هيكل.. ثمانون عاما في قلب الأزمات

عودة للموسوعة

هيكل.. ثمانون عاما في قلب الأزمات



الفرعون والكاهن

لا بد حتى مؤرخي الأجيال القادمة سيحتارون طويلا إذا ما عَنَّ لأحدهم حتى يقيم الأدوار التي لعبها "محمد حسنين هيكل" على مسرح الصحافة والسياسة المصرية والعربية.. إذ المؤكد أنهم سيضلون الطريق إلى "هيكل" بين جبال من التفاصيل وتلال من الأكاذيب، ومتاهات من أدوات المكياج. ومشكلة البحث عن "هيكل" حتى فصل الذروة في عمره، كان مضيئا بشكل يعمي عن الرؤية.. ففي تلك السنوات الثماني عشرة التي انتهت في 28 سبتمبر 1970 - كان هيكل ملء السمع والبصر، لا يغادر الخشبة، ولا تخطئه أعين المتفرجين.. لا تكف تليفونات مخطه عن الرنين، ولا تخلوغرفة سكرتيرته الشهيرة "نوال المحلاوي" من الزائرين: ملوك ورؤساء جمهوريات وساسة ووزراء ومناضلين وسفراء وكتاب ومفكرين وطالبي حاجات ينتظر بعضهم بالساعات، بلا ملل ولا شكوى بل ويمتنعون باختيارهم عن التدخين؛ لأنه يضايق "نوال المحلاوي".

كان باختصار تحت جميع أضواء الدنيا، كما يليق برجل كان يوصف -آنذاك- بأنه أقوى رجل في مصر بل في الشرق الأوسط. ولعل الوهج الزائد عن الحد، الذي كان يشع منه وحوله، في تلك السنوات العجيبة - هوالذي جعل أكثر الفصول إضاءة في عمره، أكثرها غموضا وأحفلها بالظلال ومناطق العتمة.


كواليس هيكل

وليست أصول صنعة التاريخ هي وحدها التي ستفرض على هؤلاء المؤرخين المساكين العودة إلى الفصل التمهيدي الذي تجاوز دخول "هيكل" إلى خشبة المسرح في 23 يوليو1952 وهوفصل استغرق عشر سنوات بدأت في عام 1942، كان "هيكل" خلالها مجرد صحفي بين صحفيين استهل حياته الصحفية وهوفي التاسعة عشرة محررا عسكريا في "الإجبشيان جازيت"، ثم انتقل منها بعد عامين ليعمل في آخر ساعة. وبعد عامين آخرين وفي عام 1946 يشتري أولاد أمين - التوأمان "علي" و"مصطفى" المجلة من أستاذهم محمد التابعي فينتقل الثلاثة التابعي وآخر تلامذته هيكل والمجلة إلى دار أخبار اليوم وهناك يستقر هيكل صحفيا بين صحفيين لا هوأشهرهم ولا هوأخملهم، لكنه كان بالبتر أذكاهم!

تلك عودة لا مفر منها للماضي سيقود المؤرخين إليها فضلا عن أصول الصنعة الأمل في العثور على قبس من نور يضيء عتامة أحداث سنوات الذروة، وهوأمل لا بد حتى يقود هؤلاء المؤرخين التعساء إلى فصل الختام الذي انطفأت بعده أضواء المسرح، وأنوار الصالة ولم يبق سوى تصفيق بعض المتفرجين، وصفير الآخرين وصمت الأغلبية التي عودتها المحن حتى تداوي بالنسيان جميع الجراح!


صداقة الكاهن مع الفرعون الشجيع

ومن سوء حظ هؤلاء المؤرخين حتى حظ هيكل قد دفعه إلى المسرح ليلعب البطولتين الأولى والثانية، في مسرحية واحدة، تنتمي لزمن واحد فكان "الجان بريمييه" في الصحافة "وصديق الشجيع" في السياسة.

