تفكيك اوروپا العثمانية/البلقان العثماني

عودة للموسوعة

تفكيك اوروپا العثمانية/البلقان العثماني

< تفكيك اوروپا العثمانية

مقدمة المؤلفين

يتناول هذا الكتاب التاريخ الحديث لسبعة شعوب بلقانية وهم: الأبان والبلغار والكروات واليونانيون والرومانيون والصربيون والسلوفينيون, وكل منها له أساسا تاريخى يتساوى في القدم مع أي شعب من شعوب أوروبا الغربي إذا لم يتفوق عليه. واليونانيون أقدم هذه الشعوب الذين يقولون بأن لديهم تاريخاً طويلاً متصل وتنطقيد ثقافية لأكثر من أربعة ألاف عام, وبعدهم يأتى الإليريون IIIyrians أسلاف الألبان الذين قدموا إلى منطقة البلقان في الألف الثانى قبل الميلاد نقريباً. وثالث هذه الشعوب الرومانيون وهم عند مؤرخيهم من نسل الداشيين Dacians والرومان القدامى الذين سيطروا على المنطقة من عام 106 – 271 ميلادية. وفي نهاية القرن السادس عشر تمكنت مملكة رومانية من العصور الوسطى تحت حكم مايكل الشجاع من ضم أنطقيم شكل منها فيما بعد دولة حديثة.

أما الشعوب الأربعة الأخرى وهوالسلاف فقد استقروا في البلقان بعد القرن السادس, والبلغار الذين اشتقوا اسمهم من جماعة من الغزاة تدعى الفينو-تارتار Fino-Tartar هزموهم في البداية ثم تم استيعابهم داخل السلافيين, وأقاموا امبراطوريتين على مرحلتين من أزهى فترات العصور الوسطى: الإمبراطورية البلغارية الأولى التى وصلت ذروتها تحت حكم شيميون Simeon من عام 893 – 927 ميلادية, والإمبراطورية الثانية تحت حكم جون آشن الثانى Asen من 1218 – 1241. أما الصربيون فيعود تاريخهم إلى الوراء لفترة مماثلة من العظمة والقوة بلغت قمتها خلال حكم ستيفان دوشان Dusan من 1331 – 1355 . وخلال العصور الوسطى مر الصربيون واليونانيون والرومانيون والبلغار وبعض الأبلان بتجربة التحول إلى المسيحية من خلال بيزنطة. إلى غير ذلك وفي العصور الحديثة أصبح الجميع مثل الروس أعضاء في الكنيسة الأرثوذكسية. وعلى العكس من هؤلاء أصبح الكروات والسلوفينيون كاثوليكط وظلوا مرتبطين على مدى الزمن بالغرب الأوروبى.

أما الكروات فكانت لهم مملكة مستقلة في القرن التاسع انتهت تحت أقدام المجريين في عام 1102 واضطر نبلاؤهم لتوقيع ميثاق مع المجر Conventa Pacta اعترفوا بمقتضاه بأن ملك المجر هوأيضا حاكم مملكة تريونيه Triune الكرواتية وسلوفينيا ودلماشيا مع احتفاظ جميع منهم بحق إدارة بلادهم بمعهدتهم. وكان للسلوفينيين أيضاً خلال القرن السابع ولفترة قصيرة دولة مستقلة سرعان ما سقطت تحت حكم الجرمان. وفي القرنين 13-14 كان للألبان أيضاً إمارة مستقلة أوشبه مستقلة على فترات مختلفة.

وعلى عكس دول أوروبا الغربية خلال العصور الوسطى تعرض تاريخ البلقان المتواصل في التطور والتنمية إلى الإنقطاع بسبب الخضوع لحكم خارجي, وكان الغزوالعثمانى هوأكبر وقع شكل مستقبل حياة جميع شعوب البلقان. وفي هذا الإطار هناك جيش صربي يساعده محاربون من البوسنة والكروات والبلغار والأبان أمام القوات العثمانية. والتاريخ الثانى سقوط القسطنطينية عام 1453 وحتى القرن التاسع عشر عاشت شعوب البلقان تحت حكم أجنبي. ولكن ينبغى التأكيد على حتى هذا التاريخ الطويل من الخضوع الذى استغرق حوالي خمسة قرون أعاق إلى حد ما اندماج شعوب البلقان فيما بينها, لكنه لم يؤد أبداً إلى إبادة الوعي القومي, لأن الحكومة العثمانية لم تعمل على استيعاب الشعوب المسيحية في الثقافة الهجرية (أى تهجريهم) أوالقضاء عليهم. ولهذا وعلى الرغم من زوال ممالك البلقان, إلا حتى الشخصية القومية ظلت قائمة من خلال الكنيسة واللغة والثقافة الشعبية, وبالتالى لم ينمحي الماضي من الذاكرة. وكما يفترض أن نرى كانت المستوى الأولى في الأحياء القومي لكل شعوب البلقان العمل على إحياء أمجاد التاريخ القديم أوتاريخ العصور الوسطى لتلك بجهود الكتاب والمؤورخين.

ولقد حاولنا في هذا الكتاب التمسك بفكرة محرر السلسلة التى أوردها في التصدير من حيث تقديم مدخل للموضوع "للباحث غير المتخصص في تاريخ وسط أوروبا, وللطالب الذي يسعى للتخصص في تاريخ تلك المنطقة". وطبقاً للمنهج هذه السلسلة من الدراسات فقد قللنا من الهوامش والإحالات المرجعية إلى أقصى حد ممكن خاصة وأن المراجع التى ناقشناها في البيلوجرافية في نهاية الكتاب مطبوعة باللغة الإنجليزية رغم أننا اعتمدنا بشكل أساسي على مراجع غير إنجليزية اللغة, ولسوف يتضمن المجلد الأخير من هذه السلسلة أطلس تاريخي وقائمة الخط والمراجع الكاملة بتاريخ تلك المنطقة على مدى العصور.

أما نطق الأسماء والمواقع الجغرافية في هذه الدراسة فقد وجهت مشكلات معينة بسبب تنوع اللغات واختلاف أشكالها وبنيتها في القرن التاسع عشر عن الوقت الحاضر. ولم يكن ممكنا التوافق التام بين زمنين ولكننا اعتمدنا النطق الحديث إلا إذا كان بعض الأسماء والأماكن معهدوة أكثر بنطق آخر. فمثلا استخدمنا اسم القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية العثمانية وليس استانبول لأنها كانت مستخدمة بين أهالي المنطقة خلال القرن التاسع عشر. وبشكل عام استخدمنا نظام مخطة الكونجرس الأمريكية في نقل الأسماء البلغارية واليونانية والصربية إلى اللغة الإنجليزية مع بعض التعديل. أما الأسماء الألبانية والرومانية والهجرية فقد خطناها وفقا لشكلها القومي ما لم تكن معروفة بشكل أفضل في الإنجليزية عن أي نطق آخر. وفي وقت ما كانت هناك أسماء مختلفة لأسماء معينة مثل بيتولا Bitola بدلا من دورازوDurazzo, والتى تعني ولاية موناستير. كما قمنا بنجلزة الأسم الأول عادة ولكن ليس بشكل دائم, ونحن نعترفبأن البعض قد لا يتفق معنا في هذا الرأي الذي انتهينا إليه في نطق الأسماء لكننا حاولنا استخدام الأشكال المفهومة عملا لقراء الإنجليزية والأكثر شيوعاً في الإستعمال.

ونحن مدينون بشكل كبير لأصدقائنا ولزملائنا الذين رضوا عن طيب خاطر قراءة مخطوطة هذا الكتاب قبل طبعه, ونشعر بالفضل الكبير لتعليقاتهم وانتقاداتهم لبعض الأفكار المعقدة والتي هي محل دل كبير بين الباحثين. ولقد قرأ المخطوطة كلها أوقسماً كبيراً منها جميع من الأساتذة: كيث هيتشنز Keith Hitchins بجامعة اللينوي, وجون لامب Lampe بجامعة ماريلاند, وجون بتروبولوس Petropulos بكلية آمهرست Amherst, وماريني بونديف Pundeff بجامعة ولاية كاليفورنيافي نورثريدج Northridge, وترايان ستويانوفيتش Traian Stoianovich بجامعة روتجرز, ووين فوكيتخصص Wayn S. Vucinich بجامعة ستانفورد, والأستاذ رودريك دافيسون بجامعة جورج واشنطن, والأستاذ ستانفورد شوبجامعة كاليفورنيا-لوس آنجلوس الذي قرأ الأجزاء الخاصة بالإمبراطورية العثمانية, والأستاذ ستافروسكيندي Stvro Skendi بجامعة كولومبيا اذلي علق على الفصل الخاص بألبانيا, والأستاذان ويليز بارنستون Willis Barnstone, وآنتيه كاديتش Ante Kadic بجامعة آنديانا اللذان قدما مساعدة لها أهميتها في الفصل الخاص بالثقافة.

كما نود حتى نعرب عن مشاعر تقديرنا للاستاذ مايكل بتروفيتش Petrovich بجامعة ويسكونسن لسماحه لنا بالإطلاع على مخطوطة دراسته الرائعة "تاريخ الصرب الحديث 1804-1918" :A History of Modern Serbia 1804-1918, New York Harcourt Brace Jovanich, 1976 قبل حتى تنشر في مجلدين. كما نقدر بالغ التقدير الإقتراحات القيمة التى قدمها جميع من الأستاذين بيتر شوجر Sugar, ودونالد تريدجولد Treadgold محررا هذه السلسلة. كما نرغب في تقديم الشكر لزميلنا نورمان باوندز Pounds الذي أعد الخرائط للطبع, وجون هوللينجزورث Hollingsworth الذي جهزها له, ونانسي فيل Weil التي أعدت فهرس الأعلام.

وأخيراً قرأ ولدينا مارك وبيتر ييلافيتش المخطوطة كاملة وقدما إسهامات مهمة.

تشارلز ييلافيتش

باربرا ييلافيتش


الفصل الأول: البلقان العثماني

الأحوال العامة في مطلع القرن التاسع عشر كان الجانب الأكبر من أراضي البلقان يشكل جزء من الإمبراطورية العثمانية التى امتدت إلى بلاد كثيرة في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وكانت تلك الإمبراطورية بهذه التوسعات تحتل مسقطا استراتيجياً جعل مصيرها أمراً حيوياً يشغل بال جميع القوى الكبرى. والحال كذلك كانت الحكومة العثمانية تسيطر على شعوب مسيحية تعيش في شبه جزيرة البلقان بلغ عددها حوالي تسعة ملايين نسمة في بلاد بلغت مساحتها حوالي 238000 ميلاً مربعاً, وخضعت لنظام فريد في نوعه يتعامل معها حسب المعتقد الديني.

