مصطفى نظيف (12 يناير 1893 - 11 يناير 1971) رائد النهضة الفهمية

كان من شأن النهضة الفكرية التي شهدتها مصر في مطلع القرن العشرين حتى صاحبها بواكير نهضة فهمية، وكان لإنشاء الجامعة أثر لا يُنكر في ذلك، فقد احتضنت المدارس العليا في الطب والهندسة والفنون وغيرها، وبدأت إرهاصات فهمية ناجحة، وبرز عدد من فهماء مصر النابغين من أمثال علي إبراهيم في الطب، ومحمد مرسي أحمد في الرياضيات، وأحمد زكي في الكيمياء، وعلي مصطفى مشرفة، ومصطفى نظيف في الطبيعة، ومحمود توفيق الخضاري في النبات.

وجمع هؤلاء إلى جانب المجال الدقيق بصرًا باللغة العربية وشغفًا بآدابها، وتمكنا من الكتابة والتأليف بها، وكانوا من الداعين إلى نشر الثقافة الفهمية في مصر، وتدريس العلوم في الجامعة باللغة العربية، وأقدم بعضهم على هذا المستوى، فألّف وحاضر بالعربية، غير حتى هذه المستوى لم تلقَ دعمًا من الدولة، فتوقفت ولم تأخذ حقها في التشجيع والاهتمام، واقتصرت على تجارب أصحابها.

وكان مصطفى نظيف منذ أول عهده واحدًا من أصحاب هذا الفريق الغيور على لغته، وبذل ما استطاع من جهد في وضع المصطلحات أوالتأليف والتدريس لمقررات فهم الطبيعة باللغة العربية.

نشأته وحياته

ولد مصطفى نظيف في مدينة الإسكندرية في (13 جمادى الآخرة 1310 هـ= 12 يناير 1893م)، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة رأس التين الأميرية، وبعد حصوله على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، أوفد في بعثة لوزارة المعارف إلى إنجلترا، والتحق بجامعة برستول، وتخصص في الطبيعة والرياضيات، وظل هناك حتى حصل على درجة المجال في الطبيعة سنة (1333هـ= 1914م)، ثم عاد إلى مصر، نظرًا لقيام الحرب العالمية الأولى.

وبعد عودته إلى مصر عُين مدرسًا بالتعليم الثانوي، ثم نقل في سنة (1339هـ= 1920م) مدرسًا لفهم الطبيعة بمدرسة المفهمين العليا، ومكث فيها حتى سنة (1349هـ= 1930م)، ثم عمل مفتشًا بوزارة المعارف، وناظرًا لمدرسة الفنون والصنائع، ثم اختير أستاذًا مساعدًا للطبيعة بمدرسة الهندسة، فلما صارت كلية بعد ضمها إلى الجامعة سنة (1354هـ=1935م) عين أستاذًا للطبيعة ورئيسًا للقسم، وظل في منصبه حتى عين وكيلا لجامعة عين شمس سنة (1370هـ= 1950م)، ثم عين مديرًا لها في سنة (1374هـ= 1954م) ثم قدَّم استنطقته من العمل بعد حتى رأى تدخل السياسة في عمل الجامعة، وآثر إعفاءه من العمل سنة (1376هـ= 1956م).

التدريس باللغة العربية

منذ حتى بدأ مصطفى طريقه الفهمي وهويُعنى بالثقافة الفهمية، والتعريف بأهمية الفهم وعلاقته بالمجتمع، والتنويه بأهمية تاريخ الفهم ومآثر فهماء العرب والمسلمين في العلوم، وآزر ذلك بتدريس فهم الطبيعة باللغة العربية في مدرسة المفهمين العليا وكلية الهندسة، وكان من رأيه حتى المصطلحات الأجنبية ليست عقبة أبدًا، وإذا انتظرنا حتى نفرغ من ترجمة المصطلحات وتوحيدها فسيطول انتظارنا، ثم قرن الكلام بالعمل فألّف كتابه "فهم الطبيعة" ونشره سنة (1346هـ= 1927م)، وهوأول كتاب من نوعه بالعربية.

وقد ألمَّ فيه بالمسائل الأولى في تاريخ فهم الطبيعة منذ نشأته في العصور القديمة إلى أحدث نظريات الفهم في وقته، وأولى عناية خاصة للنهضة الفهمية العربية الإسلامية، وفهم الفلك عند العرب، وأراء فلاسفتهم في الطبيعة والميكانيكا وفهم الصوت والحرارة والمغناطيسية والضوء.