وما إذا أسدل الستار على المسرحية، حتى اختلف الناس على الزمن ذاته. فنطق الكارهون وطالبوالدم شائنين: هذا زمن الرعب النقي والقهر المصفى، ونطق الوالهون غراما: بل زمن العظمة التي لم تلد ولم تولد.. وفي ضجيج المناظرة ضاعت أصوات خافتة، اغتصب أصحابها نصف ابتسامة.. وذرفوا الدمع من عين واحدة، ونطقوا:

- إنه زمن عبد الناصر، آخر الفراعنة الأفذاذ، ذلك الذي كان عظيم المجد والأخطاء، وليس "هيكل" سوى كاهن تعس الحظ، توفي فرعونه قبل الأوان، وهجره وحيدا بين جدران المعبد، وقد انفض المرنمون وهرب المصلون، وتغير اتجاه طوابير الذين اتىوا يوفون بالنذور، ولم يبق سوى الكاهن الأعظم يطلق البخور، ويتلوالتعاويذ، وينشر الوثائق، ويعد أسانيد الدفاع.. فسبحان الذي بيده الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهوعلى جميع شيء قدير!

إلى غير ذلك يتعقد الطريق إلى هيكل وتكثر فخاخه، وتتداخل الحدود بين معالمه وعوالمه.. مع حتى هيكل كظاهرة تاريخية، ليس أكثر من تنويع على ثنائية مصرية شهيرة وكثيرة التكرار - هي ثنائية الفرعون والكاهن فهكذا كان حظنا، أوهكذا كانت عبقرية المكان الذي نحتله على خريطة الدنيا حتى يحكمنا دائما فرعون قد يأتي فيملؤها عدلا ونورا أويأتي فيملؤها ظلما وجورا لكنه في جميع الأحوال معبود بقوة القهر أوقوة الحب أوقوة النهر الذي فرض علينا دائما حتى نخضع لقوة مركزية جبارة، تحفظ الاستقرار وتنظم تدفق المياه في ملايين من قنوات الري التي تخرج منه، حتى لا يجتاحنا الفيضان أويقتلنا الجفاف، لذلك كان منطقيا ألا يستغني الفرعون عن كاهن يعطي الروح لقوة القهر وقوة الحب، ويبشر ويفسر ويزين ويدافع ويهاجم ويحشد المصلين في بهوالمعبد.

إلى غير ذلك كان عبد الله النديم كاهن أحمد عرابي وترجمانه إلى قلوب الناس وكان بسيطا كزعيمه، ومخلصا وسيئ الحظ مثله!

وكان عباس العقاد هوالمحرر الجبار للزعيم الجبار سعد زغلول يدافع عنه، ويشن الغارات على أعدائه، ويطلق نيران قلمه الجبار عليهم فتتناثر جثثهم على صفحات الصحف.

وكان محمد التابعي هوصحفي مصطفى النحاس حارب إلى جواره بالمانشيت والخبر والموضوع القصير والتعليق الساخر!وكان هيكل كما نطق هونفسه آخر تلامذة محمد التابعي.


هيكل في مدرسة التابعي

وخلال السنوات التي قضاها مع التابعي ثم مع أولاد أمين كان يراقب بذكائه المشع قوانين لعبة الفرعون والكاهن يدرسها عن قرب، ويحللها بعمق ويحفظها ظهرا عن قلب، وكان محمد التابعي قد لقن تلامذته حتى الصحفي يمكن حتىقد يكون صاحب جلالة حقيقية، وملكا يملك ويحكم دون حتى يغادر مقعد رئيس التحرير؛ لأن الصحافة صاحبة جلالة عملية، فطالما حتى الفرعون لا يستغني عن الكاهن، ولا يعيش دونه، فمن واجب الصحفي حتى يرتقي بمهمته ومهنته من مجرد نشر الأخبار إلى المشاركة في صنعها، ومن حقه حتىقد يكون طرفا في تخليق الحدث، الذي ستقع على عاتقه مهمة تزيينه أمام الناس، أوتفسيره لهم، وذلك ما كان يعمله التابعي المعجباني، المفتون بذاته، الذي يعهد قيمة وتأثير وسحر كهانته، فكان يشارك في تشكيل الوزارات وفي حل الأزمات وفي تدبير الانقلابات.

وحين انتقل هيكل إلى أخبار اليوم وعهد صاحبيها علي ومصطفى أمين عثر نفسه قريبا إلى الجيل السابق عليه من تلامذة "التابعي"، وعاين عن قرب عالم الكهانة. وعهد صورة منها في فتوتها.. فقد كان "أولاد أمين" هم نجوم ذلك الزمن. كان علي ومصطفى أمين يمرحان في أبهاء القصر الملكي، ويصادقان الحاشية، ويتصلان بالوزراء. ويستقبلان السفراء والزعماء، ويعهدان أسرار المفاوضات ويحملان الرسائل بين أبطال المسرحية ويطلعان على ما يجري في غرف النوم وما يدور بين الفراعين من صراع على اللحم والدم والعواطف ويطلقان البخور بين أعمدة الهيكل.