كانت منطقة البلقان تنقسم إلى خمسة أنطقيم هي روميليا, والبوسنة, وسيلستريا, والجزر (أى البلوبونيز واليونان), وكريت, ثم أصبحت تسعة أقسام فرعية: روميليا, والبوسنة, وبلجراد, وسكورد (سكوتاري), ويانينا, الجبل الأسود, والمورة (البلوبونيز), وكانديا (كريت), والأرخبيل. ثم ألحقت بالأمبراطورية مناطق معينة تمتعت بحكم ذاتي ذي صلاحيات واسعة مثل ولاشيا وملدافيا (تعهد بإمارتي الدانوب أوالأنطقيم الرومانية) وبعض الجزر اليونانية. ولقد شهدت مناطق الحكم الذاتي تلك تغيرات كثيرة في القرن التاسع عشر فقد امتلأ جميع قسم منها بالموظفين العثمانيين الذين كانت تعينهم الآستانة من لدنها, وكل رئيس إدارة في جميع قسم يعاونه ديوان يضم مساعدين وموظفين رسميين آخرون بما فيهم القضاة, وجامعوا الضرائب, والشرطة, وضباط الجيش. وكانت مهمتهم الأساسية تتلخص في الدفاع عن الإمبراطورية, وجمع الضرائب, وحفظ النظام العام, ورعاية أحوال المسلمين. وكان بكل مدينة ومركز وقرية موظفون من هذا النوع.

ورغم حتى الإدارة العثمانية كانت تمارس نفوذاً مباشراً بدرجة كبيرة على شعوب البلقان, إلا حتى الجاليات المسييحية كانت تتمتع بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي من خلال الكنيسة والحكومة المحلية التى اعترف بها العثمانيون الغزاة. ولما كان العثمانيون يعتبرون أنفسهم مسلمون في المقام الأول فقد كانوا يفضلون تنظيم إمبراطوريتهم على أساس المعتقد الديني لرعاياهم. وعلى هذا أقاموا أربع وحدات إدارية كبرى عهدت باسم "الملل" لكل من الأرثوذكس, والأرمن الجريجوريون, والروم الكاثوليك, واليهود. كما كانت هناك ملة للمسلمين, وتنظيم للبروتستنت تم الاعتراف به في منتصف القرن التاسع عشر. ورغم حتى هناك معتقدات دينية أخرى تسامح معها العثمانيون, إلا حتى المسيحية واليهودية بصفة خاصة كانتا سواء عند العثمانيين بكل المعاني. غير أنه كان بإمكان أي فرد من الرعايا حتى يلحق يركب الإدارة والحكم, أويتولى أعلى الوظائف الإدارية أوالعسكرية متى كان مسلماً. ورغم أنه لم تبذل جهود حقيقية من قبل العثمانيين لتحويل شعوب البلقان إلى الإسلام أوتحويلهم عن عقائدهم, إلا حتى الأسلام انتشر في مناطق معينة وخاصة في البوسنة والهرسك وكريت وألبانيا وأجزاء من مرتفعات رودوبيه Rhodope, ومن هنا تمتع سكان تلك المناطق بالمميزات التى حفظتها لهم عقيدتهم.

وعلى هذا بقي معظم سكان البلقان مرتبطين بكنيستهم وبالتالي أصبحوا منتمين إلى طائفة "ملة" الأرثوذكس, وسقطوا قضائياً تحت ولاية بطريرك الآستانة الذي اعتبر موظفاً لدى الحكومة العثمانية. وكان البطريرك وإدارته ينوبون عن الأرثوذكس في التعامل مع السلطات الأسلامية ويتحدثون باسمهم. وفي الوقت نفسه لهم ولاية شرعية (قانونية) على جميع ما يخصهم من الأمور القانوينة والأخلاقية. وقد تمثل التأثير الرئيسي العام لنظام الملل في المحافظة على التقسيمات القومية التي كانت قائمة قبل الغزوالعثماني وعلى الخصوصيات المحلية. وخلال أغلب فترات العصر العثماني تم تقسيم الإدارة العليا في الكنيسة على أساس القوميات. فاليونانيون مثلاً كانول أكثر انتشاراً في الآستانة حيث كان البطريرك يمثل أعلى مرتبة رسمية إكليروسية في العالم الأرثوذكسي على حين كان الصرب يتوجهون لبرطريركيتهم في بيش Pec, والبلغار لأسقفيتهم في أوهريد Ohrid وهم من الأرثوذكس. ورغم هذا الانفصال استطاعت الكنيسة الأثوذكسية حتى تصون بشكل عام روح الوحدة المسيحية ضد الإسلام. وقد فهمهم الإيمان فقدوا حريتهم بسبب خطاياهم ولكن يوم الخلاص قد يأتي عندما تنتصر كنيستهم.

وبالإضافة إلى "نظام الملة" كان لمسيحي البلقان كثيراً من السيطرة على شؤونهم الخاصة على المستوى المحلي. ورغم تنوع الأحوال بشكل واسع في انحاء البلقان, إلا حتى الفلاحين تمتعوا بدرجة من الخصوصية الذاتية تحت حكم نبلائهم الذين كانوا يعهدون باسم "الشوربجية" في بلغاريا. وهؤلاء الرجال (النبلاء) كانوا إما ينتخبون أويعينون من بين أعضاء الجالية الأكثر ثروة وقدرة على القيادة والذين كونوا ثروتهم من الزراعة والتجارة أوجمع الخراج. وعلى وجه الإجمال كانوا ينوبون عن قراهم أمام الإدارة الإسلامية في الإقليم, وكانوا مسئولون أمامها عن جمع الضرائب والمحافظة على القانون والنظام. كما كانوا شأن رجال الكنيسة جزء من لاحياة السياسية العثمانية. كما يلاحظ حتى بعض المناطق مثل البلوبونيز تمعت بقدر ملحوظ من الحكم الذاتي, والبعض الآخر مثل بلاد البلغار كانت تشعر بثقل الحكم العثامني بدرجة أقوى.

ومع تلك السلطات السياسية المنفصلة كان المسيحيون يخضعون لثلاثة أنظمة قانوينة في مقدمتها الشريعة الإسلامية التى تطبق على جميع المسلمين وعلى الأمور التي يشهجر فيها مسيحيون ومسلمون. والنظام الثاني تمثل في القانون الكنسي للملة الذي ينظم على وجه الخصوص المسائل التي تتعلق بالأسرة مثل الزواج والأخلاق العامة. والنظام الثالث يتمثل في الأعراف المحلية التي تسود في بعض التجمعات وكان هذا يعني حتى المصالح الدنيوية للناس كانت تفرض نفسها على تعاليم الكنيسة وتتقدم عليها.

ولقد مكنت ظروف حياة التجمعات المحلية القائمة في البلقان الأهالي من المحافظة على التقسيمات القومية فيما بينهم على الأقل بشكل كامن. فمن ناحية أدى نجاح العثمانيين في القضاء على دويلات البلقان التي كانت قائمة وعلى طبقاتها الحاكمة إلى حتى المسيحي أصبح يميل في تعريف نفسه بأسرته وبقريته وبكنسيته ويعطي لهم ولاءه في المقام الأول. ومن ناحية أخرى لم تحاول الدولة العثمانية من جانبها حتى تقضي على العناصر الكثيرة والمتنوعة في البلقان أوتعمل على توحيدها بل هجرتها كما هي من الممكن طالبا للتوازن. كما لوتبذل الدولة أية محاولات قبل القرن التاسع عشر لوضع أسس قانوينة أوسياسية أوثقافية لمواطنة عثمانية عامة تضم جميع تلك العناصر التمنوعة التى تحكمها, بل على العكس تم تقوية الخصوصيات المحلية والقومية بقدر متزايد, ففي بعض الأماكن والقرى عاش المسلمون والصرب والبلغار واليونانيون جنباً إلى جنب قروناً طويلة دون حتى تختلط ثقافتهم وشخصياتهم أوتمتزج إلا قليلاً في بعض الأحيان. وفي المدن كانت مجموعة سكانية تعيش في الحي الخاص بها أي "الحارة". وعلى هذا فعندما حاولت الحكومة العثمانية في القرن التاسع عشر تطبيق مبادئ نظام الدولة الحديثة كما هوفي أوروبا فشلت المحاولة لأن الإمبراطورية العثمانية وعلى مدى أربعة قرون خلت كانت قد نظمت على أسس مختلفة تماماً عن الأسس الأوروبية.

وعلى الرغم من ميل شعوب البلقان أنفسهم إلى حتى يعيش جميع منهم على حده ليحتفظ بخصوصياته فمن المؤكد أ، القسم الأكبر منهم كان يعيش بين امتيازات الأقلية المسلمة والأغلبية المسيحية الأرثوذكسيية. وعندما بدأت الإمبراطورية العثمانية في التدهور والإحتضار كان المسلمون شأن المسيحيين يقاسون غالباً من فساد الحكم ولوحتى المسلمين كانوا يتمتعون ببعض الميزات الأساسية في المحاكم مثلا وبضرائب أقل وبمكانة متفوقة معترف بها, بينما كان المسيحيون في غاية القلق على وضعهم المختلف عن المسلمين. ومع ذلك يصعب تعميم الأحكام نظرا لاختلاف الأوضاع اختلافاً كبيراً بين منطقة وأخرى في البلقان . . فالمسيحيون كانوا يلاحظون - وهوأمر مفترض - وجود بعض المحرمات عليهم أوالممنوعات التي جرحت كبريائهم الشخصي وأضرت بمصالحهم المادية, فمثلا لم يكن الواحد منهم يستطيع من ناحية المبدأ حتى يحمل سلاحاً أويرتدي ملابس ملفتة للنظر أوغالية الثمن أوخضراء اللون وهواللون الذي له قداسته أوحرمته عند المسلمين. وكان على المسيحي حتى يترجل عن صهوة جواده إذا ما مر به مسلم, ولا ينبغي حتى تكون منازل المسيحيين أكثر فخامة من منازل جيرانهم المسلمين أوتعلوها, ولا ينبغي حتى تعلق الكنائس أجراساً أوحتى تزود بالقباب, ولا ينبغي حتى تبنى كنائس جديدة ولكن يمكن إصلاح القديم منها. ورغم حقيقة حتى كثيراً من هذه الإجراءات لم تعد تفرض بحلول القرن التاسع عشر إلا حتى المسيحيين ظلوا في وضع أدنى بشكل واضح ومعترف به وربما كان هذا الملمح من حكم العثمانيين أكثر ما كان يضايق رعاياهم المسيحيين, كما كان سبباً لامتعاضهم واستيائهم دوماً.

ويضاف إلى هذا حتى الضرائب التي كان على الفلاح المسيحي في البلقان حتى يدفعها جعلته يندب حظه. ومما زاد من صعوبات الحياة حتى الإمبراطورية بحلول القرن التاسع عشر لم تكن منتعشة اقتصادياً ولم تكن تتوفر فيها الشروط الصحية اللازمة للتنمية. ورغم حتى المسيحي لم يكن مطلوباً للتجنيد بل لم يكن مسموحاً له بذلك, إلا أنه كان عليه حتى يدفع ضرائب لإعانة القوات العسكرية والضرائب الأخرى التي يتطلبها تسيير دفة أمور الدولة. وعلى هذا كان على الفلاح المسيحي حتى يدفع ضرائب على تنتجه أرضه, وما يصنعه في منزله, وعلى ممتلكاته الخاصة, فضلاً عن ضريبة رأس لقاء إعفائه من الخدمة العسكرية المفروضة على المسلم, وهذا يعنى حتى تلك الضريبة الرئيسية لم تكن تفرض على المسلمين. كما كان المسيحي شأن جميع رعايا الإمبراطورية يخضع لواجبات أخرى إضافية يتعين عليه القيام بها مثل العمل في شق الطرق والأشغال العامة وتوفير ما يطلب منه من جياد وثيران وعربات, وبطبيعة الحال لم يكن سعيداً بتلك الأعباء التي كان على الفلاح حتى وقت الحرب. فإذا ما وضعنا في الإعتبار الضرائب الأخرى التي كان على الفلاح حتى يدفعها عيناً أوعملا (سخرة) لقاء انتفاعه بالأرض التي يفلحها أدركنا ثقل معضلة الضرائب بالنسبة له.

