المدرسة الميلسية

عودة للموسوعة

المدرسة الميلسية

مسقط ميلتوس (بودروم الحالية) على الساحل الغربي للأناضول، كانت موطن طاليس وأناكسيمندر وأناكسيمينس.

المدرسة الميلـِسية Milesian school كانت مدرسة فكرية تأسست في القرن السادس قبل الميلاد. الأفكار المرتبطة بها مثلها ثلاث فلاسفة من مدينة ميلتوس في أيونيا, على الساحل الإيجي للأناضول: طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس. إذ قدموا آراءاً جديدة مناقضة لوجهة النظر السائدة في نظام الكون، التي كانت تفسر الظواهر الطبيعية فقط كمشيئة آلهة على شاكلة البشر. وقد قدم الميلسيون تصوراً مغايراً للطبيعة باستخدام أشياء يمكن مشاهدتها بانتظام, وبذلك كانت من أوائل الفلسفات الفهمية.

ملاحظة: من المهم التفريق بين المدرسة الميلسية والمدرسة الأيونية, التي تضم فلسفات جميع من الميلسيون ومفكرين أيونيين آخرين مختلفين تماماً مثل هراقليطس. طالع أيضاً الفلسفة قبل السقراطية.

المسقط

كان يمتد إلى الشمال الغربي من كاريا مسافة تسعين ميلاً شريط ساحلي جبلي يختلف عرضه بين عشرين وثلاثين ميلاً، وهوالمعروف في الزمن القديم باسم أيونيا. ويصفه هيرودوت بقوله "إن هواءه ومناخه أجمل هواء ومناخ في العالم كله" (19). وكانت كثرة مدائنه عند مصاب الأنهار أوعند منتهى الطرق، وكانت هذه الأنهار والطرق تنقل البضائع مما ورائها من الإقليم إلى شاطئ البحر المتوسط، ومنه تُنقل على ظهور السفن إلى كافة الأنحاء.

وكانت ميليتس، وهي أبعد المدن الاثنتي عشرة الأيونية جهة الجنوب، أغنى مدائن العالم اليوناني كله في القرن السادس قبل الميلاد. وقد قامت هذه المدينة في موضع كان يسكنه الكاريون من العهد المينوي، فلما أقبل الأيونيون من أتكا على هذا المكان حوالي 1000 ق.م. وجدوا فيه الثقافة الإيجية وإن كانت في صورة مضمحلة، تنتظرهم ليتخذوها بداية متقدمة لحضارتهم. ولم يأتوا معهم بنساء إلى ميليتس فاكتفوا بأن قتلوا الذكران من أهلها وتزوجوا الأرامل(20). وبدأ امتزاج الثقافتين بامتزاج دماء الأهلين والوافدين. وخضعت ميليتس، كما خضعت كثرة المدن الأيونية، في أول الأمر لحكم الملوك الذين يقودون جيوشهم في الحرب، ثم خضعت بعدئذ لحكم الأشراف الذين يملكون الأرض، ثم لحكم "المستبدين" الذين يمثلون الطبقة الوسطى. ووصلت الصناعة والتجارة إلى ذروتيهما في عهد الطاغية ثراسيبولوس Thrasybulus في بداية القرن السادس قبل الميلاد، وأثمر رخاؤها المطرد أدباً وفلسفة وفناً. وكان الصوف يُحمل إليها من أرض الكلأ الغنية في الداخل وينسج ملابس في مصانع النسيج القائمة في المدينة. وتفهم التجار الأيونيون عن الفينيقيين إقامة المستعمرات لتكون مراكز تجارية، فأنشأوا العدد الكبير منها في مصر وإيطاليا، على شواطئ بحر البروبنتس واليوكسين، ثم تفوقوا شيئاً فشيئاً على مفهميهم في هذا المجال، فكان لميليتس وحدها ثمانون مستعمرة من هذه المستعمرات التجارية، ستون منها في الشمال. وكانت ميليتس تستورد من أبيدوس وسيزيكوس Cyzicus وسينوب وألباي Olbai وترابيزوس Trapezus وديوسكورياس Dioscurias الكتان والخشب والفاكهة والمعدن، وتصدر إليها بدلاً منها مصنوعاتها اليدوية. وأصبح ثراء المدينة وترفها ُتضرب بهما الأمثال وتعير بهما المدينة في بلاد اليونان بأجمعها. وفاضت خزائن تجارها بالأموال فأخذوا يمولون المشروعات في طول البلاد وعرضها وفي المدينة نفسها، فكانوا هم آل ميديتشي في عصر النهضة الأيونية.