وربما يُدهش كثيرون لأن هذا الفصل التمهيدي من عمره قد انتهى، وهومجرد عضومنتسب في نادي الكهانة، فانتصرت ثورة يوليووهولا يعهد من فراعين "العهد البائد" سوى اثنين أوثلاثة من فراعين الدرجة الثانية، كان بينهم "علي الشمسي باشا" و"نجيب الهلالي باشا" لعله تعفف العاجز المغلوب على أمره، ففي تلك السنوات كان المعبد مزدحما بديناصورات الكهان: أولاد أمين وأولاد أبوالفتح وفارس نمر وفكري أباظة وكريم ثابت، وكان الصراع محتدما بين ديناصورات الفراعين: الملك فاروق والسفير البريطاني ومصطفى النحاس وأحزاب الأقلية.

ولأن "هيكل لم يكن يوما أحمق فإنه لم يقتحم الحلبة، ليصارع على مرتبة الكاهن الأعظم من الممكن لأنه استوعب بواقعية أنه يكاد يخلومن جميع الأسلحة التي تؤهله لخوض الحرب فهولم يولد كأولاد أمين في بيت سعد زغلول، ولم يتفهم في جامعة جورج تاون وجامعة شيفلد كما تفهما، ولم تحمله الملكة الوالدة و"تهشكه"، وهوشرف ناله التوأمان وهما رضيعان ولم ينله هيكل فكل مؤهلاته أنه ابن أسرة مستورة، تنتمي للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وكل شهاداته هودبلوم التجارة المتوسطة ودبلوم في القانون والإعلان، حصل عليه بالمراسلة، من أحد المعاهد الأجنبية، ودرس سنتين بقسم الدراسات الاقتصادية بمدارس الليسيه الفرنسية، ولعله لم يقتحم الحلبة أيامها ليحصل على مكانة الكاهن الأعظم؛ لأنه استوعب حتى عرش الفرعون الأعظم خالٍ، وكان معنى ذلك حتى الصراع الذي يدور على مسقط الكاهن الأعظم هومجرد حماقة أما معناه الأعمق طبقا لقوانين التاريخ المصري فهوحتى قمر الزمن قد أوشك حتى يدخل في المحاق وقد كان.


هيكل يتربع على عرش الكهانة

هوى قمر الزمن الماضي ليطمره المحاق، وزحف الفراعين الشائخون يتوكئون على عكاكيزهم وفي معيتهم زحف شيوخ وشباب الكاهن وقبلة الكل معبد الفرعون الجديد، في ذلك المبنى الذي ما يزال إلى الآن يحمل اسم مجلس قيادة الثورة، وشعار الجميع توفي الملك عاش الضباط الأحرار، وبينهم كان هيكل أصغرهم سنا، وأكثرهم ذكاء وطموحا وأبعدهم عن شبهات هؤلاء الضباط الشبان الخشنة الوجوه والملابس والحدثات؛ ولأنه كان مجرد عضومنتسب في نادي كهان الزمن المنهار، فإن الشبهات التي أحاطت بدار أخبار اليوم مركز الكهانة الرئيسي للفرعون المخلوع لم تلحقه مع أنه كان أحد كواكبها اللامعين، وفي اليوم الثاني للثورة، كان كبيرا الكهنة مصطفى وعلي أمين يعتقلان بسبب وشاية لم يتثبت منها أحد، وكان هيكل يمضى في صحبة الأستاذ التابعي ليتوسط للإفراج عنهما، ومع حتى المياه قد عادت إلى مجاريها، وساد الوئام بين الفراعنة الجدد وبين أخبار اليوم وكهانها، إلا حتى الشبهات التي أحاطت بالكاهنين الكبيرين كانت مؤشرا على حتى فراعنة الزمن القادم، ينظرون بريبة إلى كهنة الزمن المنهار.

سبحانك اللهم.. "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".

سقطت معظم الحواجز التي كانت تقف بين "هيكل" وبين عرش الكهانة، الذي أصبح الآن - 1952 - خاليا!