وكانت الطرق المتبعة في تحصيل الضرائب سيئة تزيد من عبئ دفعها, وهي معضلة كان الفلاح المسلم يقابلها أيضاً بطبيعة الحال. وكانت الحكومة تحصل الضرائب بواسطة الملتزمين الذي يأخذ الواحد منهم حق جمعها من خلال مزاد يجرى سنوياً لهذا الغرض. ولم يكن هذا الموظف الرسمي (الملتزم) الذي قد يحدث مسيحياً أومسلماً يعنيه في كثير أوقليل مصلحة الفلاح حتى حتى مصلحة الحكومة بقدر ما كان يعنيه في المقام الأول الحصول على أعلى الأرباح من عمله. وكان من شأن هذا العمل حتى يحقق لصاحبه ثروة ضخممممة لكن نتائجه على الفلاح كانت وخيمة. على حتى عبء الضرائب غير المحتمل فضلاً عما كان الفلاح أ، يدفعه لقاء انتفاعهع بالأرض كما سبقت الإشارة كان أحد الأسباب الرئيسية لثورة الفلاح في الإمبراطورية. ورغم حتى كلا من المسلم والمسيحي كان يقاسى من فساد النظام المالي للإمبراطورية وظلمه وعدم عدالته, إلا حتى المسيحي كان يتحمل العبء الأكبر من الضرائب فضلاً عن ضآلة فرصته في الدفاع عن حقوقه في لقاءة الشرطة أوفي ساحة المحاكم.

ومن الطريف حتى نذكر أنه رغم سوء الظروف الشخصية والمالية التي كان المسيحيون يعملون في ظلها, إلا أنهم كانوا أكثر صحة من المسلمين بشكل عام. ففي نهاية القرن الثامن عشضر ولج المسلمون في حالة من التدهور النسبي اقتصادياً وأخلاقياً, وهناك عدة تفسيرات وشروح لهذا التطور في مقدمتها حتى قصر الخدمة العسكرية على المسلمين فقط أسهم في ضعفهم على مدى الزمن, كما حتى هجرزهم في المدن جعلهم أكثر تأثراً بالتدمير والخراب الذي تحدثه الأوبئة والطواعين, كما حتى العادات الهجرية وخاصة فيما يتعلق بتعدد الزوجات لعبت دوراً في هذا. والحق حتى عوامل ذلك التدهور والإنحلال كانت قد تبلورت في القرن الثامن عشر وبدا مظهرها في التغير الديموجرافي في مدن البلقان حيث كان المسيحيون أكثر عدداً بالنسبة لسائر السكان.

أما فيما يتعلق بحياة المسيحي البلقاني العادي تحت الحكم العثماني فمن الصعب تعميم الأحكام بشأنها وذلك نظراً لاختلاف الظروف وتنوعها من مكان لآخر في البلقان. ولكن يمكن القول حتى أغلبية المسيحيين كانوا من الفلاحين الذين ينتجون المواد الغذائية, ويتحملون الجانب الأكبر من تمويل خزينة ضرائب الإمبراطورية, وتعتمد الأوضاع التي يعيش في ظلها أي منهم بشكل كبير على المكان الذي يعيش فيه من حيث مدى قربه أوبعده من أدوات الحكم المسئولة عن الرقابة. ولتوضيح ذلك ففي الأماكن البعيدة نسبياً وخاصة في المناطق الجبلية الأقل جاذبية للإقامة فقد يتمتع الفرد بوضع مستقل نسبياً سواء كان راعياً للغنم أوفلاحاً يغرس أرضه الخاصة. وعلى النقيض من ذلك وحيث تكون الأرض خصوبة كما هوالحال في وادي مارتيزا Maritsa وتسالياً والبوسنة, فإن الفلاح كان يغرس الأرض بنظام المشاركة سواء كان صاحبها مسلم أومسيحي. أما في مولدافيا وولاشيا فإن ملكية الأرض كانت تقتصر على المسيحيين الأرثوذكس, وقد يملك الفلاح حسب مقتضى الحال منزله وحديقته ولكن كان عليه حتى يتنازل عن نسبة 10% - 50% من محصول الأرض التي يغرسها. وكان يخضع أيضاً لالتزامات لا حصر لها, عينية أوسخرة للإقطاعي سيد الأرض تضاف بطبيعة الحال إلى الضرائب المفروضة عليه من قبل الحكومة العثمانية.

والحقيقة حتى أساليب الزراعة في البلقان العثماني كانت بدائية للغاية فبينما كانت أوروبا الغربية قد تخلت عن أوضاع العصور الوسطى قبل ذلك بمدة طويلة كان الفلاح البلقاني ما يزال يعتمد على نظام الدورة الزراعية الثلاثية, وعلى المحراث الخشبي الذي يجره ثور أوبقرة, وأرضه قد تتكون من بتر صغيرة المساحة متناثرة هنا وهناك على مساحة عريضة وبعيدة عن قريته, ويغرس محاصيل تقليدية مثل القمح والذرة والشعير والذرة العويجة والشليم. وخلال القرن الثامن عشر بدأ يهتم أكثر بزراعة القمح والقطن باعتبار أنهما من المحاصيل النقدية (محاصيل السوق), كما كان يربي الخيول والماشية والغنم والخنازير.

كان فلاح البلقان ينتج ما يحتاجه للاستهلاك, ولتوريد ما يطلبه أصحاب الأرض, وما تطلبه الحكومة أيضاً عيناً نظراً لقلة أهمية النقود في التعامل آنذاك. كما كان يصنع في بيته احتياجات أهل بيته من الملابس وكذا أدوات الزراعة اللازمة ويخزن بعض أنواع الطعغام القابلة للتخزين. ويعيش في منزل سهل للغاية من الطين والحجر والخشب أومن القرميد (الطوب), ويتكون من غرفتين, والأثاث غاية في البساطة وعبارة عن مائدة صغيرة لتناول الطعام (تشبه الطبلية في مصر – المترجم) وحولها مقاعد منخفضة دون مساند (تشبه كرسي مطبخ أوكرسي حمام في مصر – المترجم), ومصطبة عليها بطاطين لزوم النوم, وموقد نار (يشبه الكانون في مصر – المترجم) في الغرفة الرئيسية لإعداد الطعام في أوعية من الصلصال وأطباق من الخشب. أما إذا كان صاحب المنزل غنياً ويعيش في قرية أهلها أغنياء فإن أثاث منزلهقد يكون متكاملاً إلى حد ما حيث تفرش الأرض بالفراء أوالسجاد الفاخر المزركش, والخدمات تكون مطرزة, ويزدان بالبشاكير والستائر التي تضفي عليه بهجة. وفي جميع الأحوال فإن ملابس أسرة الفلاح تتوقف على مدى ثروة الإقليم ورخائه وعلى ظروف الأسرة نفسها حيث تتراوح بين أبسط مظهر يكاد يفي بالغرض إلى أفخم الملابس الشعبية وأجملها.

كانت معظم منازل الفلاحين ملتصقة بعضها ببعض في شكل عنقودي تكون قرى صغيرة وكفور تحيط بها الحقول التي يغرسها الأهالي. وفي هذا الإطار كان الفلاح يخضع لنموذج من التنطقيد شديد المحافظة فضلاً عن الكنيسة التي تمثل مركزاً للمجتمع السكاني. ومع هذا كان من الطبيعي ا، توجد فروق اجتماعية محددة في هذا المجتمع الزراعي الشاكل فالفلاح الذي يحوز أرضاً جيدة كان على ثراء مفرط, والذي يغرس أرضه بنظام المشاركة على المحصول أواستخدام عمالة مؤجرةقد يكون دخله أقل. أما في المدن فكان لكل طائفة مقراً معيناً يجتمعون فيه ويديرون شؤونهم من خلاله مثل طائفة القساوسة والتجار والحرفيين والمدرسين بل والنبلاء. ويلاحظ حتى القساوسة والنبلاء وهم قيادة المجتمع ارتضت تلك الأوضاع تحت الحكم العثماني التي اعتادت حتى تعيش في ظلها على مدى قرون ومن ثم نراها تقاوم التغيير حفاظاً على وضعها المتميز بين الأهالي وخاصة الكنيسة التي لم تكن ترحب بالحركات التي تدعوللثورة وتعد الأهالي بتحويل مجتمع البلقان إلى النمط الغربي والأسلوب الفهماني.

ورغم الفقر المدقع والتخلف الواضح للبلقان تحت الحكم العثماني إلا حتى الحياة لم تكن قائمة أورتيبة وملولة, فالكنيسة كانت تقدم وجهة نظر أساسية للحياة امتزجت ببعض الخرافات والتنطقيد الشعبية التي شرحت وفسرت مكانة جميع إنسان في دنيا الحياة العريضة. ولقد تولت هذه المؤسسة رعاية طويلة من الأعياد الدينية كسرت رتابة الحياة الريفية, كما حتى جميع جماعة من الجماعات كانت لها قصصها الشعبية المتواترة, وأغانيها التي ترددها في المناسبات على إياقع الرقصات المشهجرة, وكانت الرابطة العائلية بين الفلاحين تعطي الأمان لأفرادها في وقت الخطر ومنها يستمد الفرد وضعه داخل الجماعة.

وإذا كانت قرى البلقان معروفة بأنها مجتمعات فلاحية وريفية بدائية فإن المدن كانت مقراً للسلطات الإدارية والعسكرية ومراكز تجارية وحرفية. وكانت المدن الكبيرة تقع على الطرق الرئيسية المؤدية إلى أوروبا حيث توفر ما تحتاجه الحرب والتجارة حسب مقتضى الحال وأهمها ما يقع على طريق استانبول-ادريانوبل-بلوفديف Plovdiv –صوفيا-نيش-بلجراد. كما كانت موانئ فارنا وتسالونيكا على البحر, وفيدين Vidin وروزيه Ruse على النهر تمثل أهمية موازية لأهمية تلك المدن, كما كانت بعض المدن مثل سراييفووساموكوف Samokov مراكز إدارية كبرى.

ويلاحظ حتى المنشآت العامة العثمانية كانت من الحجر عادة وتعطي المظهر العام النمطي للمدن البلقانية مثل المساجد بمآذنها والخانات والنافورات والحمامات والأسواق المسقوفة, وكذلك القناطر والمقابر والقلاع. وعلى العكس كانت المباني المسيحية بسيطة ومتواضعة بالضرورة إذ فرضت قيود عثمانية على الشكل المعماري للكنيسة وكذا بيوت المسيحيين. ولكن في بعض المدن مثل بلوديف وتسالونيكا كان بمقدور التجار الأثرياء خلال القرن التاسع عشر حتى يشيدوا منازل رائعة ويمكن ملاحظتها بسهول لندرتها.

