث تشهد البشرية مئات من "البدايات" في الإنتاج والحياة الاجتماعية على حد سواء. فقوالب الموسيقا وضوابطها وآلاتها المخترعة في تلك الحقبة، لا تزال آثارها تبعث فينا القشعريرة وتهزنا من الصميم، لتعانق أرواحنا وتحاصرها. تشير البحوثات الجارية إلى حتى هذه الثقافة، ولدى انتشارها صوب الحوض السفلي لنهرَي دجلة والفرات ووادي النيل ووادي البينجاب؛ أسفرت عن ظهور الحضارتين السومرية والمصرية، لتبدأ بذلك سلسلة عصور الحضارات المتتالية. أما فترة الذهنية العظمى الثانية، فتحققت في الأعوام ما بين (600 إلى 300ق.م) على ضفاف بحر إيجة. إنها الفترة التي حققت فيها ذهنية الفلسفة والفهم وثبة عظمى تجاه الميثولوجيا العبودية. وتسمى أيضاً "عصر الحِكمة". كانت بلاد غرب الأناضول آنذاك كأوروبا الغربية في راهننا، حيث شكلت انعكاس الموجة الحضارية في الشرق على ضفاف بحر إيجة. وما لعبته الديانة المسيحية من دور في أوروبا، لعبته الحضارات الحثية والميدية والمصرية والكريتية آنذاك مجتمِعة. وهنا أيضاً شكَّل عدم تجذر تنطقيد الدولة، الوجودُ الرصينُ لثقافة المجتمع الطبيعي، الجغرافيا الرائعة المعطاءة، ووجود البحار والجزر المذهلة؛ شكّل مجموع العوامل المؤثرة في ولادة الذهنية الجديدة. لا ريب حتى التجارة الشرقية – الغربية الكبرى أيضاً كانت عاملاً اقتصادياً مهماً فيها، حسب ما نستوعبه من بقايا طروادة. تكمن هاتان النهضتان أولاً في أساس النهضة في أوروبا الغربية. وإذا لم نفهم النهضة الحاصلة في حواف جبال طوروس وزاغروس، فلن نفهم النهضة الحاصلة على ضفاف بحر إيجة. وإذا لم نفهم هذه الأخيرة، فلن نفهم النهضة في أوروبا. وإذا ما توغلنا أكثر؛ لولم نفهم كيف من الممكن أن وقع انتشار الثورة النيوليتية الآرية المتكونة في الحوض نفسه – وكذلك ثقافتها ولغتها – في أعوام (5000 – 4000ق.م) من الصين إلى أوروبا، ومن أفريقيا الشمالية نحوالقفقاس؛ لا يمكننا فهم كيفية تشكُّل الحضارات اللاحقة في هذه المناطق مع المجتمعات النيوليتية. يتميز فهم تدفق السياق التاريخي في هذا الاتجاه بأهمية قصوى من أجل فهم الثورات الذهنية الكبرى والأديان والبنى الاجتماعية. إنني أبين هذه النقاط لأن جميع إنسان أوروبي (وأحفاده) عندما ينطق له "الحضارة"، فأكثر ما يخطر بباله هوالنهضة الإغريقية الرومانية والديانة المسيحية. بيد حتى هذه التطورات الحاصلة في تلك المناطق ليست سوى محطات منفردة بذاتها ضمن النهر المقدس المتدفق، وهويحفر ويحفر في قاع العصور الحضارية الممتدة على طول آلاف السنين، ويوسع يوسع أطرافها، ويفتح يفتح أمامها، ويُعلي يُعلي أعلاها، دون كلل أوملل. أهم المزايا البارزة في الذهنية النهضوية هي، إعادة اكتساب الروح الإنسانية التي كانت أفنتها العصور الوسطى، العودة إلى الدنيا والطبيعة التي كانت محفوفة بغطاء من السوء والبغض، الانقطاع عن الدوغمائيات، والثقة بعقل الإنسان. فموهبة الفهم كانت احتكرتها الدولة منذ أيام الرهبان السومريين، لتجعلها إحدى أبرز الوسائل لتعزيز نفسها وترسيخها. لا يقتصر الأمر على الإنتاج الفائض وأدوات الإنتاج المتطورة، بل حتى المعلومات الأكثر فائدة تُحال مع أصحابها، وعلى الفور، إلى مؤسسة الدولة. حيث لا يُسمَح للفهم الجديد حتى يخلق المساحات الحرة. ذلك حتى مساحة الفهم الحر تعني مجتمعاً جديداً. ومن دواعي طبيعة الدولة العبودية أنها ترى مثل هذه الكيانات خطراً يهدد وجودها، فلا مناص حينئذ من الهجوم عليها، إما بالاستيلاء عليها، أوبإزالتها من الوجود. لتفعيل الكنيسة لمحاكم التفتيش في هذه الفترة معانيه البارزة. فالفرد عندما يكتسب الروح يتحرر. وأكثر من حوكِم بالانحراف عن الممضى هم ذووالفكر الحر تجاه دوغمائية الدين. أما النساء المنعوتات بالجِنّيّات الساحرات، فيُحاكَمن لأنهن يحملن هويات غير هاضمة للمسيحية. في حين حتى الكيميائيين هم الباحثون عن المعلومات المغايرة لما هوموجود. تتميز هذه التيارات الثلاثة بماهية قادرة على إحداث الثغرات في الدوغمائية. وبينما تعكس التيارات الفنية الحياة بما فيها من روعة وجمال، يتم تخطي ذهنية الطبيعة الميتة والمادة الجامدة. وتتشكل روح الفرد من حديث عبر آداب الرسم والموسيقا والمعمار، شكلاً ومضموناً. الفرد المكتسب للروح والفكر الجديدين، هوالإنسان الذي ينضح بالحيوية، بحيث يضيق عليه جلده. وبهذا الفرد، لا يُسعى لفتح (اكتساب) الأراضي الجغرافية فحسب، بل والطبيعة أيضاً. الفترة في الوقت ذاته مثيرة ومحفِّزة لتَصَوُّر اليوتوبيات الجديدة، حيث باتت الألبسة القديمة ضيقة عليها. لكن، وبسبب عدم مواءمة الشروط المادية لذلك، أُسِّسَت اليوتوبيات المنتظمة فحسب. لم يَعُد ثمة رغبة للعودة إلى أجواء الدنيا المضجِرة القديمة. ولكن، لم يُجزَم بعد تماماً بكيفية شَرع الأبواب أمام الدنيا الجديدة المرتقبة. هذه البحوثات ستحث على البحوثات في الفهم والفلسفة. فبقدر الانقطاع عن العالم القديم، سيتم الانفتاح نحوالعالم الجديد. ولدى الانفتاح بالانتنطق من الدين الكوسموسي (cusomus) نحوالفلسفة، فُتِح الباب أمام الثورة الفهمية الكوبرنيكية. وخطا ديكارت خطوته الأساسية نحوالثورة الفلسفية، دون حتى يُدخِل ثنائية "المادة – الروح" والإله في صُلب الأمر. وبإقحام "غاليليوغاليلي" المعاييرَ على الفهم، قدّم أعظم مساهمة وأقواها لفترة سلسلة الثورات المتوالية. ومع "نيوتن" يغدوالكون مستقلاً عن الإله، ليكتسب قدرته على الحركة والسير بموجب قوانينه هو. أما الفترة المتراوحة بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، فقد شهدت فترة تجذر الثورات الفلسفية والفهمية والفنية. وأَلحَقَت البروتستانتية بذلك ضربةً قاصمة بالكنيسة المتصلبة ودوغمائيتها المتحجرة، رغم دوران عجلة محاكم التفتيش التي لا تعهد التوقف؛ ليحوز الدين بحرية العقيدة الفردية. إذا الانقطاع عن الكنيسة هوفي مضمونه انقطاع عن سلطة الدولة. فالكنيسة الكاثوليكية هي الدولة بحد ذاتها، وهي الدرع الحصين الحامي للدولة الإقطاعية، والمحيط بها في نفس الوقت. إذ لا يمكن التفكير في دولة بلا كنيسة. والكنيسة بالأصل تحارب باسم الدولة. إن تحرير الثورة الذهنية للفرد يعني انهيار عبادة الدولة. وحتى لوحصل ذلك بمظهر ممضى مختلف، فالمنهار هومشروعية الدولة الإقطاعية. يشكل التطور الحاصل في القرن الثامن عشر تطور الأساس الركن لجماهير النهضة، حيث خرجَت الثورة الذهنية من كونها فكر وأمل وروح جديدة لحفنة من الناس، لتكتسب قاعدة جماهيرية واسعة لها لغتها الخاصة، تماماً كما الدين الجديد (الديانة المسيحية أوالإسلامية). وغدا وجود هذا الكم من