كان الفراعين الجدد أولاد عائلات مستورة مثله، ولم يكن أحدهم قد نال شرف "تهشيك" الملكة الوالدة!

وكان الكهنة القدامى قد خرجوا من السباق بعد حتى قعد بهم الروماتيزم وقيدتهم الشبهات، فلم يتحركوا من مكانهم على الخشبة!

وكان الزمن القادم يبحث عن كاهنه وشاعره ومغنيه!

أما المنافسون الحقيقيون، فقد كانوا الفرسان الذين شاغبوا على الزمن القديم، وشنوا الغارة ضده، وكان بينهم ثلاثة على الأقل، يعهدون كثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة فهم وثيقة إبان سنوات الإعداد لها ويصادقون "عبد الناصر" و"عبد الحكيم عامر" و"صلاح سالم" والآخرين. لمع من بينهم، في العامين السابقين على الثورة "إحسان عبد القدوس"، صاحب معركة "الأسلحة الفاسدة"، و"أحمد أبوالفتح" بطل معركة قوانين تقييد حرية الصحافة، و"حلمي سلام" صاحب الحملة على فساد إدارة الجيش.

ذلك سباق لم يكن لهيكل مكان فيه، فقد قامت الثورة وتقارير القلم المخصص تقول عنه إنه "بلا لون سياسي". ومع أنه قد عمل في "الإجبشيان جازيت" ذات الصلة التاريخية بدار المندوب السامي البريطاني، وفي "آخر ساعة" المجلة الوفدية المتشددة، ثم في "أخبار اليوم" جريدة القصر، فإنه ولج هذه الصحف كلها وخرج منها وقد حافظ على "نقائه السياسي" فظل بلا "لون"!

والغريب حتى هذا السباق انتهى فجأة، بعد عامين فقط من قيام الثورة، إذا بهيكل الذي لم يشغب على العهد القديم، ولم يصنف بين الثائرين عليه، يفوز بمنصب الكاهن الأعظم، أما "أحمد أبوالفتح" فقد أغلقت جريدته "المصري" وهاجر ليعيش في المنفى عشرين عاما، وتحطمت ذراع وضلوع "إحسان عبد القدوس" إبان تلقيه لدروس في الكهانة في إحدى زنازين السجن الحربي. وكان "حلمي سلام" يلهث هناك في آخر الطابور، حتى اتى اليوم الذي قادته فيه الرغبة في الفوز على "هيكل" إلى حماقة سارت بذكرها الركبان!

في تلك السنة -1954- أثبت الفراعين الجدد أنهم "أولاد آمون" حقا، فإنهم يفضلون هؤلاء الذين بلا لون؛ لأنهم سيخلقون لونهم الخاص من ناحية، ولأنهم - وهذا هوالأهم - لا يريدون شغبا يفسد عليهم الاستقرار الذي يريدونه، لصنع مصر التي يريدون!


فترة الوهج في حياة هيكل

إلى غير ذلك بدأت سنوات المجد التي كان وهج هيكل خلالها يكاد يعمي الأبصار، واحتل الفتى الريفي القادم من "باسوس" أقرب مكان إلى القمة.. وتخلق لأول مرة، وبشكل يكادقد يكون مثاليا، حلم محمد التابعي في حتى يصبح الصحفي صاحب جلالة حقيقية.. فجلس "هيكل" - آخر تلامذته - على مقعد بجوار عرش الفرعون الذي اتى من قرية "بني مر" ليملأها عدلا ونورا بعدما ملئت ظلما وجورا!