ثقافة التلاقح

وفي هذه البيئة المنعشة الباعثة على النشاط الذهني أثمرت بلاد اليونان الثمرتين الأوليين من الثمار التي امتازت بها على غيرها، وأهدتهما إلى العالم كله- نقصد العلوم الطبيعية والفلسفة؛ ذلك أنه حيث تتلاقى الطرق تتلاقى كذلك الآراء والعادات والعقائد المتباينة؛ وينشأ من اختلافها احتكاك، فتنازع، فمفاضلة، فتفكير؛ فتمحوالخرافات بعضها بعضاً، ويبدأ التفكير المنطقي السليم. وقد تلاقى في ميليتس كما تلاقى في أثينة رجال اتىوا من مائة دولة متفرقة، ذوونشاط عقلي بعثه فيهم التنافس التجاري، وقد تحرروا من أسر التنطقيد لطول غيابهم عن أوطانهم، وهياكلهم، ومذابح آلهتهم. وكان أهل ميليتس أنفسهم يسافرون إلى المدن البعيدة حيث تفتحت عيونهم على حضارة ليديا، وبابل، وفينيقية، ومصر. وبهذه الطريقة وغيرها من الطرق ولج فهم الهندسة المصرية وفهم الفلك البابلي العقل اليوناني، ونمت التجارة الداخلية، والعلوم الرياضية، والتجارة الخارجية، وعلوم الجغرافية، والملاحة، والفلك، كلها في وقت واحد. وكان الثراء في هذه الأثناء قد أوجد للناس الفراغ؛ ونشأت في البلدة أرستقراطية ثقافية امتازت بالتسامح الفكري لأن من يستطيعون القراءة كانوا أقلية صغيرة في المدينة. ولم يكن يضيق على عقول الناس وتفكيرهم قيود يفرضها رجال دين أقوياء، ولا نصوص قديمة منزلة موحى بها، وحتى القصائد الهومرية التي أمست فيما بعد كتاب اليونان المقدس إلى حد ما لم تكن قد اتخذت بعد شكلها النهائي المحدد المعروف، ولمّا اتخذته كان ما فيها من أساطير دينية مطبوعاً بطابع التشكك الأيوني والمرح المُجُوني. ومن ثم أصبح التفكير في هذه المدينة لأول مرة تفكيراً دنيوياً غير ديني يسعى وراء الأجوبة العقلية المنسقة غير المتنافرة لما يحير العقول من مسائل العالم والناس .

على حتى الغرس الجديد، وإن كان قد حل محل الغرس القديم، كانت له أصوله وكان له آباءه وأجداده، فقد امتزجت بالفلسفة الواقعية الطيبة التي كانت من خصائص التجار الفينيقيين واليونان حكمة الكهنة المصريين والمجوس الفرس الأقدمين، بل لعلها قد امتزجت بها أيضاً حكمة العرافين الهنود وفهم الكهنة الكلدان وبداية الخليقة المجسدة التي صاغها هزيود شعراً. وقد مهد الدين نفسه السبيل إلى هذا المزج حين تحدث عن مويرا Moira أوالقدر، ونطق إنه هوالمتحكم في الآلهة والبشر. وكان هذا بداية فكرة القانون الذي يعلوعلى الإرادة الشخصية مهما عظمت، وهي الفكرة التي تدل على الفرق الجوهري بين الفهم والأساطير؛ وبين الاستبداد والديمقراطية. ولقد تحرر الإنسان من يوم حتى اعترف أنه خاضع لحكم القانون، وأكبر الأسباب التي جعلت اليونان ذوي خطر في التاريخ وحملتهم فيه إلى أعلى مكانة، هي أنهم، على قدر ما وصل إليه فهمنا، كانوا أول من اعترف بخضوع الإنسان لحكم القانون وبحقه في البحث الفلسفي وفي اختيار الحكم الذي يرتضيه.