ولما كانت المدن الرئيسية مراكز إدارية وعسكرية عثمانية فقد اكتظت بعدد كبير من المسلمين والأتراك. وكما هوحال قرى الريف كانت جميع مدينة تنقسم إلى محلات (أحياء) على أسس دينية وقومية, وكل حرفة تنظمها طائفة. وهذه الطوائف التي كونها الحرفيون والتجار لعبت دوراً رئيسياً في حياة المدن. وكانت مهمة طوائف الحرف التي قد تكون من المسلمين فقط أومن المسيحيين أومن الأثنين معاً مراقبة جودة الأصناف والتحكم في كمية الإنتاج وثمن جميع صنف. كما يلاحظ ارتباط بعض المهن أوالحرف تقليدياً بعناصر معينة قومية أودينية فمثلاً اختص المسلمون بالحرف المعدنية والجلدية.

وبالإضافة إلى التفريق بين المسلمين والمسيحيين في مدن وقرى البلقان نمت تقسيمات مماثلة بين الأهالي المسيحيين أنفسهم. ففي إطار النظام العثماني وفدت مجموعات مسيحية معينة أصبح لها وضعاً ممتازاً بين الشرائح الحاكمة ومنهم اليونانيون الذين كانوا مع نهاية القرن الثامن عشر يتمتعون بأفضل مكانة بين شعوب البلقان. ففي بلاد اليونان كانت الطوائف المحلية تدبر شؤونها الخاصة رغم حروب الفترة وكان للخارجين على القانون شأناً فضلاً عن القوة والثروة التي كان يتمتع بها التجار اليونانيون والموظفون. ولأن منصب البطريركية الأرثوذكسية في استانبول كان بيد اليونانيون أساساً, فكان باستطاعة ذوي النفوذ من اليونانيون حتى يتفوقوا في المجالات الثقافية والدينية في البلقان خاصة وأن الكنيسة كما سبقت الإشارة كانت تمثل السلطة الحكومية الرئيسية على المسيحيين تحت الحكم العثماني. والأكثر أهمية التعاون الذي وقع بين البطريرك والباب العالي في موضوع إلغاء الأبرشية الصربية في بيش Pec عام 1766, والأسقفية البلغارية في أوهريد في العام التالي. وعلى هذا أصبحت الوحدات الكنيسة الصربية والبلغارية تحت سيطرة وإشراف بطريرك استانبول وموظفيه اليونانيون. مع نهاية القرن الثامن عشر كان البطريرك يرعى شؤون حوالي ثمانية مليون مسيحياً يمثلون ربع سكان الإمبراطورية آنذاك.

وكان من الطبيعي حتى يقاوم السلافيون والرومانيون هيمنة الكنيسة الأرثوذكسية على ذلك النحوفقد رأوا في السيطرة اليونانية علامة قهر وخنق لحقوقهم القومية. وكان تحقيق حلم التحرير القومي بالنسبة لكثيرين منهم يعني التخلص من هيمنة الكنيسة اليونانية ومن سيطرة الإمبراطورية العثمانية. وأكثر من هذا كانت الوظائف الكنسية وكذا وظائف الأبروشية تحت الهيمنة اليونانية والعثمانية تزداد فساداً فقد كانت الوظائف العليا منها شأن وظائف الحكومة العثمانية تباع لأنها كانت تضفي ثروة عظيمة على من يتولونها. وعلى الرغم من حتى رجل الكنيسة كان يمثل المسيحيين المقهورين إلا أنه كانت له مصلحة في المحافظة على الحالة القائمة وهنا كانت تكمن المفارقة.

والحقيقة حتى اليونانيون لمقد يكونوا يهيمنون على الكنيسة الأرثوذكسية فقط بل لقد كانوا بحلول القرن الثامن عشر يقومون بنشاط ملحوظ في الإدارة العثمانية, فقد كانوا أفضل المسيحيين تعليماً, وكانت براعتهم في اللغات وهي موهبة محل تقدير المسئولين العثمانيين منحتهم ميزات خاصة, وبفضل قدراتهم وطموحهم كان بإمكانهم تولي مراكز مهمة في أنحاء الإمبراطورية. وعلى هذا النحووبحلول القرن التاسع عشر كان اليونانيون يحتكرون ثلاثة وظائف إمارتي الدانوب (مدير إقليم). وكانت تلك الوظائف تدار بقدر كبير من الفساد وبعضها مثل الخوسبدارية كانت تستخدم وسيلة للهيمنة اليونانية سياسياً وثقافياً. وقد عهد هؤلاء اليونانيون الذين تولوا وظائف في الإدارة العثمانية باسم "الفناريون" نسبة إلى "حي الفنار" باستانبول الذي كانت تعيش فيه عائلات كثيرة منهم.

وبالإضافة إلى تلك الوظائف الثلاثة كان اليونانيون ومعهم اليهود الأرمن يتولون الوظائف التجارية الرئيسية في الإمبراطورية. ولأن التجار كانت لديهم فرصة السفر والتفهم تعليماً عالياً فقد سقط عليهم عبء قيادة الحركة القومية اليونانية. وقد استطاعوا بفضل نشاطهم الديني والسياسي والإقتصادي حتى يعقدوا علاقات حميمة مع روسيا بل لقد عمل كثير منهم في خدمة دولة الروس, وأكثر من هذا أنهم حصلوا على حق الإبحار تحت الفهم الروسي بمقتضى معاهدة كوتشك قينارجي 1774.

ويلي اليونانيين في المكانة الرومانيون في إمارتي ولاشيا ومولدافيا حيث تمتعوا بوضع خاص في دوائر الدولة العثمانية. ولأنهم كانوا يعيشون بعيداً نسبياً عن العاصمة استانبول فلم تقع إمارتيهم تحت الحكم العثماني مباشرة حيث لم تكن بلادهم "باشاوية" عثمانية. وكل ما هنالك حتى الحقوق العثمانية في تلك المنطقة تمثلت فقط في احتلال نقاط قوية معينة, وفرض الضريبة, وشغل مناصب الخوسبدارية. ولكن بعد حتى قام بطرس الأكبر قيصر روسيا بغزوأراضي رومانيا (الإمارتان) في 1709 بمساعدة بعض أصحاب المزارع هناك تدهور الوضع السياسي لروماتنيا. وعلى هذا قامت الحكومة العثمانية بتعيين خوسبدار على جميع إمارة من الإمارتين من الفناريين اليونانيين وليس من الرومانيين أهل الإمارتين. وخلال القرن الثامن عشر أصبحت هذه المناصب مصدراً لقوة الموظفين اليونانيين وثروتهم. وعلى هذا كان من الطبيعي حتى تبدأ الحركة الوطنية الرومانية بالعمل ضد السيطرة الثقافية والسياسية لليونانيين.

أما الصربيون والبلغار فقد كانوا يشغلون وظائف أقل ميزة في الإدارة العثمانية وأقل مكانة بالقياس إلى اليونانيين والرومانيين. فالفلاحون عموماً من الشعبين يعيشون تحت ضغط قسوة الفقر, والصربيون يعانون بشدة من حالة الإضطراب الت يسادت نهاية القرن الثامن عشر, والبلغار أشد بؤساً من الصربيين بسبب كثرة الضرائب وأكثر معاناة من الحروب بسبب قرب بلادهم من استانبول على طريق الجيوش العثمانية فضلاً عن حتى كنيستهم شأن الصربيين كانت تقع تحت سيطرة اليونانيين في القرن الثامن عشر


عوامل الثورة

إن معظم الأوضاع التي كانت مثار اعتراض مسيحي البلقان كانت قائمة منذ سيطر العثمانيون على المنطقة وخاصة بعد حتى أخذت الدولة في التدهور. ورغم اندلاع عدة تمردات في الماضي بشكل غير منتظم ومتفرق هنا وهناك, إلا حتى القرن التاسع عشر كان قرن الثورات الوطنية ففي خلال المدة من 1804 إلى 1878 استطاعت الحركات الوطنية الكبرى حتى تحقق قدراً كبيراً من النجاح نتج عنها قيام أربعة دول مستقلة هي: الصرب, واليونان, والجبل الأسود, ورومانيا, وحصلت بلغاريا على حكم ذاتي, واضطر الأبان إلى تنظيم أنفسهم عندما تعرضت بلادهم للتهديد بفهم مجموعات وطنية أخرى, وعندئذ طرح سؤال يقول: لما أصبحت شعوب البلاقن بعد فترة طويلة من تحمل الحكم العثماني قادرة في فترة قصيرة نسبياً على استعادة السيطرة على مستقبلهما السياسي ومصيرها . . ؟. وحيث حتى هذا الكتاب يفترض أن يتعامل مع هذا السؤال فينبغي حتى نوجه عناية خاصة للأحوال التاريخية والأوضاع العامة التي كانت قائمة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ويمكننا حتى ناقش تلك الأحوال تحت عنوانين رئيسيين: أولهما تغير الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية, وثانيهما نموالمعارضة الداخلية والخارجية ضد السلطات العثمانية والحكومة العثمانية المركزية.

التغير الإجتماعي والإقتصادي (التأثيرات السياسية والثقافية) بنهاية القرن الثامن عشر كانت شعوب البلقان قد تأثرت تأثراً قوياً بما كان يحدث في أوروبا فقد كان ذلك القرن عصر انتفاضة اقتصادية في بلاد غرب أوروبا ووسطها, وباعث على التنمية بالتقدم التكنولوجي التي كانت الثورة الصناعية وراءه. وآنذاك بدأ طلب الدول الصناعية على المواد الخام في البلقان يزيد وخاصة بالنسبة للقطن والقمح وأيضاً اللحوم والجلود والشمع والحرير والصوف والدخان والخشب ومنتجات أخرى. وقد تزامن مع هذا الطلب تغير في طبيعة ملكية الأراضي الزراعية في البلقان جاز بغنتاج الفائض الضرورى لإمداد السوق الأوروبي بما يحتاجه.

والحاصل حتى العثمانيين عندما كانوا يدخلون بلداً وينتصرون على أهله يعتبرونها أرض الله, وبما حتى السلطان يعتبر في عهدهم خليفة الله يصبح له حق التصرف في كيفية توزيع الغنائم. والحال كذلك تصبح الأرض "الجديدة" من نصيب السباهية (الفرسان) الذين لهم فضل تحقيق الإنتصارات العسكرية, حيث يحصل جميع قائد عسكري أومسئول إداري وغالباً ماقد يكون مسلماً على بترة أرض تعهد ب"التيمار", منحة لا تورث. وكان على فلاح التيمار حتى يغرس الأرض لقاء الوفاء ببعض الإلتزامات في مقدمتها توريد عشر المحصول (10%) لصاحب التيمار, ودفع الضرائب المقررة, وتقديم بعض الخدمات الإضافية حسب مقتضى الحال. وطالما حتى الفلاح يؤدي ما عليه من إلتزامات فإنه يظل يغرس الأرض باستثناء حالات نادرة, فضلاً عن أنه لم يكن مرتبطأً بالأرض بصفة قانونية شأن الفلاح في النظام الإقطاعي.