الجماهير الحرة في جميع بلد من بلدان أوروبا الغربية يشكل تهديداً حقيقياً، سواء بالنسبة لدولة (رهبان) الكنيسة الكاثوليكية، أوللدول المَلَكية. وبات من الصعب التحكم بشؤون هذه الجماهير وتسييرها عبر محاكم التفتيش. ثمة حاجة للحرب. وما حروب المائة عام، وحروب الثلاثة عقود، سوى تعبير عن هذه الحقيقة. والمغلوب على أمره إزاء بلدان أوروبا المستيقظة، سيكون الكنيسة الكاثوليكية والنظم المَلَكية. ومع اندلاع الثورات الإنكليزية في عام 1640، والأمريكية 1776، والفرنسية 1789؛ بدأ عصر فوز المذاهب والدول القومية. تحظى إعادة النظر في تعاريف الثورة بأهمية إشارة من أجل تحليل مراحل الأزمات لصالح التيارات الديمقراطية البارزة. فتقييم الثورات الأوروبية عموماً بأنها "ثورات بورجوازية"، إنما هوثمرة التقرب الطبقي المحدود للماركسية. وكأنه هدية موهوبة للبورجوازية، تحت ذريعة التشبث بالبروليتارية. لا جدال في وجود التأثير الأعظم للتعليل الدوغمائي للمادية الدياليكتيكية في ذلك. وإذا ما اعتبرناه شكلاً منعكساً على العصر الجديد من العقيدة القدرية التي تفترض تطور السياق التاريخي ضمن خط مستقيم، مثلما قُرِّر به في مفهوم "اللوح المحفوظ"؛ سنكون قد دنونا من الحقيقة المرئية أكثر فأكثر. بدون تخطي هذه الدوغمائية، التي عانيتُ أنا أيضاً من تأثيرها البليغ، لن نتمكن من تحليل المضمون الخارق في الغنى للحقيقة القائمة. ما من كِتاب من الخط الطبقية الرأسمالية يتداول فكرة أونظرية أوبرنامجاً معيناً بصدد الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية. فالذين لعبوا أدوارهم في هذه الثورات لم يعلنوا أنفسهم كممثلين للطبقة البورجوازية. حيث كانت الغالبية الساحقة من الجماهير المنخرطة في صفوف هذه الثورات، تتشكل من الفقراء المطالبين أساساً بالحرية والمساواة. كذلك، فالزعم بأن الحركات النهضوية والإصلاحية والتنويرية السابقة لها، اتخذت الطبقة البورجوازية أساساً لها؛ إنما هومبالغة مفرطة. فالبورجوازية عندما كانت تتنامى وتتصاعد كطبقة – بكل جهودها المبذولة – لم تكن تفكر أوتهتم بأي شيء، سوى تراكم وادخار رأس المال المعتمد على الربح والمنفعة. ما من جدل في أنها كانت تعي تماماً الروابط القائمة بين الدرب المؤدية إلى الربح، وبين وظيفة الدولة. لقد كانت تبذل جهودها في سبيل التأثير على السلطة والاستحواذ بها للاستيلاء عليها. لكنها لم تكن تملك بين يديها نظرية وبرنامجاً ثورياً بشكل خاص. إن الشروط الموضوعية الكامنة في أسس الثورات هي حصيلة للتطور الطبيعي الطويل الأمد للتاريخ. لم يكن المفكرون والناشطون السياسيون – كأعضاء ذاتيين – يمتلكون برنامجاً، أوحتى حزباً ثورياً بورجوازياً خاصاً بهم. لقد كانوا يشكلون تيارات مدعومة بحماية بعض الرجال الأغنياء، الذين كانوا في غالبيتهم من ذوي السمات الإقطاعية، ومن المعنيين بالفهم والفن. أما المطاليب البارزة في الصدارة، فكانت الحنين إلى عالم إنساني مثالي، حر ومتساوٍ. كانت جميع اليوتوبيات المكتوبة مناقضة للرأسمالية. إذن، والحال هذه، كيف من الممكن أن صار واعتُبِر هؤلاء المفكرون والمناضلون أناساً بورجوازيين، وغدت الثورات ثورات بورجوازية،يا ترى؟ كلنا نفهم حتى البورجوازية خلال هذه الفترة، قامت – كطبقة جديدة – بما تقوم به جميع قوة تسعى إلى بسط نفوذها، لتستولي على دفة الحكم والسلطة، كلياً أونسبياً. وقد نجحت في ذلك. يجب الإدراك يقيناً حتى جميع القوى الهرمية والدولتية اعتمدت على ضرورات الفن المسمى بـ" السياسة"، لتستلم دفة الحكم وتُخلَع منه آلاف المرات، وأن هذه الأداة المساعدة على السلب والنهب والاستغلال، استمرت في وجودها دون انقطاع؛ وأن القوة الأخيرة المتسامية والمستحوذة عليها – والشبيهة لسابقاتها – لن تتصرف بشكل مغاير أبداً. جميع الثورات هي ثمرات كدح الشعوب. وقد تنضم القوى القديمة أوالهرمية الدولتية إلى عمليات الشعوب بين الفينة والفينة. خاصة وأنها – أي تلك القوى – تتميز بعقلانيتها ومغامرتها في أيام ازدهار الثورة وفوزها. إنها خبيرة ماهرة في استثمار مطاليب المسحوقين لصالحها هي. ولا تتناقص مثل هذه المحاولات أبداً في جميع الثورات، سواء أحرزت النصر أم لا. عملى سبيل المثال؛ عندما خطط سيدنا عيسى لعمليته وتعمق فيها، لم يكن يفكر بها في سبيل تأسيس الإمبراطورية البيزنطية. بل وكان في جوهره ضد قوة الإمبراطورية. لكن الحركة التي أسفر عنها، لم تنجُ من حتى تكون آلة بيد هذا الشكل من الدولة، والذي كان الساحة الموائمة لأكثر الأباطرة مكراً وخبثاً. وسيدنا محمد أيضاً لم ينجُ من حتىقد يكون أداة لبناء الإمبراطورية (الأموية)، عبر تغلبه الساحق على أرستقراطية مكة المكرمة بفكره وعمليته، بل وبإبادته "أهل البيت". لا يستطيع أحد الزعم بأن سيدنا محمد خطط لإمبراطورية إقطاعية. إلى غير ذلك، يمكن سرد المئات من الأمثلة المشابهة. قد ينطق: "إذن، والحال هذه، ما من ثورة قامت بها الشعوب وفلحت". سننوه هنا إلى ضرورة التحليل المغاير لهذه الظاهرة، مع التذكير بأننا سنعالج هذا الموضوع بشمولية في الفصل اللاحق. لذا، سنكتفي بالقول: "لا محاولات الشعوب مضىت سدى، ولا معضلة السلطة تم تحليلها". الغرض الأولي من هذه المرافعة هوتفتيت هذه العقدة الكأداء وتفكيكها. والدرس الأهم الواجب استنباطه هنا، هوالإدراك بأن تفجر الأيديولوجية التسلطية وخرقُها هوالدرع المجتمعي الأكثر رصانة وحصانة. تتطابق مضامين المطاليب في "الحرية، الأخوّة، المساواة"، والتي تعد السمات العامة للثورات الأوروبية، مع المطاليب المنادى بها تجاه التسلطية والاستعمارية منذ تأسيس الهرمية. فكيفما أبدت سلطة الدولة تطوراً متتالياً كحلقات السلسلة المتعاقبة، فحركات الشعوب أيضاً تتميز إزاء ذلك بسياق تطورها التاريخي الخاص بها. كلا الظاهرتين الجدليتين تؤثران وتتأثران ببعضهما البعض بعلاقاتهما وتناقضاتهما. من العصيب جداً إدراك وتفهم التحولات المجتمعية الأساسية، وفي مقدمتها مراحل الثورة، عبر تعميمات مجردة، دون رؤية هذه الثنائية للدياليكتيك المجتمعي بخاصياتها وعمومياتها، ضمن فترة التطور التاريخي. إلى جانب كون القومية والمجتمع الرأسمالي على علاقة ببعضهما كصياغات أساسية للحضارة الخاصة بأوروبا، فإن وجود أحدهما لا يشترط الثاني بالضرورة. فتكوُّن القومية وتشكُّل المجتمع الرأسمالي، جميع منهما يتميز بمنطق مغاير للآخر. وتشكُّلهما في ذات الفترة لا يشير إلى امتلاكهما ذات المنطق. هذا وإظهار البورجوازية نفسها كقوة رائدة للقومية، إنما يرتبط عن كثب بمآربها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية. يُعبَّر