لم يحصل "هيكل" على كرسي الكهانة بالصدفة، بل تطبيقا لقوانين التاريخ.. ولأن عبد الناصر لم يكن فرعونا تافها فإن كاهنه كان مقتدرا وذكيا وموهوبا بالفطرة، ورث جميع علوم الكهانة من عصر "مينا" فلم يبدد ما ورثه، بل أضاف إليه وطوره، وعصرنه.. ولا بد حتى الذي ساعده على الإتقان إحساسه الصادق حتى كهانته كانت - في الأغلب الأعم - تدافع عن قضايا معظمها حق وعدل، وسوف يمضي زمن أطول مما يقدر أكثرنا تفاؤلا، قبل حتى تتكرر ثنائية "الفرعون" و"الكاهن"، بهذا المستوى الرفيع، ذلك حتى "هيكل" لم يمارس دوره بمنطق الكهنة المأجورين، بل بروح العشاق المفتونين، فسخر جميع مواهبه في خدمة الفرعون الذي اتى من هناك -حيث الكل في واحد- يصوغ له الخطب والرسائل ويؤلف له كتابا في الفلسفة وميثاقا في العمل الوطني وبيانا في 30 مارس، ويقرأ عليه الخط وبرقيات وكالات الأنباء ويلخص له الصحف والإذاعات ويسفر بينه وبين ساسة العالم ودبلوماسييه وصحفييه ومناضليه وأفاقيه ويخرج له قراراته الكبرى، بشكل يعجز عنه أكثر المخرجين المسرحيين اقتدارا، ويخط عنه وله، جميع أسبوع "ترانيم يوم الجمعة"، فيزود المريدين بنشيد يترنمون به في هيكل المعبود، وينحت له تلك الحدثات الإسفنجية التي تمتص دموع الكوارث وتحمل من لعلعة زغاريد الفوز، فهوالذي سمى كارثة الانفصال "نكسة"، وهوالذي أطلق الاسم ذاته على هزيمة يونيو1967، وهوصاحب التعبير الشهير الذي نشر على لسان المشير "عبد الحكيم عامر" قبل الكارثة بأيام: نحن نملك أكبر قوة ضاربة ورادعة في الشرق الأوسط.


العاشقان.. عبد الناصر وهيكل

ويقبل الليل، فلا ينام "هيكل" بل يظل قابعا بجوار التليفون الأبيض الذي يصل بينهما، فإذا رن جرسه الموسيقي.. بدأت مساورة الليل بين الاثنين.. وتواصلت الساعات، كما يعمل الرومانسيون من العشاق.

ولعل "هيكل" هوالوحيد ممن كانوا حول عبد الناصر، الذي ظل نجمه يعلوفي اطراد ولعله الوحيد الذي نجا من آثار المعارك الدموية التي كانت تدور في كواليس القصور وبين مراكز القوى ومديري الممحرر، مع حتى جميع الذين كانوا حول عبد الناصر، كانوا يحسدون هيكل على مكانته لديه ويكرهونه لذلك، ويرفضون بدرجة من التعالي، فكرة حتىقد يكون هذا الصحفي المدني، أكثر قربا لعبد الناصر منهم! وكان ما يرفضونه، هوأحد مسببات تمسك عبد الناصر بهيكل، إذ كان أقرب ماقد يكون لوجه مدني لثورة 23 يوليو، أمام الذين لا يستريحون -أولا يثقون- في الانقلابات العسكرية.. ثم إنه كان نافذة أرحب على العقلية المدنية التي تفتقدها الأجهزة الحساسة المعاونة لعبد الناصر، وبهذه العقلية المدنية، وبقربه من عبد الناصر استطاع "هيكل" حتى يوقف كثيرا من المهازل أوالمظالم والكوارث، واستطاع -وهذا هوالأهم- حتى يثبت حتى المجتمع المدني المصري ما زال قادرا على حتى يقود بحكمة، ويدير برشد لذلك خاض ببسالة معركة تجديد "شباب الأهرام" فلم ينجح خلال فترة رئاسته لتحريرها "1957 - 1974" في وقف خسارتها فحسب، بل نقلها إلى الربح ثم الازدهار، وحمل توزيعها من مائة ألف نسخة عام 1958 إلى 420 ألف نسخة عام 1974.


الأهرام سفينة نوح

في تلك السنوات جعل "هيكل" من "الأهرام" أشبه بسفينة نوح، وحشد فيها ألمع ما في الوطن من عقول ومواهب وكفاءات وآراء، وأضفى على العاملين بها بعض حصانته، ومنحهم -على مسئوليته- جانبا من الترخيص الممنوح له، فعبروا بشيء من الحرية، وفي أحوال ليست كثيرة عن آرائهم، حتى تحولت إلى مركز عصري للكهانة يزدحم بالفهماء والأدباء والمفكرين والفنانين وأصحاب المذاهب ومن جميع صنف زوجين اثنين.

لكنها رغم جميع ذلك، ظلت -كسفينة نوح- جزيرة صغيرة تائهة بين أمواج عالية كالجبال تحاصرها من جميع الجهات.