ولقد ظل التيمار قائماً كوسيلة إقتصادية للقوة العسكرية العثمانية إلى حتى بدأ استخدام البارود في الحروب وأصبح العسكري المشاة ببندقيته أكثر كفاءة في المعارك من الفارس (السباهي), وعلى هذا أصبحت فوق الإنكشارية (المشاة) السلاح الرئيسي للدولة الذين يتم تجنيدهم أصلاً من بين المسيحيين بنظام الدفشرمة. وكان هؤلاء المجندون الذين يتم تحويلهم إلى الإسلام يضاهون أفضل القوات العسكرية في اوروبا. ورغم حتى المشاة قد أصبحوا أكثر أهمية عسكرياً من السباهية إلا حتى الدولة ظلت تحتفظ بنظام التيمار (الإقطاع) كمصدر للمواد الغذائية والإمدادات العسكرية والضرائب لإعانة الدولة في حروبها. ورغم إلغاء هذا النظام في عام 1831 إلا حتى نظاماً جديداً إقطاعياً حل محله وساد المنطقة ألا وهونظام الجفلك.

وفي ظل نظام التيمار كانت الأعباء المفروضة على استخدام الأرض محدودة وكذا الواجبات المفروضة على زراعها والخدمات المطلوبة منه. وكان بمقدور بعض أفراد معينيين حيازة أرض واسعة المساحة بطرق غير قانوينة وبشروط قريبة عملياً من شروط ملكية الأراضي في مجتمعات أخرى بما فيه ذلك حق التوريث. والحاصل حتى أرض التيمار تحولت إلى أرض جفلك من خلال عمليات مختلفة . . فمالك الجفلك قد يحوز أراضيه بالإستيلاء على عقود الإيجار من مختلف الفلاحين, وقد يحدث ملتزماً (جامع ضرائب) ويستغل وظيفته لإكتساب أراضي. وقد يستخدم عناصر مرتزقة يرهب بها الفلاحين فيأخذ حيازتهم. وكانت الميزة الكبيرة لنظام الجفلك هذا بصرف النظر عن طريقة ملكيته إمكانية التكيف مع طريقة الزراعة الرأسمالية, ومن ثم إمكانية لقاءة الطلب الأوروبي المتزايد على المواد الغذائية والمواد الخام من بلاد البلقان .

ولقد جلب هذا التطور في نظام الأراضي من التيمار إلى الجلفك معه تغيرات اجتماعية وسياسية جوهرية وتحول في ميزان القوة بين الحكومة العثمانية وبين الولايات. ولعل أبرز هذه التحولات ذات المغزى صعود قيادات مسلمة محلية عهدوا بالأعيان إلى صفوف النخبة السياسية. والأعيان هم اللقاء التام للنبلاء المسيحيين واستندت قوتهم على الثروة الإقتصادية الناتجة من ملكية الأرض أوالتجارة, وعلى العلاقة بالحكومة المركزية, فقد كان الواحد من الأعيان شأن النبلاء المسيحيين يعمل وكيلاً للإدارة المركزية في محل إقامته حيث يتولى بعض المسئوليات مثل جمع الضرائب والإشراف على نظام الأرض والمحافظة على الأمن. وعندما ضعفت الحكومة المركزية بسبب كوارث حروب القرن الثامن عشر كان الأعيان قادرون على زيادة استقلالهم في قراهم. وقد زاد من قوتهم أنهم جمعوا قوات خاصة لهم وصل عددها في بعض الأحيان إلى آلاف من الخدم والأتباع استخدموها هذه ضد منافسيهم, وكذا ضد الحكومة, ولإبقاء فلاحي الجفلك تحت السيطرة.

على حتى تغير الأحوال الإقتصادية لم يفد فقط الأعيان بل لقد أفاد أيضاً التجار المسيحيين, ففي القرن الثامن عشر كانت تجارة لنقل البري في انحاء الإمبراطورية في يد الأرثوذكس, وكانت التجارة البحرية في دي اليونانيين واليهود وقد شاركهم في فوائد جميع من الصربيين والبلغار والفلاحين ***Vlachs . وكان هؤلاء يعيدون استثمار ثروتهم من التجارة في مشروعات تجارية أخرى أوتودع في البنوك أوتستخدم في الإقراض الربوي حسب مقتضى أحوال الإمبراطورية. ويلاحظ حتى التجارة مع أوروبا وفرت ثروات متساوية لكل من التجار المسيحيين والأعيان المسلمين حيث استخدمت في تمويل العمليات الزراعية وحماية التجارة. وكان جميع المسيحيين والمسلمين يريدون نظام تجاري حر ومفتوح بين بلاد الإمبراطورية ويعارضون الإشراف الحكومي على التجارة.

أما الفلاح فقد عثر أحواله تتدهور بسرعة إشارة على عكس التجار وأصحاب الإقطاعيات. ففي الجفلك تحول الفلاح إلى مشارك أومنتفع فزادت أعبائه وإلتزماته التي يقدمها تجاه صاحب الأرض زيادة حادة سواء أكانت عملاً (سخرة) أوعيناً (محاصيل). وبدلاً من حتىقد يكون خاضعاً لالتزامات محددة أصبح تحت رحمة صاحب الجفلك الذي يسيطر بدوره على السلطة السياسية في المنطقة, ويستخدم حراس مسلحون لضبط أولئك الذين يعملون في الأرض. ولقد انتشر نظام القرية الجفلك (أوالقرية المجفلكة) في بعض أجود الأراضي الزراعية مثل وادي مارتيزا وأجزاء من البوسنة. أما في المناطق الجبلية والبعيدة كانت عائلات الفلاحين تتمتع بقدر أكبر من السيطرة على الأرض وعلى المراعي وإن كانت عائلات الفلاحين تتمتع بقدر أكبر من السيطرة على الأرض وعلى المراعي وإن كانت الضرائب المفروضة عليها أعلى, وحيازتها غير مؤكدة في بعض الأحيان إذ كانوا بدورهم تحت رحمة أولئك الذين بيدهم السلطة السياسية والبوليسية في الأقليم. لقد كان لغضب الفلاحين الذي لا يمكن تجنبه أوتحاشيه عواقب سياسية في الوقت الذي كانت في قوة الحكومة المركزية تتآكل ولهذا يفترض أن تكون معضلة الأرض وعدم لإستقرار الفلاحين الموضوع الأساسي في الصفحات التالية.

ولأن أصحاب الجفالك كانوا مسلمون غالباً وإن لمقد يكونوا دائماً كذلك والفلاحون مسيحيون فقد اختلطت مواقف الفلاحين بمشاعر الكراهية الدينية. ولقد كانت الأوضاع السيئة للفلاحين تدفعهم للهروب من الأرض, أوالعمل تحت قيادة أحد العسكريين الأقوياء وبهذا زاد عدد العصابات المسيحية المسلحة شأن أتباع الأعيان. وفي الوقت نفسه كانت هناك مجموعات أخرى خارجة على القانون تتمتع بشهرة رومانسية مثل الهايدوكيون Haiduks والكلفتيون Klephts, بل لقد زاد عدد الرجال المسلمون ومسيحيون الذين لديهم الإرادة والسلاح للدخول في معارك.

ولم يتوقف أمر الغضب على الفلاحين فقط بل لقد أصيب أصحاب الحرف في المدن بكثير من الأذى بسبب التطورات الإقتصادية, فلقد أدت زيادة المنتجات الأوروبية المستوردة ذات الجودة العالية والثمن الرخيص إلى الإضرار بمصالح الحرفيين من جميع العقائد والقوميات في الوقت الذي فشلت فيه الحكومة العثمانية في اتخاذ إجراءات لحماية المنتجات المحلية. والحقيقة أنه في القرن الثامن عشر تبلورات عملية كانت قد بلغت ذروتها قبل قرن من الزمان ألا وهي حتى الإمبراطورية العثمانية أصبحت مصدراً للمواد الخام وسوقاً لمنتجات الغرب وكان من تداعياتها تحطيم الطاقة الصناعية داخل الإمبراطورية.

ورغم حتى التجار الأرثوذكس أفادوا كثيراً من تلك الأوضاع إلا حتى اتصالاتهم المتزايدة مع بلاد غرب أوروبا ووسطها كان لها تأثير ثوري على عالم البلقان. وبسبب مسقط بلاد اليونان الجغرافي ومصالح اليونانيين البحرية كان بعضهم على صلة وثيقة بالتطورات الثقافية في أوروبا. وفي القرن الثامن عشر أيضاً أتيحت فرص مماثلة لشعوب مسيحية أخرى في البلقان كما كان لأفكار التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية فيما بعد تأثيرها على موقف بعض الرعايا ليس فقط ضد الحكومة العثمانية بل تجاه كنيستهم أيضاً. ورغم حقيقة حتى الكنيسة الرثوذكسية كانت عنصراً أساسياً في المحافظة علفى الوعي بالذات المسيحية إلا أنها كانت أيضاً جزءً من النظام العثماني. ففي الماضي وقفت بشدة ضد النفوذ الغربي وكانت ترى في الكاثوليكية عدوها الرئيسي. وكان من شأن المذاهب الجديدة تقوية المعتقدات القومية لدى زعماء البلقان بل زودتهم بنظرية فهمانية سائدة. ولقد قدر للكنيسة الأرثوذكسية وخاصة صغار رجالها حتى يقوموا بدور مهم في الحركة الثورية وإن سقطت قيادتها في أيدي آخرين.

وعندما وقع الإحياء الثقافي احتل اليونانيين مسقطاً ريادياً فيها, وكان التجار اليونانيين في السابق يرغبون في استثمار جانباً من أرباحهم في إنشاء المدارس حيث أدركوا قيمة إرسال أولاادهم للتفهم في أوروبا, ومن ثم فقد كانوا أول شعوب البلقان في تأسيس نظام التعليم الفهماني على النموذج الغربي. ورغم حتى سائر شعوب البلقان من الفهمانيين أومن الكنسيين هاجموا اليونايين بسبب احتكارهم عملية التعليم, إلا حتى المدارس اليونانية أتاحت لكل المسيحيين الفرصة لتوسيع معارفهم عن العالم رغم حتى لتعليم كان يتم باليونانية. إلى غير ذلك مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر اشهجرت شعوب البلقان الأخرى في اليقظة الثقافية القومية التي كان لها مغزى كبير للحركة الثورية في المستقبل. ورغم قلة عدد هؤلاء بشكل ملحوظ ومحدودية تأثيرهم المباشر على مجمل الأحوال إلا حتى الباحثين والكتاب ونادىة القومية عبروا عن مصالح قوميتهم, واهتموا اهتماماً بالغاً بلغتهم القومية من تاريخهم كما كانوا على دراية جيدة بالتنوير. ويتعين التعريف بهؤلاء الرجال لأهمية جميع منهم في الحركة الوطنية والإيدلوجية القومية فيما بعد.