وكان يهدف بذلك إلى إبراز دور الفهماء المسلمين في مسيرة الحضارة الإنسانية، ووضع مساهماتهم في أماكنها المستحقة لهم في تاريخ الفهم، بعدما رأى حتى هناك تعمدًا من فهماء أوروبا في إغفال أثر الفهماء المسلمين وتجاوز عطائهم للفهم، وطمس إنجازاتهم الحضارية؛ فحاول جاهدًا حتى يعهد طلابه أمجاد أجدادهم الفهمية، وأنهم أصحاب أصالة في العلوم الطبيعية، قبل حتى يستعرض موضوعات كتابه في التاريخ لفهم الطبيعة.

البصريات الهندسية والطبيعية

ثم أتبع كتابه عن فهم الطبيعية بكتاب عن البصريات الهندسية والطبيعية، فنشره سنة (1349هـ= 1930م)، ويقع في نحو800 صفحة، وهويُعد أول كتاب باللغة العربية نهض بدراسة فهم الضوء إلى مستوى الدراسات الجامعية، ويقول: إنه بدأ بهذه الدراسة المستفيضة لفهم الضوء دون فروع الطبيعة الأخرى؛ لأنه الفرع الذي نما وازدهر في عصر رقي الحضارة الإسلامية، وكان من أعظم مؤسسيه شأنًا وحملة وأثرًا الحسن بن الهيثم، الذي كانت مؤلفاته وبحوثه المرجع المعتمد عند فهماء أوربا حتى القرن السادس عشر الميلادي.

أعمال ابن الهيثم

واشتهر مصطفى نظيف بدراسته الرائدة لأعمال العالم العربي الحسن بن الهيثم، وهي دراسة مستفيضة تقارب صفحاتها الألف، ونشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، وقد بذل المؤلف جهدًا مضنيًا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم، وقرأ مئات المراجع، وراجع آراء الفهماء والفلاسفة حتى يجلي جهود ابن الهيثم، ويخلص إلى حقيقة صادقة، بأن ابن الهيثم قد وضع أسس فهم الضوء بالمعنى الحديث، وأنه أبطل فهم المناظر الذي كان معروفًا، ووضع أسسًا ونظريات وآراء جديدة لم يُسبق إليها.

ويمضى مصطفى نظيف إلى حتى أعظم آثار ابن الهيثم في الضوء أنه أبطل نظرية قديمة كانت شائعة تتوارثها الأجيال من عصر اليونان إلى عصره في كيفية حدوث الإبصار، وهي تتلخص في حتى الإبصارقد يكون بإشعاع أوبحزمة من الأشعة على حسب التعبير الحديث، تخرج من البصر إلى المبصر، وأثبت حتى للضوء حقيقة ووجودًا ذاتيًا، حيث يدخل إلى شبكية العين، ومنها إلى المخ، وتحدث الرؤية.

وأثبت مصطفى نظيف في كتابه تجاوز ابن الهيثم لـ فرنسيس بيكون في ابتداع الطريقة الفهمية والأخذ بأسبابها، ونطق: إذا هذه الكيفية التي تُعد من مبتكرات العصر الحديث هي الكيفية التي التزمها ابن الهيثم في خطه وبحوثه وكشوفه الضوئية؛ حيث اعتمد على الاستقراء والقياس وعُني بالتمثيل، وهوبذلك لم يسبق فرنسيس بيكون فحسب بل سما عليه، وكان أوسع أفقًا وأعمق منه تفكيرًا.

وكان يهدف من وراء هذه الدراسة إلى تعديل الأوضاع التاريخية لبعض البحوث والكشوف الفهمية المتصلة بفهم الضوء، وأن يترتب عليها بعث ابن الهيثم بعثًا جديدًا في الخط التي تُؤلّف لطلبة المدارس، وأن يستبدل اسمه بأسماء بيكون وموردكيوس ودافنشي ودلابورتا وكيلر وغيرهم ممن اعتدنا رؤية أسمائهم.