وإذا كانت الحياة تتطور متأثرة بعاملين هما الوراثة والتجديد، أي بتثبيت العادات وإقرارها والتجديد التجريبي، فقد كان من المنتظر حتى تكون الأصول الدينية للفلسفة هي التي تغذيها، وأن يبقى فيها إلى آخر أيامها عنصر ديني قوي. وقد كان في الفلسفة اليونانية تياران يجريان جنباً إلى جنب: أحدهما تيار طبيعي النزعة ظاهر، والثاني تيار صوفي غامض. وقد نشأ الأول في عهد فيثاغورس، وضم برمنديدس وهرقليطس وأفلاطون وكليانثس Cleanthes، وانتهى ببلنتينوس Blontinus والقديس بولس؛ وأما الثاني فقد كان أول رجاله العالميين طاليس، وضم أنكسمندر وكزنوفانيس Xenophanes وبروتجراس وهبقراطس ودمقريطس، وانتهى بأبيقور ولكرتيوس Lucretius. وكان يحدث من حين إلى حين حتى يقوم رجل عظيم- كسقراط وأرسطاطاليس، وماركس أورليوس- فيمزج التيارين في مجرى واحد يحاول به حتى يوضح نظم الحياة المعقدة التي لا تنطبق على قانون. على حتى النغمة الغالبة في هؤلاء الرجال أنفسهم كانت هي حب أتباع العقل، وهي النغمة التي يمتاز بها التفكير اليوناني.

طاليس

طاليس.

ولد طاليس حوالي 640 ق.م. وأكبر الظن أنه ولد في ميليتس، وكان الدائر على ألسنة الناس أنه من أبوين فينيقيين(21)، وتلقى معظم تعليمه في مصر والشرق الأدنى. وفيه يتمثل انتنطق الثقافة من الشرق إلى الغرب. ويبدوأنه لم يشتغل بالأعمال التجارية والمالية إلا بالقدر الذي أمكنه حتى يحصل به على طيبات الحياة العادية. وليس من يجهل سيرة مضارباته في معاصر الزيت ثم صرف باقي وقته في الدرس وأنهمك فيه انهماكاً توحي به سيرة سقوطه في حفرة وهويرقب النجوم. وكان رغم عزلته يهتم بشؤون المدنية، يعهد الطاغية ثراسيبولوس، ويدعوإلى تكوين حلف من الدول الأيونية للدفاع عن نفسها ضد ليديا وفارس.

وتعزوإليه الروايات المتواترة كلها إدخال العلوم الرياضية والفلكية إلى بلاد اليونان. وتروي إحدى القصص القديمة أنه وهوفي مصر قدّر ازدياد الأهرام بقياس ظلها التيقد يكون فيها ظل الإنسان مساوياً لطول قامته. ولما عاد إلى أيونيا واصل دراسة الهندسة النظرية التي خلبت لبه بمنطقها السليم، وما فيها من استدلال فهمي، وشرح كثير من النظريات التي جمعها إقليدس فيما بعد . وكما حتى هذه النظريات كانت الأساس الذي قام عليه فهم الهندسة النظرية اليونانية، كذلك كانت دراسته لفهم الفلك الأساس الذي قام عليه هذا الفهم في الحضارة الغربية، بعد حتى خلصه من التنجيم الذي أدخله فيه الشرقيون. وكانت له بعض الأرصاد الصغرى، وقد دهشت بلاد أيونيا بأجمعها حين أفلح بالتنبؤ بخسوف الشمس في الثامن والعشرين من شهر مايو535 ق.م.، والراجح أنه قد بنى هذا التنبؤ على أساس السجلات المصرية وعلى حساب البابليين. أما فيما عدا هذا فإن نظريته في نظام الكون لا ترقى كثيراً على ما كان شائعاً عن هذا النظام عند المصريين واليهود، فقد افترض حتى العالم يتكون من نصف كرة يرتكز على منبسط من الماء لا نهاية له، وأن الأرض قرص مستوي طافٍ على السطح المستوي في داخل هذا الجسم النصف الكري. ويذكرنا هذا بقول گوته Goethe إذا الإنسان يشهجر في رذائله (أوأخطائه) مع أهل زمانه، أما فضائله (أوفراسته) فإنه ينفرد بها دون سائر الناس.

