التعليم في مصر القديمة

عودة للموسوعة

التعليم في مصر القديمة

الحروف الهيروغليفية والحروف المناظرة لها باللغة الإنجليزية

ها هي حضارة مصر القديمة علينا من جانب آخر ، وربما ظل هذا الجانب يحير فهماء تربويين كثيرين إلى وقتنا هذا ، تلك القضية التي تحدد مدى تقدم ورقي الأمم أوالتصنيف والمكانة التي أحرزتها في سباق الحضارات ألا وهي قضية التعليم ، لنرى ما وصلت إليه حضارة مصر القديمة وكيف كانت مدارس الحكومة وما هونوع الورق والحبر المستخدمين وكذلك مراحل تطور الكتابة وما هي أشكال الكتابة المصرية القديمة.

كان الكهنة يلقنون أبناء الأسر الغنية مبادئ العلوم في مدارس ملحقة بالهياكل كما هوالحال في أبرشيات طوائف الكاثوليك الرومان في هذه الأيام. ويطلق أحد الكهنة- وقد كان يشغل المنصب الذي يصح حتى نسميه في هذه الأيام وزير المعارف - على نفسه إسم "رئيس الإسطبل الملكي للتعليم". وقد عثر في خرائب إحدى المدارس التي يظهر أنها كانت جزءاً من بناء الرمسيوم على عدد كبير من المحار لا تزال دروس المفهم القديم ظاهرة عليها. وكان عمل المدرس في تلك الأيام هوتخريج الخطة للقيام بأعمال الدولة ، وكان المدرسون يستحثون تلاميذهم على الإقبال على التعليم بتدبيج الموضوعات البليغة يشرحون فيها مزاياه. من ذلك ما اتى في إحدى البرديات: "أفرغ قلبك للفهم وأحبه كما تحب أمك ، فلا شيء في العالم يعدل الفهم في قيمته". وتقول بردية أخرى: "ليس ثمة وظيفة إلا لها من يسيطر عليها ، لكن العالم وحده هوالذي يحكم نفسه". وخط أحد المولعين بمطالعة الخط يقول: "إن من سوء الحظ حتىقد يكون الإنسان جندياً ، وإن حرث الأرض لعمل ممل ، أما السعادة فلا تكون إلا في توجيه القلب إلى الخط في النهار والقراءة في الليل".

وقد وصلت إلينا كراسات من عهد الدولة الحديثة وفيها إصلاح المدرسين لأخطاء التلاميذ يزين هوامشها ؛ وهذه الأخطاء تبلغ من الكثرة حداً يجد فيه تلميذ اليوم كثيراً من السلوى. وكان الإملاء ونقل النصوص أبرز طرق التعليم ، وكانت هذه الدروس تخط على الشقف أوعلى رقائق من حجر الجير. وكان أكثر ما يفهم هوالموضوعات التجارية ، وذلك لأن المصريين كانوا أول الأقوام النفعيين ، وأعظمهم إستمساكاً بالنظرية النفعية ؛ وكانت الفضيلة أبرز الموضوعات التي يخط فيها المفهمون ، وكانت معضلة النظام أبرز المشاكل التعليمية في تلك الأيام ، كما هي أبرز مشاكله في الوقت الحاضر. وقد اتى في إحدى الكراسات: "لا تضع وقتك في التمني ، وإلا ساءت عاقبتك. اقرأ بفمك الكتاب الذي بيدك ؛ وخذ النصيحة ممن هوأفهم منك". ولعل هذه العبارة الأخيرة من أقدم ما عهد من الحكم في أية لغة من اللغات. وكان النظام صارماً يقوم على أبسط المبادئ. وقد اتىت تلك العبارة المنمقة اللفظ في إحدى المخطوطات: "إن للشباب ظهرا ، وهويلتفت للدرس إذا ضرب ... لأن أذني الشاب في ظهره". وخط تلميذ إلى مدرس سابق يقول: "لقد ضربت ظهري ، فوصل تعليمك إلى أذني". ومما يشير على حتى هذا التدريب الحيواني لم يفلح على الدوام ما اتى في إحدى البرديات التي يأسف فيها مدرس لأن تلاميذه السابقين لا يحبون الخط بقدر ما يحبون الخمر.

لكن عدداً كبيراً من طلبة الهياكل تخرجوا رغم هذا على أيدي الكهنة ودخلوا المدارس العليا الملحقة بممحرر خزانة الدولة. وفي هذه المدارس ، وهي أقدم ما عهد من المدارس التي تفهم نظم الحكم ، كان الخطة يدرسون نظم الإدارة العامة ، حتى إذا ما أتموا دراستهم قضوا مدة التمرين عند بعض الموظفين يفهمونهم بكثرة ما يعهدون إليهم من الأعمال. ولعل هذه الطريقة في الحصول على الموظفين العموميين وتدريبهم أفضل من الكيفية التي نتبعها نحن في هذه الأيام طريقة إختيار الموظفين على أساس أقوال الناس فيهم ، واستعدادهم للطاعة والخضوع ، وما يثار حولهم من نادىوى. وعلى هذا النمط أنشأت مصر وبابل في عصر واحد تقريبا أقدم ما عهد من النظم المدرسية في التاريخ. ولم يرق نظام التعليم العام للشبان فيما بعد إلى هذا المستوى الذي بلغه في أيام المصريين الأقدمين إلا في القرن التاسع عشر.