وفي هذا المقام يأتي آدمانتيوس كورايس Adamantios Koraes, وريجاس فيرايوس Rhigas Pheraios في المقدمة اليونانيين الذين لا نظير لهما. وقد ولد كورايس في 1748 وخط معظم أعماله وهوفي باريس ودخلت مؤلفاته لل{اضي العثمانية. ولأنه كان متعاطفاً مع الملامح العقلية المعادية للكنيسة في حركة التنوير فقد سعى لإحياء التراث الكلاسيكي اليوناني في عقول اليونانيين وكذا الحضارة اليوناينى باعتبارها أصل اليونانيين المحدثين. وقد كان ناقداً متطرفاً للكنيسة الأرثوذكسية, ومن أعماله التي لها مغزاها بالنسبة للمستقبل "المقدمات" التي حررها للخط اليونانية الكلاسيكية عند إعادة نشرها. وحيث أنه لم يكن يرضى عن لغة اليونانيين المعاصرين له نراه يحاول إيجاد لغة أدبية تتصل بأشكال اليونانية القديمة. إلى غير ذلك بدأ الرجل عملية الإنشقاق اللغوي بين لغة الكتابة كاثيريفوزا Katharevousa ولغة الحديث الديموتقية (العامية) لكنها كانت محاولة غير ناجحة. وعلى عكس كواريس الباحث كان ريجاس مهيجاً ثورياً وصحفياً يخط في المشكلات الحيوية, ولقد في 1757 وسافر كثيراً, وترجم أعمالاً فرنسية إلى العامية اليونانية, واشهجر بشكل دائم في مؤمرات كثيرة حتى اعتقلته حكومة النمسا وسلمته إلى السلطات العثمانية التي أعدمته في 1798 بسبب تصرفاته, فأصبح بطلاً يونانياً وشهيداً قومياً وانتشرت كتاباته الثورية بشكل هائل.

وفي الصرب قام الباحثان دوشيتي أوبرادوفيتش Dositej Obradovic, وفوك كارديزتش Vuk Karadzic بجهود مماثلة لما قام به كواريس في بلاد اليونان. وقد ولد أوبرادوفيتش عام 1743 في بانات Banat وقد بدأ حياته راهباً ثم سافر إلى عدة جهات وأصبح على دراية بالفكر الأوروبي. وقد اهتم اهتماماً عميقاً بمسألة اللغة وكان يرغب حتىقد يكون للصرب أدب يخط بلهجتهم, وهي رغبة نفذها كاراديزتش فيما بعد الذي يعتبر "أب" اللغة الصربية الحديثة. وقد اهتم شأن أوبرادوفيتش بالتراث الثقافي الصربي, وجمع الشعر الشعبي الصربي والقصص, والأكثر أهمية قيامه بتأليف قواعد وقاموس للهجة بلاد الهرسك التي كانت مفضلة لديه وقد أصبحت لغة الكتابة عند الصرب والكروات فيما بعد قريبة للغة الحديث بعكس اليونانية.

أما في ولاشيا ومولدافيا (إمارتا الدانوب-رومانيا) وبلغاريا فقد تأخر ظهور مثل هذه التطورات الثقافية اللغوية بسبب هيمنة اليونانيين على الحياة الثقافية هناك. فقد كانت اليونانية اللغة الرئيسية للثقافة والتعليم في ولاشيا ومولدافيا في القرن الثامن عشر بسبب خضوعهما ليسطرة الأمراء الفنارين (أي اليونانيون) حتى حلت الفرنسية محلها بدرجة ما فيما بعد. ومن خلال الفرنسية تسللت الأفكار الغربية وآدابها أمام تأخر تطور اللغة القومية في البلاد. أما إحياء الثقافة البلغارية فقد وقع فيما بعد وفي هذا الخصوص فإن المؤرخين البلغاريين المعاصرين يشيرون إلى أعمال رائدة لمحررين بلغاريين وهما" الأب بايزي Paisii والأسقف صوفروني Sofronii من فراتزا Vartsa. ففي 1762 وكان بايزي راهباً في جبل آثور Athos خط تاريخاً قومياً رائعاً لبلغاريا تم نسخه عدة نسخ فيما بعد وتداولها الناس. أما صوفروني فقد بدأ حياته مفهماً مدرسياً في كوتل Kotel ثم انتقل في 1802 إلى بوخارست حيث المناخ أكثر حرية. وعندما أصبح يخط أعماله باللهجة البلغاريةمن بينها مذكرات "حياة صوفروني" الآثم وآلامه", و"كتاب الأحد" وهومجموعة مواعظ وعظات.

إلى غير ذلك ففي نهاية القرن الثامن عشر حدثت تغيرات إجتماعية وإقتصادية وفكرية في بلاد البلقان لصالح أقسام بعينها من المسيحيين على الأقل تزامن معها وقوع سلسلة من الأحداث هددت بتفكيك الحكومة العثمانية في المركز نفسه أي العاصمة استانبول, إذ تعرض الباب العالي للهجوم من جانبين: الأعيان (المسلمون) بما يملكونه في الريف من نفوذ وقوات خاصة, والقوى الدولية الكبرى التي كانت تواصل ضغطها على الممتلكات العثمانية.


التهديدات الداخلية والخارجية (الأعيان والقوى الكبرى)

الأعيان

ربما اتىت أكبر الأخطار التي تحدت الدولة العثمانية في ذلك الوقت من جانب الأعيان المسلمين في المقام الأول وليس من القوى الأوروبية أومن رعاياها المسيحيين الغاضبين. وبسبب الإضطرابات التي أحدثتها الحروب والغليان الداخلي في البلقان كان الناس في حاجة إلى من يحميهم. وأكثر من هذا ففي بعض الأماكن أصبح الأمراء المحليون زعماء شعبين لأنهم ظهروا بمظهر الذي يحول بين السكان وبين السلطة المركزية العثمانية التي اتسمكت آنذاك بالجشع غير المعقول. ولما عجزت الحكومة عن إخضاع هؤلاء الزعماء للإعتراف بهم وعينتهم في وظائف رسمية, بل لقد اضطر الباب العالي أمام ضغط الأزمات المدنية والعسكرية إلى استخدام القوات غير النظامية بل والعصابات المحلية حين ضعفت كفاءة الجيش النظامي, ومن هنا حصل الأمراء المحليون على وظائف عسكرية علياً. وأمام عجز الحكومة عن السيطرة على الأعيان بشكل مباشر وجدت حتى أفضل وسيلة تأليب بعضهم على بعض حتى يحدث توازن في القوة. وتلك السياسة في أحسن الأحوال كانت لعبة خطرة ذلك أنه في اللقاء كان أولئك الأعيان يقومون بمساندة القوى المعادية للحكومة مثل الإنكشارية المتمردة.

والحقيقة حتى القيادات العثمانية ذاتها أدركت ضعفها العسكري, وكانوا منشغلين بتدهور قوة دولتهم قبل حتى يدركها خصوم الدولة في الداخل والخارج.وبالتالي لم تعد المسألة هي الحاجة إلى الإصلاح التي كانت واضحة بقدر ما كانت البحث عن الطريق الذي ينبغي حتى تسلكه الدولة لتحقيق الإصلاح. وكان البعض يرى حتى مكمن الضعف في الإمبراطورية يعود إلى انحرافها عن الممارسات التقليدية, وأنه يجب استعادة الأوضاع السابقة. وعلى العكس من ذلك كان هناك تيار قوي رأى أصحابه وجوب حتى تتخلى الدولة عن أساليب التنطقيد القديمة في الحكم والأخذ بنظام الؤسسات الغربية.

لكن المحاولات الأولى للإصلاح أخفقت بسبب معارضة النبلاء المحليين رغبة منها في استغفلال كوارث الفترة لصالحهم. وكان السلطان سليم الثالث الذي اعتلى السلطنة في 1789 هوأول سلطان يتجه لللإصلاح فقد أتاحت له فترة من الهدوء والسلام خلال عام 1792 من حتى يقترب من مسألة إعادة تنظيم الجيش الذي كان تدريبه يتم بفهم الفرنسيين وكانت الحكومة الفرنسية ما تزال راغبة في استمرار تقديم هذه المساعدة والواقع حتى الفرق الإنكشارية كانت هي مظهر ضعف القوات العثمانية حيث أصبحت جناحاً سياسياً منظماً له نفوذ في الحياة السياسية ويمثل خطراً محتملاً في الشؤون الداخلية أكثر من كونها مجرد قوة عسكرية تقوم بدورها إزاء التهديدات الحارجية. وعلى هذا استهدف سليم من الإصلاح تطوين قوة مشاة جديدة موازية لكي تنافس الإنكشارية عهدت باسم "النظام الجديد" تلقى أفرادها تدريباً على الأسس الغبربية بما فيه إرتداء الزي العسكري. وقد ضم منهج الإصلاح عنده إرساء سياسات ضريبية وإدارية جديدة لكن الإصلاح العسكري كان أكثر أهمية.

ولكن من سوء حظ الدولة العثمانية حتى سليم كان أضعف من حتى يقوم بتطبيق أفكاره الإصلاحية إذ لم يكن يملك تجهيزات مناسبة لما ينويه من إصلاحات, ولم تكن بجانبه مجموعة قوية من المؤيدين تتولى تطبيق التغييرات المطلوبة التي تعارضها العناصر لها مصلحة في بقاء النظام القديم. إلى غير ذلك بقيت الإنكشارية تمثل خطراً سياسياً كبيراً يمكنها تهديد حكومة السلطان في الداخل وفي القوت نفسه تعجز عن هزيمة أعدائه في الخارج.

وأكثر من هذا ففي 1807 سقط صراع حاسم بين انصار السلطان سليم الثالث ومعارضيه من المحافظين الإنكشارية والأعيان, وكانت الدولة في حرب مع روسيا وفي الوقت نفسه سقط تمرد في بلاد الصرب كما يفترض أن نرى وانتهى الأمر بوقوع انتفاضة عسكرية في مايو1807 أطاحت بالسلطان واعتلى العرش محله مصطفى الرابع في يولية من العام نفسه الذي أبقى على خياة سليم, ونشأ نظام حديث هيمنت على أركانه عناصر من المحافظين ومن الإنكشارية المسلمون بطبيعة الحال. لكن ما لبث أنصار سليم ومؤيدوالإصلاح حتى تجمعوا في في روزيه Ruse تحت قيادة مصطفى باشا البيرقدار الذي هونفسه من الأعيان, وتحرك بقواته تجاه استنبول فما كان من مصطفى الرابع إلا حتى اغتال سليم لكن الحركة نجحت في التخلص من مصطفى الرابع وتولية محمود الثاني ابن عم سليم الحكم, ومات مصطفى باشا البيرقدار في العام نفسه وظل محمود الثاني في الحكم حتى عام 1838 وكان أول سلطان ينجح في تحقيق الإصلاح.

لقد نجح تمرد 1807 في الإستيلاء على الحكومة المركزية وأما حركات التمرد الأخرى التي قام بها الأعيان والإنكشارية والغاضبون من المسلمين فقد هددت بتقطسع أوصال الدولة. ورغم حتى هذا الكتاب معني أساساً بقوميات البلقان المسيحية, إلا أنه من الأهمية بمكان حتى نستعرض نشاط ثلاثة حركات تمرد ضد سلطة الدولة قام بها جميع من بشفان أوغلوعثمان باشا, وعلي باشا اليانيني نسبة إلى يانينا Janina, ومحمد علي باشا (والي مصر) لأن تمردهم تشابك مع ثورات مسيحي البلاقان, بل إذا تاريخ حياة جميع منهم له أهميته من حيث تصوير مناخ الحياة في البلقان في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الذي تمخض عن انتفاضة المسلمين والمسيحيين ضد الدولة. كماهوحال الزعماء القوميين عادة كان جميع منهم يسعى لإقامة حكم مستقل لبلاده بالإنفصال عن الدولة العثمانية أوالفوز بحكم ذاتي على الأقل.