عن هذه الروابط في اللغة الأيديولوجية باصطلاح "القوموية"، وفي السياسة والاقتصاد باصطلاح "الليبرالية". إنها أسلحة مثلى للتأثير على الدولة والشعب في آن واحد. فكلاهما ظاهرتان تَصَوُّرِيّتان وافتراضيتان، وأداتان نادىئيتان قويتان. كلنا نفهم فهم اليقين حتى البورجوازية تسامت إلى السلطة بالأرجح عبر هذه الوسائل، لتؤمِّن سيرورتها. تحتل هذه الأدوات الشعاراتية حيزاً محدوداً في حركات النهضة والإصلاح والتنوير، التي جعلت أوروبا تغدو"أوروبا". ولكن، حينما نصل القرنين التاسع عشر والعشرين، نرى أنها ستضرم الأجواء وتؤججها. ونرى حتى مصطلحَي "البروليتاريا، الشيوعية" اللذين نادت بهما الشرائح المسحوقة والمستعمَرة، سيُستخدَمان على نحومشابه. لكنهما، وانطلاقاً من دواعي مضمونهما، لن يُظهِرا القدرة على إحراز النصر عينه في فن السلطة. أود التنويه بدقة فائقة إلى النقطة التالية: لا يمكن إدراك الثورات، التي تتميز بلحظات مهمة من الانكسارات وإعادة البناء في التحولات المجتمعية، بشكل موضوعي عبر بنى المنطق اليساري واليميني السائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. لا يزال التعريف السليم لحركات التضحية العظمى باسم الإنسانية يحافظ على أهميته وأولويته. فبمجرد النظر إلى طراز انهيار السوفييتات والنتائج المسفرة عنها، يمكن تفهم أهمية الحاجة الماسة لإعادة تعريف التضحيات الجسام التي قدمها الملايين في سبيل الثورة السوفييتية. لقد دخلت مواضيع السلطة والعنف وأدوات التمويه الأيديولوجي دائرة الجدل والنقاش، ولوبشكل محدود، بعد ظهور هذا الكم الضخم من الآلام الأليمة والعنف وإراقة بحور من الدماء باسم الحداثة في القرنين الأخيرين؛ وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وما هجرته من آثار مروِّعة. من الضروري استيعاب حقيقة البورجوازية ضمن هذا الإطار، باعتبارها الشكل الطبقي الأساسي للرأسمالية. ذلك حتى الاكتفاء بنعتها بالطبقة القمعية والاستعمارية الجديدة، لا يشير إلى الجوانب الخاصة فيها. بل يشيد بسمة عامة تضم كافة طبقات السلطة والاقتدار. تكمن خاصية الطبقة البورجوازية في استخدامها الفردية والذكاء التحليلي تجاه المجتمعية بشكل أعظمي، لتنجح بالتالي في تفتيت وتشتيت النسيج الأخلاقي المحيط بالمجتمع، بما لم تقدر عليه أي طبقة من الطبقات السلطوية الأخرى. المجتمع الطبيعي أيضاً كان في بدايات انهياره مناهضاً، وبحدة، لتراكم القيم على حساب المجتمع. لذا، كان يَعتَبر حتى الموزِّع الأكبر لهذه القيم المتراكمة هوالفرد الأنبل والأقدر. لقد كان متنبهاً تماماً لخطر تراكم القيم. ولم يكن هذا الأمر ممكناً إلا بعد المرور إلى المجتمع والدولة الهرميَّين. وهذا بدوره لم يكن ممكناً إلا بوجود قوة السلطة الخاصة. فالتراكم أدى إلى تكوُّن هذه القوة من جهة، وإلى بدء تكوين هذه القيمة إياه من الجهة الثانية. هكذا برزت إلى الوجود سلسلة المنطق الارتكاسي الرجعي. حيث كان أكثر المدخرين للقيم هم أكثر الحائزين على قوى السلطة. وإذا ما تمعنا في الأمر عن كثب أكثر، سنجد حتى الادخار والتكديس نوع من سلب المجتمع ونهبه. لقد حصل هذا لأنه كان من المحال التفكير بالقيمة بلا مجتمع. من هنا، فالإدراك السليم والسليم للمجتمع الطبيعي، يؤول إلى تحديد أبرز مبدأ أخلاقي على الإطلاق. فما دام المُعَيِّن لجميع القيم هوالمجتمع، إذن، والحال هذه، لا يمكن حصول التراكمات – الفردية منها أوالمجموعاتية – دون رضاه وقبوله، أي خارج نطاق مصالحه ومنافعه. في الحقيقة، إذا ما شوهد في جميع الحروب من سلب ونهب وغنائم، ليس إلا تعبيراً عن تفسخ وتردي هذا المفهوم، ولا أخلاقيته في المجتمع الطبقي. فأصحاب السلطة، ولكي يُضعِفوا من قوة بعضهم البعض، جعلوا من تجريد بعضهم البعض من القيم المتراكمة مبدأً أساسياً لهم. إنهم لا يخطئون أبداً في موضوع تحديد المصدر الأس للقوة. فرغم وجود شرائح التجار والحِرَفيين منذ بدايات الحضارة، كنموذج مصغّر عن نمط الطبقة البورجوازية، إلا إنها أُدرِجَت دوماً في دائرة المراقبة والتحكم، باعتبارها خطر مهدِّد. لقد كانت المراقبة عليهم مستمرة، بحيث لا يتخلصون أبداً من التعرض للنهب والسلب الكثيفين. كذلك هي حال قوة الدولة العبودية والإقطاعية المعتمدة على مُلكية الأرض. حيث نظرت بعين الشك دائماً إلى تشكُّل شريحة ثالثة عدا العبيد والأقنان، مما حفّزها ذلك على عدم إنقاص مراقبتها إطلاقاً. فالتاريخ الحضاري يرى في تشكل كيان آخر عدا طبقة العبيد أمراً منافياً للطبيعة. وثمة أخلاق ووجهة نظر عالمية مترسخة على هذا النحوضمن هذا النظام المستمر حتى الحضارة المرتكزة إلى واقع الطبقة البورجوازية. هناك أحكام وقواعد أساسية بشأن الحرب والسلطة. فالتوازن المؤسَّس في داخلها، كان متسماً بقدرته على مواصلة ذاته على مر آلاف السنين. حيث يتميز بأفق تطبيقي محدود في إدارة شؤون المجتمع، إلى جانب لجوئه إلى العنف والقانون في ذلك. إذا ما أمَّن ثبات المجتمع وصموده أساساً، هوالنسيج الأخلاقي، الذي عهد كيف من الممكن أن يصون مزيته هذه، رغم محاولات قوة السلطة المتواصلة لتعريته وإفنائه. وكون هذه القوة تشكل حفنة أقلية نسبةً إلى ضخامة المجتمع، إنما هيأ الأرضية المساعدة على تحقيق ذلك. وبولادة الطبقة البورجوازية انهدم هذا التوازن العظيم. إنها طبقة متضخمة في حجمها، بحيث لا يطيق المجتمع تحملها، سواء كقوة سلطة وتسلط، أوكقوة استعمار واستغلال. ذلك أنها كانت مرغمة على استثمار المجتمع برمته في سبيل تحقيق سلطتها واستعمارها. لهذا السبب كانت الماركسية أعربتها – عن حق – كآخر طبقة سلطوية واستعمارية. فتطَوُّرها وتناميها كطبقة، يستلزم دائماً بعثرة المجتمع وتشتيته. وهذا ما يحتاج أولاً، وقبل جميع شيء، تمزيق الأخلاق شر تمزيق، باعتبارها النسيج الأساسي المحصن للمجتمع والحامي إياه. أي أنه يستحيل حتى يتشكل المجتمع الرأسمالي، دون تمزيق وإزالة الأخلاق، التي ما هي في أساسها سوى عاطفة الحرية والمساواة للمجتمع الطبيعي. إلى جانب صحة مقولة ماركس الملفتة للأنظار في تعبيرها في "البيان الشيوعي"، والتي يقول فيها: "لقد مَسَحت البورجوازية وكَنسَت جميع ما له علاقة بالماضي"؛ إلا إذا هذه العملية ليست عملية ثورية، بل مدمِّرة ومناهضة للمجتمع. فعزل المجتمع من أدوات حمايته لذاته وتجريده منها، ليس بحركة ثورية. بل هو، بأقل تقدير، حركة مناوئة للإنسانية، لا غير. إذا البورجوازية المستحوذة على قوة السلطة والاستعمار، تُعتَبَر سقماً سرطانياً خبيثاً تسلل إلى رحم المجتمع. ولا داعي لأنقد يكون المرء رجل فهم حتى يتمكن من تحديد الروابط القائمة بين أمراض السرطان الخبيث والأيدز وغيرها من الآفات المستعصية من جهة، وبين ذاك السرطان الاجتماعي من الجهة الثانية. عندما يُعرِّف "هوبز Hobbes" الحاجة إلى السلطة (الدولة) في شروط ولادة المجتمع الرأسمالي، يقول فيها بأنها أداة "لإعاقة تَحَوُّل الناس إلى ذئاب تنهش بعضها". إنه تثبيت سليم، ولكنه معكوس. أي حتى الرأسمالية تؤسس سلطتها بغرض تحويل الناس إلى ذئاب تنهش في بعضها. ففي الواقع الحديث، لم يصبح الإنسان ذئب أخيه الإنسان فحسب، بل هوذئب مسلَّط على الطبيعة بأكملها. ما الذي ستُبقي عليه هذه الطبقة (الهارعة وراء التراكم والربح الأعظمي) في المجتمع والطبيعة وتدعه وشأنه، في سبيل استغلالها واستثمارها؛ وبعد حتى تستولي على عرش السلطة المفرطة في القوة؟ سيكون من الناجع أكثر فهم آلية المصطلحات التي حللتها الماركسية بإسهاب داخل الرأسمالية، ضمن هذا الإطار؛ من قبيل القيمة، الربح، الكدح، المشاطرة، الإمبريالية، الحرب، وغيرها. ويتماشى تعبير "سيأتي الدّجّال"* القريب من يوم الحشر، والمذكور في الخط الدينية؛ بشكل كبير مع حقيقة هذه الطبقة. ذلك أنه ما من نظام مجتمعي حاكم آخر امتلك جميع هذه القوة الهجومية والمدمِّرة تجاه نادىئم المجتمع وبيئته الطبيعية. لقد بلغ واقع الطبقة البورجوازية، الذي ولّد الفاشية والقوموية العِرقية من الظاهرة القومية، والكوارثَ الأيكولوجية من ظاهرة التحكم في الطبيعة، وولّد كذلك البطالة المتفاقمة من ظاهرة الربح والمنفعة؛ بلغ فترة سيلتهم فيها نفسه بنفسه. فهذه الطبقة تفقد ماهياتها الذاتية مع مرور جميع يوم، لتتجه نحوالزوال. أي حتى الثورة المضادة لها لا تقوم بها البروليتاريا، بل هي بذاتها. ولنقد يكون بمستطاع الزمن المجتمعي الجديد حتى يكوِّن ذاته، إلا عندما تستعصي مواصلة وجود هذا الواقع الطبقي، وبالتالي عندما ينهار ويتفكك. باعتبار حتى مرافعتنا هذه تتسم بماهية الأطروحة، فهي غير مخولة لدراسة ومعالجة المراحل الأساسية للرأسمالية، وفي مقدمتها كيفية إلحاق الرأسمالية لكل الأنظمة السابقة لها بذاتها، تدوُّلها، ربطها الفهم والفن بالسلطة وإتباعهما بها، انتنطقها إلى الفترة الإمبريالية، تطورها المختل، وحروبها. المهم هنا هوتفعيل المنطق الأساسي لهذه المراحل، التي تُعتبَر جميع واحدة منها موضوعاً يحتاج تدوين خط عديدة ومختلفة لدراستها. يمكننا تطوير تعريفنا للطبقة بأبعاد أخرى. فما نجم عنها من انهيار للاشتراكية المشيدة، وتحويلها الحركات (والدول) التحررية الوطنية إلى قوة احتياطية، وتسخيرها الديمقراطيين الاجتماعيين لمآربها؛ إنما هي آليات هامة. ومن مهارات واقعنا الطبقي المهيمن الجديد، بدءاً من الفهم والتكنولوجيا وحتى المجتمع الإنساني، إنتاجُه الربح لذاته عبر النادىيات حتى فيما يتعلق بأتفه المواضيع، واستخدامه النشاطات الرياضية والفنية بدور مخدِّر، وإخراج البروليتاريا والمتنورين من كونهم متمردين تجاهه، وإدخاله إياهم في حالة يرتجون فيها العمل منه، إفراغ محتويات جميع ما موجود باسم القدسية، وإخلاؤه تصورات العالم الناضح بالحيوية والنشاط للنهضة لتحل محلها وجهة النظر الآلية (الروبوتية) الجامدة. يتصدر عمق الماهية المؤسساتية للرأسمالية قائمة التحديثات التي أدخلتها على بنية السلطة. حيث تم الانتنطق من السلطة المرتبطة بالشخص إلى نظام السلطة التي تربط الأشخاص والأحزاب، بل وحتى المجتمعات، بها. لقد تطورت الماهية التجريدية والمستترة للسلطة، ذات الآليات المكونة من طوابق الأيديولوجيا والسياسة والاقتصاد. وانطلاقاً من مفهوم القومية، أَقنَعَت الجميع بامتلاكها للسلطة القومية بأكملها، عبر النزعة القوموية المبتدَعة، والتي تتضمن الاعتقاد القائل باستحالة كون السلطة مُلكاً للقومية بتاتاً. بل إذا المجموعات الإثنية والسلالات وشرائح الأقليات القومية، هي الصاحبة الحقيقية للسلطة، في جميع زمان، وفي جميع مكان. لكن، وباللقاء، يُخلَق نظام يجعل جميع فرد – حتى الفرد المسحوق القابع في القاع – يرى نفسه (بمعنى من المعاني) صاحب السلطة. بالتالي، يمكن، وبكل سهولة، مشاهدة زوج يؤدي دور "الإمبراطور الصغير" تجاه زوجته، مهما كان فقيراً، ومهما كانت العائلة قابعة في قعر النظام. وبشكل متسلسل، تلعب الزوجة بدورها هذا الدور إزاء أطفالها. والأطفال،يا ترى؟ ماذا عساهم فاعلين عدا تكرار النظام نفسه عندما يكبرون،يا ترى؟ إذا تأسيس سلسلة التسلط على هذه الشاكلة هوخاصية من خواص النظام القائم. الأحزاب أيضاً أُسِّست حسب السلطة، مثلما هي حال الأفراد. والآلية الأساسية هي نقل الدولة إلى المجتمع، والمجتمع إلى الدولة. لقد بات المجتمع بذاته مُلكاً للدولة. والدولة ممتطية على رأس المجتمع، وعلى جميع طرف فيه، كالإله المستتر. من الممكن كانت ذهنية السلطة التي خلقتها الأيديولوجيا، هي أعظم كذَّاب ومخادع. أما آلية فن السياسة في المجتمع، فهي على النحوالمذكور، باعتقاد المرء أنه صاحب الدولة، وقناعته بضرورة خدمتها؛ والتي تمنح بمضمونها هذا أرقى أشكال الديماغوجيات السياسية. فالسياسة ليست – كما يُظَن – وسيلة الاقتدار والتسلط، بل إنها أداة لحماية السلطة، ونشرها وترسيخها. نخص بالذكر هنا دور السياسة على هذا المنوال تجاه الديمقراطية. إذ من العصيب الحديث عن ظاهرة تحث على إنكار الديمقراطية بقدر فن السياسة. معلوم حتى السياسة تعني إنكار الديمقراطية منذ أيام إمبراطورية أثينا. التحم الاقتصاد بالسلطة أكثر من أي وقت مضى. وإدارة الاقتصاد هي في الوقت عينه اقتصاد سياسي. إننا في عصر، ما من فرد أومجموعة يستعصي جذبها إلى المستوى المطلوب، عبر سلاح الاقتصاد. الشعار الضارب للعين في هذا العصر هو: "ما من قيمة يستعصي على النقد (المال) تفكيكها أواستئصالها، وما من قوة لا يمكنه الاستحواذ عليها". يمكننا توسيع نطاق التعريف المتعلق بمضمون السلطوية أكثر فأكثر، فيما يخص الدولة القومية. فالدولة القومية هي الشكل المعاصر لتسميات الدولة الرهبانية، السلالاتية، والدينية المتبقية من العصور الغابرة. إنها الطوابع المختومة على جوهر السلطة. وهي الحدود المحفوفة باللغة والتنطقيد المشهجرة في فترة تنامي الرأسمالية، وكذلك التوسعات والتضخمات الجغرافية المفضلة من أجل تراكم مثالي. أي حتى الأساس هنا ليس مفهوم الوطن، بل مصطلح ساحة الربح والتراكم المساعد. فهذه الساحة المنغلقة في وجه المبارزين الخارجيين، هي الساحة المثلى من أجل ضمان تراكم رأس المال، وتعزيز السلطة. وولادة النزعة القوموية هي حصيلة لهذا التطور المادي. فتقهقر الذهنية الدينية مع ظهور