وكما حتى بعض الأساطير اليونانية قد جعلت أقيانوس Oceanus والد الخلائق بأجمعها، فكذلك جعل طاليس الماء المبدأ الأول لجميع الأمور، وشكلها الأصلي ومصيرها النهائي. ويقول أرسطوإنه من الممكن اتى بهذا الرأي بعد حتى شاهد "أن غذاء جميع شيء رطب وأن ...بذور جميع شيء ذات طبيعة رطبة؛..وأن ما يتولد منه جميع شيء هودائماً مبدؤها الأساسي" (27). أولعله كان يعتقد حتى الماء هوالصورة الأولى أوالأساسية من صور المادة الثلاث- الغازية والسائلة والصلبة- التي يمكن حتى تتحول إليها المواد كلها من الوجهة النظرية؛ وليس أبرز ما في آرائه قوله إذا الماء أصل جميع شيء، بل أهمها إرجاعه الأمور جميعها إلى أصل واحد؛ ولقد كان ذلك أول قول بوحدة المادة في التاريخ المدون كله. ويصف أرسطوآراء طاليس بأنها مادية؛ ولكن طاليس يضيف إلى أقواله السابقة حتى جميع جزء في العالم حي، وأن المادة والحياة وحدة لا ينفصل أحد جزأيها عن الآخر، وأن في النباتات والمعادن "نفساً" خالدة كما في الحيوان والإنسان، وأن القوة الحيوية تتغير صورتها ولكنها لا تموت أبداً(28). وكان من عادة طاليس حتى يقول إنه لا يوجد فرق جوهري بين الأحياء والأموات. ولما أراد بعض الناس حتى يضايقه بسؤال إياه لـمَ إذاً يؤثر الحياة على الموت أجابه بقوله: "ذلك لأنه لا فرق بينهما" (29).

ولما بلغ سن الشيخوخة أجمع مواطنوه على تلقيبه بلقب الحكيم Sophos، ولما اعتزمت بلاد اليونان حتى تخلد أسماء حكمائها السبعة، وضعت اسم طاليس على رأسهم، وسُئل طاليس عن أصعب الأمور فأجاب بقوله الذي جرى مجرى الأمثال: "أن تعهد نفسك"، ولما سُئل عن أسهل الأمور نطق: "أن تسدي النصح"، وسُئل ما الله،يا ترى؟ فأجاب "هوما ليس له بداية ولا نهاية"، وسُئل كيف من الممكن أن يستطيع الناس حتى يعيشوا عيشة الفضيلة والعدالة فأجاب: "ألا نعمل نحن ما نلوم غيرنا على عمله" (30). ويقول ديوجينيز ليرتيوس Diogenes Laertius(31): إنه توفي "وهويشاهد مباراة في الألعاب الرياضية، بعد حتى أضناه الحر والظمأ والتعب لأنه بلغ سن الشيخوخة".

ويقول استرابون. إذا طاليس كان أول من خط في الفيزيولوجيا أي فهم الطبيعة (Physics)، أومبدأ وجود الأمور وتطورها. وقد تقدم فهمه تقدماً عظيماً على يد تلميذه أنكسمندر؛ وقد عاش بين عامي 611، 549 ق.م. ولكنه نشر على الناس فلسفة تشبه شبهاً عجيباً الفلسفة التي نشرها هربرت سبنسر Herbert Spencer في عام 1860م، وهويهتز طرباً من قوة ابتكاره الفطين. ويقول أنكسمندر إذا المبدأ الأول كان لا نهائية غير محددة واسعة الأراتى (Apeiron)، أي كتلة غير محددة ليست لها صفات خاصة، ولكنها تنمووتتطور بما فيها من قوى ذاتية، حتى نشأت منها جميع حقائق الكون المتنوعة . وهذه اللانهائية الحية السرمدية التي لا صلة لها بالشخصية ولا بالأخلاق، هي الإله الذي لا إله غيره في نظام أنكسمندر؛ هي الواحد السرمدي الذي لا يحول، والذي يختلف جميع الاختلاف عن الكثرة الفانية المتغيرة التي في عالم الأمور. وهنا تلتقي هذه الفلسفة بآراء المدرسة الإليتية Eletic فيما وراء الطبيعة- وهي حتى الواحد السرمدي دون غيره هوالحقيقة. ومن هذه اللانهائية التي لا خواص لها تولد العوالم الجديدة في تتابع لا ينبتر أبداً، وإليها تعود هذه العوالم في تتابع لا ينبتر أبداً، بعد حتى تتطور وتموت. وتحتوي اللانهائية الأزلية على جميع الأضداد- الحر والبرد، والرطوبة والجفاف، والسيولة والصلابة والغازية...، وهذه الصفات الإمكانية تصبح في حالة التطور حقائق واقعية، وتنشأ منها أشياء محددة مختلفة؛ وفي حالة الانحلال تعود الصفات المتضادة مرة ثانية إلى اللانهائية (ومن هذه الآراء استمد هرقليطس واسبنسر آراءهما). وفي قيام العوالم وسقوطها على هذا النحوتصطرع العناصر المتنوعة بعضها مع بعض، ويعتدي بعضها على بعض اصطراع الأضداد المتعادية، ويكون جزاؤها على هذا التضاد هوالانحلال؛ "فتفنى الأمور في الأمور التي ولدت منها".