وكان يسمح للطالب في الفرق الراقية حتى يستعمل الورق- وهومن أبرز السلع في التجارة المصرية ومن أعظم النعم الخالدة التي أنعم بها المصريون على العالم. وكانت طريقة صنعه حتى تبتر سوق نبات البردي شرائح وتوضع متقاطعة بعضها فوق بعض ثم تضغط ويصنع منها الورق عماد المدنية ، (وأعظمها سخفا). وحسبنا دليلا على حسن صنعه حتى ما خط عليه من المخطوطات منذ خمسة آلاف عام لا يزال حتى الآن باقيا متماسكا سهل القراءة. وكانت الخط تصنع من الأوراق بضمها إلى بعض وإلصاق الطرف الأيمن من واحدة بالطرف الأيسر من التي تليها ، فتكون منها ملفات ما يبلغ طول الواحد منها أحيانا نحوأربعين ياردة ؛ وقلما كانت تزيد على هذا في الطول لأن مصر لم يكن فيها مؤرخون مولعون بالحشوواللغو. وكانوا يصنعون حبرا أسود لا يتلاشى بمزج الصناج والصمغ النباتي بالماء على لوحة من الخشب. أما القلم فكان بترة بسيطة من الغاب يعالج طرفها ليكون كقلم الرسام. وبهذه الأدوات الحديثة الطراز كان المصريون يخطون أقدم الآداب ؛ ويرجح حتى لغتهم قد اتىت من آسيا ؛ وشاهد ذلك حتى أقدم نماذج منها بينها وبين اللغات السامية شبه كبير. ويبدوحتى أقدم الكتابات المصرية كانت تصويرية- تعبر عن الشيء برسم صورة له. فكانت حدثة بيت مثلا (وهي في اللغة المصرية بر) يرمز لها بشكل مستطيل بفتحة في أحد طوليه. ولما كانت بعض المعاني مجردة إلى حد يصعب معها تصويرها تصويرا حرفيا فقد أستعيض عن التصوير بوضع رموز للمعاني ، فكانت بعض الصور تتخذ بحكم العادة والعهد للتعبير عن الفكرة التي توحي بها لا عن الشيء المصوّر نفسه ، فكان مقدم الأسد يعبر عن السيادة (كما هوفي تمثال أبي الهول) وكان الزنبور يعبر عن الملكية ، وفرخ الضفدع عن الآلاف. ثم تطورت هذه الكيفية تطوراً جديداً في هذا الطريق نفسه ، فأصبحت المعاني المجردة التي عجزوا في بادئ الأمر عن تصويرها يعبر عنها برسم صور لأشياء تشبه أسماؤها مصادفة الألفاظ التي تعبر عن هذه المعاني. من ذلك حتى صورة المِزْهِر لم تكن تعني المزهر نفسه فحسب بل كان معناها أيضا طيّب أوصالح لأن منطق إسم المزهر في اللغة المصرية- نِفِر- شبيه بمنطق اللفظ الذي يعبر عن معنى طيب أوصالح- نُفِر. ونشأت من هذا الجناس اللفظي أي من الألفاظ المتفقة في اللفظ والمتنوعة المعنى- تراكيب غاية في الغرابة. من ذلك حتى عمل الكينونة كان يعبر عنه في لغة الكلام بلفظ خوبيرو. وقد عجز المحرر المصري في أول الأمر عن إيجاد صورة يمثل بها هذا المعنى الشديد التجريد ، حتى إهتدى أخيرا إلى تقطيع الحدثة إلى ثلاثة مقاطع خو- بي- رو. ثم عبرّ عن هذه المقاطع الثلاثة بصور الغربال "الذي يعبر عنه في لغة الكلام بلفظ خو" وبالحصيرة "بي" وبالفم "رو". وسرعان ما جعل العهد والعادة ، اللذان يخلعان القدسية على كثير من السخافات ، هذا الخليط العجيب من الحروف يوحي بفكرة الكينونة. وعلى هذا النحوعهد المحرر المصري مقاطع الحدثة ، والصورة التي ترمز لكل مبتر ، ويبحثون عن الألفاظ المشابهة لهذه المقاطع نفسها في المنطق والمغايرة لها في المعنى ، ويرسمون مجموعة الأمور المادية التي توحي بها أصواتها ، حتى إستطاعوا في آخر الأمر حتى يعبروا بالعلامات الهيروغليفية عن جميع ما يريدون ، فلا يكاد يوجد معنى من المعاني لا يستطيعون التعبير عنه بعلامة أوبمجموعة من العلامات.