كان لتاريخ بشفان اوغلوعثمان باشا تأثيراً على بدايات ثورة بلاد الصرب وعلى التاريخ القومي لكل من بلغاريا ورومانيا, فعندما أ‘دمت الحكومة العثمانية والده فر هارباً وانضم إلى المجموعات الخارجة على القانون, ثم حارب إلى جانب الجيش العثماني فيما بعد في حرب 1787-1792. وقد أقام لنشاطه مركزاً في مدينة فيدين على الدانوب جمع فيه قوة كبيرة من قطاع الطرق والمارقين المرتدين. وفي 1795 أعرب استقلاله عن الحكومة العثمانية وظل في ثورة مستمرة ضدها كما يفترض أن نرى عندما نتناول ثورة الصرب.

أما نشاط علي باشا اليانيني الذي يشبه نشاط بشفان اوغلوفكان هوالآخر شيئاً رائعاً فقد ولد في 1750 في تبلينه Teplene في ايبروس (المورة) وعندما توفي والده لم يجد أمامه إلا حتىقد يكون قاطع طريق. وبعد عدة مغامرات تتناسب مع شبتبيته استطاع حتى يؤسس له قاعدة في يانينا, وتمكن من زيادة قوته وعدد أتباعه عن طريق المكائد والدسائس أحياناً والعنف أحياناً أخر. وفي بداية نشاطه عمل في خدمة الباب العالي واستخدم مواقعه الوظيفية في تقوية نفوذه الشخصي. وعلى هذا وفي 1788 أصبح حاكماً على يانينا حيث تمكن من أعطى سلطته على الإقليم وعلى الأراضي المحيطة بها في تساليا وايبروس وألبانيا. ورغم حتى المساحة التي كانت تحت سيطرته لم تكن ثابتة خلال السنوات التالية, إلا أنها كانت دائماً كافية لتكون مركز قوة لحكم شبه مستقل. وفي 1799 كان الباب العالي في حاجة ماسة لمساعدة من الرجل نراه يقدم على تعيينه حاكماً على روميليا وهومنصب تولاه أكثر من مرة وفقده أكثر من مرة أيضاً. أما المساعدة التي طلبها الباب العالي منه فكانت التصدي لحركة بشفان اوغلووقطاع الطرق وزعماء الأعيان, ولما كان اليانيني مهتم بمصالحه الخاصة رأيناه يحتفظ بعلاقات وثيقة مع فرنسا بل لقد قدم مساعدة للباب العالي في 1809 أثناء الحرب ضد روسيا.

وبناء على المساعدات التي كان اليانيني يقدمها للحكم العثماني فقد كان يتصرف كحاكم مستقل من ايبروس له سيادة ومع ذلك تغاضى الباب العالي عن تصرفات الرجل ولم يحاول التخلص منه كما هومتسقط في مثل تلك الحالات. ولكن في عام 1820 وفي ظروف مواتية قام الباب العالي بالتحرك براً وبحراً ضد اليانيني الذي حصن نفسه بعقد اتفاقات مع نبلاء اليونان وأخذ يشجع شعوب البلقان الأخرى على الثورة. لكنه لم يتمكن من لقاءة القوات العثمانية فاضطر إلى الإنسحاب إلى يانينا قاعدته الأولى فحاصرته القوات العثمانية حتى توفي في يناير 1822 أثناء الحصار.

أما محمد علي باشا في مصر فكان أكثر تلك الزعامات نجاحاً ورغم أنه أخفق في تحقيق أهدافه الطموحة, إلا حتى أبناءه ظلوا يحكمون مصر حتى 1952. وقج ولد في مقدونيا في 1769 من عائلة هجرية-ألبانية, واتى إلى مصر على رأس فرقة ألبانية لإخراج الفرنسيين (1801), وبقى في مصر بعد خروج الفرنسيين ثم بزغ نجمه في الوظائف الإدارية والمهمام العسكرية. ولما كان أستاذا في الدسائس والمؤمرات التي كانت قد تفشت في أنحاء الإمبراطورية العثمانية فقد استطاع إبعاد منافسيه حتى أصبح والياً على مصر في 1805. وخلال الفترة الأولى من ولايته بقى في خدمة الباب العالي مثلما عمل علي باشا اليانيني وفي الوقت نفسه استخدم منصبه الرسمي في تأمين وضعه الشخصي وتقويته. وبفضل مساعدة إبنه إبراهيم باشا تمكن من ضم السودان وإخماد المتمردين في الجزيرة العربية (الحركة الوهابية).

وفي 1825 وعده الباب العالي بالحصول على جزيرة كريت وحصول إبنه إبراهيم على حكم المورة في لقاء القضاء على التمرد في بلاد اليونان الذي عجزت الدولة عن لقاءته. ورغم حتى قوات محمد علي نجحت في القضاء على التمرد, إلا حتى هزيمة العثمانيين في الحرب مع روسيا 1828-1829 حرمت محمد علي من المكافأة الموعودة. وبسبب هذه النكسة التي ألمت به ورغبته في ضم مزيد من المناطق تحت حكمه قام بغزوبلاد الشام في 1832 وتسبب في كثير من الأزمات لأوروبا. وآنذاك بدت نيته في إيجاد مملكة عربية عظمى مركزها البحر الأحمر وتضم مصر والسودان والجزيرة العربية. وباستثناء كريت والمورة لم يكن محمد علي يهدد بلاد البلقان حيث يقيم المسيحيين بشكل مباشر. على حتى محمد علي شأن بشفان اوغلو, وعلي باشا اليانيني كان يمثل محاولة في تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية وتفتيتها وذلك بتكوين دول منفصلة تحت حكم قادة عسكريون مسلمون. غير حتى محمد علي بجيشه العرم الضخم وطبيعة حكمه كان يمثل تهديداً لوجود الدولة العثمانية أكثر مما كانت تمثله ثورات الصربيين واليونانيين.


تحدي القوى العظمى

في الوقت الذي كان الباب العالي يقابل فيه التفكيك الداخلي كان عليه حتى يقابل تجدد هجمات القوى الخارجية, فعندما اعتلى سليم الثالث العرش في 1789 كانت حكومته ما تزال في حرب مع النمسا التي كانت قد احتلت بلجراد ثم أعادتها بمقتضى معاهدة سيستوفا Sistova في 1791 لقاء حتى تأخذ النمسا البوسنة, والحرب مع روسيا التي كانت قواتها تتحرك بطول الدانوب إلى حتى تم عقد صلح ياصي Jassy في 1792 وبمقتضاه مدت روسيا أرضيها حتى نهر الدنيستر Dinester وتنازلت عن مولدافيا وولاشيا التي كانت قد احتلتهما. وتعتبر هاتان المعاهدتان خاتمة لقرن من التعاون المتبتر بين النمسا وروسيا ضد العثمانيين, ولكن وبعد انقضاء ثمانين عاماً عليهما هاتين تعاونت الدولتان مرة أخرى للاتفاق على كيفية تقسيم أراضي الدولة العثمانية, وكانت ثمة ظروف قد حالت دون استمرار التعاون.

والحاصل حتى القوى العظمى صرفت انتباها عما يحدث في بلاد الشرق الأوسط وركزت اهتمامها على بولندا ثم على فرنسا الثورة, وكانت بولندا قد تعرضت للتقسيم على ثلاث مراحل في 1772, 1793, 1795, واشتعلت الحرب في أوروبا عام 1792. وعلى هذا ظل الهجريز الأساسي للعلاقات الأوروبية قائماً على ما يدور في القارة الأوروبية من أحداث كانت لها تداعيات واسعة في جميع من البلقان وشرق البحر المتوسط. ففي 1779 وبمقتضى معاهدة كامبوفورميوCampo Formio ضمت فرنسا جزر أيونيا مما كان له تأثيره على ثورة اليونانيين, وحصلت النمسا على بقايا أراضي البندقية وبهذا تم وضع حد للقوى البحرية المستقلة (البندقية) التي كانت في السابق أكبر غريم للعثمانيين.

في يوليو1798 بدأت فترة من التدخل الفرنسي المباشر في الولايات العثمانية عندما غزا بونابرت مصر وانهزمت أمام جيوشه عساكر المماليك بسرعة إشارة وأصبح الباب العالي طرفاً في الصراع ضد فرنسا مع بريطانيا التي ساءها انفراد فرنسا باحتلال مصر, وانتهى الأمر بمعاهدة صلح بين فرنسا وانجلترا في 1802 نصت فيما نصت على خروج الإنجليز من مصر وظلت تلك المعاهدة فاعلة حتى 1806.

على جميع حال . . ففي فترة التدخل الفرنسي في شؤون الولايات العثمانية زاد نفوذ فرنسا زيادة إشارة في السياسة العثمانية حتى لقد ارتبطت الدولة العثمانية بفرنسا ضد جميع من روسيا وبريطانيا. ورغم حتى الفترة من 1806-1812 لم تشهد معارك مستمرة بين روسيا والدولة العثمانية إلا حتى روسيا حاولت استغلال الفرصة لزيادة نفوذها في الصرب وإمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا-رومانيا فيما بعد). وقد انتهى الصراع بين الدولتين بمعاهدة بوخارست 1812 اكتفت فيها روسيا بتنازل الدولةالعثمانية عن بسارابيا والإنسحاب من إمارتي الدانوب برغم موقف العثمانيين الضعيف لأن روسيا كانت معنية آنذاك بأمر غزوبونابرت لأراضيها.وكانت خسائر العثمانيين في هذه التسوية يعد أول تغيير في حدودها نتيجة لحروب الثورة الفرنسية في أوروبا بقايدة بونابرت, وأكثر من هذا حتى تسوية فيينا (1815) بعد هزيمة بونابرت والتي لم تحضرها الدولةالعثمانية قضت بمنح جزر أوينيا لبريطانيا, وساحل دلماشيا لنمسا فكانت بمثابة الإقتطاع الثاني من آفاق الدولة العثمانية.

لقد كان مؤتمر فيينا بداية فترة من السلام النسبي بين القوى العظمى في أوروبا دامت قرناً منالزمان فقدت خلاله الدولةالعثمانية معظم ممتلكاتها في أوروبا وأثبتت الأيام عجزها عن الدفاع عن وحدة ممتلكاتها أوحتى صيانة استقلالها السياسي دون مساعدة خارجية, ولم تبق دولة عثمانية قائمة إلا بسبب مسقط أراضيها الإستراتيجي والحيوي لصالح توسع الدول اللإمبرالية. وفي هذا الخصوص احتلت روسيا وبريطاينا أهمية خاصة إذ أصبح صراعهما على الدلوة العثمانية وعلى البلقان جزء من السباق الإمبرايالي الكبير الذي اندلع بين هاتين الدولتين وامتدت ميادينه من شرق البحر المتوسط إلى الصين مروراً بأسيا الصغرى.