أناكسمندر

تفصيلة من لوحة رفائيل مدرسة أثينا، 1510–1511. وهي قد تكون تمثيل لأناكسيماندر مائلاً على فيثاغورس إلى يساره.

ولا يسلم أنكسمندر هوالآخر من الأوهام الفلكية التي يمكن حتى تغتفر في عصر لا توجد فيه آلات، ولكنه تفوق على طاليس بقوله إذا الأرض اسطوانة معلقة بغير شيء في وسط الكون لا يمسكها غير وجودها على أبعاد متساوية من جميع الأمور(34). وهويرى حتى الشمس والقمر والنجوم تتحرك في دوائر حول الأرض. وأراد أنكسمندر حتى يوضح هذا كله فصنع في إسبارطة مزولة (Gnomon)- وأكبر الظن أنه قلد فيها نماذج بابلية- أظهر فيها حركة الكواكب، وميل الفلك وتعاقب الانقلابين والاعتدالين والفصول(35). وقد استطاع بمعاونة زميله ومواطنه هكاتيوس Hecataeus حتى يجعل الجغرافية فهماً، وذلك برسمه أول خريطة معروفة للعالم المعمور .

ويقول أنكسمندر إذا الدنيا في أول صورة لها كانت في حالة الميوعة، ولكن الحرارة الخارجية جففت بعضها فكان أرضاً، وبخرت بعضها فكان سحاباً؛ وإن اختلاف الحرارة في جَوّها الذي تكوّن بهذه الطريقة قد نشأت عنه حركة الرياح. ونشأت الكائنات الحية بمراحل تدريجية من الرطوبة الأولى؛ وكانت الحيوانات الأرضية في بادئ الأمر سمكاً، ولم تتشكل بأشكالها الحالية إلا بعد حتى جفت الأرض . وقد كان الإنسان هوالآخر سمكة، ولا يمكن حتىقد يكون من أول ما ظهر على الأرض قد ولد بالصورة التي هوعليها الآن، وإلا لكان عاجزاً عن الحصول على طعامه، ولهلك(36).

أنكسمينيز

أناكسيمينس من ميلتوس

وكان أنكسمينيز Anaximenes تلميذ أنكسمندر أقل منه شأناً، والمبدأ الأول عنده هوالهواء. ومن الهواء تنشأ جميع العناصر الأخرى بالتلطيف (تقليل الكثافة) وبه تحدث النار، وبالتكثيف وبه تحدث على التوالي الرياح والسحب والماء والأرض والحجارة. وكما حتى الروح وهي هواء، تمسك أجسامنا فكذلكقد يكون هواء العالم (النوما Pneuma) هوروحه السارية فيه كله أونفسه أوالإله، وتلك فكرة لا تنال منها جميع أعاصير الفلسفة اليونانية، وتجد لها عاصماً في الرواقية والمسيحية.