"هيكل" لم يكن يستطيع - في ظل موازين القوى التي كانت تحيط به - حتى يعمل أكثر مما عمل، ولعله أيضا لم يكن يريد!

والواقع حتى "هيكل" لم يكن يوما من هؤلاء الشباب الطائشين الذين يتوهمون حتى الواقع يمكن حتى تغيره مظاهرة، أوتعيد تشكيلة خلية ثورية، وكان هذا أحد مسببات بقائه بلا لون سياسي حتى قامت الثورة، مع حتى اللعب بالبالونات السياسية الملونة، كان الموضة السائدة في مصر الأربعينيات... وبين جيله من الصحفيين والكتاب... إذ كان من ذلك النوع الذي يؤمن حتى التأثير في القمة أضمن وأسهل وأكثر إدراكا للهدف، من الاعتماد على تلك الكتل من الجماهير غير الواعية، التي لا تعهد ما تريد، والتي قاسي الاطمئنان إليها، أما وقد جلس على مقعد الكاهن الأعظم، وأصبح أقرب ماقد يكون إلى التأثير في هذه القمة، فقد اكتفى بذلك. وبعد حتى توفي عبد الناصر نطق "هيكل": إذا العلاقة بينهما كانت علاقة محادثة مستمر، لكنه لم يقل إذا دائرة الحوار الكهربائية كانت مغلقة عليهما.. ولعلهما كانا الوحيدين اللذين يتحاوران في ذلك الزمن البعيد المجيد!


الكاهن بعد موت فرعونه

وقد خرج فيما بعد بنظرية تقول إذا عبد الناصر لم يكن في حاجة إلى حزب يعتمد عليه، وينظم جيوش المريدين الذين تدفقوا بعشرات الملايين إلى حضرته، إذ كان لديه هذا الحزب ممثلا في أجهزة إعلامه القوية التي كانت تقوم بما يقوم به الحزب، وتلك قمة كهانة هيكل، فالشعوب في رأيه خلقت لتسمع وتقرأ، لا لتتحدث أوتخط، والكاهن هو"حزب" الزعيم أوهو"شعب" الفرعون.. أما عبارات ومصطلحات.. مثل "الشعب المفهم" و"الشعب القائد" و"إرادة شعبنا" -وهي بالنسبة له أمر لا يرد- التي صاغها "هيكل" وألقاها عبد الناصر فلم تكن سوى مرشد على تفوق "هيكل" في كتابة الإنشاء!

إلى غير ذلك تحولت العلاقة بين الفرعون والكاهن إلى صداقة عميقة، واندماج عملي، وكانت الكهانة المقتدرة قد صنعت من الفوزات التي توالت في سنوات المد، أساطير أحاطت رأس الفرعون بأكاليل الأزهار، وفي نهاية ذلك الزمن الذي بدا وكأن الفرعون قد دمج نفسه في الكاهن، وأن الاثنين قد دمجا الوطن فيهما، وأن الذي اتى من هناك حيث الكل في واحد، قد انتهى إلى هناك، حيث الكل -أيضا- في واحد! وكانت النكسة تزحف -كالقدر- بخطى حثيثة لتهدم المعبد على رءوس الجميع.

واتى اليوم الذي توفي فيه عبد الناصر قبل الأوان:

خلا المعبد من الفرعون القوي القادر المعبود، انفض سامر المريدين وصمتت أصوات المرنمين، وبقي الكاهن وحيدا تحيط به عواصف من كراهية جميع الذين أحفظتهم مكانته من الفرعون الراحل. وفي ذكرى الأربعين لوفاة الفرعون -وهي تقليد فرعوني- خط "هيكل" منطقه الشهير "عبد الناصر ليس أسطورة" الذي حكم فيه بأن الزعيم الخالد - هكذا كان "عبد الناصر" يسمى رسميا أيامها - كان واحدا من البشر، وليس أسطورة وأنه لم يهجر معبدًا ولم يعين للمعبد كهنة.

وكان الموضوع واحدا من ذرى كهانة "هيكل" المقتدرة أراد حتى يضرب به ثلاثة عصافير بحجر واحد، فينزع من مجموعة "علي صبري" فضلا كانت قد نسبته لنفسها بزعمها أنها تضم تلاميذ عبد الناصر ومريديه والأمناء على رسالته، ويرضي السادات الذي كان هذا الزعيم في جانب منه، يستهدف التقليل من مكانته، وأخيرا فإن الموضوع ينكر حق الكهانة على غيره ليحتفظ به لنفسه!