ولم يكن بين هذا وبين إختراع الحروف الهجائية إلا خطوة واحدة. وقد كانت العلامة الدالة على البيت تعني أولاً حدثة البيت- بِرْ. ثم أصبحت رمزاً للصوت بِرْ ، ثم لهذين الحرفين أياً كانت حركاتهما وفي أية حدثة اتىتا. ثم أختصرت الصورة وأستخدمت للدلالة على الباء أيا كانت حركتها وفي أية حدثة كانت. ولما كانت الحركات لا تخط عقب الحروف بل تهمل كلية فإن هذه الصورة أصبحت تمثل حرف الباء. وعلى هذا النمط عينه أصبحت العلامة الدالة على اليد (وتنطق اللغة المصرية دُتْ) تعني دُ ، دَ ثم أصبحت هي حرف د ، وكذلك صارت العلامة الدالة على الفم (رُ ، رَ) ثم أصبحت حرف ر، والعلامة الدالة على الثعبان هي حرف ز ، وعلامة البحيرة (شي) وهي حرف ش- الخ ، وكانت نتيجة هذا التطور حتى وجدت حروف هجائية عدتها أربعة وعشرون حرفاً إنتقلت مع التجارة المصرية الفينيقية إلى جميع البلاد الواقعة حول البحر المتوسط ، ثم إنتشرت عن طريق اليونان وروما حتى صارت أثمن ما ورثته الحضارة من بلاد الشرق. والكتابة الهيروغليفية قديمة قدم الأسر المصرية الأولى ، أما الحروف الهجائية فكان أول ظهورها في النقوش التي خلفها المصريون في مناجم سيناء التي يرجعها بعض المؤرخين إلى عام 2500 ق.م وبعضهم إلى عام 1500 ق.م .

ولم يتخذ المصريون لهم كتابة قائمة كلها على الحروف الهجائية وحدها لحكمة في ذلك أولغير حكمة ، بل ظلوا إلى آخر عهود حضارتهم يخلطون بين حروفهم وبين الصور الدالة على الرموز وعلى الأفكار وعلى مقاطع الحدثات. ومن أجل هذا قاسي على الفهماء حتى يقرءوا الكتابة المصرية، ولكن من السهل علينا حتى نتصور حتى هذا الخلط بين الكتابة بالطريقة المعتادة وبطريقة الإختزال قد سهل عملية الكتابة للمصريين الذين كانوا يجدون فسحة من الوقت لتفهمها. وإذ كانت أصوات الحدثات الإنجليزية لا تعد مرشداً أميناً لهجائها، فإن الشاب الذي يريد حتى يتفهم أساليب الهاتى الإنجليزية يجد فيها من الصعوبة ما كان يجده المحرر المصري في حفظ الخمسمائة رمز هيروغليفي، ومعانيها المبترية، وإستعمالاتها حروفا هجائية. ومن أجل هذا نشأ شكل سريع سهل من أشكال الكتابة إستخدم في الكتابات العادية ، وإحتفظ بالطراز الأول منها ليستخدم فيه "النقوش المقدسة" على الآثار. وإذا كان الكهنة وخطة الهياكل هم أول من مسخ الكتابة الهيروغليفية على هذا النحوفقد أطلق اليونان عليها إسم الكتابة الهيراطية (المقدسة) ، ولكنها سرعان ما عم إستخدامها في الوثائق العامة والتجارية والخصوصية. ثم نشأ على يد الشعب نفسه نمط آخر من الكتابة أكثر من النمط الثاني إختصارا وأقل منه عناية ؛ ولذلك سمي بالكتابة الديموطية (الشعبية) لكن المصريين كانوا يصرون على ألا ينقشوا على آثارهم إلا الرموز الهيروغليفية الفاخرة الجميلة- ولعلها أجمل نمط من الكتابة عهد حتى الآن.

المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

تاريخ النشر: 2020-06-04 04:18:51
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, قدماء المصريين, تاريخ التعليم

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

«صحة السويس» تنشر أرقام الشكاوى الموحدة بمستشفيات المحافظة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:25
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 57%

تكثيف حملات الإشغالات ورفع 1200 حالة بالجيزة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:25
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

مدبولى يكشف استعدادات الحكومة لاستقبال عيد الأضحى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:16
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

التصريح بدفن جثة فتاة قتلها شقيقها لشكّه في سلوكها

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:28
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

وزير الزراعة وسفيرة الإمارات بالقاهرة يبحثان تعزيز آفاق الاستثمار

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 55%

تجديد حبس متهم بنشر أخبار كاذبة 45 يومًا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:27
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

مدبولي: الظروف الصعبة تدعونا إلى ترشيد الاستهلاك «قدر الإمكان»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:16
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 56%

موسيماني: لم يجبرنى أحد على الرحيل.. والأهلى أكبر فريق فى أفريقيا

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:00
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 63%

محافظ كفر الشيخ ينعي ممرضه توفيت أثناء عملها بمطوبس

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:26
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 50%

مصر تستعرض جهودها فى التوعية والتدريب لمنع ومكافحة الفساد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-15 18:21:09
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 54%

تحميل تطبيق المنصة العربية