وقد لقيت هذه الدراسة العميقة ثناء الفهماء وتقديرهم، حيث تجلت فيها الأمانة الفهمية، والدقة الفائقة، والصبر على القراءة والمقارنة والتحليل، حتى رسمت صورة حقيقية لـ ابن الهيثم، وأبرزت جهوده، ووضعته في مكانه السليم بالنسبة لتاريخ الفهم عامة وللبحوث والكشوف البصرية بصفة خاصة.

التعريف بالتراث الفهمي

امتدت جهود مصطفى نظيف في التعريف بالتراث الفهمي العربي إلى إنشاء الجمعية المصرية لتاريخ الفهم، وقد ترأس هذه الجمعية، وأشرف على إصدار ستة أعداد من المجلة التي كانت تصدرها الجمعية، وفي أثناء رئاسته لقسم الطبيعة بكلية الهندسة رتّب لسلسلة من المحاضرات سنة (1358هـ= 1939م) لإحياء ذكرى ابن الهيثم.

كما خط عدة منطقات تتصل بتاريخ الفهم عند العرب، ونشرها في مجلة "رسالة الفهم"، وسعى لإنشاء قسم لتاريخ الفهم في الجامعة لتعريف الشباب بجهود أسلافهم من الفهماء، ودورهم في مسيرة الفهم، غير حتى مشروعه تعثر ولم ير النور، في الوقت الذي أسست فيه كثير من الجامعات الأوروبية أقسامًا لتاريخ الفهم تنحاز فيها لثقافتها وحضارتها، ولا تعطي فترة العصر الإسلامي عناية كافية، وتتغافل عن تأثيرها في الحضارة الأوروبية وعطائها للإنسانية.

عضوية المجامع

لم يكن غريبًا حتى تسعى الهيئات الفهمية والمجامع إلى مصطفى نظيف لينال عضويتها، ويشارك في أعمالها، فاختير عضوًا في مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة (1366هـ= 1946م)، وعضوًا مراسلا بالمجمع الفهمي العراقي، وتولى رئاسة المجمع الفهمي المصري، والأكاديمية المصرية للعلوم، والجمعية المصرية لتاريخ العلوم، والاتحاد الفهمي المصري، وكان عضوًا في الشعبة القومية للاتحاد الدولي لفهم الطبيعة، والمجلس الأعلى للعلوم، ولجنة الطاقة الذرية.

وقد نال تقدير الدولة مرات عديدة، فحصل على جائزة الدولة في الطبيعة سنة (1367هـ=1947م)، ونال جائزة الدولة التقديرية في العلوم سنة (1378= 1958م)، وهوأول من حصل عليها.

وفاته

كان مصطفى نظيف إلى جانب فهمه الغزير، وثقافته الواسعة، وتقلده أرقى المناصب الجامعية ـ متواضعًا في ثقة، مضرب المثل في الدقة والنظام، والزهد في المال والجاه، أبي النفس، شجاع الخلق، ففي أشد أوقات إرهاب السلطة وتربصها بالجامعات، وانزواء كثير من الأساتذة تجنبًا لبطشها وسطوتها، انبرى مصطفى نظيف في مجلس جامعة عين شمس يصدع بالحق ويجهر برأيه، وذلك حين قررت الحكومة تعيين أستاذ في إحدى الكليات، فيعلن في حزن عميق حتى هذه أول مرة يُعين فيها أستاذ الجامعة عن غير الطريق الفهمي الشرعي بل بقرار حكومي.

وظل مصطفى يؤدي عمله في مجمع اللغة العربية وغيره من المجامع والهيئات حتى لقي ربه في (14 ذي القعدة 1390هـ= 11 يناير 1971م).

المصادر

• مصطفى نظيف ـ فهم الطبيعة نشوءه ورقيه وتقدمه الحديث ـ مطبعة مصر ـ القاهرة ـ 1927م.
• محمد مهدي علام ـ المجمعيون في خمسين عامًا ـ الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ـ القاهرة ـ (1406هـ= 1986م).
• عبد الحليم منتصر ـ مصطفى نظيف (حدثة في تأبينه) ـ محاضر جلسات مجمع اللغة العربية ـ الدورة السابعة والثلاثون.
• أحمد الحوفي ـ مصطفى نظيف (حدثة في التعريف به) ـ مجلة مجمع اللغة العربية ـ العدد 32 - (شوال 1393هـ=1973م).

إسلام أون لاين: مصطفى نظيف.. رائد النهضة الفهمية       تصريح