وأدمن الكهانة

والواقع حتى "هيكل كان قد أدمن الكهانة، لذلك راهن على أنور السادات رغم أنه كان أكثر الناس فهما بأن المسافة شاسعة بين الفرعون والمتفرعن. ولم يكن أمامه مفر من حتى يعمل ذلك، فقد كانت عواصف الكراهية التي يحركها علي صبري وجماعته، توشك حتى تقتلعه، أما السادات الذي كان طوال عهد عبد الناصر كامنا بين أعواد الذرة، كأولاد الليل يتفرج على صراع السلطة، فلم يكن بينهما ما يدعوه للخوف منه!

وكانت كهانة "هيكل" المدربة، هي التي اقترحت على "السادات" حتى يختار قضية الحريات العامة والشخصية، والاعتنطقات الكيفية وغير القانونية، والفصل عن غير الطريق التأديبي، والتصنت على التليفونات ـ موضوعا للصراع مع "علي صري" ومجموعته الذي تفجر في 15 مايو1971، بينما كان "السادات" يريد حتى يعلن السبب الحقيقي للصراع، وهوسعي المجموعة لمشاركته في السلطة، ورفضها لاستئثاره بها منفردا وتحفظها وشكها في محاولاته للتقرب مع أمريكا.

إلى غير ذلك أنقذت كهانة "هيكل" المحترفة "السادات" من حماقته التي كانت كفيلة بأن يتصدى الناس له، ويرفضوه، واختار له هدفا وشعارا، قربه - في بداية عهده - من قلوبهم.. وكشف عن أنه كان يفهم طوال الوقت حتى معضلة نظام "عبد الناصر" مع الملايين الذين أحبوه ومنحوه ثقتهم كانت هي الحريات الديمقراطية!

وفيما بعد أنقذ "هيكل" السادات من مطب آخر، إذ كان هوالذي أشار عليه، بعد حتى فشلت الجولة الأولى من مباحثات الاشتباك الثاني في مارس 1975، بأن يفتح قناة السويس للملاحة البحرية، وأن يختار يومخمسة يونيوموعدا لذلك الافتتاح، ليمحوعار هزيمة 1967، ويحول يومها من يوم للحداد العام إلى عيد لفتح القناة رغم فهمه بأن إغلاق القناة كان آخر أوراق الضغط التي كان السادات يملكها بعد حتى تبددت الثمار السياسية لنصر أكتوبر بسبب اندفاعه الأحمق لجني أي ثمار!

وفي المرتين أثبت "هيكل" حتى احتراف الكهانة يمكن حتى يحولها إلى هدف في ذاتها وأن الكاهن قد يبدأ مبشرا بقضية.. وينتهي إلى ممارسة الكهانة في خدمة أي هدف.. إذ كان أول من يفهم حتى "السادات" هوآخر إنسان في العالم، يمكن حتىقد يكون صورة من "عبد الناصر".


مصارعة السادات

لكن "هيكل" لم يهنأ طويلا بالقرب من السادات، فقد كان الرجل الذي ظل منزويا ومجهولا وبلا مكانة طوال عهد عبد الناصر، يريد حتى يثأر لسنوات الإهمال المتعمد، التي كان فيها "هيكل" أقوى منه نفوذا وأعلى منه مكانة، بل كان يلجأ إليه أحيانا ليحل له مشاكله.. وكان يطمح حتىقد يكون آخر الفراعنة، ولذلك أراد كهنة لم يرتبطوا في وجدان الناس بأحد سواه وخاصة بـ "عبد الناصر".

ورفض "هيكل" بعناد جميع محاولات السادات لتطويعه، أومساواته بغيره من الكتاب والصحفيين، أونقله من مركز كهانته في "الأهرام" إلى حيث يصبح وزيرا من الوزراء، أونائبا لرئيسهم، أومستشارا للرئيس فقد كان يدرك بذكائه وخبرته، حتى تلك كلها مناصب أقل أهمية وتأثيرا لذلك طالب بما سماه في روايته لما دار بينه وبين السادات حول هذا الموضوع بـ"مكان ومكانة الصديق" أي بمنصب الكاهن الأعظم، ذلك الدور الذي عشقه وأتقنه وبرع فيه، وحفر بسببه اسمه على أحجار التاريخ.