والحاصل حتى بريطانيا كانت قد استمدت سيطرتها على الهند في القرن الثامن عشر واعتبرتها درة التاج البريطاني, وأصبحت الدولة التجارية والصناعية الأولى في العالم وسيدة البحار ومن ثم كانت تخشى حتى ينتزع منها أحد تلك المكانة. وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت ترى حتى فرنسا زمن بونابرت هي منافستها الرئيسية في العالم بما في ذلك بلاد الشرق الأدنى, ثم أصبحت روسيا هي المنافس بعد القضاء على بونابرت وقبل إعلان دولة ألمانيا. وكانت أراضي الدولة العثمانية من وجهة نظر بريطانيا تمثل مفتاح توسعها الإمبرايالي تجارياً وبحرياً دفاعاً عن الهند ولهذا كانت تخشى دوماً حتى تستولي روسيا على تلك الأراضي سواء بالغزوالمباشر أوبالسيطرة على الحكومة العثمانية أوبإقامة دولة بلقانية تابعة لها. وبسبب هذا الخوف ظلت بريطانيا تحمل شعار وحدة الأراضي العثمانية وتكاملها طوال القرن التاسع عشر ويقوم سفيرها في استنبول بالضغط على الحكومة العثمانية لإصلاح نظام الحكم والإدارة فيها والسعي للتوفيق بينها وبين شعوب البلقان حفاظاً على الاستقرار.

أما وضع روسيا بالنسبة للدولة العثمانية فكان أكثر تعقيدأ فبعد حتى ابتلعت روسيا بساربيا في 1812 كما راينا لم تضع في حساباتها حتى تضم أراضي عثمانية أخرى رغم الفرص التي أتيحت لها لمد نفوذها هنا وهناك فمثلاً كان من الممكن حتى تستثمر الحركات القومية بين شعوب البلقان التي كانت تعتبر روسيا أعظم قوة أرثوذكسية وهوشعور كانت روسيا تغذيه حدثا سنحت الفرصةوففي معاهدة كوتشك قينارجي 1774 مع الدولة العثمانية نجحت روسيا في حتى تضع بذرة لنوع من إنادىئها الحماية الدينية للأارثوذكس ولوبشكل ملتبس وغامض. ولم مسيحيوالبلقان ينتظرون فقط المساعدة ن روسيا بل لقد كانت هناك عناصر مهمة بين الروس أنفسهم انجذبت بشدة لفكرة تقديم المساعدة للحركات القومية في البقلان على أسس أرثوذكسية وسلافية. إلى غير ذلك وجدت حكومة روسيا نفسها تحت ضغط استغاثات البلقانيين من جهة وتحت ضغط الرأي العام في الداخل من جهة أخرى للقيام بشي ما للقاءة القهر الذي يتعرض له المسيحيون في البلقان والسلافيون بشكل عام.

وفي جميع الأحوال كانت روسيا تحت إغراء التدخل في الشؤون لعثمانية بطريقة أوبأخرى لتحقيق مكانة ممتازة من ناحية ولتوسيع دائرة قوتها ونفوذها من ناحية أخرى, لم تكن تتصور شأن بريطانيا حتى ترى قوة أخرىة تسيطر على البقان. وفي هذا الخصوص كانت روسيا تملك عدة أسلحة قوية في التعامل مع الباب العالي في مقدمتها القوة العسكرية الضخمة والحركات القومية في البلقان. غير حتى قادة روسيا كانوا يفضلون إتباع السياسة التي تم إقرارها في معاهدة خونكارية اسكله سي في 1833 التي تقوم على السيطرة على الدولة العثمانية من الداخل.

أما النمسا فكان موقفها بالنسبة للقوى العظمى التي كانت معينة بشؤون البلقان هوالموقف الأضعف نسبياً فيما يبدو, فباعتبارها إمبراطورية متعددة القوميات فإنها قد تكسب قليلاً إذا ما وقع تغيير في أوضاع الممتلكات العثمانية, ومن ناحية أخرى فإن استيلائها على أرضي جديدة في البقلان قد يزيد من مشكلات الأقليات القومية التي تحت سيادتها, ومن ناحية ثالثة فإن تأسيس دول مستقلة في البلقان العثماني قد يشجع مختلف المجموعات القومية تحت حكمها على السير في الطريق نفسه. ورغم حتى النمسا كانت تتعاون مع روسيا في إطار سياسة توازن القوى إلا حتى قادة النمسا كانوا يدركون في الوقت نفسه مخاطر هذا الطريق إذ لمقد يكونوا يعتقدون ابدأ بغمكانية هزيمة جيوش روسيا إذا ما اندلعت حرب البلقان بسبب أزمة حقيقية. وعلى هذا وفي إطار تفضيل النمسا لمبدأ المحافظة على وضع الدوةل العثمانية وممتلكاتها كان عليها حتى تتعاون مع بريطانيا التي كانت تخشى مثلها توسيع روسيا, وهوتعاون إذا ما تم وضعه في صيغة تحالف فإن النمسا يفترض أن تتحمل الأعباء العسكرية والمخاطر الحقيقية في قيام حرب ضد روسيا على حين يفترض أن تكون الحاجة للبحرية البريطانية منعدمة أوضئيلة في حالة الحرب البرية ضد روسيا.

أما فرنسا بعد الحروب النابوليونية ورغم مكانتها الهائلة في القرون السابقة إلا أنهما كانت أقل نفوذاً في الإمبراطورية العثمانية بالقياس للقوى الثلاثة الأخرى (روسيا والنمسا وبريطانيا). ورغم حتى إيديولوجية الثورة الفرنسية لعبت دوراً كبيراً في الحركات القومية في البلقان إلا حتى فرنسا نفسها خلال الفترة من 1815-1848 لم تعد مركزاً للتهيج والإثارة ومع هذا كانت فرنسا في عهد نابليون الثالث تساند الحركات القومةي في البلقان غير حتى فرنسا بدون جيش على المسرح السياسي وأسطول بحري أقل درجة من أسطول منافستها بريطانيا ترددت في التدخل في صراعات الشرق الأدنى. وفي الوقت نفسه كان لها أهداف في أجزاء منن الإمبراطورية العثمانية . . ففي 1830 احتلت الجزائر, وازدادد نفوذها في مصر, وفي أربعينات وستينات القرن التاسع عشر تدخلت في سوريا ولبنان ولما كانت ترغب في توسيع إمبراطوريتها في إفريقيا وآسيا فقد كانت تساند عادة تكون الدول القومية, وإضعاف الحكومة المركزية, وتعارض أى سياسة قد تؤدي إلى انفراد روسيا أوبريطانيا وخصوصاً في البلقان.

ولما كانت الإمبراطورية العثمانية عاجزة بمفردها عن الدفاع عن نفسها ضد الدول الأوروبية الطامعة فيها فقد اضطرت لأن تتبنى سياسة للتوازن بين القوى العظمى حفاظاً على مصالحها عن طريق ضرب تلك القوى بعضها بالبعض الآخر حدثا أمكن ذلك. ولكن في القرن التاسع عشر كان واضحاً حتى الدولة تخسر في هذا الصراع إذ نراها تضطر لتقديم تنازل سياسياً وإقتصادياً لصالح أوروبا. وفي الوقت نفسه كانت الحركات القومية في البلقان العثماني تحقق تقدماً ملحوظاً بفضل مساندة إحدى الدول الأوروبية أوجميع من الدول الأوروبية مجتمعة. ورغم حتى مسيحي البلقان هم الذين بدأوا الثورة إلا أ، القوى العظمى هي التي صنعت في النهاية خريطة الدول القومية الجديدة بحدودها وشكل حكومتها. وفي هذا الخصوص كان الزعماء الأوروبيون في الإجراءات التي اتخذوها أبعد ماقد يكونوا عن الإيثار ونكران الذات إذ وضعوا في إعتبارهم مصالحهم الخاصة والمحافظة على توازن القوى, وهي اعتبارات كانت تستخمها في مختلف مغامراتها الإستعمارية ولم يكن أمام الإمبراطورية العثمانية بل ودول البلقان الجديدة إلا الخضوع لها.

إلى غير ذلك . . وبحلول القرن التاسع عشر كانت الأحوال السائدة في البلقان في صالح تمرد المسيحيين, ولم يكن باستطاعة الحكومة العثمانية السيطرة على النبلاء المتمردين أوهزيمة الجيوس الأجنبية. وأثناء اضطراب المواقف تمكنت قايدات عسكرية قوية من السيطرة على مراكز السلطة المحلية مما ساعد على بلورة تنطقيد التمرد. ومن هذا المناخ وتلك الظروف انبثقت حركات التمرد عند مسيحي البلقان. وكانت ثورة الصرب أول الثورات اتصالاً بمعنى فشل الحكومة العثمانية في المحافظة على سلطتها في المراكز المحلية وكذا ضعفها أمام خصومها.


الهوامش

مصطلح الباب أوالباب العالي كان يطلق على الحكومة العثمانية ويشير إلى المبنى الذي يضم الممحرر الحكومية الرئيسية وكذا الإدارات. كانت السلطة العثمانية في البلقان تأخذ خمس سنوات تقريباً صبياً من جميع أربعة صبية بين عمر عشر سنوات إلى عشرين سنة من المسيحيين كضريبة راس خاصة. وهذه الضريبة كانت تعهد بالدفشرمة حيث يتحول الصبي إلى الإسلام ويتم تعليمه وتربيته أفضل تربية في معسكرات خاصة وبعدها يعين في أعلى الوظائف في الإمبراطورية ويبقى آخرون في الفرق الإنكشارية ثم انتهى هذا النظام في القرن السابع عشر. الفلاخيون يتكونون من ثلاثة أقسام :كوتزوفلاخيون Kutzovachs, وأرومانيون Arumanians, وتنزنتساريون Tsintsars, وهم شعوب سبه بدوية من أصول رومانية قديمة كانت تعيش في البلقان وتعمل بالتجارة ورعي الغنم والبقر.

تاريخ النشر: 2020-06-04 07:25:52
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

ناصر بوريطة يتباحث مع نظيره الأرجنتيني

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:20
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 35%

الأسهم البريطانية تغلق على انخفاض 

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:22
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 44%

"المهن الموسيقية" تعلق على تنظيم حمو بيكا مسابقة لاكتشاف المواهب

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:02
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 57%

«الطاقة الدولية»: ضخ 61 مليون برميل من النفط لدعم الأسعار

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:23
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 35%

وزير الخارجية يبحث مع نظيره الروسي الأزمة في أوكرانيا

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:16
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 47%

تدهور الوضع الإنساني في جميع أنحاء أوكرانيا

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:18
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 35%

وزير الصناعة يكشف عن إجراءات حكومية لخفض أسعار الحديد

المصدر: صوت الشلف - الجزائر التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:11
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 53%

مشاركة ثلاثة سباحين مغاربة في ملتقى البحر الأبيض المتوسط

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:23
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 44%

أزمة العطش تدفع ساكنة جماعات قروية ببرشيد إلى دق ناقوس الخطر

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:22
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 41%

حاليا بالمغرب.. 2815 مصابا بكورونا منهم 152 حالة حرجة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:21
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 36%

حقيقة رجوع امتحانات الثانوية للنظام القديم

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:06
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 63%

بيان من مكتب رئيس ساحل العاج يؤكد دعمها استضافة السعودية "إكسبو 2030"

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:18
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 39%

الأمم المتحدة تحذر من مجاعة في الشرق الأوسط والعالم

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:19
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 43%

إغلاق التصويت فى انتخابات نقابة المهندسين بالقاهرة وبدء الفرز

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-04 21:25:05
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

الصين تطور مجموعة اختبار جديدة سريعة وصغيرة للكشف عن كورونا

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-05 00:15:18
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 43%

تحميل تطبيق المنصة العربية