الفهمانية (استيعاب العالم برمته)، إنما يشير إلى الحاجة لغطاء أيديولوجي جديد. هنا تحرز الأيديولوجية القوموية تطوراً سريعاً، نظراً لارتباطها بظاهرة القومية. هذه النزعة القوموية، التي كان يجب التفكير بها – مضموناً – بأنها الشكل الأكثر تطوراً للعواطف والمشاعر الإثنية (العشائرية) القديمة؛ أظهرت نفسها كعقيدة خادمة، حلت محل الدين والعواطف الإثنية المشهجرة. ولدى بدء ممارسة القمع والاستغلال إزاء الإثنيات والمذاهب والأديان وما شابهها من العناصر الأيديولوجية في الداخل، وإزاء الظواهر والأنظمة الاجتماعية المشابهة في الخارج؛ تحولت القوموية إلى مفهوم عِرقي أسمى. وهجر مفهوم "الدين الأسمى"، الذي ساد في وقت من الأوقات، مكانه لمفهوم العِرق القومي الأسمى. وابتدأت القوموية – كما الدين – مجدداً بتقييم المجتمع الذي كانت الذهنية الفهمية نوَّرَته. ولعبت الذهنية المشحونة بالنزعة القوموية في القرنين التاسع عشر والعشرين، دور الأداة المشروعة الأكثر ملاءمة لتحفيز المجتمعات على الانخراط في جميع أنواع العنف والحروب، تماماً كمفهوم الحرب المقدسة. وكيفما شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر أعوام ولادة القوميات بكثافة، كان القرنان التاسع عشر والعشرون فترة تصاعدت فيها النزعة القوموية وتأججت. وغدا عصر النعرة القوموية، الذي بلغ ذروة سلطة الدولة في الحرب العالمية الثانية، بداية آخر وأضم أزمة تمر بها الرأسمالية، من خلال التخريبات والدمار الناجم عن تلك الحروب. وأُدرِك استحالة تماشي النعرة القوموية مع الإنسانية إطلاقاً. إذا ولوج النظام القائم عصر الأزمة مبكراً، لا يعني افتقاده لقوته فحسب، بل وينمُّ عن خطر ضرب جميع القواعد والأحكام عرض الحائط، والإفراط في الاستعارة والطيش الجنوني. تُعَد انتفاضات 1968 أكبر انتقاد وأضمه للنظام الموجود. هكذا كانت برهنت تلك الانتفاضات استحالة مواصلة الرأسمالية ذاتها، بعد بلوغها مفهوم السلطة التوتاليتارية، سواء بشكلها الاشتراكي المشيد أوالفاشي. واستحالة التواصل تعني الأزمة. وهذا ما شهدته الإنسانية. هذه الفترة التي يمكننا تسميتها أيضاً بـ"الفوضى"، إنما هي مغايرة للنهضة. فبينما كانت النهضة مخرجاً من أزمة المجتمع الإقطاعي، فإن الفترة التي ولجتها الرأسمالية في السبعينات هي الفوضى. وماهية التحديثات والفوارق التي ستسفر عنها، ستحددها قوة ونوعية النضال الذي سيُخاض خلالها. ما يجب الانتباه إليه هنا، هوالتغيرات التي أضفتها هذه الفترة على وجهة النظر (البراديغما) العالمية الأساسية. إذا النتائج المتمخضة عن انهيار كافة القيم الأخلاقية الموجودة في البنية الداخلية للمجتمع، وغسل النعرة القومية جميع الذهنيات وملئها إياها، والتخريبات الأيكولوجية من الخارج؛ تؤدي إلى تفشي وجهة نظر عالمية ذات تطابق روبوتي (آلي)، رمادية اللون، باهتة، عديمة النكهة والطعم، مفتقرة إلى الأمل والطموح والمعتقدات، وعديمة الأهداف. أما القلق والإجهاد، الحدة، النقمة والنفور، العنف، الغرائزية الشهوانية، الوحدة والعزلة الفردية، انعدام القيمة الاجتماعية، سيادة منطق العلاقات المتطلعة إلى المصالح الشخصية، انعدام الوفاء والإخلاص، عدم الاهتمام بالفلسفة الإنسانية المثالية، الأنانية المفرطة، وافتقار الحياة تدريجياً لمعناها المقدس؛ إنما تشكل جميعها النفسية المهيمنة والجوالاجتماعي السائد في الأزمة. والبحوثات والتطلعات الجديدة الجذرية، لا تنموإلا في أوساط كهذه. حيث حتى الماهية الدائمية للأزمة الخانقة تستلزم ذلك. ولأول مرة في التاريخ، يبلغ نظام الإمبريالية والقمع القومي والطبقي للسلطة الرأسمالية هذه الضخامة التي تمكِّنه من استيعاب العالم بأكمله وتطويقه إياه، بحيث لم يبقَ مكان لم يحتله. لقد ترسخت هذه الحقيقة في نهايات القرن التاسع عشر، بحيث وصل التسلط والتحكم والصهر، بل وحتى الإبادة الجماعية القومية والطبقية والإثنية والدينية والجنسية، الفترةَ الأكثر تفشياً وانتشاراً في التاريخ. إنه العصر الذي غدا فيه الناس ذئاباً تنهش في أبناء جنسها أكثر من أي عصر آخر. وإذا ما نظرنا من زاوية التطبيق العملي للإمبراطورية أيضاً، فسنجد أنها وصلت مع أمريكا إلى مرحلتها النهائية. إننا في آخر عصر إمبراطوري. ومن الناحية النظرية، تسري أمور هذه الإدارة على النحوالتالي: تَخَطّي سلطة الدولة لحدود مدينة أووطن أوقومية ما، تَرَكُّزُها في إنسان واحد، التوسع المستمر الدؤوب، التوقف ومن ثم الجزْر والتقهقر، وأخيراً فترة الانهيار. إذا استيطانها في نظام المجتمع يولِّد تأثيرات متتالية. فكل سلطة جديدة تضطر لتصبح إمبراطورية تحذوحذوسابقتها، وتسير على أثرها. هذه الاستمرارية التاريخية المبتدئة من السلالة الأكادية لدى السومريين في أعوام 2350ق.م (أي في التاريخ المدوَّن، حسب ما نفهم)؛ تتواصل في راهننا مع سلالة "بوش" في الدولة الأمريكية. الغريب في الأمر حتى الإمبراطورية الأخيرة تشهد اشتباكات محتدمة في نفس المنطقة التي ولدت فيها الإمبراطورية الأولى. إذن، يمكننا هنا التفكير في مبدأ حماية النباتات وجودَها اعتماداً على جذورها. لا مكان للدولة أوالقومية أوالمجتمع المستقل كلياً في واقع الإمبراطورية. أوبالأحرى، قد يُهدَف إلى الاستقلال التام، ولكنه يتسم بتطبيق عملي نادر جداً. أما الحقيقة المهيمنة، فهي التبعية ضمن نطاق الإمبراطورية الحاكمة. قد تختلف مستويات التبعية، ولكنها لا تغير شيئاً من الشكل المهيمن للحقيقة الواقعة. ففي الإمبراطورية المؤثرة في البنى الاجتماعية قرابة 4350 عاماً، تكون الكثير من مجموعات السلطة، الصغيرة منها والضخمة، بدءاً من أقرب الحلفاء للدولة المهيمنة وحتى أتفه الدول الزائفة والشكلية، والتابعة لتلك الدولة المهيمنة سواء بشكل مباشر أوملتوٍ؛ إنما هي في حالة تبعية ضمن الحدود القائمة. تسري هذه الحقيقة بشكل أكبر حتى في العصر الذي يدّعي بسيادة الدولة القومية – هي في الحقيقة الأقلية في القومية – المستقلة كلياً. إذا الاستقلالية التامة عن القوة المهيمنة هي من بُدَع النعرة القوموية وألاعيبها ومزاعمها السياسية للتأثير على مجتمع ما. فأنْ تكون مهيمناً، يعني حتى تمتلك أقوى ذهنية وسلطة، وأحصن بنية اجتماعية واقتصادية، وأعتى قوة عسكرية، وأفضل وسائل الفهم والتقنيات. ولأن الوجود الأمريكي يحاكي هذا التعريف، فهويمثل القوة المهيمنة الأولى في يومنا الحاضر. لكن جميع أبعاد أزمة النظام القائم، وطراز إدارته، ونهايته الحتمية؛ هي أيضاً تتصدر الجوانب المستعصية والمتأزمة فيه. يتميز تحليل الخصائص الاجتماعية للنظام ضمن واقع المرأة بالأرجح، بقيمة