فلسفة الطبيعة

ولم تنتج هذه الأيام مجد ميليتس وعزتها أقدم ما أنتجته الفلسفة اليونانية فحسب، بل أنتجت أيضاً أقدم النثر وأقدم التاريخ المدون في بلاد اليونان كلها . ويبدوحتى قول الشعر أمر طبيعي في شباب الأمة، حينقد يكون الخيال فيها أعظم من الفهم وحين يجسد الإيمان القوي قوى الطبيعة في الحقل، والغابة، والبحر، والجو. وإن من أصعب الأمور على الشعر تجنب تجسيد القوى ومنحها روحاً، كما حتى أصعب الأمور على هذا التجسيد وذاك المنح حتى يتجنبا الشعر. أما النثر فهوصورة الفهم التي تخلصت من الخيال ومن الإيمان، وهولغة الشؤون العادية الدنيوية غير الدينية، وهورمز نضوج الأمة والشاهد على انقضاء عهد شبابها. وقد ظل الأدب اليوناني كله تقريباً إلى العصر الذي نتحدث عنه 600 ق.م.، وصقل التعليم أخلاق اليونان شعراً لا نثراً، بل إذا الفلاسفة الأولين أمثال زنوفانيز، وبرميدس، وأنبدقليز قد ألبسوا نظامهم الفلسفي ثوباً شعرياً؛ وكما حتى الفهم كان في بداية الأمر صورة من صور الفلسفة تكافح لتكرر نفسها من الصور العامة النظرية غير القابلة للتحقيق، كذلك كانت الفلسفة في أول عهدها من صور الشعر، تحاول حتى تتحرر من الأساطير، وتجسيد القوى ومنحها روحاً، ومن التشابه والاستعارات .

الكتابة الفهمية

ولذلك كان من الحوادث المهمة في تاريخ الفهم حتى يشرح فرسيدس Pherecydes وأنكسمندر آراءهما نثراً. وقد بدأ رجال غيرهما في ذلك العصر نفسه يسميهم اليونان لوجوجرافوي أي الكُتَّاب العقليين أوكُتَّاب النثر، بدءوا يسجلون بهذه الوسيلة الجديدة تواريخ دولهم، فخط كدموس Cadmus (550) تاريخاً لميليتس، وخط يوگايون Eugaeon تاريخاً لساموس، وخط زانثوس Xanthus تاريخاً لليديا. وفي أواخر ذلك القرن ارتقى هكتيوس Hecataeus الميليتي بالتاريخ والجغرافية رقياً عظيماً في كتابين يعدان فتحاً جديداً في هذين الفهمين هما الهسترياي Historiai أوالبحوث والجس بريودوس Ges Periodos أودورة الأرض. وقد قسم الكتاب الثاني الكوكب الأرضي قارتين هما أوربا وآسية وضم مصر إلى آسية. وإذا كانت الأجزاء الباقية من هذا الكتاب حقيقية؛ فإن فيها معلومات قيمة عن مصر سطا هيرودوت على الكثير منها دون حتى يعترف بهذا. وقد بدأ كتاب البحوث بهذه العبارة القوية الدالة على تشككه: "إني أخط ما أرى أنه حق؛ لأن روايات اليونان في نظري كثيرة وسخيفة". وكان هكتيوس يعد أقوال هومر تاريخاً، وأخذ منها عدة قصص وهومغمض العينين، على أنه قد حاول محاولة شريفة حتى يميز الحقائق من الأساطير، وأن يتعقب الأنساب الحقة، وأن يحاول الوصول إلى تاريخ لليونان يمكن الركون إليه. وجملة القول حتى كتابة التاريخ اليوناني كانت قديمة العهد حين ولد "أبوالتاريخ".

وكان هكتيوس وغيره من الكتاب العقليين الذين ظهروا في هذا العصر في معظم مدن اليونان ومستعمراتهم يفهمون من حدثة هستوريا درس الحقائق المتصلة بأية مادة من الموارد الفهمية، سواء كانت متصلة بالعلوم الطبيعية أوالفلسفة أوبكتابة التاريخ بمعناه الحديث. وكان لهذا اللفظ في أيونيا معنى يثير الريبة في نفوس أهلها؛ فقد كانوا يفهمون منه أنه يراد به حتى يستبدل بقصص المعجزات الخاصة بالآلهة وبالأبطال أنصاف الآلهة، سجلات للحوادث الدنيوية وتفاسير عقلية لِعِلَلْ هذه الحوادث ونتائجها. وقد بدأت هذه العملية بهكتيوس، وتقدمت على يد هيرودوت، وبلغت غايتها على يد توكيديدس.