واتى رفض السادات لشروط "هيكل" ليفض الاشتباك بين الرجلين. فانتقل "هيكل" خطوة بعد خطوة إلى صف المعارضين للسادات.


وهجر في ذمة التاريخ سؤالين

الأول: هل كان "هيكل" سيدافع عن توجهات "السادات" السياسية لوأنه أشركه معه في إخراجها، واحتفظ له بمكان ومكانة الصديق، أي بمنصب كبير كهان الهيكل؟!

والاحتمال الأرجح أنه كان سيعمل!

والثاني هو: هل كان مصير السادات سيختلف عن المصير الذي انتهى إليه بالعمل، لوأنه احتفظ بهيكل كاهنا لمعبده؟!

والإجابة بالبتر نعم!

وجرت في النهر مياه كثيرة:

في ثلاثة سبتمبر 1981... عثر "هيكل" نفسه سجينا في إحدى زنازين سجن الاستقبال بمنطقة سجون طره الواقعة جنوب العاصمة المصرية!

حدث الذي لم يكن أحد يتخيله أويتسقطه.. ووجد "هيكل" إلى جواره، في الزنزانة بعض الذين نازعهم ونازعوه سدانة المعبد، ممن كانوا يسمون آنذاك بـ"مراكز القوى".

وفي 28 سبتمبر 1981، اعتذر "هيكل" عن الحديث في احتفال كنا -على سبيل التحديث- قد قررنا إقامته في ذكرى وفاة "عبد الناصر" واختفى في زنزانته، ونطق لي أحد الذين يشاركونه سكناها من زملائنا المعتقلين: إنه أخفى وجهه تحت غطائه واندفع في بكاء حار!

وفيستة أكتوبر 1981 سمعنا خبر مقتل السادات... ورغم المشاعر المتعددة التي ناوشتنا بعد سماعه، فقد كان "هيكل" هوالوحيد الذي أغلق عليه باب زنزانته، واندفع مرة أخرى في بكاء عنيف!

وكان صوت جميل يأتي من بعيد، يتلوقول الله عز وجل: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على جميع شيء قدير".


  • [المصدر إسلام أونلاين http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture%2FACALayout&cid=1183484237748]


اقرأ في نفس الموضوع


الأستاذ.. من المهد إلى المجد مع عبد الناصر.. ثنائية التابع والمتبوع! مع السادات.. ربيع الرضا وخريف الغضب! هيكل.. تراجيديا الفرعون والكاهن

تاريخ النشر: 2020-06-04 06:35:24
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

اكتمال تجهيزات معارض الجهات المشاركة في معرض «السعودية الرقمية»

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-01 09:24:53
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 42%

نجاح عملية إزالة قطعة زجاجية من رقبة مريضة بجدة

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-01 09:24:52
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 36%

مدمن مخدرات يقدم على ذبح والده و زوجته بالحي الحسني بالدار البيضاء

المصدر: زاكورة بريس - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 12:15:10
مستوى الصحة: 16% الأهمية: 26%

إسرائيل ترفض بيع منظومة “القبة الحديدية” للمغرب والإمارات

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 12:15:18
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 36%

حركة تنقلات محدودة في صفوف قيادات الداخلية

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 09:24:41
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 54%

توجيه السيسى باستمرار تطوير قطاع الاتصالات يتصدر اهتمامات الصحف

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 09:24:41
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 69%

بعد قرار فتح الحدود..فنادق بمراكش تبدأ باستقبال حجوزات السياح

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 12:15:19
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 42%

ارتفاع نسبي في درجات الحرارة.. الأرصاد تعلن توقعات الطقس اليوم

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 09:24:42
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 62%

اليوم.. بدء صرف معاشات فبراير

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 09:24:40
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 55%

اعتقال متهم بقتل والده وزوجة أبيه بالدار البيضاء

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 12:15:16
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 40%

الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم تكشف حقيقة الإعتداء على فوزي القجع

المصدر: زاكورة بريس - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-01 12:15:12
مستوى الصحة: 21% الأهمية: 21%

تحميل تطبيق المنصة العربية