تعليمية عليا. ومنذ البداية علينا التنويه إلى حتى التدقيق في أي ظاهرة اجتماعية بشكل منفرد ضمن التصنيفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها؛ إنما يتضمن مخاطر حقيقية. فكل أنظمة البنى الفوقية والتحتية للمجتمعات التي تعيش التكون المستمر ضمن تكامل تاريخي متواصل؛ تعمل ككل متكامل، كما أجزاء الساعة. إذا سقم التقسيم المفرط إلى أجزاء، يتأتى من خاصية افتقار الفهم الغربي لتكامل الظاهرة. ومن المهم بمكان عدم غض النظر عن التكامل من الناحية الفهمية، لدى اللجوء إلى هذا السلوك، الذي يعقّد إدراك الحقيقة بنسبة لا يستهان بها. يتوجب رؤية المرأة كاختزال للنظام القائم برمته، وتحليلها وفقاً لذلك. فكيفماقد يكون المجتمع الرأسمالي امتداداً لكافة المجتمعات الاستغلالية القديمة، ويشكل ذروتها؛ فالمرأة أيضاً تعيش ذروة التأثير الاستعبادي لكل هذه الأنظمة. وبدون فهم المرأة المتشكلة ضمن الطوق الخنّاق لقمع واستعمار المجتمع الهرمي والدولتي الأقدم والأكثر كثافة على الإطلاق؛ لا يمكننا تعريف المجتمع على نحوسليم وصائب. كذلك، فالفهم السليم للعبودية الإثنية والقومية والطبقية، يمر من تعريف المرأة. تعود البحوثات المتعلقة بالمرأة، والتي سعى فهم الاجتماع لتمحيصها ودراستها كمواضيع فهمية بحد ذاتها، إلى الربع الأخير من القرن العشرين. ولكنها تحتل حيزاً بسيطاً ومحدوداً للغاية في الفهم، بحيث لا يمكن إخفاء عيوب وفشل تلك الدراسات، تماماً مثلما لا يمكن إخفاء المزراق في كيس صغير. لقد بدأت الحركات الفامينية والبيئوية بالحث على التفكير في الخصائص الجنسوية للتاريخ والهيمنة والدمار المروِّع الناجم عن الحروب والسلطة. تشير هذه النقطة إلى السمة الجنسوية لكل البنى الفهمية – بما فيها علوم الاجتماع – التي يجب حتى تكون أكثر موضوعية. إنها جنسوية الفهم. بينما أدع تفسير حالة المرأة إيجابياً إلى الفصل اللاحق، لننظر معاً إلى ما أضفَتْه الرأسمالية على العبودية التقليدية. علينا التحديد يقيناً حتى جلب الرأسمالية للحرية أولاً، هوأمر مناقض لجوهر النظام القائم. إذا الزعم القائل بأن القيود المكبِّلة للمرأة تكسرت بسبب تمزيق الرأسمالية للتنطقيد الموجودة، هوتضليل يغلب عليه الخداع. تتمثل علاقة الأنظمة التحكمية المتسلطة مع الحرية في تحديد الأساليب الأدق أوالأغلظ، الواجب اتباعها لتأمين سيرورتها هي. فالمرأة التي تُنَظَّم باسمها ملاحمُ العشق بكثرة، تماثل في حالتها المرأةَ المتعرضة لأشد أنواع العبودية فظاظة وقبحاً. فالمرأة كطائر الكناري الموضوع في القفص (البيت الذي يهيمن عليه الرجل). قد تكون محبوبة، ولكنها أسيرة. وكيفما إذا أطلقنا سراح العصفور من القفص، فسيخرج منه محلِّقاً دون حتى يلتفت وراءه، فإذا ما وَعَت المرأة – ولوقليلاً – وأدركت حتى هناك مكان حر يمكنها الذهاب إليه، لن يبقى حينها بيت أوقصر أوغنى أوقوة أوإنسان ولن تهرب منه. ثمة طاقة كامنة لديها تخولها للفرار من جميع ذلك. حيث ما من موجود أوكائن تعرَّض للأسر كالمرأة، وذلك بقمع أوإزالة الشروط الموضوعية والذاتية لتطورها الحر. ثمة علاقة بين مستوى عبودية المرأة وعدم ثبات صحة التحليلات الاجتماعية كلها وعدم توطدها، وعدم إدراج المخططات والبرامج المعَدَّة حيز التطبيق، وظهور التطورات الخارجة عن نطاق الإنسانية. من هنا، وبدون تأمين الحلول المرجوة للمرأة وتحقيق حريتها ومساواتها، لا يمكن تحقيق الحلول القديرة لأي ظاهرة اجتماعية أخرى، أوتأمين حريتها أومساواتها. وبإضافة الرأسمالية إلى حلقة النظام السائد، فإن النظر إلى مظهر المرأة بمستوى التبضُّع والسلعية، سيُدْنينا من الحقيقة أكثر. كلنا على فهم تام ببيع المرأة وشرائها أكثر من غيرها في أسواق النخاسة في عهد العبودية الكلاسيكية. استمرت هذه الحال واتسع نطاقها في العبودية الإقطاعية على شكل جاريات. ما يتم بيعه هنا هوالمرأة بكاملها. وما المهر والسمسرة السياسية عليها، سوى أشكال لانعكاس هذا النظام حتى داخل العائلة. أما في الرأسمالية، فأُضيفَ إلى ذلك عناصر جديدة، بحيث يُحدَّد سِعر جميع طرف فيها، تماماً كما يمزق القَصّاب اللحم إلى أجزاء ليحدد أسعارها. بدءاً من شعرها وحتى عُقب قَدَمها، من ثدييها إلى وُركها، من بطنها حتى عضوها الجنسي، من كتفيها إلى ركبتيها، من ظهرها وحتى ساقيها، من عينيها إلى شفتيها، من خديها إلى طولها. باختصار، يكاد لا يتبقى فيها أي مكان إلا ويُجزَّأ وتُحدَّد قيمته. لكن، ومع الأسف، لا يخطر على البال السؤال: هل لها روح أم لا،يا ترى؟ وإن وُجدَت، فكم تساوي روحها،يا ترى؟ أما من ناحية العقل، فهي "ناسيرة العقل" منذ الأزل. إنها السلعة المانحة للذة في دُور النادىرة وفي المنازل الخاصة. وهي آلة لإنجاب الأطفال. لكن لا تُعد عملية الإنجاب هذه من أنواع الكدح، رغم أنها أصعب عمل. علاوة على حتى تنشئة الطفل، التي تُعتبَر عملاً شاقاً للغاية، لا أجر لها أبداً. أما مكانة المرأة في كافة المؤسسات الهامة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والعسكرية؛ فهي رمزية لا غير. في حين أنها الأداة التي لا غنى عنها في النادىيات. بالإضافة إلى أنها الموجود الفريد من نوعه، المعروض للسوق بعد تحويل جنسيتها إلى سلعة باهظة الثمن. كما أنها موضوع الشتم والسب والضرب بالأغلب. وأكثر منقد يكون أداة ووسيلة لخداع العشق وريائه. ويتم التدخل في جميع شيء فيها. إنها الهوية التي يتم تشكيلها بعناية ودقة، لتتحدث بطريقة أنثوية، ويُضبَط صوتها ولغتها ولسانها وكلامها بموجب ذلك. هي الإنسان الذي يستحيل مصادقته كإنسان. هي الإنسان الذي لا يتخلى أكثر الرجال اعتداداً بنفسه عن عاطفة الهجوم والتهكم عليها. لقد غدت المرأة المادةَ الشيء الذي افترض جميع رجل نفسه إمبراطوراً عليها. يمكننا إغناء التعريف أكثر. لكن الغريب في الأمر هواعتقاد المجتمع الذكوري المهيمن بإمكانية عيشه براحة وطمأنينة تجاه هذه الهوية المُحَمَّلة بهذا الكم من الخواص السلبية. إذن، هذا ما يفضي إلى الاعتقاد بأنها عبد هادئ ومطيع للغاية. في الحقيقة، إذا الحياة المشهجرة مع ظاهرة منظمة بهذا القدر صوب السلبيات، تُعتبَر بالنسبة للرجل الإنسان صاحب الكرامة، شاقة جداً ومخادعة. رغم النقد الموجَّه إلى أفلاطون لتهميشه المرأة كلياً وإبعاده إياها خارج دائرة الدولة والمجتمع، إلا إذا هذه الخاصيات المُحِطّة من القدْر بارزة ومؤثرة في سلوكه. يجب قراءة هذه النقطة الموجودة في إنسان فيلسوف بعين سليمة وصائبة. عملى سبيل المثال: تُعَد الحياة المشهجرة مع هذه الخصائص لدى "تخصصه" مخرِّبة للشخص ومُفسِدة إياه. إذن، والحال هذه، لما يتميز عجز المرأة واعتلالها بقوته في المجتمعات،يا ترى؟ لأن هذه المجتمعات ذاتها أصبحت عاجزة ومعتلة. لأن الرجل نفسه غدا عاجزاً ومعتلاً. وهذا بدوره يأتي من الخاصية الانتنطقية للعبودية. فالعبد المفيد بهذا القدر، سيكون الشريك المرغوب بالأكثر – من طبيعة الحال – بالنسبة للأناس المعتادين على العبودية. بالتالي، فالمرأة الغاصّة والغارقة تعني مجتمعاً غاصّاً، ورجلاً عاجزاً معتلاً. "هذا المشط لذاك الرأس". باقتضاب، من دون تسليط الضوء بكفاءة ومهارة على ظاهرة الأنوثة، وبدون توحيد أنوثة المرأة الأم الحرة للمجتمع الطبيعي مع أنوثة المرأة الواعية الحرة للحضارة الطبقية؛ يستحيل خلق شريك الحياة بشكل متوازن. وبدون تكوين الذكورة على نحومماثل مجدداً، لا يمكن تحقيق الوحدة بين الجنسين. بمقدورنا ملاحظة طراز تكوُّن الرأسمالية وإدارتها للشؤون في الساحة الاجتماعية من خلال الكثير من الظواهر، وخاصة في الرجل، الأسرة، العمل والموظفية، والكثير من الميادين الأخرى كالميدان التعليمي، الصحي، والقانوني وغيره. وإذا ما قمنا بصياغة تعريف موجز للأسرة، فإنها الحُجْرة (الخلية) وأصغر جزيء في هذا النظام البؤرة الذي يعد المؤسسة الأولية للمجتمع الهرمي والدولتي. فالإمبراطور المتربع في القمة، ينعكس على الأسرة على شكل "إمبراطور صغير". إنها – الأسرة – النظام الذي تنعكس عليه العبودية المتفشية في المجتمع. ذلك حتى العبودية التي في الأسرة، هي صمّام الأمان، والضمان الأس للعبودية المجتمعية. وكأن النظام يتم خلقه في العائلة، في جميع يوم، بل وكل ساعة. والعائلة تنوء تحت عبئه الثقيل الوطأة. فالعائلة هي الحمار الهادئ المطيع للمجتمع الهرمي والدولتي، بحيث يمكن امتطاؤه على الدوام، بل وتحميله العبء أيضاً. بشكل عام، فانعكاس إسقاط النظام الرأسمالي المتبعثر والمتفسخ على العائلة بشكل ضارب للعين، ينبع من هذه الأواصر الكثيفة فيما بينهما. لا داعي أبداً للحديث عن اقتصاد الرأسمالية. ذلك حتى الرأسمالي بذاته هولُبّ الاقتصاد. إنه بالأساس النظام الذي يضع جميع شيء نصب عينيه ويقوم به من أجل الربح والمنفعة. وهوالاستغلالي الأكبر، والمبارِز الوحشي الأعظم. ما من ظاهرة في المجتمع لم يتم تبضيعها. المجتمع المتبضّع هوالمجتمع المراد إنهاء شأنه. ومجتمع كهذا، إنما يعني النظام الذي أكمل عمره، وبالتالي يستوجب إنهاءه. يبذل النظام السائد محاولات دؤوبة مضنية وخارقة في سبيل إطالة عمره، عبر الفهم والفن. ليس – كما يُظَن – من أجل تطوير الفهم والفن (بما فيهما التقنية أيضاً)، بل في سبيل مواصلة حالته الفانية بقوتهما المتطورة بشكل مذهل. إنه يستذكرنا بالعناية المشددة التي يُلجَأ إليها بوساطة جميع الوسائل الفهمية والتقنية، بغرض معالجة مريض أصبح على شفا حفرة من الموت. حيث يلعب الفن والفهم دوراً مصيرياً لا استغناء عنه في هذه المراحل من سياق الأنظمة، أي في فترات الأزمات الخانقة، للتمكن من إعادة البناء ثانية وتكوين أنظمة جديدة يمكن إحياؤها والعيش فيها. تتأتى مكانة الرأسمالية في التاريخ من كونها آخر النظم التسلطية المتحكمة. إذا انتفاع هذا النظام المليء بالثغرات والمسامات المفتوحة منذ عهد المجتمع الهرمي، من أجواء الحرية الناجمة عن النهضة ليحتل بذلك منزلة الصدارة؛ إنما يؤدي في الوقت نفسه إلى كشف النقاب عن جميع طاقاته الكامنة وتفجيرها. وما من احتمال وارد في إمكانية تطوره أكثر من ذلك، سواء شكلاً أومضموناً. إذ لم يتبقَّ جانب أوزاوية إلا واستُغِلت في المجتمع والطبيعة على السواء. جميع ما تم عمله، لم يتجاوز الناحية الكمية. وتَحَمُّل المجتمع لهذا التلاعب المفرط به يتأتى من تطبيق العنف عليه بأبعاد لا مثيل لها، لدرجة تؤدي إلى تفجير الذرّة إذا ما طُبِّقت عليها. لم يحصل حتى سار نظام آخر بهذا الكم من التداخل بين العنف والحرب. فالمجتمع والفرد يتحركان كمن يمتطي حصان "الرُّدَيو" في مباريات السباق. إذ ما من تقدم محرَز، بل ثمة هبوط وصعود فحسب. وإذا لم يتم تجاوز هذه الشروط الاجتماعية المهيمنة في الفرد أيضاً، فسيستمر هذا الانسداد والعقم فيه من حيث البحث عن الجديد، تحديد وجهة السير، وامتلاك الكفاءات والمهارات الخلاقة. إذا مواطَنة الدولة في هذا النظام القائم تعاني حالة انهيار وتفسخ، سواء من ناحية المعنى أوالبنية. من الناحية الظاهرية، ما من أراضٍ أومجتمعات جديدة يمكنها تجاوز الرأسمالية بزعامتها الأمريكية. فأوروبا تمر الآن بفترة النقد الذاتي إزاء التخريبات العظمى التي تسبب بها النظام الراهن. وهي مضطرة للاستمرار في هذا المنحى حتى الأخير. وفي أمريكا اللاتينية لا تتواجد الشروط التاريخية ولا الاجتماعية لتكون كأمريكا الثانية. لذا، فمصيرها مرتبط بعاقبة أمريكا النهائية. وأفريقيا تعيش حالة مشابهة، لكن على نحوأكثر تخلفاً. أما غربي شواطئ الأوقيانوس (المحيط)، أي الصين واليابان، فبمقدورهما – بالأرجح – مساعدة أمريكا في تأمين سيرورة النظام. إذ لا تهدفان ولا تطمحان إلى رأسمالية خلاقة جديدة، ولا تمتلكان إمكانيات ذلك. لذا، يمكنهما حتى تكونا مطبِّقتين لها بالشكل الأمثل. وروسيا معترفة بأن هزيمة السوفييتات ذات بُعد استراتيجي، وبالتالي اضطرت لقبول التقدم بمساندة أمريكا لها، كسياسة جديدة. لا يتبقى سوى الشرق الأوسط، البلاء. ليس مصادفة حتىقد يكون الشرق الأوسط بلاءً مسلَّطاً على النظام القائم، بجغرافيته وثقافته. ذلك حتى الحُجرات والخلايا النواة للمجتمع تكمن هنا. هنا تستتر جذور بادئي الحضارة ومداوميها. وآلهتهم من هنا. لذا، وسواء عاجلاً أم آجلاً، سيعود الابن إلى بؤرة أبيه، ليقوموا بحسابات المنزل مرة أخرى. هذا الدور الذي يليق بمنزلة أمريكا، ولج حيز التطبيق مع مشروع الشرق الأوسط الكبير. هذه العلاقات والتناقضات التي ستتكاثف مع الزمن، ستحدِّد ما ستُفرزه الفوضى السائدة. ما يمكننا قوله منذ الآن، هوحتى المستجدات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، معنية ومرتبطة بتوجه النظام القائم نحوالانهيار والزوال، ولكن من الأخير. لهذا الغرض، فهي تستوجب تحليلات صائبة وسليمة، بحيث تتميز بدرجة قصوى من الأهمية. ونقاط الانكسار في التناقضات القائمة هي الساحات التي تتكثف فيها الفوضى وتهجرز. تلعب هذه الساحات بالأرجح دور المهد ووظيفة الرحم الحامل بالجديد. هل ستصبح بقايا معابد الرهبان السومريين، التي شهدت سلفاً ولادة الحضارة، قبراً لها في هذه المرة؟ انتهى الفصل الأول     جميع الحقوق محفوظة لشبكة قوات الدفاع الشعبي الكردستاني COPYRIGHT © 2005 BAY HPG            