ويرتبط فقر النثر اليوناني قبل هيرودوت بهزيمة ميليتس وتغلب المغيرين عليها وفقرها في العصر الذي بدأ فيه النثر. ذلك حتى الاضمحلال الداخلي قد مهد السبيل للفاتحين كما جرت العادة في مختلف العصور، وقد كان ازدياد الثراء وانتشار الترف سبباً في انغماس الناس في الملاذ، وبدت الرواقية والوطنية في نظر الناس من المبادئ العتيقة السخيفة؛ وجرت على ألسنة اليونان تلك العبارة التي يسخرون بها من أهل ميليتس:

«"لقد كان الميلينيون شجعاناً في يوم من الأيام."»


ثورة الفقراء ثم الاجتياح الفارسي

واشتدت المنافسة بين الأهلين للحصول على طيبات الحياة، حين فقد الإيمان القديم قدرته على تخفيف النزاع بين الطبقات، ببث مبادئ الرحمة والعدالة في نفوس الأقوياء، والسلوى في نفوس الضعفاء؛ وأصبح الأغنياء وهم عماد الدكتاتورية الألجركية حزباً متحداً يقف في وجه الفقراء المطالبين بالديمقراطية؛ ولكن الفقراء استولوا على زمام الحكم، وطردوا الأغنياء من البلاد، وجمعوا من بقي من أبناء الأغنياء في أماكن الدراس، وأطلقوا عليهم الثيران فداستهم بأقدامها وقضت عليهم جميعاً. ثم عاد الأغنياء وقبضوا على أزٍمـّة الحكم وطلوا جلود زعماء الديمقراطية بالقار وأحرقوهم أحياء(39). وستنطق عنا هذه السيرة في مستقبل الأيام. ولما شرع كروسس في عام 560 ق.م. يخضع إلى حكم ليديا ساحل آسية الصغرى اليوناني، الممتد من نيدس إلى هلسبنت (الدردنيل)، حافظت ميليتس على استقلالها بامتناعها عن مساعدة أخواتها من الدول اليونانية. ولكن قورش فتح ليديا في عام 546 ق.م.، ولم يجد صعوبة كبيرة في الاستيلاء على مدن أيونيا التي مزقتها الانقسامات الداخلية، وضمها إلى الدول الفارسية، وانقضى بذلك عصر ميليتس المجيد. إذا الفهم والفلسفة في تاريخ الدول يصلان إلى غايتهما بعد حتى يبدأ فيهما الانحلال، ذلك حتى الحكمة نذير الموت.


طالع أيضاً

  • المدرسة الأيونية
  • الفسلفة قبل سقراط

الببليوجرافيا

  • Lahaye, Robert. La philosophie ionienne. L'École de Milet, Cèdre, Paris, 1966.

المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

  1. ^ هذا الشخص ينطق عنه تقليدياً أنه بوئثيوس، إلا حتى وجهه يحمل شبهاً كبيراً لتمثال نصفي لأناكسيماندر، لذا فقد يحدث الرسم ممثلاً للفيلسوف. انظر http://www.mlahanas.de/Greeks/SchoolAthens2.htm لوصف الأشخاص في هذا الرسم.

نطقب:Philosophy-stub

تاريخ النشر: 2020-06-04 09:30:42
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, فيزيائيون يونانيون قدماء, فلسفة يونانية كلاسيكية, مدارس وتقاليد فلسفية, فلسفة ما قبل سقرط

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

المعرض الدولي للفلاحة.. تتويج تسعة أعمال بحثية في المجال الفلاحي

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 21:15:08
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 39%

أملاح يخضع لعملية جراحية ناجحة على مستوى الكتف

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 21:16:18
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 64%

بالفيديو: الكوميدي أسامة رمزي يحتفل بزواجه

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 21:15:14
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 43%

إقبال كبير للزوار على الملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 21:15:17
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 43%

بطولة إيطاليا.. لياو يخرج مصاباً قبل 4 أيام من موقعة ميلان وإنتر

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 18:26:25
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 69%

انتخابات تركيا.. انطلاق تصويت الأتراك المقيمين بالمغرب

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 21:15:16
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 38%

بطولة إيطاليا.. لياو يخرج مصاباً قبل 4 أيام من موقعة ميلان وإنتر

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 18:26:31
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 68%

بنكيران ينتقد شركة أمريكية شهيرة للوجبات السريعة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-06 21:15:10
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 45%

تحميل تطبيق المنصة العربية