 تصانيف

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/تصانيف

 مشاريع ويكي

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/مشاريع ويكي

[{{fullurl:بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/أخبار

تاريخ الشرق الأوسط|action=edit تحرير أخبار

تاريخ الشرق الأوسط

{{ بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/أخبار تاريخ الشرق الأوسط

 اقتباسات

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/اقتباسات

[{{fullurl:بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/مواضيع

تاريخ الشرق الأوسط|action=edit تحريرمواضيع في

تاريخ الشرق الأوسط

{{بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/مواضيع تاريخ الشرق الأوسط

 بوابات شقيقة

بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/بوابات شقيقة




 بوابات اخرى
البوابات الرئيسية:
الثقافة | الأعلام والتراجم | الجغرافيا | التاريخ | الرياضيات | العلوم | المجتمع | التقنيات | الفلسفة | الأديان
قارات:

آسيا | إفريقيا | اوروبا | الأمريكيتين

دول عربية:

الجزائر | المغرب | المملكة العربية السعودية | تونس | ليبيا | فلسطين | مصر |

[ بوابة المجتمع ] [ تصفح البوابات ]
تحديث محتويات هذه الصفحة



[[تصنيف: تاريخ الشرق الأوسط|*بوابة:تاريخ الشرق الأوسط]]

تاريخ النشر: 2020-06-04 02:45:11
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

رغم انتهاء موعدها.. الجيش الصيني يحاصر تايوان بالمناورات

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:33
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 89%

رسميا.. الجزيرة الإماراتي يعلن تعاقده مع نجم الزمالك السابق

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:17
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 91%

رئيس "مبكو" للعربية: توقعات باستقرار الأداء في الربع الثالث من 2022

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:32
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 96%

شاهد ترمب يغادر برجه في نيويورك بصمت.. ويلوح بيده

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:51
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 85%

موسكو: دمرنا مستودعاً لصواريخ هيمارس الأميركية بأوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:30
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 88%

بسبب حريق.. إجلاء أكثر من 3 آلاف شخص في فرنسا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:31
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 89%

أوكرانيا توقف عبور النفط الروسي إلى المجر والتشيك وسلوفاكيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:11
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 97%

أردوغان يطلق سفينة تنقيب بالمتوسط: لا نحتاج لإذن من أحد

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:29
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 87%

بيلوسي: لا يحق للصين الاعتراض على من يزور تايوان

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:51
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 87%

كيف يؤثر أداء الدولار الأميركي القوي على اقتصادات الدول الأخرى؟

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:30
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 98%

قصف تركي يطال مستشفى أممياً بالقامشلي.. ومقتل 4

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:47
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 96%

كأس العالم يرفع إيجارات المساكن في قطر 40%.. ماذا يفعل المغتربون؟

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:39
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 86%

روميرو يعود إلى الأرجنتين عبر بوابة بوكا جونيورز

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:16
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 98%

الاتحاد المصري "يستفز" الأهلي بقرار جديد

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:16
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 99%

وفد عسكري تركي يزور واشنطن لمناقشة صفقة مقاتلات "اف 16"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:09
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 90%

وكالة: إيران تصدر أول طلب استيراد بالعملة الرقمية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:28
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 100%

محمّلتان بالحبوب.. سفينتان جديدتان تغادران أوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:32
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 100%

كييف تعترف بأن ثلثي دول العالم لا تدعم أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-09 15:17:09
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 100%

تحميل تطبيق المنصة العربية